[التوبة : 60] إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
60 - (إنما الصدقات) الزكوات مصروفة (للفقراء) الذين لا يجدون ما يقع موقعاً من كفايتهم (والمساكين) الذين لا يجدون ما يكفيهم (والعاملين عليها) أي الصدقات من جاب وقاسم وكاتب وحاشر (والمؤلفة قلوبهم) ليسلموا أو يثبت إسلامهم أو يسلم نظراؤهم أو يذبوا عن المسلمين أقسام الأول والأخير لا يعطيان اليوم عند الشافعي رضي الله تعالى عنه لعز الإسلام بخلاف الآخرين فيعطيان على الأصح (وفي) فك (الرقاب) أي المكاتبين (والغارمين) أهل الدَّين إن استدانوا لغير معصية أو تابوا وليس لهم وفاء أو لإصلاح ذات البين ولو أغنياء (وفي سبيل الله) أي القائمين بالجهاد ممن لا فيء لهم ولو أغنياء (وابن السبيل) المنقطع في سفره (فريضة) نصب بفعله المقدر (من الله والله عليم) بخلقه (حكيم) في صنعه فلا يجوز صرفها لغير هؤلاء ولا منع صنف منهم إذا وجد فيقسمها الإمام عليهم السواء وله تفضيل بعض آحاد الصنف على بعض وأفادت اللام وجوب استغراق أفراده لكن لا يجب على صاحب المال إذا قسم لعسره بل يكفي إعطاء ثلاثة من كل صنف ولا يكفي دونها كما أفادته صيغة الجمع وبينت السنة أن شرط المعطى منها الإسلام وأن لا يكون هاشمياً ولا مطلبياً
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما الصدقات إلا للفقراء والمساكين، ومن سماهم الله جل ثناؤه.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة ((الفقير)) و((المسكين)).
فقال بعضهم: ((الفقير))، المحتاج المتعفف عن المسألة، و((المسكين))، المحتاج السائل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن أشعث، عن الحسن : " إنما الصدقات للفقراء والمساكين "، قال:((الفقير))، الجالس في بيته، و((المسكين))، الذي يسعى.
حدثني المنثى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين "، قال: ((المساكين))، الطوافون، و((الفقراء))، فقراء المسلمين.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن جرير بن حازم قال، حدثني رجل، عن جابر بن زيد: أنه سئل عن ((الفقراء))، قال: ((الفقراء))، المتعففون، و((المساكين))، الذين يسألون.
حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله الجزري قال: سألت الزهري عن قوله: " إنما الصدقات للفقراء "، قال: الذين في بيوتهم لا يسألون، و((المساكين))، الذين يخرجون فيسألون.
حدثنا الحارث قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبدالوارث بن سعيد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: ((الفقير))، الذي لا يسأل، و((المسكين))، الذي يسأل.
حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين "، قال: ((الفقراء))، الذين لا يسألون الناس، أهل حاجة، و((المساكين))، الذين يسألون الناس.
حدثنا الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا عبد الوارث، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: ((الفقراء))، الذين لا يسألون، و((المساكين)) الذين يسألون.
وقال آخرون: ((الفقير))، هو ذو الزمانة من أهل الحاجة، و((المسكين))، هو الصحيح الجسم منهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة : " إنما الصدقات للفقراء والمساكين "، قال: ((الفقير))، من به زمانة، و((المسكين))، الصحيح المحتاج.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين "، أما ((الفقير))، فالزمن الذي به زمانة، وأما ((المسكين))، فهو الذي ليست به زمانة.
وقال آخرون: ((الفقراء))، فقراء المهاجرين، و((المساكين))، من لم يهاجر من المسلمين، وهو محتاج.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحرث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا جرير بن حازم، عن علي بن الحكم، عن الضحاك بن مزاحم: " إنما الصدقات للفقراء "، قال: فقراء المهاجرين، و((المساكين))، الذين لم يهاجروا.
... قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: ((إنما الصدقات للفقراء المهاجرين))، قال سفيان: يعني: ولا يعطى الأعراب منها شيئاً.
حدثنا ابن وكيع قال: حدثني أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: كان يقال: إنما الصدقة لفقراء المهاجرين.
... قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم قال: كانت تجعل الصدقة في فقراء المهاجرين، وفي سبيل الله.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قالا: كان ناس من المهاجرين لأحدهم الدار، والزوجة، والعبد، والناقة يحج عليها ويغزو، فنسبهم الله إلى أنهم فقراء، وجعل لهم سهماً في الزكاة.
حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن ابراهيم قال: إنما الصدقات في فقراء المهاجرين، وفي سبيل الله.
وقال آخرون: ((المسكين))، الضعيف الكسب.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن عون، عن محمد قال: قال عمر: ليس الفقير بالذي لا مال له، ولكن الفقير الأخلق الكسب. قال يعقوب: قال ابن علية: ((الأخلق))، المحارف، عندنا.
حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين : أن عمر بن الخطاب رحمه الله قال: ليس المسكين بالذي لا مال له، ولكن المسكين الأخلق الكسب. وقال بعضهم: ((الفقير))، من المسلمين، و((المسكين)) من أهل الكتاب.
ذكر من قال ذلك:
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عمر بن نافع قال: سمعت عكرمة في قوله: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين "، قال: لا تقولوا لفقراء المسلمين ((مساكين))، إنما ((المساكين))، مساكين أهل الكتاب.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندب بالصواب، قول من قال: ((الفقير))، هو ذو الفقر والحاجة، ومع حاجته يتعفف عن مسألة الناس والتذلل لهم، في هذا الموضع، و((المسكين)) هو المحتاج المتذلل للناس بمسألتهم.
وإنما قلنا إن ذلك كذلك، وإن كان الفريقان لم يعطيا إلا بالفقر والحاجة، دون الذلة والمسألة، لإجماع الجميع من أهل العلم أن ((المسكين))، إنما يعطى من الصدقة المفروضة بالفقر، وأن معنى ((المسكنة))، عند العرب، الذلة، كما قال الله جل ثناؤه: " وضربت عليهم الذلة والمسكنة " [البقرة: 61]، يعني بذلك: الهون والذلة، لا الفقر. فإذ كان الله جل ثناؤه قد صنف من قسم له من الصدقة المفروضة قسماً بالفقر، فجعلهم صنفين، كان معلوماً أن كل صنف منهم غير الآخر. وإذ كان ذلك كذلك، كان لا شك أن المقسوم له باسم ((الفقير))، غير المقسوم له باسم الفقر و((المسكنة))، والفقير المعطى ذلك باسم الفقير المطلق، هو الذي لا مسكنة فيه، والمعطى باسم المسكنة والفقر، هو الجامع إلى فقره المسكنة، وهي الذل بالطلب والمسألة.
فتأويل الكلام، إذ كان ذلك معناه: إنما الصدقات للفقراء: المتعفف منهم الذي لا يسأل، والمتذلل منهم الذي يسأل.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي قلنا في ذلك خبر.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني إسمعيل بن جعفر، عن شريك بن أبي نمر، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس المسكين بالذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، إنما المسكين المتعفف! اقرأوا إن شئتم: " لا يسألون الناس إلحافا " [البقرة: 273]" .
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: " إنما المسكين المتعفف "، على نحو ما قد جرى به استعمال الناس من تسميتهم أهل الفقر ((مساكين))، لا على تفصيل المسكين من الفقير.
ومما ينبىء عن أن ذلك كذلك، انزاعه صلى الله عليه وسلم بقول الله: اقرأوا إن شئتم: " لا يسألون الناس إلحافا " [البقرة: 273]، وذلك في صفة من ابتدأ ذكره ووصفه بالفقر فقال: " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا " [البقرة: 273].
وقوله: " والعاملين عليها "، وهم السعاة في قبضها من أهلها، ووضعها في مستحقيها، يعطون ذلك بالسعاية، أغنياء كانوا أو فقراء.
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله قال: سألت الزهري : عن ((العاملين عليها))، فقال: السعاة.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة : " والعاملين عليها "، قال:جباتها، الذين يجمعونها ويسعون فيها.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: " والعاملين عليها "، الذي يعمل عليها.
ثم اختلف أهل التأويل في قدر ما يعطى العامل من ذلك.
فقال بعضهم:يعطى منه الثمن.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن حسن بن صالح، عن جويبر، عن الضحاك قال: للعاملين عليها الثمن من الصدقة.
حدثت عن مسلم بن خالد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: " والعاملين عليها "، قال: يأكل العمال من السهم الثامن.
وقال آخرون:بل يعطى على قدر عمالته.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن الأخضر بن عجلان قال، حدثنا عطاء بن زهير العامري، عن أبيه: أنه لقي عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله عن الصدقة: أي مال هي؟ فقال: مال العرجان والعوران والعميان، وكل منقطع به. فقال له: إن للعاملين حقاً والمجاهدين! قال: إن المجاهدين قوم أحل لهم، والعاملين عليها على قدر عمالتهم. ثم قال: لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي.
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: يكون للعامل عليها إن عمل بالحق، ولم يكن عمر رحمة الله عليه ولا أولئك يعطون العامل الثمن، إنما يفرضون بقدر عمالته.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن أشعث، عن الحسن : " والعاملين عليها "، قال: كان يعطى العاملون.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: يعطى العامل عليها على قدر عمالته وأجر مثله.
وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب، لأن الله جل ثناؤه لم يقسم صدقة الأموال بين الأصناف الثمانية على ثمانية أسهم، وإنما عرف خلقه أن الصدقات لن تجاوز هؤلاء الأصناف الثمانية إلى غيرهم. وإذ كان كذلك، بما سنوضح بعد، وبما قد أوضحناه في موضع آخر، كان معلوماً أن من أعطي منها حقاً، فإنما يعطى على قدر اجتهاد المعطي فيه. وإذا كان ذلك كذلك، وكان العامل عليها إنما يعطى على عمله، لا على الحاجة التي تزول بالعطية، كان معلوماً أن الذي أعطاه من ذلك إنما هو عوض من سعيه وعمله، وأن ذلك إنما هو قدر ما يستحقه عوضاً من عمله الذي لا يزول بالعطية، وإنما يزول بالعزل.
وأما ((المؤلفة قلوبهم))، فإنهم قوم كانوا يتألفون على الإسلام، ممن لم تصح نصرته، استصلاحاً به نفسه وعشيرته، كأبي سفيان بن حرب، وعيينة بن بدر، والأقرع بن حابس، ونظرائهم من رؤساء القبائل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: " والمؤلفة قلوبهم "، وهم قوم كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسلموا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرضخ لهم من الصدقات، فإذا أعطاهم من الصدقات فأصابوا منها خيراً قالوا: هذا دين صالح! وإن كان غير ذلك، عابوه وتركوه.
حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير: إن المؤلفة قلوبهم من بني أمية: أبو سفيان بن حرب، ومن بني مخزوم: الحارث بن هشام، وعبد الرحمن بن يربوع، ومن بني جمح: صفوان بن أمية، ومن بني عامر بن لؤي: سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، ومن بني أسد بن عبد العزى: حكيم بن حزام، ومن بني هاشم: سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ومن بني فزارة: عيينة بن حصن بن بدر، ومن بني تميم: الأقرع بن حابس، ومن بني نصر: مالك بن عوف، ومن بني سليم: العباس بن مرداس، ومن ثقيف: العلاء بن حارثة، أعطى النبي صلى الله عليه وسلم كل رجل منهم مئة ناقة، إلا عبد الرحمن بن يربوع، وحويطب بن عبد العزى، فإنه أعطى كل رجل منهم خمسين.
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري قال: قال صفوان بن أمية: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي.
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: ناس كان يتألفهم بالعطية، عيينة بن بدر ومن كان معه.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، عن حماد بن سلمة، عن يونس عن الحسن : " والمؤلفة قلوبهم "، الذين يؤلفون على الإسلام.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة : وأما ((المؤلفة قلوبهم))، فأناس من الأعراب ومن غيرهم، كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم بالعطية كيما يؤمنوا.
حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله قال، سألت الزهري عن قوله: " والمؤلفة قلوبهم "، فقال: من أسلم من يهودي أو نصراني. قلت: وإن كان غنياً؟قال: وإن كان غنياً.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا معقل بن عبيد الله الجزري، عن الزهري : " والمؤلفة قلوبهم "، قال: من هو يهودي أو نصراني.
ثم اختلف أهل العلم في وجود المؤلفة اليوم وعدمها، وهل يعطى اليوم أحد على التألف على الإسلام من الصدقة؟.
فقال بعضهم: قد بطلت المؤلفة قلوبهم اليوم، ولا سهم لأحد في الصدقة المفروضة إلا لذي حاجة إليها، وفي سبيل الله، أولعامل عليها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن أشعث، عن الحسن : " والمؤلفة قلوبهم "، قال: أما ((المؤلفة قلوبهم))، فليس اليوم.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل عن جابر، عن عامر قال: لم يبق في الناس اليوم من المؤلفة قلوبهم، إنما كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا عبد الرحمن بن يحيى، عن حبان بن أبي جبلة قال:قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وأتاه عيينة بن حصن: " الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " [الكهف: 29]، أي: ليس اليوم مؤلفة.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك، عن الحسن قال: ليس اليوم مؤلفة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر قال:إنما كانت المؤلفة قلوبهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ولي أبو بكر رحمة الله عليه، انقطعت الرشى.
وقال آخرون: ((المؤلفة قلوبهم))، في كل زمان، وحقهم في الصدقات.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر قال: في الناس اليوم المؤلفة قلوبهم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر، مثله.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي: أن الله جعل الصدقة في معنيين أحدهما: سد خلة المسلمين، والآخر: معونة الإسلام وتقويته. فما كان في معونة الإسلام وتقوية أسبابه، فإنه يعطاه الغني والفقير، لأنه لا يعطاه من يعطاه بالحاجة منه إليه، وإنما يعطاه معونةً للدين. وذلك كما يعطى الذي يعطاه بالجهاد في سبيل الله، فإنه يعطى ذلك غنياً كان أو فقيراً، للغزو، لا لسد خلته. وكذلك المؤلفة قلوبهم، يعطون ذلك وإن كانوا أغنياء، استصلاحاً بإعطائهموه أمر الإسلام وطلب تقويته وتأييده. وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من أعطى من المؤلفة قلوبهم، بعد أن فتح الله عليه الفتوح، وفشا الإسلام وعز أهله. فلا حجة لمحتج بأن يقول: ((لا يتألف اليوم على الإسلام أحد، لامتناع أهله بكثرة العدد ممن أرادهم))، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من أعطى منهم في الحال التي وصفت.
وأما قوله:" وفي الرقاب "، فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه.
فقال بعضهم، وهم الجمهور الأعظم: هم المكاتبون، يعطون منها في فك رقابهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق ، عن الحسن بن دينار، عن الحسين: أن مكاتباً قام إلى موسى الأشعري رحمه الله وهو يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: أيها الأمير، حث الناس علي! فحث عليه أبو موسى، فألقى الناس عليه عمامة وملاءة وخاتماً، حتى ألقوا سواداً كثيراً، فلما رأى أبو موسى ما ألقي عليه قال: اجمعوه! فجمع، ثم أمر به فبيع. فأعطى المكاتب مكاتبته، ثم أعطى الفضل في الرقاب، ولم يرده على الناس، وقال: إنما أعطي الناس في الرقاب.
حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله قال، سألت الزهري عن قوله: " وفي الرقاب "، قال: المكاتبون.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " وفي الرقاب "، قال: المكاتب.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن : " وفي الرقاب "، قال: هم المكاتبون.
وروي عن ابن عباس أنه قال: لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، قول من قال: ((عني بالرقاب، في هذا الموضع، المكاتبون))، لإجماع الحجة على ذلك، فإن الله جعل الزكاة حقاً واجباً على من أوجبها عليه في ماله، يخرجها منه، لا يرجع إليه منها نفع من عرض الدنيا، ولا عوض. والمعتق رقبةً منها، راجع إليه ولاء من أعتقه، وذلك نفع يعود إليه منها.
وأما ((الغارمون))، الذين استدانوا في غير معصية الله، ثم لم يجدوا قضاء في عين ولا عرض.
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد قال: ((الغارمون))، من احترق بيته، أو يصيبه السيل فيذهب متاعه، ويدان على عياله، فهذا من الغارمين.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري ، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد في قوله: " والغارمين "، قال: من احترق بيته، وذهب السيل بماله، وادان على عياله.
حدثنا أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر قال: ((الغارمين))، المستدين في غير سرف، ينبغي للإمام أن يقضي عنهم من بيت المال.
...قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله قال: سألنا الزهري عن ((الغارمين))، قال: أصحاب الدين.
... قال، حدثنا معقل، عن عبد الكريم قال، حدثني خادم لعمر بن عبد العزيز خدمه عشرين سنة قال: كتب عمر بن عبد العزيز: أن يعطى الغارمون - قال أحمد : أكثر ظني: من الصدقات.
... قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن جابر، عن أبي جعفر قال: ((الغارمون))، المستدين في غير سرف.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة : أما ((الغارمون))، فقوم غرقتهم الديون في غير إملاق، ولا تبذير ولا فساد.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ((الغارم))، الذي يدخل عليه الغرم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد : " والغارمين "، قال: هو الذي يذهب السيل والحريق بماله، ويدان على عياله.
... قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن أبي جعفر قال: المستدين في غير فساد.
... قال، حدثني أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر، قال: ((الغارمون))، الذين يستدينون في غير فساد، ينبغي للإمام أن يقضي عنهم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد : هم قوم ركبتهم الديون في غير فساد ولا تبذير، فجعل الله لهم في هذه الآية سهماً.
وأما قوله: " وفي سبيل الله "، فإنه يعني: وفي النفقة في نصرة دين الله وطريقه وشريعته التي شرعها لعباده، بقتال أعدائه، وذلك هو غزو الكفار.
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " وفي سبيل الله "، قال: الغازي في سبيل الله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: رجل عمل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو في سبيل الله، أو ابن السبيل، أو رجل كان له جار تصدق عليه فأهداها له " .
... قال، حدثنا أبي، عن ابن أبي ليلى ، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تحل الصدقة لغني، إلا لثلاثة: في سبيل الله، أو ابن السبيل، أو رجل كان له جار فتصدق عليه، فأهداها له ".
وأما قوله: " وابن السبيل "، فالمسافر الذي يجتاز من بلد إلى بلد.
و((السبيل))، الطريق، وقيل للضارب فيه: ((ابن السبيل))، للزومه إياه، كما قال الشاعر:
أنا ابن الحرب ربتني وليداً إلى أن شبت واكتهلت لداتي
وكذلك تفعل العرب، تسمي اللازم لشيء يعرف به: ((ابنه)).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن جابر، عن أبي جعفر قال: ((ابن السبيل))، المجتاز من أرض إلى أرض.
حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا مندل، عن ليث عن مجاهد : " وابن السبيل "، قال: لابن السبيل حق من الزكاة وإن كان غنياً، إذا كان منقطعاً به.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله قال: سألت الزهري عن ((ابن السبيل))، قال: يأتي علي ابن السبيل وهو محتاج. قلت: فإن كان غنياً؟ قال: وإن كان غنياً.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة : " وابن السبيل "، الضيف، جعل له فيها حق.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:((ابن السبيل))، المسافر من كان، غنياً أو فقيراً، إذا أصيبت نفقته أو فقدت، أو أصابها شيء، أو لم يكن معه شيء، فحقه واجب.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك ، أنه قال: في الغني إذا سافر فاحتاج في سفره، قال: يأخذ من الزكاة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن أبي جعفر قال: ((ابن السبيل))، المجتاز من الأرض إلى الأرض.
وقوله: " فريضة من الله "، يقول جل ثناؤه: قسم قسمه الله لهم، فأوجبه في أموال أهل الأموال لهم، " والله عليم "، بمصالح خلقه فيما فرض لهم، وفي غير ذلك، لا يخفى عليه شيء. فعلى علم منه فرض ما فرض من الصدقة، وبما فيها من المصلحة، " حكيم "، في تدبيره خلقه، لا يدخل في تدبيره خلل.
واختلف أهل العلم في كيفية قسم الصدقات التي ذكرها الله في هذه الآية، وهل يجب لكل صنف من الأصناف الثمانية فيها حق، أو ذلك إلى رب المال ومن يتولى قسمها، في أن له أن يعطي جميع ذلك من شاء من الأصناف الثمانية؟.
فقال عامة أهل العلم: للمتولي قسمها ووضعها في أي الأصناف الثمانية شاء. وإنما سمى الله الأصناف الثمانية في الآية، إعلاماً منه خلقه أن الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف الثمانية إلى غيرها، لا إيجاباً لقسمها بين الأصناف الثمانية الذين ذكرهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هرون، عن الحجاج بن أرطأة، عن المنهال بن عمرو، عن زر بن حبيش، عن حذيفة في قوله: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها "، قال: إن شئت جعلته في صنف واحد، أو صنفين، أو ثلاثة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن المنهال، عن زر، عن حذيفة قال: إذا وضعتها في صنف واحد أجزأ عنك.
... قال حدثنا جرير، عن ليث ، عن عطاء ، عن عمر: " إنما الصدقات للفقراء "، قال: أيما صنف أعطيته من هذا أجزأك.
... قال حدثنا ابن نمير، عن عبد المطلب، عن عطاء : " إنما الصدقات للفقراء "، الآية، قال: لو وضعتها في صنف واحد من هذه الأصناف أجزأك. ولو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فجبرتهم بها، كان أحب إلي.
... قال أخبرنا جرير، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها"، "وابن السبيل "، فأي صنف أعطيته من هذه الأصناف أجزأك.
... قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
... قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها "، قال: إنما هذا شيء أعلمه، فأي صنف من هذه الأصناف أعطيته أجزأ عنك.
... قال، حدثنا أبي، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم: " إنما الصدقات للفقراء "، قال: في أي هذه الأصناف وضعتها أجزأك.
... قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: إذا وضعتها في صنف واحد مما سمى الله أجزأك.
... قال، حدثنا أبي، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: إذا وضعتها في صنف واحد مما سمى الله أجزأك.
... قال، حدثنا خالد بن حيان أبو يزيد، عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران: " إنما الصدقات للفقراء "، قال: إذا جعلتها في صنف واحد من هؤلاء أجزأ عنك.
... قال، حدثنا محمد بن بشر، عن مسعود، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين "، الآية، قال: أعلم أهلها من هم.
... قال، حدثنا حفص، عن ليث ، عن عطاء ، عن عمر: أنه كان يأخذ الفرض في الصدقة، ويجعلها في صنف واحد.
وكان بعض المتأخرين يقول: إذا تولى رب المال قسمها، كان عليه وضعها في ستة أصناف، وذلك أن المؤلفة قلوبهم عنده قد ذهبوا، وأن سهم العاملين يبطل بقسمه إياها. ويزعم أنه لا يجزيه أن يعطي من كل صنف أقل من ثلاثة أنفس. وكان يقول: إن تولى قسمها الإمام، كان عليه أن يقسمها على سبعة أصناف، لا يجزي عنده غير ذلك.
فيه ثلاثون مسألة:
الأولى- قوله تعالى: "إنما الصدقات للفقراء" خص الله سبحانه بعض الناس بالأموال دون بعض نعمة منه عليهم، وجعل شكر ذلك منهم إخراج سهم يؤدونه إلى من لا مال له، نيابة عنه سبحانه فيما ضمنه بقوله: "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها" [هود:6].
الثانية- قوله تعالى: "للفقراء" تبيين لمصارف الصدقات والمحل، حتى لا تخرج عنهم، ثم الاختيار إلى من يقسم، هذا قول مالك وأبي حنيفة وأصحابهما. كما يقال: السرج للدابة والباب للدار. وقال الشافعي: اللام لام التمليك، كقولك: المال لزيد وعمرو وبكر، فلا بد من التسوية بين المذكورين. قال الشافعي وأصحابه: وهذا كما لو أوصى لأصناف معينين أو لقوم معينين. واحتجوا بلفظه إنما وأنها تقتضي الحصر في وقوف الصدقات على الثمانية الأصناف، وعضدوا هذا البخاريـ"حديث زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبعث إلى قومي جيشاً فقلت: يا رسول الله، أحبس جيشك فأنا لك بإسلامهم وطاعتهم، وكتبت إلى قومي فجاء إسلامهم وطاعتهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أخا صداء المطاع في قومه. قال: قلت بل من الله عليهم وهداهم، قال: ثم جاءه رجل يسأله عن الصدقات، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يرض في الصدقات بحكم نبي ولا غيره حتى جزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من أهل تلك الأجزاء أعطيتك" رواه أبو داود والدارقطني. واللفظ للدارقطني. وحكي عن زيد العابدين أنه قال: إنه تعالى علم قدر ما يدفع من الزكاة وما تقع به الكفاية لهذه الأصناف، وجعله حقاً لجميعهم، فمن منعهم ذلك فهو الظالم لهم رزقهم. وتمسك علماؤنا بقوله تعالى: "إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم" [البقرة:271]. والصدقة متى أطلقت في القرآن فهي صدقة الفرض. وقال صلى الله عليه وسلم:
"أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها على فقرائكم". وهذا نص في ذكر أحد الأصناف الثمانية قرآنا وسنة، وهو قول عمر بن الخطاب وعلي وابن عباس وحذيفة. وقال به من التابعين جماعة. قالوا: جائز أن يدفعها إلى الأصناف الثمانية، وإلى أي صنف منها دفعت جاز. روى المنهال بن عمرو عن زر بن حبيش عن حذيفة في قوله: "إنما الصدقات للفقراء والمساكين" قال: إنما ذكر الله هذه الصدقات لتعرف، وأي صنف منها أعطيت أجزأك. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس "إنما الصدقات للفقراء والمساكين" قال: في أيها وضعت أجزأ عنك. وهو قول الحسن وإبراهيم وغيرهما. قال الكيا الطبري: حتى ادعى مالك الإجماع على ذلك.
قلت: يريد إجماع الصحابة، فإنه لا يعلم لهم مخالف منهم على ما قال أبو عمر، والله أعلم. ابن العربي: والذي جعلناه فيصلا بيننا وبينهم أن الأمة اتفقت على أنه لو أعطي كل صنف حظه لم يجب تعميمه، فكذلك تعميم الأصناف مثله. والله أعلم.
الثالثة- واختلف علماء اللغة وأهل الفقه في الفرق بين الفقير والمسكين على تسعة أقوال، فذهب يعقوب بن السكيت والقتبي ويونس بن حبيب إلى أن الفقير أحسن حالاً من المسكين. قالوا: الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه ويقيمه، والمسكين الذي لا شيء له، واحتجوا بقول الراعي:
أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد
وذهب إلى هذا قوم من أهل اللغة والحديث منهم أبو حنيفة والقاضي عبد الوهاب، والوفق من الموافقة بين الشيئين كالالتحام، يقال: حلوبته وفق عياله أي لها لبن قدر كفايتهم لا فضل فيه، عن الجوهري. وقال آخرون بالعكس، فجعلوا المسكين أحسن حالاً من الفقير. واحتجوا بقوله تعالى: "أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر" [الكهف:79]. فأخبر أن لهم سفينة من سفن البحر. وربما ساوت جملةً من المال. وعضدوه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تعوذ من الفقر. وروي عنه أنه قال: "اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً". فلو كان المسكين أسوأ حالاً من الفقير لتناقض الخبران، إذ يستحيل أن يتعوذ من الفقر ثم يسأل ما هو أسوأ حالاً منه، وقد استجاب الله دعاءه وقبضه وله مال مما أفاء الله عليه، ولكن لم يكن معه تمام الكفاية، ولذلك رهن درعه. قالوا: وأما بيت الراعي فلا حجة فيه، لأنه إنما ذكر أن الفقير كانت له حلوبة في حال. قالوا: والفقير معناه في كلام العرب المفقور الذي نزعت فقره من ظهره من شدة الفقر فلا حال أشد من هذه. وقد أخبر الله عنهم بقوله "لا يستطيعون ضربا في الأرض" [البقرة:273]. واستشهدوا بقول الشاعر:
لما رأى لبد النور تطايرت رفع القوادم كالفقير الأعزل
أي لم يطق الطيران فصار بمنزلة من انقطع صلبه ولصق بالأرض. ذهب إلى هذا الأصمعي وغيره، وحكاه الطحاوي عن الكوفيين. وهو أحد قولي الشافعي وأكثر أصحابه. ولالشافعي قول آخر: أن الفقير والمسكين سواء، لا فرق بينهما في المعنى وإن افترقا في الاسم، وهو القول الثالث. وإلى هذا ذهب ابن القاسم وسائر أصحاب مالك، وبه قال أبو يوسف.
قلت: ظاهر اللفظ يدل على أن المسكين غير الفقير، وأنهما صنفان، إلا أن أحد الصنفين أشد حاجة من الآخر، فمن هذا الوجه يقرب قول من جعلهما صنفاً واحداً، والله أعلم. ولا حجة في قول من احتج بقوله تعالى: "أما السفينة فكانت لمساكين" [الكهف:79]. لأنه يحتمل أن تكون مستأجرة لهم، كما يقال: هذه دار فلان إذا كان ساكنها وإن كانت لغيره. وقد قال تعالى في وصف أهل النار: "ولهم مقامع من حديد" [الحج:21] فأضافها إليهم. وقال تعالى: "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم" [النساء:5]. وقال صلى الله عليه وسلم:
"مرة باع عبداً وله مال" وهو كثير جداً يضاف الشيء إليه وليس له. ومنه قولهم: باب الدار. وجل الدابة، وسرج الفرس، وشبهه. ويجوز أن يسموا مساكين على جهة الرحمة والاستعطاف، كما يقال لمن امتحن بنكبة أو دفع إلى بلية مسكين. وفي الحديث:
"مساكين أهل النار" وقال الشاعر:
مساكين أهل الحب حتى قبورهم عليها تراب الذل بين المقابر
وأما ما تأوله من قوله عليه السلام: "اللهم أحيني مسكيناً" الحديث. رواه أنس، فليس كذلك، وإنما المعنى ههنا: التواضع لله الذي لا جبروت فيه ولا نخوة، ولا كبر ولا بطر، ولا تكبر ولا أشر. ولقد أحسن أبو العتاهية حيث قال:
إذا أردت شريف القوم كلهم فانظر إلى ملك في زي مسكين
ذاك الذي عظمت في الله رغبته وذاك يصلح للدنيا وللدين
وليس بالسائل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كره السؤال ونهى عنه، وقال في امرأة سوداء أبت أن تزول له عن الطريق.
دعوها فإنها جبارة. وأما قوله تعالى: "للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض" فلا يمتنع أن يكون لهم شيء. والله أعلم. وما ذهب إليه أصحاب مالك والشافعي في أنهما سواء حسن. ويقرب منه ما قاله مالك في كتاب ابن سحنون، قال: الفقير المحتاج المتعفف، والمسكين السائل، وروي عن ابن عباس وقاله الزهري، واختاره ابن شعبان وهو القول الرابع. وقول خامس- قال محمد بن مسلمة: الفقير الذي له المسكن والخادم إلى من هو أسفل من ذلك. والمسكين الذي لا مال له.
قلت: وهذا القول عكس ما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو، وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها. قال نعم. قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال نعم. قال: فأنت من الأغنياء. قال: فإن لي خادماً قال: فأنت من الملوك. وقول سادس- روي عن ابن عباس قال: الفقراء من المهاجرين، والمساكين من الأعراب الذين لم يهاجروا، وقاله الضحاك. وقول سابع- وهو أن المسكين الذي يخشع ويستكن وإن لم يسأل. والفقير الذي يتحمل ويقبل الشيء سراً ولا يخشع، قاله عبيد الله بن الحسن. وقول ثامن قاله مجاهد وعكرمة والزهري -المساكين الطوافون، والفقراء فقراء المسلمين. وقول تاسع قاله عكرمة أيضاً- أن الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين فقراء أهل الكتاب. وسيأتي.
الرابعة- وهي فائدة الخلاف في الفقراء والمساكين، هل هما صنف واحد أو أكثر تظهر فيمن أوصى بثلث ماله لفلان وللفقراء والمساكين، فمن قال هما صنف واحد قال: يكون لفلان نصف الثلث وللفقراء والمساكين نصف الثلث الثاني. ومن قال هما صنفان يقسم الثلث بينهم أثلاثاً.
الخامسة- وقد اختلف العلماء في حد الفقر الذي يجوز معه الأخذ- بعد إجماع أكثر من يحفظ عنه من أهل العلم - أن من له داراً وخادماً لا يستغني عنهما أن له أن يأخذ من الزكاة، وللمعطي أن يعطيه. وكان مالك يقول: إن لم يكن في ثمن الدار والخادم فضلة عما يحتاج إليه منهما جاز له الأخذ وإلا لم يجز، ذكره ابن المنذر. وبقول مالك قال النخعي والثوري. وقال أبو حنيفة: من معه عشرون ديناراً أو مائتا درهم فلا يأخذ من الزكاة. فاعتبر النصاب لقوله عليه السلام: "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم". وهذا واضح، ورواه المغيرة عن مالك. وقال الثوري وأحمد وإسحاق وغيرهم: لا يأخذ من له خمسون درهماً أو قدرها من الذهب، ولا يعطى منها أكثر من خمسين درهماً إلا أن يكون غارماً، قاله أحمد وإسحاق. وحجة هذا القول ما رواه الدارقطني عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا تحل الصدقة لرجل له خمسون درهماً". في إسناده عبد الرحمن بن إسحاق ضعيف، وعنه بكر بن خنيس ضعيف أيضاً. ورواه حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وقال: خمسون درهما. وحكيم بن جبير ضعيف تركه شعبة وغيره، قاله الدارقطني رحمه الله. وقال أبو عمر: هذا الحديث يدور على حكيم بن جبير وهو متروك. وعن علي وعبد الله قالا: لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب، ذكره الدارقطني وقال الحسن البصري: لا يأخذ من له أربعون درهماً. ورواه الواقدي عن مالك. وحجة هذا القول ما رواه الدارقطني عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"من سأل الناس وهو غني جاء يوم القيامة وفي وجهه كدوح وخدوش. فقيل يا رسول الله وما غناؤه؟ قال: أربعون درهماً". وفي حديث مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يساء عن رجل من بني أسد فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافاً" والأوقية أربعون درهماً. والمشهور عن مالك ما رواه القاسم عنه أنه سئل: هل يعطى من الزكاة من له أربعون درهماً؟ قال نعم. قال أبو عمر: يحتمل أن يكون الأول قوياً على الاكتساب حسن التصرف. والثاني ضعيفاً عن الاكتساب، أو من له عيال. والله أعلم. وقال الشافعي وأبو ثور. من كان قوياً على الكسب والتحرف مع قوة البدن وحسن التصرف حتى يغنيه ذلك عن الناس فالصدقة عليه حرام. واحتج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي" رواه عبد الله بن عمر وأخرجه أبو داود والترمذي والدارقطني. وروى جابر قال:
"جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة فركبه الناس، فقال: إنها لا تصلح لغني ولا لصحيح ولا لعامل" أخرجه الدارقطني. وروى أبو داود "عن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال: أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها، فرفع النظر وخفضه، فرآنا جلدين فقال: إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب". ولأنه قد صار غنياً بكسبه كغنى غيره بماله فصار كل واحد منهما غنياً عن المسألة. وقاله ابن خويزمنداد، وحكاه عن المذهب. وهذا لا ينبغي أن يعول عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطيها الفقراء ووقوفها على الزمن باطل. قال أبو عيسى الترمذي في جامعه: إذا كان الرجل قوياً محتاجاً ولم يكن عنده شيء فتصدق عليه أجزأ عن المتصدق عند أهل العلم. ووجه الحديث عند بعض أهل العلم على المسألة. وقال الكيا الطبري: والظاهر يقتضي جواز ذلك، لأنه فقير مع قوته وصحة بدنه. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال عبيد الله بن الحسن: من لا يكون له ما يكفيه ويقيمه سنةً فإنه يعطي الزكاة. وحجته ما رواه ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخر مما أفاء الله عليه قوت سنة، ثم يجعل ما سوى ذلك في الكراع والسلاح مع قوله تعالى: "ووجدك عائلاً فأغنى" [الضحى:8]. وقال بعض أهل العلم: لكل واحد أن يأخذ من الصدقة فيما لا بد منه. وقال قوم: من عنده عشاء ليلة فهو غنى، وروي عن علي. واحتجوا بحديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"فمن سأل مسألة عن ظهر غنى استكثر بها من رضف جهنم قالوا: يا رسول الله، وما ظهر الغنى؟ قال: عشاء ليلة" أخرجه الدارقطني وقال: في إسناده عمرو بن خالد وهو متروك. وأخرجه أبو داود عن سهل بن الحنظلية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه:
"من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار". وقال النفيلي في موضع آخر "من جمر جهنم". فقالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ وقال النفيلي في موضع آخر، وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة؟ قال: قدر ما يغديه ويعشيه. وقال النفيلي في موضع آخر: أن يكون له شبع يوم وليلة أو ليلة ويوم.
قلت: فهذا ما جاء في بيان الفقر الذي يجوز معه الأخذ. ومطلق لفظ الفقراء لا يقتضي الاختصاص بالمسلمين دون أهل الذمة، ولكن تظاهرت الأخبار في أن الصدقات تؤخذ من أغنياء المسلمين فترد في فقرائهم. وقال عكرمة: الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين فقراء أهل الكتاب. وقال أبو بكر العيسي: رأى عمر بن الخطاب ذمياً مكفوفاً مطروحاً على باب المدينة فقال له عمر: مالك؟ قال: استكروني في هذه الجزية، حتى إذا كف بصري تركوني وليس لي أحد يعود علي بشيء. فقال عمر: ما أنصفت إذاً، فأمر له بقوته وما يصلحه. ثم قال: هذا من الذين قال الله تعالى فيهم: "إنما الصدقات للفقراء والمساكين" الآية. وهم زمنى أهل الكتاب. ولما قال تعالى: "إنما الصدقات للفقراء والمساكين" الآية، وقابل الجملة بالجملة وهي جملة الصدقة بجملة المصرف بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ف"قال لمعاذ حين أرسله إلى اليمين: أخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم". فاختص أهل كل بلد بزكاة بلده. وروى أبو داود:
"أن زياداً أو بعض الأمراء بعث عمران بن حصين على الصدقة، فلما رجع قال لعمران: أين المال؟ قال: وللمال أرسلتني! أخذناها من حيث كنا نأخذها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعناها حيث كنا نضعها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم". وروى الدارقطني والترمذي عن "عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: قدم علينا مصدق النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ الصدقة من أغنيائنا فجعلها في فقرائنا فكنت غلاماً يتيماً فأعطاني منها قلوصاً. قال الترمذي: وفي الباب عن ابن عباس حديث ابن أبي جحيفة حديث حسن.
السادسة- وقد اختلفت العلماء في نقل الزكاة عن موضعها على ثلاثة أقوال: لا تنقل، قاله سحنون وابن القاسم، وهو الصحيح لما ذكرناه. قال ابن القاسم أيضاً: وإن نقل بعضها لضرورة رأيته صواباً. وروي عن سحنون أنه قال: ولو بلغ الإمام أن ببعض البلاد حاجة شديدة جاز له نقل بعض الصدقة المستحقة لغيره إليه، فإن الحاجة إذا نزلت وجب تقديمها على من ليس بمحتاج.
"والمسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه". والقول الثاني: تنقل. وقاله مالك أيضاً. وحجة هذا القول ما روي أن معاذاً قال لأهل اليمن: ايتوني بخميس أو ليس آخذه منكم مكان الذرة والشعير في الصدقة فإنه أيسر عليكم وأنفع للمهاجرين بالمدينة. أخرجه الدارقطني وغيره. والخميس لفظ مشترك، وهو هنا الثوب طوله خمس أذرع. ويقال: سمي بذلك لأن أول من عمله الخمس ملك من ملوك اليمن، ذكره ابن فارس في المجمل والجوهري أيضاً. وفي هذا الحديث دليلان: أحدهما - ما ذكرناه من نقل الزكاة من اليمن إلى المدينة، فيتولى النبي صلى الله عليه وسلم قسمتها. ويعضد هذا قوله تعالى: "إنما الصدقات للفقراء" ولم يفصل بين فقير بلد وفقير آخر. والله أعلم. الثاني - أخذ القيمة في الزكاة. وقد اختلفت الرواية عن مالك في إخراج القيم في الزكاة، فأجاز ذكر مرة ومنع منه أخرى، فوجه الجواز - وهو قول أبي حنيفة- هذا الحديث. وثبت في صحيح البخاري من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنه تؤخذ منه وما استيسرنا من شاتين أو عشرين درهماً". الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم:
"أغنوهم عن سؤال هذا اليوم يعني يوم الفطر". وإنما أراد أن يغنوا بما يسد حاجتهم، فأي شيء سد حاجتهم جاز. وقد قال تعالى: "خذ من أموالهم صدقة" [التوبة:103] ولم يخص شيئاً من شيء. ولا يدفع عند أبي حنيفة سكنى دار بدل الزكاة، مثل أن يجب عليه خمسة دراهم فأسكن فيها فقيراً شهراً فإنه لا يجوز. قال: لأن السكنى ليس بمال.
ووجه قوله: لا تجزي القيم -وهو ظاهر المذهب- فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"في خمس من الإبل شاة وفي أربعين شاة شاة" فنص على الشاة، فإذا لم يأت بها لم يأت بمأمور به، وإذا لم يأت بالمأمور به فالأمر باق عليه.
القول الثالث- وهو أن سهم الفقراء والمساكين يقسم في الموضع، وسائر السهام تنقل باجتهاد الإمام. والقول الأول أصح. والله أعلم.
السابعة- وهل المعتبر مكان المال وقت تمام الحول فتفرق الصدقة فيه، أو مكان المالك إذ هو المخاطب، قولان. واختار الثاني أبو عبد الله محمد بن خويزمنداد في أحكامه قال: لأن الإنسان هو المخاطب بإخراجها فصار المال تبعاً له، فيجب أن يكون الحكم فيه بحيث المخاطب. كابن السبيل فإنه يكون غنياً في بلده فقيراً في بلد آخر، فيكون الحكم له حيث هو.
مسألة- واختلفت الرواية عن مالك فيمن أعطى فقيراً مسلماً فانكشف في ثاني حال أنه أعطى عبداً أو كافراً أو غنياً، فقال مرة: تجزيه، ومرة لا تجزيه. وجه الجواز- وهو الأصح- ما رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"قال رجل: لأتصدقن الليلة بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على زانية قال اللهم لك الحمد على زانية لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني فأصبحوا يتحدثون تصدق على غني. قال: اللهم لك الحمد على غني. لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون تصدق على سارق. فقال: اللهم لك الحمد على زانية وعلى غني وعلى سارق، فأتي فقيل له أما صدقتك فقد قبلت أما الزانية فلعلها تستعف بها عن زناها ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله ولعل السارق يستعف بها عن سرقته". وروي "أن رجلاً أخرج زكاة ماله فأعطاها أباه، فلما أصبح علم بذلك، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: قد كتب لك أجر زكاتك وأجر صلة الرحم فلك أجران". ومن جهة المعنى أنه سوغ له الاجتهاد في المعطى. فإذا اجتهد وأعطى من يظنه من أهلها فقد أتى بالواجب عليه.
ووجه قوله: لا يجزي. أنه لم يضعها في مستحقها، فأشبه العمد، ولأن العمد والخطأ في ضمان الأموال واحد فوجب أن يضمن ما أتلف على المساكين حتى يوصله إليهم.
الثامنة- فإن أخرج الزكاة عند محلها فهلكت من غير تفريط لم يضمن، لأنه وكيل للفقراء. فإن أخرجها بعد ذلك بمدة فهلكت ضمن، لتأخيرها عن محلها فتعلقت بذمته فلذلك ضمن. والله أعلم.
التاسعة- وإذا كان الإمام يعدل في الأخذ والصرف لم يسغ للمالك أن يتولى الصرف بنفسه في الناض ولا في غيره. وقد قيل: إن زكاة الناض على أربابه. وقال ابن الماجشون: ذلك إذا كان الصرف للفقراء والمساكين خاصة، فإن احتيج إلى صرفها لغيرهما من الأصناف فلا يفرق عليهم إلا الإمام. وفروع هذا الباب كثيرة، هذه أمهاتها.
العاشرة- قوله تعالى: "والعاملين عليها" يعني السعاة والجباة الذين يبعثهم الإمام لتحصيل الزكاة بالتوكيل على ذلك. روى البخاري عن أبي حميد الساعدي قال:
"استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأسد على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتبية، فلما جاء حاسبه. واختلف العلماء في المقدار الذي يأخذونه على ثلاثة أقوال: قال مجاهد والشافعي: هو الثمن. ابن عمر ومالك: يعطون قدر عملهم من الأجرة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. قالوا: لأنه عطل نفسه لمصلحة الفقراء، فكانت كفايته وكفاية أعوانه في مالهم، كالمرأة لما عطلت نفسها لحق الزوج كانت نفقتها ونفقة أتباعها من خادم أو خادمين على زوجها. ولا تقدر بالثمن، بل تعتبر الكفاية ثمناً كان أو أكثر، كرزق القاضي. ولا تعتبر كفاية الأعوان في زماننا لأنه إسراف محض. القول الثالث- يعطون من بيت المال. قال ابن العربي: وهذا قول صحيح عن مالك بن أنس من رواية ابن أبي أويس وداود بن سعيد بن زنبوعة، وهو ضعيف دليلاً، فإن الله سبحانه قد أخبر بسهمهم فيها نصاً فكيف يخلفون عنه استقراء وسبراً. والصحيح الاجتهاد في قدر الأجرة، لأن البيان في تعديد الأصناف إنما كان للمحل لا للمستحق، على ما تقدم.
واختلفوا في العامل إذا كان هاشمياً، فمنعه أبو حنيفة لقوله عليه السلام:
"إن الصدقة لا تحل لآل محمد إنما هي أوساخ الناس". وهذه صدقة من وجه، لأنها جزء من الصدقة فتلحق بالصدقة من كل وجه كرامة وتنزيهاً لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غسالة الناس. وأجاز عمله مالك والشافعي، ويعطى أجر عمالته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب مصدقاً، وبعثه عاملاً إلى اليمن على الزكاة، وولى جماعةً من بني هاشم وولى الخلفاء بعده كذلك. ولأنه أجير على عمل مباح فوجب أن يستوي فيه الهاشمي وغيره اعتباراً بسائر الصناعات. قالت الحنفية: حديث علي ليس فيه أنه فرض له من الصدقة، فإن فرض له من غيرها جاز. وروي عن مالك.
الحادية عشرة- ودل قوله تعالى: "والعاملين عليها" على أن كل ما كان من فروض الكفايات كالساعي والكاتب والقسام والعاشر وغيرهم فالقائم به يجوز له أخذ الأجرة عليه. ومن ذلك الإمامة، فإن الصلاة وإن كانت متوجهة على جميع الخلق فإن تقدم بعضهم بهم من فروض الكفايات، فلا جرم يجوز أخذ الأجرة عليها. وهذا أصل الباب، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
"ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة" قاله ابن العربي.
الثانية عشرة- قوله تعالى: "والمؤلفة قلوبهم" لا ذكر للمؤلفة قلوبهم في التنزيل في غير قسم الصدقات، وهم قوم كانوا في صدر الإسلام ممن يظهر الإسلام، يتألفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم. قال الزهري: المؤلفة من أسلم من يهودي أو نصراني وإن كان غنياً. وقال بعض المتأخرين: اختلف في صفتهم، فقيل: هم صنف من الكفار يعضون ليتألفوا على الإسلام، وكانوا لا يسلمون بالقهر والسيف، ولكن يسلمون بالعطاء والإحسان. وقيل: هم قوم أسلموا في الظاهر ولم تستيقن قلوبهم، فيعطون ليتمكن الإسلام في صدورهم. وقيل: هم قوم من عظماء المشركين لهم أتباع يعطون ليتألفوا أتباعهم على الإسلام. قال: وهذه الأقوال متقاربة، والقصد بجميعها الإعطاء لمن لا يتمكن إسلامه حقيقة إلا بالعطاء، فكأنه ضرب من الجهاد. والمشركون ثلاثة أصناف: صنف يرجع بإقامة البرهان. وصنف بالقهر. وصنف بالإحسان. والإمام الناظر للمسلمين يستعمل مع كل صنف ما يراه سبباً لنجاته وتخليصه من الكفر. وفي صحيح مسلم من حديث أنس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -أعني للأنصار-:
"فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم" الحديث. قال ابن إسحاق:
أعطاهم يتألفهم ويتألف بهم قومهم. وكانوا أشرافاً، فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة بعير، وأعطى ابنه مائة بعير، وأعطى حكيم بن حزام مائة بعير، وأعطى الحارث بن هشام مائة بعير، وأعطى سهيل بن عمرو مائة بعير، وأعطى حويطب بن عبد العزى مائة بعير، وأعطى صفوان بن أمية مائة بعير. وكذلك أعطى مالك بن عوف والعلاء بن جارية. قال: فهؤلاء أصحاب المئين. وأعطى رجالاً من قريش دون المائة منهم مخرمة بن نوفل الزهري، وعمير بن وهب الجمحي، وهشام بن عمرو العامري. قال ابن إسحاق: فهؤلاء لا أعرف ما أعطاهم. وأعطى سعيد بن يربوع خمسين بعيراً، وأعطى عباس بن مرداس السلمي أباعر قليلة فسخطها. فقال في ذلك:
كانت نهاباً تلافيتها بكري على المهر في الأجرع
وإيقاظي القوم أن يرقدوا إذا هجع الناس لم أهجع
فأصبح نهبي ونهب العبيـ ـد بين عيينة والأقرع
وقد كنت في الحرب ذاتدرإ فلم أعط شيئاً ولم أمنع
إلا أفائل أعطيتها عديد قوائمه الأربع
وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون امرئ منهما ومن تضع اليوم لا يرفع
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهبوا فاقطعوا عني لسانه". فأعطوه حتى رضي، فكان ذلك قطع لسانه. قال أبو عمر: وقد ذكر في المؤلفة قلوبهم النضير بن الحارث بن علقمة بن كلدة، أخو النضر بن الحارث المقتول ببدر صبراً. وذكر آخرون أنه فيمن هاجر إلى الحبشة، فإن كان منهم فمحال أن يكون من المؤلفة قلوبهم، ومن هاجر إلى أرض الحبشة فهو من المهاجرين الأولين ممن رسخ الإيمان في قلبه وقاتل دونه، وليس ممن يؤلف عليه. قال أبو عمر: واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن عوف بن سعد بن يربوع النصري على من أسلم من قومه من قبائل قيس، وأمره بمغاورة ثقيف ففعل وضيق عليهم، وحسن إسلامه وإسلام المؤلفة قلوبهم، حاشا عيينة بن حصن فلم يزل مغموراً عليه. وسائر المؤلفة متفاضلون، منهم الخير الفاضل المجتمع على فضله، كالحارث بن هشام، وحكيم بن حزام، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، ومنهم دون هؤلاء. وقد فضل الله النبيين وسائر عباده المؤمنين بعضهم على بعض وهو أعلم بهم. قال مالك: بلغني أن حكيم بن حزام أخرج ما كان أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم في المؤلفة قلوبهم فتصدق به بعد ذلك.
قلت: حكيم بن حزام وحويطب بن عبد العزى عاش كل واحد منهما مائة وعشرين سنة، ستين في الإسلام وستين في الجاهلية. وسمعت الإمام شيخنا الحافظ أبا محمد عبد العظيم يقول: شخصان من الصحابة عاشا في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام ستين سنة، وماتا بالمدينة سنة أربع وخمسين، أحدهما حكيم بن حزام، وكان مولده في جوف الكعبة قبل عام الفيل بثلاث عشرة سنة. والثاني حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام الأنصاري. وذكر هذا أيضاً أبو عمر وعثمان الشهرزوري في كتاب معرفة أنواع علم الحديث له، ولم يذكرا غيرهما. وحويطب ذكره أبو الفرج الجوزي في كتاب الوفا في شرف المصطفى. وذكره أبو عمر في كتاب الصحابة أنه أدرك الإسلام وهو ابن ستين سنة، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة. وذكر أيضاً حمنن بن عوف أخو عبد الرحمن بن عوف، أنه عاش في الإسلام ستين سنة وفي الجاهلية ستين سنة. وقد عد في المؤلفة قلوبهم معاوية وأبوه أبو سفيان بن حرب. أما معاوية فبعيد أن يكون منهم، فكيف يكون منهم وقد ائتمنه النبي صلى الله عليه وسلم على وحي الله وقراءته وخلطه بنفسه. وأما حاله في أيام أبي بكر فأشهر من هذا وأظهر. وأما أبوه فلا كلام فيه أنه كان منهم. وفي عددهم اختلاف، وبالجملة فكلهم مؤمن ولم يكن فيهم كافر على ما تقدم، والله أعلم وأحكم.
الثالثة عشرة- واختلف العلماء في بقائهم، فقال عمر والحسن والشعبي وغيرهم: انقطع هذا الصنف بعز الإسلام وظهوره. وهذا مشهور عن مذهب مالك وأصحاب الرأي. قال بعض علماء الحنفية: لما أعز الله الإسلام وأهله وقطع دابر الكافرين -لعنهم الله- اجتمعت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في خلافة أبي بكر رضي الله عنه على سقوط سهمهم. وقال جماعة من العلماء: هم باقون، لأن الإمام ربما احتاج أن يستألف على الإسلام. وإنما قطعهم عمر لما رأى من اعزاز الدين. قال يونس: سألت الزهري عنهم فقال: لا أعلم نسخاً في ذلك. قال أبو جعفر النحاس: فعلى هذا الحكم فيهم ثابت، فإن كان أحد يحتاج إلى تألفه ويخاف أن تلحق المسلمين منه آفة، أو يرجى أن يحسن إسلامه يعد دفع إليه. قال القاضي عبد الوهاب: إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أعطوا من الصدقة. وقال القاضي ابن العربي: الذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا، وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم، فإن في الصحيح:
"بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ".
الرابعة عشر- فإذا فرعنا على أنه لا يرد إليهم سهمهم فإنه يرجع إلى سائر الأصناف أو ما يراه الإمام. وقال الزهري: يعطى نصف سهمهم لعمار المساجد. وهذا مما يدلك على أن الأصناف الثمانية محل لا مستحقون تسويةً، ولو كانوا مستحقين لسقط سهمهم بسقوطهم ولم يرجع إلى غيرهم، كما لو أوصى لقوم معينين فمات أحدهم لم يرجع نصيبه إلى من بقي منهم. والله أعلم.
الخامسة عشر- قوله تعالى: "وفي الرقاب" أي في فك الرقاب، قاله ابن عباس وابن عمر، وهو مذهب مالك وغيره. فيجوز للإمام أن يشتري رقاباً من مال الصدقة يعتقها عن المسلمين، ويكون ولاؤهم لجماعة المسلمين. وإن اشتراهم صاحب الزكاة وأعتقهم جاز. هذا تحصيل مذهب مالك، وروي عن ابن عباس والحسن، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو عبيد. وقال أبو ثور: لا يبتاع منها صاحب الزكاة نسمة يعتقها بجر ولاء وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي ورواية عن مالك. والصحيح الأول، لأن الله عز وجل قال: "وفي الرقاب" فإذا كان للرقاب سهم من الصدقات كان له أن يشتري رقبة فيعتقها. ولا خلاف بين أهل العلم أن للرجل أن يشتري الفرس فيحمل عليه في سبيل الله. فإذا كان له أن يشتري فرساً بالكمال من الزكاة جاز أن يشتري رقبة بالكمال، لا فرق بين ذلك. والله أعلم.
السادسة عشرة- قوله تعالى: "وفي الرقاب" الأصل في الولاء، قال مالك: هي الرقبة تعتق وولاؤها للمسلمين، وكذلك إن أعتقها الإمام.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته. وقال عليه السلام:
"الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب". وقال عليه السلام:
"الولاء لمن أعتق". ولا ترث النساء من الولاء شيئاً، لقوله عليه السلام:
"لا ترث النساء من الولاء شيئاً إلا ما أعتقن أو أعتقن من أعتقن". وقد ورث النبي صلى الله عليه وسلم ابنة حمزة من مولى لها النصف ولابنته النصف. فإذا ترك المعتق أولاداً ذكوراً وإناثاً فالولاء للذكور من ولده دون الإناث. وهو إجماع الصحابة رضي الله عنهم. والولاء إنما يورث بالتعصيب المحض، والنساء لا تعصيب فيهن فلم يرثن من الولاء شيئاً فافهم تصب.
السابعة عشرة- واختلف هل يعان منها المكاتب، فقيل لا. روي ذلك عن مالك، لأن الله عز وجل لما ذكر الرقبة دل على أنه أراد العتق الكامل، وأما المكاتب فإنما هو داخل في كلمة الغارمين بما عليه من دين الكتابة، فلا يدخل في الرقاب. والله أعلم. وقد روي عن مالك من رواية المدنيين وزياد عنه: أنه يعان منها المكاتب في آخر كتابته بما يعتق. وعلى هذا جمهور العلماء في تأويل قول الله تعالى: "وفي الرقاب". وبه قال ابن وهب والشافعي والليث والنخعي وغيرهم. وحكى علي بن موسى القمي الحنفي في أحكامه: أنهم أجمعوا على أن المكاتب مراد. واختلفوا في عتق الرقاب، قال الكيا الطبري وذكر وجهاً بينه في منع ذلك فقال: إن العتق إبطال ملك وليس بتمليك، وما يدفع إلى المكاتب تمليك، ومن حق الصدقة ألا تجزي إلا إذا جرى فيها التمليك. وقوى ذلك بأنه لو دفع من الزكاة عن الغارم في دينه بغير أمره لم يجزه من حيث لم يملك فلأن لا يجزي ذلك في العتق أولى. وذكر أن في العتق جر الولاء إلى نفسها وذلك لا يحصل في دفعه للمكاتب. وذكر أن ثمن العبد إذا دفعه إلى العبد لم يملكه العبد، وإن دفعه إلى سيده فقد ملكه العتق. وإن دفعه بعد الشراء والعتق فهو قاض ديناً، وذلك لا يجزي في الزكاة.
قلت: قد ورد حديث ينص على معنى ما ذكرنا من جواز عتق الرقبة وإعانة المكاتب معاً، أخرجه الدارقطني عن البراء قال:
"جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار. قال: لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة أعتق النسمة وفك الرقبة. فقال: يا رسول الله، أو ليستا واحداً؟ قال: لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها" وذكر الحديث.
الثامنة عشرة- واختلفوا في فك الأسارى منها، فقال أصبغ: لا يجوز. وهو قول ابن القاسم. وقال ابن حبيب: يجوز، لأنها رقبة ملكت بملك الرق فهي تخرج من رق إلى عتق، وكان ذلك أحق وأولى من فكاك الرقاب الذي بأيدينا، لأنه إذا كان فك المسلم عن رق المسلم عبادةً وجائزاً من الصدقة، فأحرى وأولى أن يكون ذلك في فك المسلم عن رق الكافر وذله.
التاسعة عشرة- قوله تعالى: "والغارمين" هم الذين ركبهم الدين ولا وفاء عندهم به، ولا خلاف فيه. اللهم إلا من أذان في سفاهة فإنه لا يعطى منها ولا من غيرها إلا أن يتوب. ويعطى منها من له مال وعليه دين محيط به مال يقضي به دينه، فإن لم يكن له مال وعليه دين فهو فقير وغارم فيعطى بالوصفين. روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال:
"أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصدقوا عليه. فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك".
الموفية عشرين- ويجوز للمحتمل في صلاح وبر أن يعطى من الصدقة ما يؤدي ما تحمل به إذا وجب عليه وإن كان غنياً، إذا كان ذلك يجحف بمال كالغريم. وهو قول الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وغيرهم. واحتج من ذهب هذا المذهب بحديث قبيصة بن مخارق قال:
"تحملت حمالة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أسأله فيها فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها -ثم قال- يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته حائجة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى تصيب قواماً من عيش -أو قال سداداً من عيش-، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش- أو قال سداداً من عيش-فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً" فقوله: ثم يمسك دليل على أنه غني، لأن الفقير ليس عليه أن يمسك. والله أعلم. وروي عنه عليه السلام أنه قال:
"إ ن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة ذوي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع". وروي عنه عليه السلام: "لا تحل الصدقة لغني إلا الخمسة" الحديث. وسيأتي.
الحادية والعشرون- واختلفوا، هل يقضى منها دين الميت أم لا، فقال أبو حنيفة: لا يؤدى من الصدقة دين ميت. وهو قول ابن المواز. قال أبو حنيفة: ولا يعطى منها من عليه كفارة ونحو ذلك من حقوق الله تعالى، وإنما الغارم من عليه دين يسجن فيه. وقال علماؤنا وغيرهم: يقضى منها دين الميت لأنه من الغارمين، قال صلى الله عليه وسلم:
"أنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالاً فلأهله ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي وعلي".
الثانية والعشرون- قوله تعالى: "وفي سبيل الله" وهم الغزاة وموضع الرباط، يعطون ما ينفقون في غزوهم كانوا أغنياء أو فقراء. وهذا قول أكثر العلماء، وهو تحصيل مذهب مالك رحمه الله. وقال ابن عمر: الحجاج والعمار. ويؤثر عن أحمد وإسحاق رحمهما الله أنهما قالا: سبيل الله الحج. وفي البخاري: ويذكر عن أبي لاس: حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل الصدقة للحج، ويذكر عن ابن عباس: يعتق من زكاة ماله ويعطي في الحج. خرج أبو محمد عبد الغني الحافظ حدثنا محمد بن محمد الخياش حدثنا أبو غسان مالك بن يحيى حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا مهدي بن ميمون عن محمد بن أبي يعقوب عن عبد الرحمن بن أبي نعم ويكنى أبا الحكم قال: كنت جالساً مع عبد الله بن عمر فأتته امرأة فقالت له: يا أبا عبد الرحمن، إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله. قال ابن عمر: فهو كما قال في سبيل الله. فقلت له: ما زدتها فيما سألت عنه إلا غماً. قال: فما تأمرني يا بن أبي نعم، آمرها أن تدفعه إلى هؤلاء الجيوش الذين يخرجون فيفسدون في الأرض ويقطعون السبيل! قال: قلت فما تأمرها. قال آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين، إلى حجاج بيت الله الحرام. أولئك وفد الرحمن. أولئك وفد الرحمن. أولئك وفد الرحمن، ليسوا كوفد الشيطان، ثلاثاً يقولها. قلت: يا أبا عبد الرحمن، وما وفد الشيطان؟ قال: قوم يدخلون على هؤلاء الأمراء فينمون إليهم الحديث، ويسعون في المسلمين بالكذب، فيجازون الجوائز ويعطون عليه العطايا. وقال محمد بن عبد الحكم: ويعطى من الصدقة في الكراع والسلاح وما يحتاج إليه من آلات الحرب، وكف العدو عن الحوزة، لأنه كله من سبيل الغزو ومنفعته. وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم مائة ناقة في نازلة سهل بن أبي حثمة إطفاءً للثائرة.
قلت: أخرج هذا الحديث أبو داود عن بشير بن يسار، أن رجلاً من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره.
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وداه مائة من إبل الصدقة، يعني دية الأنصاري الذي قتل بخيبر"، وقال عيسى بن دينار: تحل الصدقة لغاز في سبيل الله، وقد احتاج في غزوته وغاب عنه غناؤه ووفده. قال: ولا تحل لمن كان معه ماله من الغزاة، إنما تحل لمن كان ماله غائباً عنه منهم. وهذا مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور أهل العلم. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيراً منقطعاً به. وهذه زيادة على النص، والزيادة عنده على النص نسخ، والنسخ لا يكون إلا بقرآن أو خبر متواتر، وذلك معدوم هنا، بل في صحيح السنة خلاف ذلك من قوله عليه السلام:
"لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني". رواه مالك مرسلاً عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار. ورفعه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم. فكان هذا الحديث مفسراً لمعنى الآية، وأنه يجوز لبعض الأغنياء أخذها، ومفسراً لقوله عليه السلام:
"لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي" لأن قوله هذا مجمل ليس على عمومه بدليل الخمسة الأغنياء المذكورين. وكان ابن القاسم يقول: لا يجوز لغني أن يأخذ من الصدقة ما يستعين به على الجهاد وينفقه في سبيل الله، وإنما يجوز ذلك لفقير. قال: وكذلك الغارم لا يجوز له أن يأخذ من الصدقة ما يقي به ماله ويؤدي منها دينه وهو عنها غني. قال: وإذا احتاج الغازي في غزوته وهو غني له مال غاب عنه لم يأخذ من الصدقة شيئاً ويستقرض، فإذا بلغ بلده أدى ذلك من ماله. هذا كله ذكره ابن حبيب عن ابن القاسم، وزعم أن ابن نافع وغيره خالفوه في ذلك. وروى أبو زيد وغيره عن ابن القاسم أنه قال: يعطى من الزكاة الغازي وإن كان معه في غزاته ما يكفيه من ماله وهو غني في بلده. وهذا هو الصحيح، لظاهر الحديث: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة". وروى ابن وهب عن مالك أنه يعطى منها الغزاة ومواضع الرباط فقراء كانوا أو أغنياء.
الثالثة والعشرون- قوله تعالى: "وابن السبيل" السبيل الطريق، ونسب المسافر إليها لملازمته إياها ومروره عليها، كما قال الشاعر:
إن تسألوني عن الهوى فأنا الهوى وابن الهوى وأخو الهوى وأبوه
والمراد الذي انقطعت به الأسباب في سفره عن بلده ومستقره وماله، فإنه يعطى منها وإن كان غنياً في بلده، ولا يلزمه أن يشغل ذمته بالسلف. وقال مالك في كتاب ابن سحنون: إذا وجد من يسلفه فلا يعطى. والأول أصح، فإنه لا يلزمه أن يدخل تحت منة أحد وقد وجد منة الله تعالى. فإن كان له ما يغنيه ففي جواز الأخذ له لكونه ابن السبيل روايتان: المشهور أنه لا يعطى، فإن أخذ فلا يلزمه رده إذا صار إلى بلده ولا إخراجه.
الرابعة والعشرون- فإن جاء وادعى وصفاً من الأوصاف، هل يقبل قوله أم لا ويقال له أثبت ما تقول. فأما الدين فلا بد أن يثبته، وأما سائر الصفات فظاهر الحال يشهد له ويكتفى به فيها. والدليل على ذلك حديثان صحيحان أخرجهما أهل الصحيح، وهو ظاهر القرآن. روى مسلم "عن جرير قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى، ثم خطب فقال: " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم " الآية -إلى قوله- "رقيبا" [النساء:1] والآية التي في الحشر "ولتنظر نفس ما قدمت لغد" [الحشر:18] تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره -حتى قال- ولو بشق تمرة. قال: فجاء رجل. من الأنصار بصرة كادت كقه تعجز عنها بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". فاكتفى صلى الله عليه وسلم بظاهر حالهم وحث على الصدقة، ولم يطلب منهم بينة، ولا استقصى هل عندهم مال أم لا. ومثله حديث أبرص وأقرع وأعمى أخرجه مسلم وغيره. وهذا لفظه: عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى فأراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرص فقال أي شيء أحب إليك فقال لون حسن وجلد حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس قال فمسحه فذهب عنه قذره وأعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً قال: فأي المال أحب إليك؟ قال الإبل -أو قال البقر- شك إسحاق- إلا أن الأبرص أو الأقرع قال أحدهما الإبل وقال الآخر البقر- قال فأعطي ناقة عشراء قال بارك الله لك فيها قال فأتى الأقرع فقال أي شيء أحب إليك قال شعر حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس قال فمسحه فذهب عنه قال فأعطي شعراً حسناً قال فأي المال أحب إليك قال البقر فأعطي بقرة حاملاً قال بارك الله لك فيها قال فأتى الأعمى فقال أي شيء أحب إليك قال أن يرد الله بصري فأبصر به الناس قال فمسحه فرد الله إليه بصره قال: فأي المال أحب إليك قال الغنم فأعطي شاة والداً فأنتج هذان وولد هذا قال فكان لهذا واد من الإبل ولهذا واد من البقر ولهذا واد من الغنم قال ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله وبك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيراً أتبلغ عليه في سفري فقال له الحقوق كثيرة فقال له كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيراً فأعطاك الله فقال: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر فقال إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت فقال وأتى الأقرع في صورته فقال له مثل ما قال لهذا ورد عليه مثل ما رد على هذا فقال إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت قال وأتى الأعمى في صورته وهيئته فقال رجل مسكين وابن سبيل انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي رد عليك بصرك شاةً أتبلغ بها في سفري فقال قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري فخذ ما شئت ودع ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم شيئاً أخذته لله فقال أمسك مالك فإما ابتليتم فقد رضي عنك وسخط على صاحبيك" وفي هذا أدل دليل على أن من ادعى زيادةً على فقره من عيال أو غيره لا يكشف عنه خلافاً لمن قال يكشف عنه إن قدر، فإن في الحديث فقال رجل مسكين وابن سبيل أسألك شاة ولم يكلفه إثبات السفر. فأما المكاتب فإنه يكلف إثبات الكتابة لأن الرق هو الأصل حتى تثبت الحرية.
الخامسة والعشرون- ولا يجوز أن يعطى من الزكاة من تلزمه نفقته وهم الوالدان والولد والزوجة. وإن أعطى الإمام صدقة الرجل لولده ووالده وزوجته جاز. وأما أن يتناول ذلك هو بنفسه فلا، لأنه يسقط بها عن نفسه فرضاً. قال أبو حنيفة: ولا يعطي منها ولد ابنه ولا ولد ابنته، ولا يعطي منها مكاتبه ولا مدبره ولا أم ولده ولا عبداً أعتق نصفه، لأنه مأمور بالإيتاء والإخراج إلى الله تعالى بواسطة كف الفقير، ومنافع الأملاك مشتركة بينه وبين هؤلاء، ولهذا لا تقبل شهادة بعضهم لبعض. قال: والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم وربما يعجز فيصير الكسب له. ومعتق البعض عند أبي حنيفة بمنزلة المكاتب. وعند صاحبيه أبي يوسف ومحمد بمنزلة حر عليه دين فيجوز أداؤها إليه.
السادسة والعشرون- فإن أعطاها لمن لا تلزمه نفقتهم فقد اختلف فيه، فمنهم من جوزه ومنهم من كرهه. قال مالك: خوف المحمدة: وحكى مطرف أنه قال: رأيت مالكاً يعطي زكاته لأقاربه. وقال الواقدي قال مالك: أفضل من وضعت فيه زكاتك قرابتك الذين لا تعول. وقد "قال صلى الله عليه وسلم لزوجة عبد الله بن مسعود: لك أجران أجر القرابة وأجر الصدقة". واختلفوا في إعطاء المرأة زكاتها لزوجها، فذكر عن ابن حبيب أنه كان يستعين بالنفقة عليها بما تعطيه. وقال أبو حنيفة: لا يجوز، وخالفه صاحباه فقالا: يجوز. وهو الأصح لما ثبت:
"أن زينب امرأة عبد الله أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أريد أن أتصدق على زوجي أيجزيني؟ فقال عليه السلام: نعم لك أجران أجر الصدقة وأجر القرابة". والصدقة المطلقة هي الزكاة، ولأنه لا نفقة للزوج عليها، فكان بمنزلة الأجنبي. اعتل أبو حنيفة فقال: منافع الأملاك بينهما مشتركة، حتى لا تقبل شهادة أحدهما لصاحبه. والحديث محمول على التطوع. وذهب الشافعي وأبو ثور وأشهب إلى إجازة ذلك، إذا لم يصرفه إليها فيما يلزمه لها، وإنما يصرف ما يأخذه منها في نفقته وكسوته على نفسه وينفق عليها من ماله.
السابعة والعشرون- واختلفوا أيضاً في قدر المعطى، فالغارم يعطى قدر دينه، والفقير والمسكين يعطيان كفايتهما وكفاية عيالهما. وفي جواز إعطاء النصاب أو أقل منه خلاف ينبني على الخلاف المتقدم في حد الفقر الذي يجوز معه الأخذ. وروى علي بن زياد وابن نافع: ليس في ذلك حد، وإنما هو على اجتهاد الوالي. وقد تقل المساكين وتكثر الصدقة فيعطى الفقير قوت سنة. وروى المغيرة: يعطى دون النصاب ولا يبلغه. وقال بعض المتأخرين: إن كان في البلد زكاتان نقد وحرث أخذ ما يبلغه إلى الأخرى. قال ابن العربي: الذي أراه أن يعطى نصاباً، وإن كان في البلد زكاتان أو أكثر، فإن الغرض إغناء الفقير حتى يصير غنياً. فإذا أخذ ذلك فإن حضرت الزكاة الأخرى وعنده ما يكفيه أخذها غيره.
قلت: هذا مذهب أصحاب الرأي في إعطاء النصاب. وقد كره ذلك أبو حنيفة مع الجواز، وأجازه أبو يوسف، قال: لأن بعضه لحاجته مشغول للحال، فكان الفاضل عن حاجته للحال دون المائتين، وإذا أعطاه أكثر من مائتي درهم جملةً كان الفاضل عن حاجته للحال قدر المائتين فلا يجوز. ومن متأخري الحنفية من قال: هذا إذا لم يكن له عيال ولم يكن عيله دين، فإن كان عليه دين فلا بأس أن يعطيه مائتي درهم أو أكثر، مقدار ما لو قضى به دينه يبقى له دون المائتين. وإن كان معيلاً لا بأس بأن يعطيه مقدار ما لو وزع على عياله أصاب كل واحد منهم دون المائتين، لأن التصدق عليه في المعنى تصدق عليه وعلى عياله. وهذا قول حسن.
الثامنة والعشرون- اعلم أن قوله تعالى: "للفقراء" مطلق ليس فيه شرط وتقييد، بل فيه دلالة على جواز الصرف إلى جملة الفقراء كانوا من بني هاشم أو غيرهم، إلا أن السنة وردت باعتبار شروط: منها ألا يكونوا من بني هاشم وألا يكونوا ممن تلزم المتصدق نفقته. وهذا لا خلف فيه. وشرط ثالث ألا يكون قوياً على الاكتساب، لأنه عليه السلام قال:
"لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي". وقد تقدم القول فيه. ولا خلاف بين علماء المسلمين أن الصدقة المفروضة لا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا لبني هاشم ولا لمواليهم. وقد روي عن أبي يوسف جواز صرف صدقة الهاشمي للهاشمي، حكاه الكيا الطبري. وشذ بعض أهل العلم فقال: إن موالي بني هاشم لا يحرم عليهم شيء من الصدقات. وهذا خلاف الثابت "عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قال لأبي رافع مولاه: وإن مولى القوم منهم".
التاسعة والعشرون- واختلفوا في جواز صدقة التطوع لبني هاشم، فالذي عليه جمهور أهل العلم- وهو الصحيح- أن صدقة التطوع لا بأس بها لبني هاشم ومواليهم، لأن علياً والعباس وفاطمة رضوان الله عليهم تصدقوا وأوقفوا أوقافاً على جماعة من بني هاشم، وصدقاتهم الموقوفة معروفة مشهورة. وقال ابن الماجشون ومطرف وأصبغ وابن حبيب: لا يعطى بنو هاشم من الصدقة المفروضة ولا من التطوع. وقال ابن القاسم: يعطي بنو هاشم من صدقة التطوع. قال ابن القاسم: والحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا تحل الصدقة لآل محمد" إنما ذلك في الزكاة لا في التطوع. واختار هذا القول ابن خويز منداد، وبه قال أبو يوسف ومحمد. قال ابن القاسم: ويعطى مواليهم من الصدقتين. وقال مالك في الواضحة: لا يعطى لآل محمد من التطوع. قال ابن القاسم: -قيل له يعني مالكاً- فمواليهم؟ قال: لا أدري ما الموالي. فاحتججت عليه بقوله عليه السلام: "مولى القوم منهم". فقال قد قال:
"ابن أخت القوم منهم". قال أصبغ: وذلك في البر والحرمة.
الموفية ثلاثين- قوله تعالى: "فريضة من الله" بالنصب على المصدر عند سيبويه. أي فرض الله الصدقات فريضةً. ويجوز الرفع على القطع في قول الكسائي، أي هن فريضة قال الزجاج: ولا أعلم أنه قرئ به.
قلت: قرأ بها إبراهيم بن أبي عبلة، جعلها خبراً، كما تقول: إنما زيد خارج.
لما ذكر تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي صلى الله عليه وسلم ولمزهم إياه في قسم الصدقات بين تعالى أنه هو الذي قسمها وبين حكمها وتولى أمرها بنفسه ولم يكل قسمها إلى أحد غيره فجزأها لهؤلاء المذكورين كما رواه الإمام أبو داود في سننه من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وفيه ضعف عن زياد بن نعيم عن زياد بن الحارث الصدائي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة فقال له: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أصناف فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك" وقد اختلف العلماء في هذه الأصناف الثمانية هل يجب استيعاب الدفع لها أو إلى ما أمكن منها ؟ على قولين (أحدهما) أنه يجب ذلك وهو قول الشافعي وجماعة .
(والثاني) أنه لا يجب استيعابها بل يجوز الدفع إلى واحد منها ويعطي جميع الصدقة مع وجود الباقين وهو قول مالك وجماعة من السلف والخلف منهم عمر وحذيفة وابن عباس وأبو العالية وسعيد بن جبير وميمون بن مهران, قال ابن جرير: وهو قول جماعة عامة من أهل العلم, وعلى هذا فإنما ذكرت الأصناف ههنا لبيان المصرف لا لوجوب استيعاب الإعطاء. ولوجوه الحجاج والمآخذ مكان غير هذا والله أعلم, وإنما قدم الفقراء ههنا على البقية لأنهم أحوج من غيرهم على المشهور ولشدة فاقتهم وحاجتهم, وعند أبي حنيفة أن المسكين أسوأ حالاً من الفقير وهو كما قال أحمد وقال ابن جرير: حدثني يعقوب حدثنا ابن علية أنبأنا ابن عون عن محمد قال: قال عمر رضي الله عنه: الفقير ليس بالذي لا مال له, ولكن الفقير الأخلق الكسب قال ابن علية: الأخلق المحارف عندنا, والجمهور على خلافه وروي عن ابن عباس ومجاهد والحسن البصري وابن زيد. واختار ابن جرير وغير واحد أن الفقير هو المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئاً والمسكين هو الذي يسأل ويطوف ويتبع الناس وقال قتادة: الفقير من به زمانة والمسكين الصحيح الجسم وقال الثوري عن منصور عن إبراهيم هم فقراء المهاجرين, قال سفيان الثوري يعني ولا يعطى الأعراب منها شيئاً وكذا روي عن سعيد بن جبير وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزى.
وقال عكرمة: لا تقولوا لفقراء المسلمين مساكين إنما المساكين أهل الكتاب ولنذكر أحاديث تتعلق بكل من الأصناف الثمانية. فأما الفقراء فعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي" رواه أحمد وأبو داود والترمذي, ولأحمد أيضاً والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة مثله وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة فقلب فيهما البصر فرآهما جلدين فقال: "إن شئتما أعطيتكما ولاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب" رواه أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد قوي وقال ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل: أبو بكر العبسي قال قرأ عمر رضي الله عنه "إنما الصدقات للفقراء" قال: هم أهل الكتاب روى عنه عمر بن نافع سمعت أبي يقول ذلك "قلت" وهذا قول غريب جداً بتقدير صحة الإسناد فإن أبا بكر هذا وإن لم ينص أبو حاتم على جهالته لكنه في حكم المجهول, وأما المساكين فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان, والتمرة والتمرتان قالوا فمن المسكين يا رسول الله ؟ قال الذي لا يجد غنى يغنيه, ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس شيئاً " رواه الشيخان. وأما العاملون عليها فهم الجباة والسعاة يستحقون منه قسطا على ذلك ولا يجوز أن يكونوا من أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تحرم عليهم الصدقة لما ثبت في صحيح مسلم عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث, أنه انطلق هو والفضل بن العباس يسألان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعملهما على الصدقة فقال: "إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لال محمد, إنما هي أوساخ الناس". وأما المؤلفة قلوبهم فأقسام منهم من يعطى ليسلم, كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية من غنائم حنين, وقد كان شهدها مشركاً, قال: فلم يزل يعطيني حتى صار أحب الناس إلي بعد أن كان أبغض الناس إلي, كما قال الإمام أحمد: حدثنا زكريا بن عدي أنبأنا ابن المبارك, عن يونس عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن صفوان بن أمية قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الناس إلي, فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي, ورواه مسلم والترمذي من حديث يونس عن الزهري به, ومنهم من يعطى ليحسن إسلامه ويثبت قلبه, كما أعطى يوم حنين أيضاً جماعة من صناديد الطلقاء وأشرافهم مائة من الإبل, وقال "إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله على وجهه في نار جهنم". وفي الصحيحين عن أبي سعيد أن علياً بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهبية في تربتها من اليمن, فقسمها بين أربعة نفر: الأقرع بن حابس, وعيينة بن بدر, وعلقمة بن علاثة, وزيد الخير, وقال "أتألفهم" ومنهم من يعطى لما يرجى من إسلام نظرائه, ومنهم من يعطى ليجبي الصدقات ممن يليه, أو ليدفع عن حوزة المسلمين الضرر من أطراف البلاد, ومحل تفصيل هذا في كتب الفروع, والله أعلم.
وهل تعطى المؤلفة على الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فيه خلاف, فروي عن عمر وعامر والشعبي وجماعة: أنهم لا يعطون بعده لأن الله قد أعز الإسلام وأهله ومكن لهم في البلاد, وأذل لهم رقاب العباد, وقال آخرون: بل يعطون لأنه عليه الصلاة والسلام قد أعطاهم بعد فتح مكة وكسر هوازن, وهذا أمر قد يحتاج إليه فيصرف إليهم. وأما الرقاب فروي عن الحسن البصري ومقاتل بن حيان وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير والنخعي والزهري وابن زيد أنهم المكاتبون, وروي عن أبي موسى الأشعري نحوه, وهو قول الشافعي والليث رضي الله عنهما.
وقال ابن عباس والحسن: لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة, وهو مذهب أحمد ومالك وإسحاق, أي أن الرقاب أعم من أن يعطي المكاتب أو يشتري رقبة فيعتقها استقلالاً, وقد ورد في ثواب الإعتاق وفك الرقبة أحاديث كثيرة, وأن الله يعتق بكل عضو منها عضواً من معتقها حتى الفرج بالفرج, وما ذاك إلا لأن الجزاء من جنس العمل "وما تجزون إلا ما كنتم تعملون" وعن أبي هريرة رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة حق على الله عونهم: الغازي في سبيل الله, والمكاتب الذي يريد الأداء, والناكح الذي يريد العفاف" رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا أبا داود, وفي المسند عن البراء بن عازب قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار ؟ فقال: "أعتق النسمة وفك الرقبة" فقال: يا رسول الله أو ليسا واحداً ؟ قال: "لا, عتق النسمة أن تفرد بعتقها, وفك الرقبة أن تعين في ثمنها" وأما الغارمون فهم أقسام فمنهم: من تحمل حمالة أو ضمن ديناً فلزمه فأجحف بماله أو غرم في أداء دينه أو في معصية ثم تاب فهؤلاء يدفع إليهم, والأصل في هذا الباب حديث قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها, فقال "أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها" قال: ثم قال: "يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك, ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش ـ أو قال سداداً من عيش ـ ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قرابة قومه فيقولون لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش ـ أو قال سداداً من عيش ـ فما سواهن من المسألة سحت يأكلها صاحبها سحتاً" رواه مسلم, وعن أبي سعيد قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تصدقوا عليه" فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لغرمائه: "خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" رواه مسلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد, أنبأنا صدقة بن موسى عن أبي عمران الجوني عن قيس بن يزيد عن قاضي المصرين عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدعو الله بصاحب الدين يوم القيامة حتى يوقف بين يديه فيقول: يا ابن آدم فيم أخذت هذا الدين وفيم ضيعت حقوق الناس ؟ فيقول: يا رب إنك تعلم أني أخذته فلم آكل ولم أشرب ولم أضيع ولكن أتى على يدي إما حرق وإما سرق وإما وضيعة. فيقول الله صدق عبدي أنا أحق من قضى عنك اليوم, فيدعو الله بشيء فيضعه في كفة ميزانه فترجح حسناته على سيئاته, فيدخل الجنة بفضل الله ورحمته" وأما في سبيل الله فمنهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان, وعند الإمام أحمد والحسن وإسحاق والحج من سبيل الله الحديث, وكذلك ابن السبيل وهوالمسافر المجتاز في بلد ليس معه شيء يستعين به على سفره, فيعطى من الصدقات ما يكفيه إلى بلده وإن كان له مال, وهكذا الحكم فيمن أراد إنشاء سفر من بلده وليس معه شيء, فيعطى من مال الزكاة كفايته في ذهابه وإيابه. والدليل على ذلك الاية وما رواه الإمام أبو داود وابن ماجه من حديث معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: العامل عليها أو رجل اشتراها بماله, أو غارم, أو غاز في سبيل الله, أو مسكين تصدق عليه منها فأهدى لغني" وقد رواه السفيانان عن زيد بن أسلم عن عطاء مرسلاً, ولأبي داود عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله وابن السبيل أو جار فقير فيهدي لك أو يدعوك" وقوله: "فريضة من الله" أي حكماً مقدراً بتقدير الله وفرضه وقسمه "والله عليم حكيم" أي عليم بظواهر الأمور وبواطنها وبمصالح عباده "حكيم" فيما يقوله ويفعله ويشرعه ويحكم به, لا إله إلا هو ولا رب سواه.
قوله: 60- "إنما الصدقات للفقراء" لما لمز المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمة الصدقات بين الله لهم مصرفها دفعاً لطعنهم وقطعاً لشغبهم، و "إنما" من صيغ القصر، وتعريف الصدقات للجنس: أي جنس هذه الصدقات مقصور على هذه الأصناف المذكورة لا يتجاوزها، بل هي لهم لا لغيرهم.
وقد اختلف أهل العلم هل يجب تقسيط الصدقات على هذه الأصناف الثمانية، أو يجوز صرفها إلى البعض دون البعض على حسب ما يراه الإمام أو صاحب الصدقة؟ فذهب إلى الأول الشافعي وجماعة من أهل العلم، وذهب إلى الثاني مالك وأبو حنيفة، وبه قال عمر وحذيفة وابن عباس وأبو العالية وسعيد بن جبير وميمون بن مهران. قال ابن جرير وهو قول عامة أهل العلم: احتج الأولون بما في الآية من القصر وبحديث زياد بن الحرث الصدائي عند أبي داود والدارقطني قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته، فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة، فقال له: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أصناف، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك". وأجاب الآخرون بأن ما في الآية من القصر إنما هو لبيان الصرف والمصرف، لا لوجوب استيعاب الأصناف، وبأن في إسناد الحديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وهو ضعيف. ومما يؤيد ما ذهب إليه الآخرون قوله تعالى: "إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم" والصدقة تطلق على الواجبة كما تطلق على المندوبة. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم". وقد ادعى مالك الإجماع على القول الآخر. قال ابن عبد البر: يريد إجماع الصحابة فإنه لا يعلم له مخالفاً منهم. قوله: "للفقراء" قدمهم لأنهم أحوج من البقية على المشهور لشدة فاقتهم وحاجتهم.
وقد اختلف أهل العلم في الفرق بين الفقير والمسكين على أقوال: فقال يعقوب بن السكيت والقتيبي ويونس بن حبيب: إن الفقير أحسن حالاً من المسكين، قالوا: لأن الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه ويقيمه، والمسكين الذي لا شيء له، وذهب إلى هذا قوم من أهل الفقه منهم أبو حنيفة. وقال آخرون بالعكس، فجعلوا المسكين أحسن حالاً من الفقير، واحتجوا بقوله تعالى: "أما السفينة فكانت لمساكين" فأخبر أن لهم سفينة من سفن البحر، وربما ساوت جملة من المال، ويؤيده تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من الفقر مع قوله: "اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً" وإلى هذا ذهب الأصمعي وغيره من أهل اللغة، وحكاه الطحاوي عن الكوفيين، وهو أحد قولي الشافعي وأكثر أصحابه. وقال قوم: إن الفقير والمسكين سواء لا فرق بينهما وهو أحد قولي الشافعي، وإليه ذهب ابن القاسم وسائر أصحاب مالك، وبه قال أبو يوسف. وقال قوم: الفقير المحتاج المتعفف، والمسكين السائل. قاله الأزهري، واختاره ابن شعبان، وهو مروي عن ابن عباس. وقد قيل غير هذه الأقوال مما لا يأتي الاستكثار منه بفائدة يعتد بها. والأولى في بيان ماهية المسكين ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البخاري
ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال: الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئاً". قوله: "والعاملين عليها" أي السعاة والجباة الذين يبعثهم الإمام لتحصيل الزكاة فإنهم يستحقون منها قسطاً.
وقد اختلف في القدر الذي يأخذونه منها، فقيل الثمن، روي ذلك عن مجاهد والشافعي. وقيل على قدر أعمالهم من الأجرة، روي ذلك عن أبي حنيفة وأصحابه. وقيل: يعطون من بيت الله قدر أجرتهم، روي ذلك عن مالك، ولا وجه لهذا، فإن الله قد أخبر بأن لهم نصيباً من الصدقة فكيف يمنعون منها ويعطون من غيرها؟ واختلفوا هل يجوز أن يكون العامل هاشمياً أم لا؟ فمنعه قوم، وأجازه آخرون. قالوا: ويعطى من غير الصدقة. قوله: "والمؤلفة قلوبهم" هم قوم كانوا في صدر الإسلام، فقيل: هم الكفار الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألفهم ليسلموا، وكانوا لا يدخلون في الإسلام بالقهر والسيف، بل بالعطاء، وقيل: هم قوم أسلموا في الظاهر ولم يحسن إسلامهم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم بالعطاء، وقيل: هم من أسلم من اليهود والنصارى، وقيل: هم قوم من عظماء المشركين لهم أتباع أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليتألفوا أتباعهم على الإسلام. وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم جماعة ممن أسلم ظاهراً كأبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى، أعطى كل واحد منهم مائة من الإبل تألفهم بذلك، وأعطى آخرين دونهم.
وقد اختلف العلماء هل سهم المؤلفة قلوبهم باق بعد ظهور الإسلام أم لا؟ فقال عمر والحسن والشعبي: قد انقطع هذا الصنف بعزة الإسلام وظهوره، وهذا مشهور من مذهب مالك وأصحاب الرأي، وقد ادعى بعض الحنفية أن الصحابة أجمعت على ذلك. وقال جماعة من العلماء: سهمهم باق لأن الإمام ربما احتاج أن يتألف على الإسلام، وإنما قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين. قال يونس: سألت الزهري عنهم فقال: لا أعلم نسخ ذلك وعلى القول الأول يرجع سهمهم لسائر الأصناف. قوله: "وفي الرقاب" أي في فك الرقاب بأن يشتري رقاباً ثم يعتقها. روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر، وبه قال مالك وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو عبيد. وقال الحسن البصري ومقاتل بن حيان وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير والنخعي والزهري وابن زيد: إنهم المكاتبون يعانون من الصدقة على مال الكتابة، وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي ورواية عن مالك، والأولى حمل ما في الآية على القولين جميعاً لصدق الرقاب على شراء العبد وإعتاقه، وعلى إعانة المكاتب على مال الكتابة. قوله: "والغارمين" هم الذين ركبتهم الديون ولا وفاء عندهم بها، ولا خلاف في ذلك إلا من لزمه دين في سفاهة فإنه لا يعطى منها ولا من غيرها إلا أن يتوب. وقد أعان النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة من تحمل حمالة وأرشد إلى إعانته منها. قوله: "وفي سبيل الله" هم الغزاة والمرابطون يعطون من الصدقة ما ينفقون في غزوهم ومرابطتهم وإن كانوا أغنياء، وهذا قول أكثر العلماء. وقال ابن عمر: هم الحجاج والعمار، وروي عن أحمد وإسحاق أنهما جعلا الحج من سبيل الله. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيراً منقطعاً به. قوله: "وابن السبيل" هو المسافر، والسبيل الطريق، ونسب إليها المسافر لملازمته إياها، والمراد الذي انقطعت به الأسباب في سفره عن بلده ومستقره فإنه يعطى منها وإن كان غنياً في بلده، وإن وجد من يسلفه. وقال مالك: إذا وجد من يسلفه فلا يعطى. قوله: "فريضة من الله" مصدر مؤكد، لأن قوله: "إنما الصدقات للفقراء" معناه: فرض الله الصدقات لهم. والمعنى: أن كون الصدقات مقصورة على هذه الأصناف هو حكم لازم فرضه الله على عباده ونهاهم عن مجاوزته "والله عليم" بأحوال عباده "حكيم" في أفعاله، وقيل: إن فريضة منتصبة بفعل مقدر: أي فرض الله ذلك فريضة. قال في الكشاف: فإن قلت لم عدل عن اللام إلى في في الأربعة الآخرة؟ قلت: للإيذان بأنها أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره، وقيل: النكتة في العدول أن الأصناف الأربعة الأول يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا به كما شاءوا، وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم، بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة، كذا قيل.
وقد أخرج البخاري والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال:" بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسماً إذ جاءه ابن ذي الخويصرة التيمي فقال: اعدل يا رسول الله، فقال:ويحك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟ فقال عمر بن الخطاب: ائذن لي فأضرب عنقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" الحديث حتى "قال: وفيهم نزلت: "ومنهم من يلمزك في الصدقات"". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "ومنهم من يلمزك" قال: يرزأك يسألك. وأخرج ابن المنذر عن قتادة قال: يطعن عليك. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال:" لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين سمعت رجلاً يقول: إن هذه لقسمة ما أريد بها الله، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وذكرت ذلك له، فقال: رحمة الله على موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر"، ونزل: "ومنهم من يلمزك في الصدقات"، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نسخت هذه الآية كل صدقة في القرآن "إنما الصدقات للفقراء" الآية. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وأبو الشيخ عن حذيفة في قوله: "إنما الصدقات للفقراء" الآية قال: إن شئت جعلتها في صنف واحد من الأصناف الثمانية التي سمى الله أو صنفين أو ثلاثة. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي العالية والحسن وعطاء وإبراهيم وسعيد بن جبير نحوه. وأخرج ابن المنذر والنحاس عن ابن عباس قال: الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين الطوافون. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس وأبو الشيخ عن قتادة قال: الفقير الذي به زمانة، والمسكين المحتاج الذي ليس به زمانة. وأخرج ابن أبي شيبة عن عمر في قوله: "إنما الصدقات للفقراء" قال: هم زمنى أهل الكتاب. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "والعاملين عليها" قال: السعاة أصحاب الصدقة. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "والمؤلفة قلوبهم" قال: هم قوم كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسلموا، وكان يرضخ لهم من الصدقات، فإذا أعطاهم من الصدقة فأصابوا منها خيراً قالوا: هذا دين صالح، وإن كان غير ذلك عابوه وتركوه. وأخرج البخاري وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد قال: " بعث علي بن أبي طالب من اليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة فيها تربتها، فقسمها بين أربعة من المؤلفة: الأقرع بن حابس الحنظلي وعلقمة بن علاثة العامري، وعيينة بن بدر الفزاري، وزيد الخيل الطائي، فقالت قريش والأنصار: يقسم بين صناديد أهل نجد ويدعنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:إنما أتألفهم". وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الزهري أنه سئل عن المؤلفة قلوبهم قال: من أسلم من يهودي أو نصراني، قلت: وإن كان موسراً؟ قال: وإن كان موسراً. وأخرج هؤلاء عن أبي جعفر قال: ليس اليوم مؤلفة قلوبهم. وأخرج هؤلاء أيضاً عن الشعبي مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله: "وفي الرقاب" قال: هم المكاتبون. وأخرج ابن المنذر عن النخعي نحوه. أخرج أيضاً عن عمر بن عبد الله قال: سهم الرقاب نصفان: نصف لكل مكاتب ممن يدعي الإسلام، والنصف الآخر يشتري به رقاب ممن صلى وصام وقدم إسلامه من ذكر وأنثى يعتقون لله. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو عبيد وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأساً أن يعطي الرجل من زكاته في الحج وأن يعتق منها رقبة. وأخرج ابن أبي شيبة عن الزهري أنه سئل عن الغارمين قال: أصحاب الدين. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي جعفر في قوله: "والغارمين" قال: هو الذي يسأل في دم أو جائحة تصيبه "وفي سبيل الله" قال: هم المجاهدون "وابن السبيل" قال: المنقطع به يعطى قدر ما يبلغه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ابن السبيل هو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود وابن ماجه وابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: العامل عليها، أو الرجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تصدق عليه فأهدى منها لغني". وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي". وأخرج أحمد عن رجل من بني هلال قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن عدي بن الخيار قال: "أخبرني رجلان أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها، فرفع فينا البصر وخفضه فرآنا جلدين، فقال:إن شئتما اعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب".
60-قوله تعالى: "إنما الصدقات للفقراء والمساكين" الآية، بين الله تعال في هذه الآية أهل سهمان الصدقات وجعلها لثمانية أصناف. وروي عن زياد بن الحارث الصدائي قال:أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته، فأتاه رجل وقال: أعطني من الصدقة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره فى الصدقات حتى حكم فيها هو فجزاها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك".
قوله تعالى "للفقراء والمساكين". فأخذ أصناف الصدقة: الفقراء، والثاني: المساكين.
واختلف العلماء في صفة الفقير والمسكين، فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة والزهري: الفقير الذي لا يسأل، والمسكين: الذي يسأل.
وقال ابن عمر: ليس بفقير من جمع الدرهم إلى الدرهم والتمرة إلى التمرة، ولكن من أنقى نفسه وثيابه لا يقدر على شيء، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف.
وقال قتادة، الفقير: المحتاج الزمن، والمسكين: الصحيح المحتاج.
وروي عن عكرمة أنه قال: الفقراء من المسلمين، والمساكين من أهل الكتاب.
وقال الشافعي: الفقير من لا مال له ولا حرفة تقع منه موقعا، زمنا كان أو غير زمن، والمسكين من كان له مال أو حرفة ولا يغنيه، سائلا أو غير سائل. فالمسكين عنده أحسن حالا من الفقير لأن الله تعالى قال: "أما السفينة فكانت لمساكين" الكهف-79 أثبت لهم ملكا مع اسم المسكنة.
وعند أصحاب الرأي: الفقير أحسن حالا من المسكين.
وقال القتيبي: الفقير: الذي له البلغة من العيش، والمسكين: الذي لا شيء له.
وقيل: الفقير من له المسكن والخادم، والمسكين من لا ملك له. وقالوا: كل محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه وإن كان غنيا عن غيره، قال الله تعالى: "أنتم الفقراء إلى الله" (غافر-15)، والمسكين المحتاج إلى كل شيء ألا ترى كيف حض على إطعامه، وجعل طعام الكفارة له ولا فاقة أشد من الحاجة إلى سد الجوعة.
وقال إبراهيم النخعي: الفقراء هم المهاجرون، والمساكين من لم يهاجروا من المسلمين.
وفى الجملة: الفقر والمسكنة عبارتان عن الحاجة وضعف الحال، فالفقير المحتاج الذي كسرت الحاجة فقار ظهره، والمسكين الذي ضعفت نفسه وسكنت عن الحركة في طلب القوت.
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، حدثنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا الربيع، أنبأنا الشافعي، أنبأنا سفيان بن عيينة عن هشام، يعنى: ابن عروة، عن أبيه، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار: أن رجلين أخبراه أنهما أتيا رسول الله فسألاه عن الصدقة فصعد فيهما وصوب، فقال: " إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لذي قوة مكتسب".
واختلفوا في حد الغنى الذي يمنع أخذ الصدقة: فقال الأكثرون: حده أن يكون عنده ما يكفيه وعياله سنة، وهو قول مالك والشافعي.
وقال أصحاب الرأي: حده أن يملك مائتي درهم.
وقال قوم: من ملك خمسين درهما لا تحل له الصدقة، لما روينا عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح، قيل: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب", وهو قول الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق. وقالوا لا يجوز أن يعطى الرجل من الزكاة أكثر من خمسين درهما.وقيل: أربعون درهما لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا".
قوله تعالى: "والعاملين عليها". وهم السعاة الذين يتولون قبض الصدقات من أهلها ووضعها في حقها، فيعطون من مال الصدقة، فقراء كانوا أم أغنياء، فيعطون أجر مثل عملهم.
وقال الضحاك و مجاهد: لهم الثمن من الصدقة.
"والمؤلفة قلوبهم"، فالصنف الرابع من المستحقين للصدقة هم: المؤلفة قلوبهم، وهم قسمان: قسم مسلمون، وقسم كفار. فأما المسلمون: فقسمان، قسم دخلوا في الإسلام ونيتهم ضعيفة فيه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيه تألفا كما أعطى عيينة بن بدر، والأقرع بن حابس، والعباس بن مرداس أو أسلموا ونيتهم قوية في الإسلام، وهم شرفاء في قومهم مثل: عدي بن حاتم، والزبرقان بن بدر، فكان يعطيهم تألفا لقومهم وترغيبا لأمثالهم في الإسلام، فهؤلاء يجوز للإمام أن يعطيهم من خمس خمس الغنيمة، والفيء سهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من ذلك ولا يعطيهم من الصدقات.
والقسم الثاني من مؤلفة المسلمين: أن يكون قوم من المسلمين بإزاء قوم كفار في موضع متناط، لا تبلغهم جيوش المسلمين إلا بمؤنة كثيرة وهم لا يجاهدون، إما لضعف نيتهم أو لضعف حالهم، فيجوز للإمام أن يعطيهم من سهم الغزاة من مال الصدقة. وقيل: من سهم المؤلفة. ومنهم قوم بإزاء جماعة من مانعي الزكاة يأخذون منهم الزكاة يحملونها إلى الإمام، فيعطيهم الإمام من سهم المؤلفة من الصدقات. وقيل: من سهم سبيل الله.
روي أن عدي بن حاتم جاء أبا بكر الصديق بثلاثمائة من الإبل من صدقات قومه فأعطاه أبو بكر منها ثلاثين بعيرا.
وأما الكفار من المؤلفة: فهم من يخشى شره منهم، أو يرجى إسلامه، فيريد الإمام أن يعطي هذا حذرا من شره، أو يعطي ذلك ترغيبا له في الإسلام،/ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من خمس الخمس، كما أعطى صفوان بن أمية لما يرى من ميله إلى الإسلام، أما اليوم فقد أعز الله الإسلام فله الحمد، وأغناه أن يتألف عليه رجال، فلا يعطى مشرك تألفا بحال، وقد قال بهذا كثير من أهل العلم أن المؤلفة منقطعة وسهمهم ساقط. روي ذلك عن عكرمة، وهو قول الشعبي، وبه قال مالك و الثوري، وأصحاب الرأي، و إسحاق بن راهوية.
وقال قوم: سهمهم ثابت، يروى ذلك عن الحسن، وهو قول الزهري، و أبي جعفر محمد بن علي، و أبي ثور، وقال أحمد: يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك.
قوله تعالى: "وفي الرقاب"، والصنف الخامس: وهم الرقاب، وهم المكاتبون، لهم سهم من الصدقة، هذا قول أكثر الفقهاء، وبه قال سعيد بن جبير، و النخعي، و الزهري، و الليث بن سعد، و الشافعي. وقال جماعة: يشترى بسهم الرقاب عبيد فيعتقون. وهذا قول الحسن، وبه قال مالك و أحمد و إسحاق.
قوله تعالى: "والغارمين"، الصنف السادس هم: الغارمون، وهم قسمان: قسم دانوا لأنفسهم في غير معصيته، فإنهم يعطون من الصدقة إذا لم لكن لهم من المال ما يفي بديونهم، فإن كان عندهم وفاء فلا يعطون، وقسم أدانوا في المعروف وإصلاح ذات البين فإنهم يعطون من مال الصدقة ما يقضون به ديونهم، وإن كانوا أغنياء.
أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنبأنا زاهر بن أحمد، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك بن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المساكين فأهدى المسكين للغني، أو لعامل عليها".
ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم متصلا بمعناه.
أما من كان دينه في معصية فلا يدفع إليه.
وقوله تعالى: " وفي سبيل الله "، أراد بها: الغزاة، فلهم سهم من الصدقة، يعطون إذا أرادوا الخروج إلى الغزو، وما يستعينون به على أمر الغزو من: النفقة، والكسوة، والسلاح، والحمولة، وإن كانوا أغنياء، ولا يعطى منه شيء في الحج عند أكثر أهل العلم.
وقال قوم: يجوز أن يصرف سهم في سبيل الله إلى الحج. ويروى ذلك عن ابن عباس، وهو قول الحسن، وأحمد، وإسحاق.
قوله تعالى: "وابن السبيل"، الصنف الثامن: هم أبناء السبيل، فكل من يريد سفرا مباحا ولم يكن له ما يقطع به المسافة يعطى من الصدقة بقدر ما يقطع به تلك المسافة، سواء كان له في البلد المتنقل إليه مال أو لم يكن.
وقال قتادة: ابن السبيل هو الضيف.
وقال فقهاء العراف: ابن السبيل الحاج المنقطع.
قوله تعالى: "فريضة" أي: واجبة "من الله"، وهو نصب على القطع، وقيل: على المصدر، أي: فرض الله هذه الأشياء فريضة. "والله عليم حكيم".
اختلف الفقهاء في كيفية قسم الصدقات، وفي جواز صرفها إلى بعض الأصناف:
فذهب جماعة إلى أنه لا يجوز صرفها كلها إلى بعضهم مع وجود سائر الأصناف، وهو قول عكرمة، وبه قال الشافعي، قال: يجب أن تقسم زكاة كل صنف من ماله على الموجودين من الأصناف الستة، الذين سهمانهم ثابتة قسمة على السواء، لأن سهم المؤلفة ساقط، وسهم العامل إذا قسم بنفسه، ثم حصة كل صنف منهم لا يجوز أن تصرف إلى أقل من ثلاثة منهم إن وجد منهم ثلاثة أو أكثر، فلو فاوت بين أولئك الثلاث، يجوز، فإن لم يوجد من بعض الأصناف إلا واحدا صرف حصة ذلك الصنف إليه ما لم يخرج عن حد الاستحقاق، فإن انتهت حاجته وفضل شيء رده إلى الباقين.
وذهب جماعة إلى أنه لو صرف الكل إلى صنف واحد من هذه الأصناف، أو إلى شخص واحد منهم يجوز، وإنما سمى الله تعالى هذه الأصناف الثمانية إعلاما منه أن الصدقة لا تخرج عن هذه الأصناف، لا إيجابا لقسمها بينهم جميعا. وهو قول عمر، وابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير وعطاء، وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي، وبه قال أحمد، قال: يجوز أن يضعها في صنف واحد وتفريقها أولى.
وقال إبراهيم: إن كان المال كثيرا يحتمل الإجزاء قسمه على الأصناف، وإن كان قليلا جاز وضعه في صنف واحد.
وقال مالك: يتحرى موضع الحاجة منهم ويقدم الأولى فالأولى من أهل الخلة والحاجة، فإن رأى الخلة في الفقراء في عام أكثر قدمهم، وإن رآها في عام في صنف آخر حولها إليهم.
وكل من دفع إليه شيء من الصدقة لا يزيد على قدر الاستحقاق، فلا يزيد الفقير على قدر غناه، فإذا حصل أدنى اسم الغنى لا يعطى بعده، فإن كان محترفا لكنه لا يجد آلة حرفته: يعطى قدر ما يحصل به آلة حرفته، ولا يزاد العامل على أجر علمه، والمكاتب على قدر ما يعتق به. وللغريم على قدر دينه، وللغازي على قدر نفقته للذهاب والرجوع والمقام في مغزاه وما يحتاج إليه من الفرس والسلاح، ولابن السبيل على قدر إتيانه مقصده أو ماله.
واختلفوا في نقل الصدقة عن بلد المال إلى موضع آخر، مع وجود المستحقين فيه: فكرهه أكثر أهل العلم، لما أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي، أنبأنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي، حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، حدثنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا أبو كريب، حدثنا وكيع، حدثنا زكريا بن إسحاق المكي، حدثنا يحيى بن عبد الله بن الصيفي عن أبي معبد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال: "إنك تأتي قوما أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب".
فهذا يدل على أنه صدقة أغنياء كل قوم ترد على فقراء ذلك القوم.
واتفقوا على أنه إذا نقل من بلد إلى بلد آخر أدي مع الكراهة، وسقط الفرض عن ذمته، إلا ما حكى / عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه رد صدقة حملت من خراسان إلى الشام إلى مكانها من خراسان.
60."إنما الصدقات للفقراء والمساكين"أي الزكوات لهؤلاء المعدودين دون غيرهم ، وهو دليل على أن المراد باللمز لمزهم في قسم الزكوات دون الغنائم . والفقير من لا مال له ولا كسب يقع موقعاً من حاجته من الفقار كأنه أصيب فقاره . والمسكين من له مال أو كسب لا يكفيه من السكون كأن العجز أسكنه،ويدل عليه قوله تعالى:"أما السفينة فكانت لمساكين"وأنه صلى الله عليه وسلم كان يسأل المسكنة ويتعوذ من الفقر. وقيل بالعكس لقوله تعالى: " مسكينا ذا متربة "."والعاملين عليه"الساعين في تحصيلها وجمعها ."والمؤلفة قلوبهم" قوم أسلموا ونيتهم ضعيفة فيه فيستأنف قلوبهم أو أشراف قد يترتب بإعطائهم ومراعاتهم إسلام نظرائهم، وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس لذلك وقيل أشراف يستأنفون على أن يسلموا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطيهم والأصح أنه كان يعطيهم من خمس الخمس الذي كان خاص ماله وقد عد منهم من يؤلف قلبه بشيء منها على قتال الكفار ومانعي الزكاة . وقيل كان سهم المؤلفة لتكثير سواد الإسلام فلما أعزه الله وأكثر أهله سقط ."وفي الرقاب" وللصرف في فك الرقاب بأن يعاون المكاتب بشيء منها على أداء النجوم .
وقيل بأن تبتاع الرقاب فتعتق وبه قالمالك وأحمدأو بأن يفدي الأسارى .
والعدول عن اللام إلى" في"للدلالة على أن الاستحقاق للجهة لا للرقاب . وقيل للإيذان بأنهم أحق بها ."والغارمين"والمديونين لأنفسهم في غير معصية ومن غير إسراف إذا لم يكن لهم وفاء ، أو لإصلاح ذات البين وإن كانوا أغنياء "لقوله صلى الله عليه وسلم لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لغاز في سبيل الله أو لغارم ،او لرجل اشتراها بماله ، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني أو لعامل عليها""وفي سبيل الله"وللصرف في الجهاد بالإنفاق على المتطوعة وابتياع الكراع والسلاح . وقيل وفي بناء القناطر والمصانع ."وابن السبيل"المسافر المنقطع عن ماله ."فريضةً من الله"مصدر لما دل عليه الآية الكريمة أي فرض لهم الله الصدقات فريضة ، او حال من الضمير المستكن في "للفقراء".وقرئ بالرفع على تلك " فريضة"."والله عليم حكيم" يضع الأشياء في مواضعها ، وظاهر الآية يقتضي تخصيص استحقاق الزكاة بالأصناف الثمانية ووجوب الصرف إلى كل صنف وجد منهم ومراعاة التسوية بينهم قضية للاشتراك وإليه ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه ، وعن عمر وحذيفة وابن عباس من وغيرهم من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين جواز صرفها إلى صنف واحد وبه قال الأئمة الثلاثة واختاره بعض أصحابنا، وبه كان يفتي شيخي ووالدي رحمهما الله تعالى على أن الآية بيان أن الصدقة لا تخرج منهم لا إيجاب قسمها عليهم.
60. The alms are only for the poor and the needy, and those who collect them, and those whose hearts are to be reconciled, and to free the captives and the debtors, and for the cause of Allah, and (for) the wayfarers; a duty imposed by Allah. Allah is knower, Wise.
60 - Alms are for the poor and the needy, and those employed to administer the (funds); for those whose hearts have been (recently) reconciled (to truth); for those in bondage and in debt; in the cause of God; and for the wayfarer: (thus is it) ordained by God, and God is full of knowledge and wisdom.