[التوبة : 29] قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ لَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ
29 - (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) وإلا لآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم (ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله) كالخمر (ولا يدينون دين الحق) الثابت الناسخ لغيره من الأديان وهو دين الإسلام (من الذين) بيان للذين (أوتوا الكتاب) أي اليهود والنصارى (حتى يعطوا الجزية) الخراج المضروب عليهم كل عام (عن يد) حال أي منقادين أو بأيديهم لا يوكلون بها (وهم صاغرون) أذلاء منقادون لحكم الإسلام
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم: " قاتلوا "، أيها المؤمنون، القوم، " الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر "، يقول: ولا يصدقون بجنة ولا نار، " ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق "، يقول: ولا يطيعون الله طاعة الحق، يعني أنهم لا يطيعون طاعة أهل الإسلام، " من الذين أوتوا الكتاب "، وهم اليهود والنصارى.
وكل مطيع ملكاً وذا سلطان، فهو دائن له. يقال منه: ((دان فلان لفلان فهو يدين له، ديناً))، قال زهير:
لئن حللت بجو في بني أسد في دين عمرو وحالت بيننا فدك
وقوله: " من الذين أوتوا الكتاب "، يعني الذين أعطوا كتاب الله، وهم أهل التوراة والإنجيل، " حتى يعطوا الجزية ".
و((الجزية))، الفعلة من: ((جزى فلان فلاناً ما عليه))، إذا قضاه، ((يجزيه))، و((الجزية)) مثل ((القعدة)) و((الجلسة)).
ومعنى الكلام: حتى يعطوا الخراج عن رقابهم، الذي يبذلونه للمسلمين دفعاً عنها.
وأما قوله: " عن يد "، فإنه يعني: من يده إلى يد من يدفعه إليه.
وكذلك تقول العرب لكل معط قاهراً له، شيئاً طائعاً له أو كارهاً: ((أعطاه عن يده، وعن يد)). وذلك نظير قولهم: ((كلمته فماً لفم))، و((لقيته كفةً لكفة))، وكذلك: ((أعطيته عن يد ليد)).
وأما قوله: " وهم صاغرون "، فإن معناه: وهم أذلاء مقهورون.
يقال للذليل الحقير: ((صاغر)).
وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره بحرب الروم، فغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزولها غزوة تبوك.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون "، حين أمر محمد وأصحابه بغزوة تبوك.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه.
واختلف أهل التأويل في معنى ((الصغار))، الذي عناه الله في هذا الموضع.
فقال بعضهم: أن يعطيها وهو قائم والآخذ جالس.
ذكر من قال ذلك:
حدثني عبد الرحمن بن بشر النيسابوري قال، حدثنا سفيان، عن أبي سعد، عن عكرمة: " حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون "، قال: أي تأخذها وأنت جالس، وهو قائم.
وقال آخرون: معنى قوله: " حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون "، عن أنفسهم، بأيديهم يمشون بها، وهم كارهون. وذلك قول روي عن ابن عباس، من وجه فيه نظر.
وقال آخرون: إعطاؤهم إياها، هو الصغار.
فيه خمس عشرة مسألة:
الأولى- قوله تعالى: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر" لما حرم الله تعالى على الكفار أن يقربوا المسجد الحرام، وجد المسلمون في أنفسهم بما قطع عنهم من التجارة التي كان المشركون يوافون بها، قال الله عز وجل: "وإن خفتم عيلة" الآية. على ما تقدم. ثم أحل في هذه الآية الجزية وكانت لم تؤخذ قبل ذلك، فجعلها عوضاً مما منعهم من موافاة المشركين بتجارتهم. فقال الله عز وجل: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر" الآية. فأمر سبحانه وتعالى بمقاتلة جميع الكفار لإصفاقهم على هذا الوصف، وخص أهل الكتاب بالذكر إكراماً لكتابهم، ولكونهم عالمين بالتوحيد والرسل والشرائع والملل، وخصوصاً ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وملته وأمته. فلما أنكروه تأكدت عليهم الحجة وعظمت منهم الجريمة، فنبه على محلهم ثم جعل للقتال غاية، وهي إعطاء الجزية بدلاً عن القتل. وهو الصحيح. قال ابن عربي: سمعت أبا الوفاء علي بن عقيل في مجلس النظر يتلوها ويحتج بها. فقال: "قاتلوا" وذلك أمر بالعقوبة. ثم قال: "الذين لا يؤمنون" وذلك بيان للذنب الذي أوجب العقوبة. وقوله: "ولا باليوم الآخر" تأكيد للذنب في جانب الاعتقاد. ثم قال: "ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله" زيادة للذنب في مخالفة الأعمال. ثم قال: "ولا يدينون دين الحق" إشارة إلى تأكيد المعصية بالانحراف والمعاندة والأنفة عن الاستسلام. ثم قال: "من الذين أوتوا الكتاب" تأكيد للحجة، لأنهم كانوا يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل. ثم قال: "حتى يعطوا الجزية عن يد" فبين الغاية التي تمتد إليها العقوبة،وعين البدل الذي ترتفع به.
الثانية- وقد اختلف العلماء فيمن تؤخذ منه الجزية، قال الشافعي رحمه الله: لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب خاصةً، عرباً كانوا أو عجماً لهذه الآية، فإنهم هم الذين خصوا بالذكر فتوجه الحكم إليه دون من سواهم، لقوله عز وجل: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" [التوبة: 5]. ولم يقل: حتى يعطوا الجزية كما قال في أهل الكتاب. وقال: وتقبل من المجوس بالسنة، وبه قال أحمد وأبو ثور. وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة وأصحابه. وقال الأوزاعي: تؤخذ الجزية من كل عابد وثن أو نار أو جاحد أو مكذب. وكذلك مذهب مالك، فإنه رأى أن الجزية توخذ من جميع أجناس الشرك والجحد، عربياً أو عجمياً، تغلبياً أو قرشياً، كائناً من كان، إلا المرتد. وقال ابن القاسم وأشهب وسحنون: تؤخذ الجزية من مجوس العرب والأمم كلها. وأما عبدة الأوثان من العرب فلم يستن الله فيهم جزية، ولا يبقى على الأرض منهم أحد، وإنما لهم القتال أو الإسلام. ويوجد لابن القاسم: أن الجزية تؤخذ منهم، كما يقول مالك. وذلك في التفريع لابن الجلاب، وهو احتمال لا نص. وقال ابن وهب: لا تقبل الجزية من مجوس العرب وتقبل من غيرهم. قال: لأنه ليس في العرب مجوسي إلا وجميعهم أسلم، فمن وجد منهم بخلاف الإسلام فهو مرتد، يقتل بكل حال إن لم يسلم. ولا تقبل منهم جزية. وقال ابن الجهم: تقبل الجزية من كل من دان بغير الإسلام، إلا ما أجمع عليه من كفار قريش. وذكر في تعليل ذلك أنه إكرام لهم عن الذلة والصغار، لمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال غيره: إنما ذلك لأنهم جميعهم أسلم يوم فتح مكة. والله أعلم.
الثالثة- وأما المجوس فقال ابن المنذر: لا أعلم خلافاً أن الجزية يؤخذ منهم. وفي الموطأ: مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه: "أن عمر بن الخطاب ذكر أمر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم. فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
سنوا بهم سنة أهل الكتاب". قال أبو عمر: يعني في الجزية خاصة. وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" دليل على أنهم ليسوا أهل كتاب. وعلى هذا جمهور الفقهاء. وقد روي عن الشافعي أنهم كانوا أهل كتاب فبدلوا. وأظنه ذهب في ذلك إلى شيء روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من وجه فيه ضعف، يدور على "أبي سعيد البقال"، ذكره عبد الرزاق وغيره. قال ابن عطية: وروي أنه قد كان بعث في المجوس نبي اسمه زرادشت. والله أعلم.
الرابعة- لم يذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه مقداراً للجزية المأخوذة منهم. وقد اختلف العلماء في مقدار الجزية المأخوذة منهم، فقال عطاء بي أبي رباح: لا توقيت فيها، وإنما هو على ما صولحوا عليه. وكذلك قال يحيى بن آدم وأبو عبيد والطبري، إلا أن الطبري قال: أقله دينار وأكثر لا حد له. واحتجوا بما رواه أهل الصحيح عن عمرو بن عوف:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين على الجزية. وقال الشافعي: دينار على الغني والفقير من الأحرار البالغين لا ينقص منه شيء، واحتج بما روه أبو داود وغيره عن معاذ:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن، وأمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً في الجزية. قال الشافعي: وهو المبين عن الله تعالى مراده. وهو قول أبي ثور. قال الشافعي: وإن صولحوا على أكثر من دينار جاز، وإن زادوا وطابت بذلك أنفسهم قبل منهم. وإن صولحوا على ضيافة ثلاثة أيام جاز، إذا كانت الضيافة معلومة في الخبز والشعير والتبن والإدام، وذكر ما على الوسط من ذلك وما على الموسر، وذكر موضع النزول والكن من البرد والحر. وقال مالك فيما رواه عنه ابن القاسم وأشهب ومحمد بن الحارث بن زنجويه: إنها أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهماً على أهل الورق، الغني والفقير سواء ولو كان مجوسياً. لا يزاد ولا ينقص على ما فرض عمر، ولا يؤخذ منهم غيره. وقد قيل: إن الضعيف يخفف عنه بقدر ما يراه الإمام. وقال ابن القاسم: لا ينقص من فرض عمر لعسر ولا يزاد عليه لغنى. قال أبو عمر: ويؤخذ من فقرائهم بقد ما يحتملون ولو درهماً. وإلى هذا رجع مالك. وقال أبو حنيفة وأصحابه ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل: اثنا عشر، وأربعة وعشرون، وأربعون. قال الثوري: جاء عن عمر بن الخطاب في ذلك ضرائب مختلفة، فللوالي أن يأخذ بأيها شاء، إذا كانوا أهل ذمة. وأما أهل الصلح فما صولحوا عليه لا غير.
الخامسة- قال علماؤنا رحمة الله عليهم: والذي دل عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من الرجال المقاتلين، لأنه تعالى قال: "قاتلوا الذين" إلى قوله -"حتى يعطوا الجزية" فيقتضي ذلك وجوبها على من يقاتل. ويدل على أنه ليس على العبد وإن كان مقاتلاً، لأنه لا مال له، ولأنه تعالى قال: "حتى يعطوا". ولا يقال لمن لا يملك حتى يعطي. وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين، وهم الذين يقاتلون دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني. واختلف في الرهبان، فروى ابن وهب عن مالك أنها لا تؤخذ منهم. قال مطرف وابن الماجشون: هذا إذا لم يترهب بعد فرضها، فإن فرضت ثم ترهب لم يسقطها ترهبه.
السادسة- إذا أعطى أهل الجزية الجزية لم يؤخذ منهم شيء من ثمارهم ولا تجارتهم ولا زروعهم، إلا أن يتجروا في بلاد غير بلادهم التي أقروا فيها وصولحوا عليها. فإن خرجوا تجاراً عن بلادهم التي أقروا فيها إلى غيرهاأخذ منهم العشر إذا باعوا ونض ثمن ذلك بأيديهم، ولو كان في السنة مراراً، إلا في حملهم الطعام الحنطة والزيت إلى المدينة ومكة خاصة، فإنه يؤخذ من أهل الذمة العشر في تجارتهم إلا مرة في الحول، مثل ما يؤخذ من المسلمين. وهو مذهب عمر بن عبد العزيز وجماعة من أئمة الفقهاء. والأول قول مالك وأصحابه.
السابعة- إذا أدى أهل الجزية جزيتهم التي ضربت عليهم أو صولحوا عليها خلي بينهم وبين أموالهم كلها، وبين كرومهم وعصرها ما ستروا خمورهم ولم يعلنوا بيعها من مسلم، ومنعوا من إظهار الخمر والخنزير في أسواق المسلمين، فإن أظهروا شيئاً من ذلك أريقت الخمر عليهم، وأدب من أظهر الخنزير. وإن أراقها مسلم من غير إظهارها فقد تعدى، ويجب عليه الضمان. وقيل: لا يجب، ولو غصبها وجب عليه ردها. ولا يعترض لهم في أحكامهم ولا متاجرهم فيما بينهم بالربا. فإن تحاكموا إليها فالحاكم مخير، إن شاء حكم بينهم بما أنزل الله وإن شاء أعرض. وقيل: يحكم بينهم في المظالم على كل حال، ويؤخذ من قوتهم لضعيفهم، لأنه من باب الدفع عنهم. وعلى الإمام أن يقاتل عنهم عدوهم ويستعين بهم في قتالهم. ولا حظ لهم في الفيء، وما صولحوا عليه من الكنائس لم يزيدوا عليها، ولم يمنعوا من إصلاح ما وهى منها، ولا سبيل لهم إلى إحداث غيرها. ويأخذون من اللباس والهيئة بما يبينون به من المسلمين، ويمنعون من التشبه بأهل الإسلام. ولا بأس باشتراء أولاد العدو منهم إذا لم تكن لهم ذمة. ومن لد في أداء جزيته أدب على لدده وأخذت منه صاغراً.
الثامنة- اختلف العلماء فيما وجب الجزية عنه، فقال علماء المالكية: وجبت بدلاً عن القتل بسبب الكفر. وقال الشافعي: وجبت بدلاً عن الدم وسكنى الدار. وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا وجبت بدلاً عن القتل فأسلم سقطت عنه الجزية لما مضى، ولو أسلم قبل تمام الحول بيوم أو بعده عند مالك. وعند الشافعي أنها دين مستقر في الذمة فلا يسقطه الإسلام كأجرة الدار. وقال بعض الحنفية بقولنا. وقال بعضهم: إنما وجبت بدلاً عن النصر والجهاد. واختاره القاضي أبو زيد وزعم أنه سر الله في المسألة. وقول مالك أصح، لقوله صلى الله عليه وسلم:
"ليس على مسلم جزية". قال سفيان:معناه إذا أسلم الذمي بعد ما وجبت الجزية عليه بطلت عنه. أخرجه الترمذي وأبو داود. قال علماؤنا: وعليه يدل قوله تعالى: "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" لأن بالإسلام يزول هذا المعنى. ولا خلاف أنهم إذا أسلموا فلا يؤدون الجزية عن يد وهم صاغرون. والشافعي لا يأخذ بعد الإسلام على الوجه الذي قاله الله تعالى. وإنما يقول: إن الجزية دين، وجبت عليه بسبب سابق وهو السكنى أو توقي شر القتل، فصارت كالديون كلها.
التاسعة- لو عاهد الإمام أهل بلد أو حصن ثم نقضوا عهدهم وامتنعوا من أداء ما يلزمهم من الجزية وغيرها، وامتنعوا من حكم الإسلام من غير أن يظلموا، وكان الإمام غير جائر عليهم، وجب على المسلمين غزوهم وقتالهم مع إمامهم. فإن قاتلوا وغلبوا حكم فيهم بالحكم في دار الحرب سواء. وقد قيل: هم ونساؤهم فيء ولا خمس فيهم، وهو مذهب.
العاشرة- فإن خرجوا متلصصين قاطعين الطريق فهم بمنزلة المحاربين المسلمين إذا لم يمنعوا الجزية. ولو خرجوا متظلمين نظر في أمرهم وردوا إلى الذمة وأنصفوا من ظالمهم، ولا يسترق منهم أحد وهم أحرار. فإن نقض بعضهم دون بعض فمن لم ينقض على عهده، ولا يؤخذ بنقض غيره. وتعرف إقامتهم على الهد بإنكارهم على الناقضين.
الحادية عشر- الجزية وزنها فعلة، من جزى يجزي إذا كافأ عما أسدي إليه، فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن، وهي كالقعدة والجلسة. ومن هذا المعنى قول الشاعر.
يجزيك أو يثني عليك وإن من أثنى عليك بما فعلت كمن جزى
الثانية عشر- روى مسلم عن هشام بن حكيم بن حزام ومر على ناس من الأنباط بالشأم قد أقيموا في الشمس- في رواية: وصب على رؤوسهم الزيت- فقال: ما شأنهم؟ فقال يحبسون في الجزية. فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا". في رواية: وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين، فدخل عليه فحدثه فأمر بهم فخلوا. قال علماؤنا: أما عقوبتهم إذا امتنعوا من أدائها مع التمكين فجائز، فأما مع تبين عجزهم فلا تحل عقوبتهم، لان من عجز عن الجزية سقطت عنه. ولا يكلف الأغنياء أداءها عن الفقراء. وروى أبو داود عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال:
"من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ شيئاً منه بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة".
الثالثة عشر- قوله تعالى: "عن يد" قال ابن عباس: يدفعها بنفسه غير مستنيب فيها أحداً. روى أبو البختري عن سلمان قال: مذمومين. وروى معمر عن قتادة قال: عن قهر. وقيل: عن يد عن إنعام منكم عليهم، لأنهم إذا أخذت منهم الجزية فقد أنعم عليهم بذلك. عكرمة: يدفعها وهو قائم والآخذ جالس، وقاله سعيد بن جبير. ابن عربي: وهذا ليس من قوله: عن يد وإنما هو من قوله: "وهم صاغرون".
الرابعة عشر- روى الأئمة عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة" وروي "واليد العليا هي المعطية". فجعل يد المعطي في الصدقة عليا، وجعل يد المعطي في الجزية سفلى. ويد الآخذ عليا، ذلك بأنه الرافع الخافض، يرفع من يشاء ويخفض من يشاء، لا إله غيره.
الخامسة عشر- عن حبيب بن أبي ثابت قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إن أرض الخراج يعجز عنها أهلها أفأعمرها وأزرعها وأؤدي خراجها؟ فقال لا. وجاءه آخر فقال له ذلك: فقال لا، وتلا قوله تعالى: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر" إلى قوله "وهم صاغرون" أيعمد أحدكم إلى الصغار في عنق أحدهم فينتزعه فيجعله في عنقه! وقال كليب بن وائل: قلت لابن عمر اشتريت أرضاً، قال الشراء حسن. قلت: فإني أعطي عن كل جريب أرض درهما وقفيز طعام. قال: لا تجعل في عنقك صغاراً. وروى ميمون بن مهران عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ما يسرني أن لي الأرض كلها بجزية خمسة دراهم أقر فيها بالصغار على نفسي.
أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين ديناً وذاتاً بنفي المشركين الذين هم نجس ديناً عن المسجد الحرام وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الاية وكان نزولها في سنة تسع ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً صحبة أبي بكر رضي الله عنهما عامئذ وأمره أن ينادي في المشركين أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. فأتم الله ذلك وحكم به شرعاً وقدراً. وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى: "إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا" إلا أن يكون عبداً أو أحداً من أهل الذمة. وقد روي مرفوعاً من وجه آخر فقال الإمام أحمد حدثنا حسين حدثنا شريك عن الأشعث يعني ابن سوار عن الحسن عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد وخدمهم" تفرد به الإمام أحمد مرفوعاً والموقوف أصح إسناداً. وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي, كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين وأتبع نهيه قول الله تعالى: "إنما المشركون نجس" وقال عطاء: الحرم كله مسجد لقوله تعالى: "فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا" ودلت هذه الاية الكريمة على نجاسة المشرك كما ورد في الصحيح "المؤمن لا ينجس" وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب, وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم, وقال أشعث عن الحسن من صافحهم فليتوضأ. رواه ابن جرير.
وقوله "وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله" قال محمد بن إسحاق: وذلك أن الناس قالوا لتقطعن عنا الأسواق ولتهلكن التجارة وليذهبن عنا ما كنا نصيب فيها من المرافق فأنزل الله "وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله" من وجه غير ذلك "إن شاء" إلى قوله "وهم صاغرون" أي هذا عوض ما تخوفتم من قطع تلك الأسواق فعوضهم الله مما قطع أمر الشرك ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب من الجزية, وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك وغيرهم "إن الله عليم" أي بما يصلحكم "حكيم" أي فيما يأمر به وينهى عنه لأنه الكامل في أفعاله وأقواله العادل في خلقه وأمره تبارك وتعالى ولهذا عوضهم عن تلك المكاسب بأموال الجزية التي يأخذونها من أهل الذمة.
وقوله تعالى: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " فهم في نفس الأمر لما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم لم يبق لهم إيمان صحيح بأحد من الرسل ولا بما جاءوا به وإنما يتبعون آراءهم وأهواءهم وآباءهم فيما هم فيه لا لأنه شرع الله ودينه, لأنهم لو كانوا مؤمنين بما بأيديهم إيماناً صحيحاً لقادهم ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لأن جميع الأنبياء بشروا به وأمروا باتباعه فلما جاء وكفروا به وهو أشرف الرسل علم أنهم ليسوا متمسكين بشرع الأنبياء الأقدمين لأنه من عند الله. بل لحظوظهم وأهوائهم فلهذا لا ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء وقد كفروا بسيدهم وأفضلهم وخاتمهم وأكملهم, ولهذا قال: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب " وهذه الاية الكريمة أول الأمر بقتال أهل الكتاب بعدما تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجاً واستقامت جزيرة العرب أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى وكان ذلك في سنة تسع ولهذا تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم ودعا الناس إلى ذلك وأظهره لهم وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم فأوعبوا معه واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفاً وتخلف بعض الناس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين وغيرهم وكان ذلك في عام جدب ووقت قيظ وحر وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الشام لقتال الروم فبلغ تبوك فنزل بها وأقام بها قريباً من عشرين يوماً ثم استخار الله في الرجوع فرجع عامه ذلك لضيق الحال وضعف الناس كما سيأتي بيانه بعد إن شاء الله تعالى. وقد استدل بهذه الاية الكريمة من يرى أنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب أو من أشبههم كالمجوس كما صح فيهم الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر وهذا مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وقال أبو حنيفة رحمه الله. بل تؤخذ من جميع الأعاجم سواء كانوا من أهل الكتاب أو من المشركين ولا تؤخذ من العرب إلا من أهل الكتاب.
وقال الإمام مالك: بل يجوز أن تضرب الجزية على جميع الكفار من كتابي ومجوسي ووثني وغير ذلك ولمأخذ هذه المذاهب وذكر أدلتها مكان غير هذا والله أعلم. وقوله: "حتى يعطوا الجزية" أي إن لم يسلموا "عن يد" أي عن قهر لهم وغلبة "وهم صاغرون" أي ذليلون حقيرون مهانون فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين بل هم أذلاء صغرة أشقياء كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه" ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم وذلك مما رواه الأئمة الحفاظ من رواية عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى من أهل الشام: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب منها ولا نحيي منها ما كان خططاً للمسلمين وألا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل وأن ننزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم ولا نؤوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوساً ولا نكتم غشاً للمسلمين ولا نعلم أولادنا القرآن ولا نظهر شركاً ولا ندعو إليه أحداً ولا نمنع أحداً من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه وأن نوقر المسلمين وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا نتكلم بكلامهم ولانكتني بكناهم لا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئاً من السلاح ولا نحمله معنا ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نبيع الخمور وأن نجز مقاديم رؤوسنا وأن نلزم زينا حيثما كنا وأن نشد الزنانير على أوساطنا وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا وأن لا نظهر صلبنا ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضرباً خفيفاً وأن لا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين ولا نخرج شعانين ولا باعوثاً ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نجاورهم بموتانا ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين وأن نرشد المسلمين ولا نطلع عليهم في منازلهم. قال فلما أتيت عمر بالكتاب زاد فيه ولا نضرب أحداً من المسلمين شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم ووظفنا على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.
قوله: 29- "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله" الآية، فيه الأمر بقتال من جمع بين هذه الأوصاف. قال أبو الوفاء بن عقيل: إن قوله: "قاتلوا" أمر بالعقوبة، ثم قال: "الذين لا يؤمنون بالله" فبين الذنب الذي توجبه العقوبة، ثم قال: "ولا باليوم الآخر" فأكد الذنب في جانب الاعتقاد، ثم قال: "ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله" فيه زيادة للذنب في مخالفة الأعمال، ثم قال: "ولا يدينون دين الحق" فيه إشارة إلى تأكيد المعصية بالانحراف والمعاندة والأنفة عن الاستسلام، ثم قال: "من الذين أوتوا الكتاب" تأكيد للحجة عليهم لأنهم كانوا يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، ثم قال: "حتى يعطوا الجزية" فبين الغاية التي تمتد إليها العقوبة انتهى. قوله: "من الذين أوتوا الكتاب" بيان للموصول مع ما في خبره وهم أهل التوراة والإنجيل. قوله: "حتى يعطوا الجزية عن يد" الجزية وزنها فعلة من جزى يجزي: إذا كافأ عما أسدي إليه، فكأنهم أعطوها جزاء عما منحوا من الأمن، وقيل: سميت جزية لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزون: أي يقضوه، وهي في الشرع ما يعطيه المعاهد على عهده، و "عن يد" في محل نصب على الحال. والمعنى: عن يد مواتية غير ممتنعة وقيل معناه: يعطونها بأيديهم غير مستنيبين فيها أحداً، وقيل معناه: نقد غير نسيئة، وقيل عن قهر، وقيل معناه: عن إنعام منكم عليهم، لأن أخذها منهم نوع من أنواع الإنعام عليهم، وقيل معناه: مذمومون. وقد ذهب جماعة من أهل العلم منهم الشافعي وأحمد وأبو حنيفة وأصحابه والثوري وأبو ثور إلى أنها لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب. وقال الأوزاعي ومالك: إن الجزية تؤخذ من جميع أجناس الكفرة كائناً من كان، ويدخل في أهل الكتاب على القول الأول المجوس. قال ابن المنذر: لا أعلم خلافاً في أن الجزية تؤخذ منهم.
وقد اختلف أهل العلم في مقدار الجزية، فقال عطاء: لا مقدار لها، وإنما تؤخذ على ما صولحوا عليه، وبه قال يحيى بن آدم وأبو عبيد وابن جرير إلا أنه قال: أقلها دينار وأكثرها لا حد له. وقال الشافعي: دينار على الغني والفقير من الأحرار البالغين لا ينقص منه شيء، وبه قال أبو ثور. قال الشافعي: وإن صولحوا على أكثر من دينار جاز، وإذا زادوا وطابت بذلك أنفسهم قبل منهم. وقال مالك: إنه أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهماً على أهل الورق، الغني والفقير سواء، ولو كان مجوسياً لا يزيد ولا ينقص. وقال أبو حنيفة وأصحابه ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل: إثنا عشر وأربعة وعشرون وثمانية وأربعون. والكلام في الجزية مقرر في مواطنه، والحق من هذه الأقوال قد قررناه في شرحنا للمنتقي وغيره من مؤلفاتنا. قوله: "وهم صاغرون" في محل نصب على الحال، والصغار الذل. والمعنى: إن الذمي يعطي الجزية حال كونه صاغراً، قيل: وهو أن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب ويسلمها وهو قائم، والمتسلم قاعد. وبالجملة ينبغي للقابض للجزية أن يجعل المسلم لها حال قبضها صاغراً ذليلاً.
وقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله في قوله: "إنما المشركون نجس" الآية قال: إلا أن يكون عبداً أو أحداً من أهل الذمة. وقد روي مرفوعاً من وجه آخر. أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل مسجدنا هذا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد وخدمكم". قال ابن كثير: تفرد به أحمد مرفوعاً، والموقوف أصح. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان المشركون يجيئون إلى البيت ويجيئون معهم بالطعام يتجرون به، فلما نهوا عن أن يأتوا البيت، قال المسلمون: فمن أين لنا الطعام؟ فأنزل الله: "وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء" قال: فأنزل الله عليهم المطر، وكثر خيرهم حيث ذهب المشركون عنهم. وأخرج ابن مردويه عنه قال: فأغناهم الله من فضله وأمرهم بقتال أهل الكتاب. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: "وإن خفتم عيلة" قال: الفاقة. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "فسوف يغنيكم الله من فضله" قال: بالجزية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن الضحاك مثله. وأخرج نحوه عبد الرزاق عن قتادة. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن في قوله: "إنما المشركون نجس" قال: قذر. وأخرج أبو الشيخ عنه أيضاً قال: من صافحهم فليتوضأ. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صافح مشركاً فليتوضأ أو ليغسل كفيه". وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في سننه عن مجاهد في قوله: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله" قال: نزلت هذه الآية حين أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه بغزوة تبوك. وأخرج ابن المنذر عن ابن شهاب قال: نزلت في كفار قريش والعرب "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" وأنزلت في أهل الكتاب: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله" الآية إلى قوله: "حتى يعطوا الجزية" فكان أول من أعطى الجزية أهل نجران. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله" يعني الذين لا يصدقون بتوحيد الله "ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله" يعني الخمر والحرير "ولا يدينون دين الحق" يعني دين الإسلام "من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" يعني مذللون. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "عن يد" قال: عن قهر. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة في قوله: "عن يد" قال: من يده ولا يبعث بها غيره. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي سنان في قوله: "عن يد" قال: عن قدرة. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "وهم صاغرون" قال: يمشون بها متلتلين. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: يلكزون. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سلمان في الآية قال: غير محمودين.
29-وذلك: قوله تعالى: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله"، قال مجاهد: نزلت هذه الآية حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال الروم، فغزا بعد نزولها غزوة تبوك.
وقال الكلبي: نزلت في قريظة والنضير من اليهود، فصالحهم وكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام، وأول ذل أصاب أهل الكتاب/ بأيدي المسلمين.
قال الله تعالى: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر"، فإن قيل: أهل الكتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر؟ قيل: لا يؤمنون كإيمان المؤمنين، فإنهم إذا قالوا عزيز ابن الله والمسيح ابن الله، لا يكون ذلك إيمانا بالله. "ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق"، أي: لا يدينون الدين الحق، أضاف الاسم إلى الصفة. وقال قتادة: الحق هو الله، أي: لا يدينون دين الله، ودينه الإسلام. وقال أبو عبيدة: معناه لا يطيعون الله تعالى طاعة أهل الحق. "من الذين أوتوا الكتاب"، يعنى: اليهود والنصارى. "حتى يعطوا الجزية"، وهى الخراج المضروب على رقابهم، "عن يد"، عن قهر وذل.قال أبو عبيدة: يقال لكل من أعطى شيئا كرها من غير طيب نفس: أعطاه عن يد. وقال ابن عباس: يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها على يد غيرهم. وقيل: عن يد أي: عن نقد لا نسيئة. وقيل: عن إقرار بإنعام المسلمين عليهم بقبول الجزية منهم، "وهم صاغرون"، أذلاء مقهورون. قال عكرمة: يعطون الجزية عن قيام، والقابض جالس. وعن ابن عباس قال: تؤخذ منه ويوطأ عنقه.
وقال الكلبي: إذا أعطى صفع في قفاه.
وقيل: يؤخذ بلحيته ويضرب في لهزمتيه.
وقيل: يلبب ويجر إلى موضع الإعطاء بعنف.
وقيل: إعطاؤه إياها هو الصغار.
وقال الشافعي رحمه الله: الصغار هو جريان أحكام الإسلام عليهم.
واتفقت الأمة على جواز أخذ الجزية من أهل الكتابين، وهم اليهود والنصارى إذا لم يكونوا عربا.
واختلفوا في الكتابي العربي وفى غير أهل الكتاب من كفار العجم، فذهب الشافعي: إلى أن الجزية على الأديان لا على الأنساب، فتؤخذ من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما، ولا تؤخذ من أهل الأوثان بحال، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من أكيدر دومة، وهو رجل من العرب يقال: إنه من غسان، وأخذ من أهل ذمة اليمن، وعامتهم عرب.
وذهب مالك والأوزاعي: إلى أنها تؤخذ من جميع الكفار إلا المرتد.
وقال أبو حنيفة تؤخذ من أهل الكتاب على العموم، وتؤخذ من مشركي العجم، ولا تؤخذ من مشركي العرب. وقال أبو يوسف: لا تؤخذ من العربي، كتابيا كان أو مشركا، وتؤخذ من العجمى كتابيا كان أو مشركا.
وأما المجوس: فاتفقت الصحابة رضي الله عنهم على أخذ الجزية منهم.
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أخبرنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع بجالة يقول: لم يكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر.
أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه "أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول:سنوا بهم سنة أهل الكتاب".
وفى امتناع عمر رضي الله عنه عن أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن ين عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر، دليل على أن رأي الصحابة كان على أنها لا تؤخذ من كل مشرك، وإنما تؤخذ من أهل الكتاب.
واختلفوا في أن المجوس: هل هم من أهل الكتاب أم لا؟ فروي عن علي رضي الله عنه قال: كان لهم كتاب يدرسونه فأصبحوا، وقد أسري على كتابهم، فرفع من بين أظهرهم.
واتفقوا على تحريم ذبائح المجوس ومناكحتهم بخلاف أهل الكتابين.
أما من دخل في دين اليهود والنصارى من غيرهم من المشركين نظر: إن دخلوا فيه قبل النسخ والتبديل يقرون بالجزية، وتحل مناكحتهم وذبائحهم، وإن دخلوا في دينهم بعد النسخ بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم لا يقرون بالجزية، ولا تحل مناكحتهم وذبائحهم، ومن شككنا في أمرهم أنهم دخلوا فيه بعد النسخ أو قبله: يقرون بالجزية تغليبا لحقن الدم، ولا تحل مناكحتهم وذبائحهم تغليبا للتحريم، فمنهم نصارى العرب من تنوخ ويهراء بني تغلب، أقرهم عمر رضي الله عنه على الجزية، وقال: لا تحل لنا ذبائحهم.
وأما قدر الجزية: فأقله دينار، لا يجوز أن ينقص منه، ويقبل الدينار من الفقير والغني والوسط لما أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي، أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي، حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، حدثنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر. فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ من كل حالم، أي بالغ دينار أو لم يفصل بين الغني والفقير والوسط، وفيه دليل على أنها لا تجب على الصبيان وكذلك لا تجب على النسوان، إنما تؤخذ من الأحرار العاقلين البالغين من الرجال.
وذهب قوم إلى أنه على كل موسر أربعة دنانير، وعلى كل متوسط ديناران، وعلى كل فقير دينار، وهو قول أصحاب الرأي.

29. " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " أي لا يؤمنون بهما على ما ينبغي كما بيناه في(أول البقرة) فإن إيمانهم كلا إيمان. " ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله " ما ثبت تحريمه بالكتاب والسنة وقيل رسوله هو الذي يزعمون اتباعه والمعنى أنهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقاداً وعملاً . " ولا يدينون دين الحق "الثابت الذي هو ناسخ سائر الأديان ومبطلها." من الذين أوتوا الكتاب " بيان للذين لا يؤمنون . " حتى يعطوا الجزية " ما تقرر عليهم أن يعطوه مشتق من جزي دينه إذا قضاه ." عن يد" حال من الضمير أي عن يد مؤاتيه بمعنى منقادين ، أو عن يدهم بمعنى مسلمين بأيديهم غير باعثين بأيدي غيرهم ولذلك منع من التوكيل فيه ، أو عن غنى ولذلك قيل : لا تؤخذ من الفقير ، أو عن يد قاهرة عليهم بمعنى عاجزين أذلاء أو من الجزية بمعنى نقداً مسلمة عن يد إلى يد أو عن إنعام عليهم فإن إبقاءهم بالجزية نعمة عظيمة . " وهم صاغرون " أذلاء وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: تؤخذ الجزية من الذمي وتوجأ عنقه ومفهوم الآية يقتضي تخصيص الجزية بأهل الكتاب ويؤيده أن عمر رضي الله تعالى عنه ،"أنه صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر ، وأنه قال: سنوا بهم سنة
أهل الكتاب" وذلك لأنهم لهم شبهة كتاب فألحقوا بالكتابيين ، وأما سائر الكفرة فلا تؤخذ منهم الجزية عندنا ، وعند أبي حنفية رحمه الله تعالى تؤخذ منهم إلا مشركي العرب لما روي الزهري أنه صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأوثان إلا من كان من العرب ، وعند مالك رحمه الله تعالى تؤخذ من كل كافر إلا المرتد وأقلها في كل سنة دينار سواء فيه الغني والفقير ،وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى على الغني ثمانية وأربعون درهما وعلى المتوسط نصفها وعلى الفقير الكسوب ربعها ولا شيء على الفقير غير الكسوب .
29. Fight against such of those who have been given the Scripture as believe not in Allah nor the Last Day, and forbid not that which Allah hath forbidden by His messenger, and follow not the religion of truth, until they pay the tribute readily, being brought low.
29 - Fight those who believe not in God nor the last day, nor hold that forbidden which hath been forbidden by God and his Apostle, nor acknowledge the religion of truth, (even if they are) of the people of the book, until they pay the Jizya with willing submission, and feel themselves subdued.