[البينة : 1] لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ
1 - (لم يكن الذين كفروا من) للبيان (أهل الكتاب والمشركين) أي عبدة الأصنام عطف على أهل (منفكين) خبر يكن أي زائلين عما هم عليه (حتى تأتيهم) أي أتتهم (البينة) أي الحجة الواضحة وهي محمد صلى الله عليه وسلم
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة " فقال بعضهم : معنى ذلك : لم يكن هؤلاء الكفار من أهل التوراة والإنجيل والمشركون من عبدة الأوثان " منفكين " يقول : منتهين ، حتى يأتيهم هذا القرآن .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله " منفكين " قال : لم يكونوا لينتهوا حتى يتبين لهم الحق .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور عن قتادة في قوله " منفكين" قال : منتهين عما هم فيه .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله " منفكين حتى تأتيهم البينة " : أي هذا القرآن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله " والمشركين منفكين " قال : ل ميكونوا منتهين حتى يأتيهم ، ذلك المنفك .
وقال آخرون : بل معنى ذلك أن أهل الكتاب وهم المشركون ، لم يكونوا تاركين صفة محم في كتابهم ، حتى بعث ، فلما بعث تفرقوا فيه .
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة ، أن يقال : معنى ذلك : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين مفترقين في أمر محمد ، حتى تأتيهم البينة ، وهي إرسال الله إياه رسولاً إلى خلقه ، رسول من الله . وقوله " منفكين " في هذا الموضع عندي من انفكاك الشيئين أحدهما من الآخر ، ولذلك صلح بغير خبر ، ولو كان بمعنى ما زال ، احتاج إلى خبر يكون تماماً له .
وهي مكية في قول يحيى بن سلام . ومدنية ، في قول ابن عباس والجمهور . وهي تسع آيات .
وقد جاء في فضلها حديث لا يصح ، رويناه عن محمد بن عبد الله الحضرمي قال : قال لي أبو عبد الرحمن بن نمير : اذهب إلى أبي الهيثم الخشاب ، فاكتب عنه فإنه قد كتب ، فذهب إليه ، فقال : حدثنا مالك بن أنس ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي الدرداء قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لو يعلم الناس ما في لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ، لعطلوا الأهل والمال ، فتعلموها )) فقال رجل من خزاعة : وما فيها من الأجر يا رسول الله ؟ قال : (( لا يقرؤها منافق أبدا ، ولا عبد في قلبه شك في الله . والله إن الملائكة المقربين يقرؤونها منذ خلق الله السماوات والأرض ما يفترون من قراءتها . وما من عبد يقرؤها إلا بعث الله ملائكة يحفظنه في دينه ودنياه ، ويدعون له بالمغفرة والرحمة )) " . قال الحضرمي : فجئت إلى أبي عبد الرحمن بن نمير ، فألقيت هذا الحديث عليه ، فقال : هذا قد ، كفانا مؤونته ، فلا تعد إليه . قال ابن العربي : (( روى إسحاق بن الكاهلي عن مالك بن أنس ، عن يحيى بن سعيد ، عن ابن المسيب : عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( لو يعلم الناس ما في " لم يكن الذين كفروا " لعطلوا الأهل والمال ولتعلموها )) حديث باطل ، وإنما الحديث الصحيح ما " روي عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب : (( إن الله أمرني أن أقرأ عليك " لم يكن الذين كفروا " )) قال : وسماني لك !؟ قال : (( نعم )) فبكى . "
قلت : خرجه البخاري و مسلم . وفيه من الفقه قراءة العالم على المتعلم . قال بعضهم : إنما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي ، ليعلم الناس التواضع ، لئلا يأنف أحد من التعلم والقراءة على من دونه في المنزلة . وقيل : لأن أبيا كان أسرع أخذا لألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأراد بقراءته عليه ، أن يأخذ ألفاظه ويقرأ كما سمع منه ، ويعلم غيره . وفيه فضيلة عظيمة لأبي ، إذ أمر الله رسوله أن يقرأ عليه . قال أبو بكر الأنباري : وحدثنا أحمد بن الهيثم بن خالد ، قال حدثنا علي بن الجعد ، قال حدثنا عكرمة عن عاصم عن زر بن حبيش قال : في قراءة أبي بن كعب : ابن آدم لو أعطي واديا من مال لالتمس ثانيا ولو أعطي واديين من مال لالتمس ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب . قال عكرمة : قرأ علي عاصم (( لم يكن )) ثلاثين آية ، هذا فيها . قال أبو بكر : هذا باطل عند أهل العلم ، لأن قراءتي ابن كثير و أبي عمرو متصلتان بأبي بن كعب ، لا يقرأ فيهما هذا المذكور في (( لم يكن )) مما هو معروف في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على أنه من كلام الرسول عليه السلام ، لا يحكيه عن رب العالمين في القرآن . وما رواه اثنان معهما الإجماع ، أثبت مما يحكيه واحد مخالف مذهب الجماعة .
قوله تعالى:" لم يكن الذين كفروا" كذا قراءة العامة، وخط المصحف. وقرأ ابن مسعود(لم يكن وأهل الكتاب منفكين)وهذه قراءة على التفسير. قال ابن العربي:(وهي جائزة في معرض البيان، لا في معرض التلاوة، فقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في رواية الصحيح (فطلقوهن لقبل عدتهن) وهو تفسير، فإن التلاوة: هو ما كان في خط المصحف.
قوله تعالى:" من أهل الكتاب" يعني اليهود والنصارى. " والمشركين" في موضع جر عطفاً على (أهل الكتاب). قال ابن عباس (أهل الكتاب): اليهود الذين كانوا بيثرب، وهم قريظة والنضير وبنو قينقاع. والمشركون:الذين كانوا بمكة وحولها، والمدينة والذين حولها، وهو مشركو قريش " منفكين" أي منتهين عن كفرهم، مائلين عنه." حتى تأتيهم" أي أتتهم البينة، أي محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل: الانتهاء بلوغ الغاية، أي لم يكونوا ليبلغوا نهاية أعمارهم فيموتوا، حتى تأتيهم البينة. فالانفكاك على هذا بمعنى الانتهاء. وقيل:" منفكين" زائلين، أي لم تكن مدتهم لتزول حتى يأتيهم رسول. والعرب تقول: ما انفككت أفعل كذا: أي مازلت. وما انفك فلان قائماً: أي ما زال قائماً وأصل الفك: الفتح، ومنه فك الكتاب، وفك الخلخال، وفك السالم. قال طرفة:
فآليت لاينفك كشحي بطانة لعضب رقيق الشفرتين مهند
وقال ذو الرمة:
حراجيج ما تنفك إلا مناخة على الخسف أو نرمي بها بلداً قفرا
يريد: ما تنفك مناخة، فزاد(إلا). وقيل: (منفكين): بارحين، أي لم يكونوا ليبرحوا ويفارقوا الدنيا، حتى تأتيهم البينة. وقال ابن كيسان: أي لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم، حتى بعث، فلما بعث حسدوه وجحدوه. وهو كقوله " فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به" [البقرة:89]. ولهذا قال: " وما تفرق الذين أوتوا الكتاب" ...الآية. وعلى هذا فقوله:" والمشركين" أي ما كانوا يسيئوا القول في محمد صلى الله عليه وسلم، حتى بعث، فإنهم كانوا يسمونه الأمين، حتى أتتهم البينة على لسانه، وبعث إليهم، فحينئذ عادوه. وقال بعض اللغويين: " منفكين" : هالكين، من قولهم: أنفك صلا المرأة عند الولادة، وهو أن ينفصل ، فلا يلتئم فتهلك. المعنى: لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم، بإرسال الرسل وإنزال الكتب. وقال قوم في المشركين: إنهم من أهل الكتاب، فمن اليهود من قال: عزيز ابن الله. ومن النصارى من قال: عيسى هو الله. ومنهم من قال: هو ابنه. ومنهم من قال: ثالث ثلاثة. وقيل: أهل الكتاب كانوا مؤمنين، ثم كفروا بعد أنبيائهم. والمشركون ولدوا على الفطرة، فكفروا حين بلغوا. فلهذا قال: " والمشركين". وقيل: المشركون وصف أهل الكتاب أيضاً، لأنهم لم ينتفعوا بكتابهم، وتركوا التوحيد. فالنصارى مثلثة، وعامة اليهود مشبهة، والكل شرك. وهو كقولك: جاءني العقلاء والظرفاء، وأنت تريد أقواماً بأعيانهم، تصفهم بالأمرين. فالمعنى: من أهل الكتاب المشركين. وقيل: إن الكفر هنا هو الكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم، أي لم يكن الذين كفروا بمحمد من اليهود والنصارى، الذين هو أهل الكتاب، ولم يكن المشركون الذين هم عبدة الأوثان من العرب وغيرهم- وهم الذين ليس لهم كتاب- منفكين. قال القشيري: وفيه بعد، لأن الظاهر من قوله:" حتى تأتيهم البينة * رسول من الله" أن هذا الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم. فيبعد أن يقال: لم يكن الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم منفكين حتىتأتيهم محمد، إلا أن يقال: أراد: لم يكن الذين كفروا الآن بمحمد- وإن كانوا من قبل معظمين له، بمنتهين عن هذا الكفر، إلى أن يبعث الله محمداً إليهم، ويبين لهم الآيات، فحينئذ يؤمن قوم. وقرأ الأعمش وإبراهيم (المشركون) رفعاً، عطفاً على (الذين. والقراءة الأولى أبين، لأن الرفع يصير فيه الصنفان كأنهم من غير أهل الكتاب. وفي حرف أبي: (فما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون منفكين). وفي مصحف ابن مسعود: (لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين). وقد تقدم. " حتى تأتيهم البينة" قيل حتى أتتهم. والبينة: محمد صلى الله عليه وسلم .
تفسير سورة البينة
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان , حدثنا حماد هو ابن سلمة , أخبرنا علي هو ابن زيد عن عمار بن أبي عمار قال: سمعت أبا حبة البدري وهو مالك بن عمرو بن ثابت الأنصاري قال: لما نزلت "لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب" إلى آخرها قال جبريل: " يا رسول الله إن ربك يأمرك أن تقرئها أبياً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة قال أبي: وقد ذكرت ثم يا رسول الله ؟ قال :نعم قال: فبكى أبي " .
(حديث آخر) وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر , حدثنا شعبة , سمعت قتادة يحدث أن أنس بن مالك قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب : إن الله أمرني أن أقرأ عليك "لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب" قال: وسماني لك ؟ قال :نعم فبكى " ورواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من حديث شعبة به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا مؤمل , حدثنا سفيان , حدثنا أسلم المنقري عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن أبي بن كعب قال: " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أمرت أن أقرأ عليك سورة كذا وكذا قلت: يا رسول الله وقد ذكرت هناك ؟ قال : نعم فقلت له: يا أبا المنذر ففرحت بذلك. قال: وما يمنعني والله يقول: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون" قال مؤمل : قلت لسفيان القراءة في الحديث ؟ قال: نعم. تفرد به من هذا الوجه.
(طريق أخرى) قال أحمد : حدثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا: حدثنا شعبة عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب قال: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن ـ قال فقرأ ـ "لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب" ـ قال فقرأ فيها ـ ولو أن ابن آدم سأل وادياً من مال فأعطيه لسأل ثانياً, ولو سأل ثانياً فأعطيه لسأل ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب, ويتوب الله على من تاب. وإن ذلك الدين عند الله الحنيفية غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية ومن يفعل خيراً فلن يكفره" ورواه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي عن شعبة به وقال: حسن صحيح.
(طريق أخرى) قال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن خليد الحلبي , حدثنا محمد بن عيسى الطباع , حدثنا معاذ بن محمد بن معاذ بن أبي بن كعب عن أبيه عن جده عن أبي بن كعب قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا المنذر إني أمرت أن أعرض عليك القرآن قال: بالله آمنت وعلى يدك أسلمت ومنك تعلمت, قال: فرد النبي صلى الله عليه وسلم القول, قال: فقال: يا رسول الله أذكرت هناك ؟ قال: نعم باسمك ونسبك في الملأ الأعلى قال: فاقرأ إذاً يا رسول الله " , هذا غريب من هذا الوجه, والثابت ما تقدم وإنما قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة تثبيتاً له وزيادة لإيمانه, فإنه كما رواه أحمد والنسائي من طريق أنس عنه, ورواه أحمد وأبو داود من حديث سليمان بن صرد عنه, ورواه أحمد عن عفان عن حماد عن حميد عن أنس عن عبادة بن الصامت عنه, ورواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه ـ كان قد أنكر على إنسان وهو عبد الله بن مسعود قراءة شيء من القرآن على خلاف ما أقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم, " فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستقرأهما وقال لكل منهما أصبت قال أبي : فأخذني من الشك ولا إذ كنت في الجاهلية, " فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره, قال أبي : ففضت عرقاً وكأنما أنظر إلى الله فرقاً, وأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جبريل أتاه فقال: إن الله يأمرك أن تقرىء أمتك القرآن على حرف. فقلت: أسأل الله معافاته ومغفرته فقال: على حرفين فلم يزل حتى قال: إن الله يأمرك أن تقرى أمتك القرآن على سبعة أحرف", كما قدمنا ذكر هذا الحديث بطرقه ولفظه في أول التفسير, فلما نزلت هذه السورة وفيها "رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة * فيها كتب قيمة" قرأها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة إبلاغ وتثبيت وإنذار, لا قراءة تعلم واستذكار والله أعلم.
وهذا كما أن عمر بن الخطاب لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية عن تلك الأسئلة وكان فيما قال أو لم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به, قال: "بلى أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا قال: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به" فلما رجعوا من الحديبية وأنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم سورة الفتح دعا عمر بن الخطاب فقرأها عليه وفيها قوله: "لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين" الاية كما تقدم.
وروى الحافظ أبو نعيم في كتابه أسماء الصحابة من طريق محمد بن إسماعيل الجعفري المدني حدثنا عبد الله بن سلمة بن أسلم عن ابن شهاب عن إسماعيل بن أبي حكيم المدني , حدثني فضيل : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله ليسمع قراءة "لم يكن الذين كفروا" فيقول أبشر عبدي فوعزتي لأمكنن لك في الجنة حتى ترضى" حديث غريب جداً, وقد رواه الحافظ أبو موسى المديني وابن الأثير من طريق الزهري عن إسماعيل بن أبي حكيم عن نظير المزني ـ أو المدني ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يسمع قراءة "لم يكن الذين كفروا", ويقول أبشر عبدي, فوعزتي لا أنساك على حال من أحوال الدنيا والاخرة ولأمكنن لك في الجنة حتى ترضى".
بسم الله الرحمـن الرحيم
أما أهل الكتاب فهم اليهود والنصارى والمشركون عبدة الأوثان والنيران من العرب ومن العجم, وقال مجاهد : لم يكونوا "منفكين" يعني منتهين حتى يتبين لهم الحق وهكذا قال قتادة "حتى تأتيهم البينة" أي هذا القرآن, ولهذا قال تعالى: "لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة". ثم فسر البينة بقوله: "رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة" يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وما يتلوه من القرآن العظيم الذي هو مكتتب في الملأ الأعلى في صحف مطهرة, كقوله: "في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة * كرام بررة", وقوله تعالى: "فيها كتب قيمة" قال ابن جرير : أي في الصحف المطهرة كتب من الله قيمة عادلة مستقيمة ليس فيها خطأ لأنها من عند الله عز وجل.
قال قتادة : "رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة" يذكر القرآن بأحسن الذكر, ويثني عليه بأحسن الثناء, وقال ابن زيد "فيها كتب قيمة" مستقيمة معتدلة, وقوله تعالى: "وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة" كقوله: " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم " يعني بذلك أهل الكتب المنزلة على الأمم قبلنا, بعد ما أقام الله عليهم الحجج والبينات تفرقوا واختلفوا في الذي أراده الله من كتبهم واختلفوا اختلافاً كثيراً, كما جاء في الحديث المروي من طرق: "إن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة, وإن النصارى اختلفوا على ثنتين وسبعين فرقة, وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قالوا: من هم يا رسول الله ؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي".
وقوله تعالى: "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين" كقوله: "وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون" ولهذا قال: "حنفاء" أي متحنفين عن الشرك إلى التوحيد كقوله: " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " وقد تقدم تقرير الحنيف في سورة الأنعام بما أغنى عن إعادته ههنا "ويقيموا الصلاة" وهي أشرف عبادات البدن "ويؤتوا الزكاة" وهي الإحسان إلى الفقراء والمحاويج "وذلك دين القيمة" أي الملة القائمة العادلة أو الأمة المستقيمة المعتدلة, وقد استدل كثير من الأئمة كالزهري والشافعي بهذه الاية الكريمة أن الأعمال داخلة في الإيمان, ولهذا قال: "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة".
هي ثمان آيات
وهي مدنية في قول الجمهور، وقيل مكية. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة "لم يكن" بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: نزلت سورة لم يكن بمكة. وأخرج أبو نعيم في المعرفة عن إسماعيل بن أبي حكيم المزني، حدثني فضل، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يستمع قراءة "لم يكن الذين كفروا" فيقول: أبشر عبدي وعزتي وجلالي لأمكنن لك في الجنة حتى ترضى" قال ابن كثير: حديث غريب جداً. وأخرجه أبو موسى المديني عن مطر المزني، أو المدني بنحوه. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك "لم يكن الذين كفروا" قال: وسماني لك؟ قال: نعم فبكى". وأخرج أحمد وابن قانع في معجم الصحابة والطبراني وابن مردويه عن أبي حية البدري قال: "لما نزلت "لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب" إلى آخرها قال جبريل: يا رسول الله إن ربك يأمرك أن تقرئها أبياً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة، فقال أبي: وقد ذكرت ثم يا رسول الله؟ قال: نعم، فبكى".
المراد بـ"الذين كفروا من أهل الكتاب" اليهود والنصارى، "و" المراد بـ"المشركين" مشركو العرب، وهم عبدة الأوثان، "منفكين" خبر كان، يقال فككت الشيء فانفك: أي انفصل، والمعنى: أنهم لم يكونوا مفارقين لكفرهم ولا منتهين عنه "حتى تأتيهم البينة" وقيل الانفكاك بمعنى الانتهاء وبلوغ الغاية: أي لم يكونوا يبلغون نهاية أعمارهم فيموتوا حتى تأتيهم البينة، وقيل منفكين زائلين: أي لم تكن مدتهم لتزول حتى تأتيهم البينة، يقال ما انفك فلان قائماً: أي ما زال قائماً، وأصل الفك الفتح، ومنه فك الخلخال. وقيل منفكين بارحين: أي لم يكونوا ليبرحوا أو يفارقوا الدنيا حتى تأتيهم البينة. وقال ابن كيسان: المعنى لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صلى الله عليه وسلم حتى يبعث، فلما بعث حسدوه وجحدوه، وهو كقوله: "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به" وعلى هذا فيكون قوله: "والمشركين" أنهم ما كانوا يسيئون القول في محمد صلى الله عليه وسلم حتى بعث، فإنهم كانوا يسمونه الأمين، فلما بعث عادوه وأساءوا القول فيه. وقيل: "منفكين" هالكين، من قولهم: انفك صلبه: أي انفصل فلم يلتئم فيهلك، والمعنى: لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم. وقيل إن المشركين هم أهل الكتاب، فيكون وصفاً لهم لأنهم قالوا المسيح ابن الله وعزيز ابن الله. قال الواحدي: ومعنى الآية إخبار الله تعالى عن الكفار أنهم لن ينتهوا عن كفرهم وشركهم بالله حتى أتاهم محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن، فبين لهم ضلالتهم وجهالتهم ودعاهم إلى الإيمان، وهذا بيان عن النعمة والإنقاذ به من الجهل والضلالة والآية والآية فيمن آمن من الفريقين. قال: وهذه الآية من أصعب ما في القرآن نظماً وتفسيراً، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء، وسلكوا في تفسيرها طرقاً لا تفضي بهم إلى الصوابج. والوجه ما أخبرتك فاحمد الله إذ أتاك بيانها من غير لبس ولا إشكال. قال: ويدل على أن البينة محمد صلى الله عليه وسلم أنه فسرها وأبدل منها فقال: "رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة" يعني ما تتضمنه الصحف من المكتوب فيها، وهو القرآن، ويدل على ذلك أنه كان يتلو عن ظهر قلبه، لا عن كتاب انتهى كلامه. وقيل إن الآية حكاية لما كان يقوله أهل الكتاب والمشركون إنهم لا يفارقون دينهم حتى يبعث النبي الموعود به، فلما بعث تفرقوا كما حكاه الله عنهم في هذه السورة. والبينة على ما قاله الجمهور هو محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه في نفسه بينة وحجة ولذلك سماه سراجاً منيراً.
1- "لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب"، وهم اليهود والنصارى، "والمشركين"، وهم عبدة الأوثان، "منفكين"، منتهين عن كفرهم وشركهم، وقال أهل اللغة: زائلين منفصلين، يقال: فككت الشيء فانفك، أي: انفصل، "حتى تأتيهم البينة"، لفظه مستقبل ومعناه الماضي، أي: حتى أتتهم البينة، الحجة الواضحة، يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم، أتاهم بالقرآن فبين لهم ضلالاتهم وجهالتهم ودعاهم إلى الإيمان. فهذه الآية فيمن آمن من الفريقين، أخبر أنهم لم ينتهوا عن الكفر حتى أتاهم الرسول فدعاهم إلى الإيمان فآمنوا فأنقذهم الله من الجهل والضلالة.
1-" لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب " اليهود والنصارى فإنهم كفروا بالألحاد في صفات الله سبحانه وتعالى و " من " للتبيين . " والمشركين " وعبدة الأصنام . " منفكين " عما كانوا عليه من دينهم ، أو الوعد باتباع الحق إذ جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم . " حتى تأتيهم البينة " الرسول عليه الصلاة والسلام أو القرآن ،فإنه مبين للحق أو معجزة الرسول بأخلاقه والقرآن بإفحامه من تحدى به .
Surah 98. Al-Baiyina
1. Those who disbelieve among the People of the Scripture and the idolaters could not have left off (erring) till the clear proof came unto them,
SURA 98: BAIYINA
1 - Those who reject (Truth), among the People of the Book and among the Polytheists, were not going to depart (from their ways) until there should come to them Clear Evidence,