[التوبة : 118] وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
118 - (و) تاب (على الثلاثة الذين خلفوا) عن التوبة عليهم بقرينة (حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت) أي مع رحبها ، أي سعتها فلا يجدون مكانا يطمئنون إليه (وضاقت عليهم أنفسهم) قلوبهم للغم والوحشة بتأخير توبتهم فلا يسعها سرور ولا أنس (وظنُّوا) أيقنوا (أن) مخففة (لا ملجأَ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم) وفقهم للتوبة (ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار "، " وعلى الثلاثة الذين خلفوا "، وهؤلاء الثلاثة الذين وصفهم الله في هذه الآية بما وصفهم به فيما قيل، هم الآخرون الذين قال جل ثناؤه: " وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم " [التوبة: 106]، فتاب عليهم عز ذكره، وتفضل عليهم.
وقد مضى ذكر من قال ذلك من أهل التأويل، بما أغنى إعادته في هذا الموضع.
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذاً: ولقد تاب الله على الثلاثة الذين خلفهم الله عن التوبة، فارجأهم عمن تاب عليه ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما: -
حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عمن سمع عكرمة في قوله: " وعلى الثلاثة الذين خلفوا "، قال:خلفوا عن التوبة.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة : أما قوله: " خلفوا "، فخلفوا عن التوبة.
" حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت "، يقول: بسعتها، غماً وندماً على تخلفهم عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، " وضاقت عليهم أنفسهم "، بما نالهم من الوجد والكرب بذلك، " وظنوا أن لا ملجأ "، يقول: وأيقنوا بقلوبهم أن لا شيء لهم يلجأون إليه مما نزل بهم من أمر الله من البلاء، بتخلفهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينجيهم من كربه، ولا مما يحذرون من عذاب الله، إلا الله، ثم رزقهم الإنابة إلى طاعته، والرجوع إلى ما يرضيه عنهم، لينيبوا إليه، ويرجعوا إلى طاعته والانتهاء إلى أمره ونهيه، " إن الله هو التواب الرحيم "، يقول: إن الله هو الوهاب لعباده الإنابة إلى طاعته، الموفق من أحب توفيقه منهم لما يرضيه عنه، " الرحيم "، بهم أن يعاقبهم بعد التوبة، أو يخذل من أراد منهم التوبة والإنابة ولا يتوب عليه.
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر في قوله: " وعلى الثلاثة الذين خلفوا "، قال: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن ربيعة، وكلهم من الأنصار.
حدثني عبيد بن محمد بالوراق قال، حدثنا أبو أسامة، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، بنحوه، إلا أنه قال: ومرارة بن الربيع، أو: ابن ربيعة، شك أبو أسامة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة وعامر: " وعلى الثلاثة الذين خلفوا "، قالا: أرجئوا، في أوسط ((براءة)).
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " الثلاثة الذين خلفوا "، قال: الذين أرجئوا في أوسط ((براءة))، قوله: " وآخرون مرجون لأمر الله "، [التوبة: 106]، هلال بن أمية، ومرارة بن ربعي، وكعب بن مالك.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : " وعلى الثلاثة الذين خلفوا "، الذين أرجئوا في وسط ((براءة)).
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن ليث ، عن مجاهد : " وعلى الثلاثة الذين خلفوا "، قال: كلهم من الأنصار، هلال بن أمية، ومرارة بن ربيعة، وكعب بن مالك.
... قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : " وعلى الثلاثة الذين خلفوا "، قال: الذين أرجئوا.
... قال، حدثنا جرير، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد قال: " الثلاثة الذين خلفوا "، كعب بن مالك وكان شاعراً، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، وكلهم أنصاري.
... قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، والمحاربي، عن جويبر، عن الضحاك ، يقال: كلهم من الأنصار: هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وكعب بن مالك.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا هاشم، عن جويبر، عن الضحاك قوله: " وعلى الثلاثة الذين خلفوا "، قال: هلال بن أمية، وكعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، كلهم من الأنصار.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " وعلى الثلاثة الذين خلفوا "، إلى قوله: " ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم "، كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن ربيعة، تخلفوا في غزوة تبوك."ذكر لنا أن كعب بن مالك أوثق نفسه إلى سارية، فقال: لا أطلقها، ولا أطلق نفسي، حتى يطلقني رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال رسول الله: والله لا أطلقه حتى يطلقه ربه إن شاء! وأما الآخر فكان تخلف على حائط له كان أدرك، فجعله صدقة في سبيل الله، وقال: والله لا أطعمه! وأما الآخر، فركب المفاوز يتبع رسول الله، ترفعه أرض وتضعه أخرى، وقدماه تشلشلان دماً ".
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي ، عن أبي مالك قال: " الثلاثة الذين خلفوا "، هلال بن أمية، وكعب بن مالك، ومرارة بن ربيعة.
... قال، حدثنا أبو داود الحفري، عن سلام أبي الأحوص، عن سعيد بن مسروق، عن عكرمة: " وعلى الثلاثة الذين خلفوا "، قال: هلال بن أمية، ومرارة، وكعب بن مالك.
حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن عون، عن عمر بن كثير بن أفلح قال: قال كعب بن مالك: ما كنت في غزاة أيسر للظهر والنفقة مني في تلك الغزاة! قال كعب بن مالك: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: ((أتجهز غداً ثم ألحقه))، فأخذت في جهازي، فأمسيت ولم أفرغ. فلما كان اليوم الثالث، أخذت في جهازي، فأمسيت ولم أفرغ، فقلت: هيهات! سار الناس ثلاثاً! فأقمت. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل الناس يعتذرون إليه، فجئت حتى قمت بين يديه، فقلت: ما كنت في غزاة أيسر للظهر والنفقة مني في هذه الغزاة! فأعرض عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الناس أن يكلمونا، وأمرت نساؤنا أن يتحولن عنا. قال: فتسورت حائطاً ذات يوم، فإذا أنا بجابر بن عبد الله، فقلت: أي جابر! نشدتك بالله، هل علمتني غششت الله ورسوله يوماً قط؟ فسكت عني فجعل لا يكلمني. فبينا أنا ذات يوم، إذ سمعت رجلاً على الثنية يقول: كعب! كعب! حتى دنا مني، فقال بشروا كعباً.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، وهو يريد الروم ونصارى العرب بالشأم، حتى إذا بلغ تبوك، أقام بها بضع عشرة ليلة، ولقيه بها وفد أذرح ووفد أيلة، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزية، ثم قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ولم يجاوزها، وأنزل الله: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة " الآية، والثلاثة الذين خلفوا، رهط، منهم: كعب بن مالك، وهو أحد بني سلمة، ومرارة بن ربيعة، وهو أحد بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية، وهو من بني واقف، وكانوا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة في بضعة وثمانين رجلاً. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، صدقه أولئك حديثهم، واعترفوا بذنوبهم، وكذب سائرهم، فحلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حبسهم إلا العذر، فقبل منهم رسول الله وبايعهم، ووكلهم في سرائرهم إلى الله، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلام الذين خلفوا، وقال لهم حين حدثوه حديثهم واعترفوا بذنوبهم: قد صدقتم، فقوموا حتى يقضي الله فيكم. فلما أنزل الله القرآن، تاب على الثلاثة، وقال للآخرين: " سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم "، حتى بلغ: " لا يرضى عن القوم الفاسقين " [التوبة: 95 -96].
قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك: أن عبد الله بن كعب بن مالك - وكان قائد كعب من بنيه حين عمي - قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك. قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط، إلا في غزوة تبوك، غير أني قد تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحداً تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد. ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها.
فكان من خبري حين تخلفت عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة. فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفاوز، واستقبل عدواً كثيراً، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ - يريد بذلك: الديوان - قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا يظن أن ذلك سيخفى، ما لم ينزل فيه وحي من الله. وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وأنا إليهما أصعر. فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئاً، وأقول في نفسي: ((أنا قادر على ذلك إذا أردت!))، فلم يزل ذلك يتمادى بي، حتى استمر بالناس الجد. فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئاً. ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً. فلم يزل ذلك يتمادى بي، حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم، فياليتني فعلت! فلم يقدر ذلك لي. فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوةً إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء. ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه، والنظر في عطفيه! فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت! والله يا رسول الله، ما علمنا عليه إلا خيراً! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا هو على ذلك، رأى رجلاً مبيضاً يزول به السراب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة! فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري، وهو الذي تصدق بصاع التمر، فلمزه المنافقون.
قال كعب: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك، حضرني بثي، فطفقت أتذكر الكذب، وأقول: ((بم أخرج من سخطه غداً))؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي. فلما قيل: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً!))، زاح عني الباطل، حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبداً، فأجمعت صدقه، وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً، وكان إذا قدم من سفر، بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس. فلما فعل ذلك، جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله. حتى جئت، فلما سلمت تبسم تبسم المغضب ثم قال: تعال! فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ قال قلت: يا رسول الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلاً، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني، ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه، إني لأرجو فيه عفو الله، والله ما كان لي عذر! والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، قم حتى يقضي الله فيك! فقمت، وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني وقالوا: والله ما علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا! لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك! قال: فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي! قال: ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم، لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك. قال قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن ربيع العامري، وهلال بن أمية الواقفي. فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً، فيهما أسوة. قال: فمضيت حين ذكروهما لي.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة، من بين من تخلف عنه. قال: فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلةً، فأما صاحباي فاستكانا أو قعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا، فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج وأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي معه، وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة ، وهو ابن عمي، وأحب الناس إلأي، فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام! فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله، هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فسكت. قال: فعدت فناشدته، فسكت، فعدت فناشدته، فقال: الله ورسوله أعلم! ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار.
فبينا أنا أمشي في سوق المدينة، إذا بنبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدل على كعب بن مالك؟قال: فطفق الناس يشيرون له، حتى جاءني فدفع إلي كتاباً من ملك غسان، وكنت كاتباً، فقرأته، فإذا فيه: ((أما بعد، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك)).
قال: فقلت حين قرأته: وهذا أيضاً من البلاء!! فتأممت بها التنور فسجرته به. حتى إذا مضت أربعون من الخمسين، واستلبث الوحي، إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. قال فقلت: أطلقها، أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها فلا تقربها. قال: وأرسل إلى صاحبي بذلك. قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر.
قال: فجاءت امرأة هلال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شبخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أنه أخدمه؟ فقال: لا، ولكن لا يقربنك! قالت فقلت: إنه والله ما به حركة إلى شيء! ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا! قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه؟ قال فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ماذا يقول لي إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب.
فلبثت بعد ذلك عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلةً من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا. قال: ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا، قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع، يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر! قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء فرج. قال: وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، فذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرساً، وسعى ساع من أسلم قبلي، وأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئوني بالتوبة ويقولون: لتهنك توبة الله عليك! حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد حوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني، وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره - قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة - قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، وهو يبرق وجهه من السرور: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك! فقلت: أمن عندك، يا رسول الله، أم من عند الله؟ قال: لا، بل من عند الله! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه، حتى كأن وجهه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه.
قال: فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك بعض مالك، فهو خير لك! قال فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت: يا رسول الله، إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقاً ما بقيت! قال: قال: فوالله ما علمت أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث، منذ ذكرت ذلك لرسول الله عليه السلام، أحسن مما ابتلاني، والله ما تعمدت كذبةً منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني أرجو أن يحفظني الله فما بقي. قال: فأنزل الله: " لقد تاب الله على النبي "، حتى بلغ: " وعلى الثلاثة الذين خلفوا " إلى: " اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ".
قال كعب: والله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن لا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوه، فإن الله قال للذين كذبوا، حين أنزل الوحي، شر ما قال لأحد: " سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون " إلى قوله: " لا يرضى عن القوم الفاسقين " [التوبة: 95 - 96]
قال كعب: خلفنا، أيها الثلاثة، عن أمر أولئك الذين قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم توبتهم حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه. فبذلك قال الله: " وعلى الثلاثة الذين خلفوا "، وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو، إنما هو تخليفه إيانا، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه.
حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث ، عن عقيل، عن ابن شهاب قال، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك: أن عبد الله بن كعب بن مالك - وكان قائد كعب من بنيه حين عمي - قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فذكر نحوه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه قال: لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة غزاها إلا بدراً، ولم يعاتب النبي صلى الله عليه وسلم أحداً تخلف عن بدر، ثم ذكر نحوه.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق ، عن ابن شهاب الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري، ثم السلمي، عن أبيه، أن أباه عبد الله بن كعب - وكان قائد أبيه كعب حين أصيب بصره - قال: سمعت أبي كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وحديث صاحبيه، قال: ما تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها، غير أني كنت تخلفت عنه في غزوة بدر، ثم ذكر نحوه.
قوله تعالى: "وعلى الثلاثة الذين خلفوا" قيل: عن التوبة، عن مجاهد وأبي مالك. وقال قتادة: عن غزوة تبوك. وحكي عن محمد بن زيد معنى خلفوا تركوا، لأن معنى خلفت فلاناً تركته وفارقته قاعداً عما نهضت فيه. وقرأ عكرمة بن خالد خلفوا أي أقاموا بعقب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي عن جعفر بن محمد أن قرأ خالفوا وقيل: خلفوا أي أرجئوا وأخروا عن المنافقين فلم يقض فيهم بشيء. وذلك أن المنافقين لم تقبل توبتهم، واعتذر أقوام فقبل عذرهم، وآخر النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الثلاثة حتى نزل فيهم القرآن. وهذا هو الصحيح لما رواه مسلم والبخاري وغيرهما.واللفظ لمسلم قال كعب: كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذي قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله عز وجل: "وعلى الثلاثة الذين خلفوا" وليس الذي ذكر الله مما خلفنا تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف واعتذر إليه فقبل منه. وهذا الحديث في طول، هذا آخره.
والثلاثة الذين خلفوا هم: كعب بن مالك، ومرارة بن ربيعة العامري، وهلال بن أمية الواقفي، وكلهم من الأنصار. وقد خرج البخاري ومسلم حديثهم، فقال مسلم عن كعب بن مالك قال:
"لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أني قد تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحداً تخلف عنه، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك: أني لم أكن قط أقوى ولا أسير مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، واستقبل عدواً كثيراً، فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ -يريد بذلك الديوان- قال كعب: فقل رجل يريد أن يتغيب، يظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله تعالى، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، فأنا إليها أصعر، فتجز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئاً، وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت! فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غازياً والمسلمين معه ولم أقض من جهازي شيئاً، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل كذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم، فيا ليتني فعلت! ثم لم يقدر ذلك لي فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا ارى لي أسوةً إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حسبه برداه والنظر في عطفيه. فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هو على ذلك رأى رجلاً مبيضاً يزول به السراب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة، فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري، وهو الذي تصدق بصاع التمر حتى لمزه المنافقون. فقال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك حضرني بثي، فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غداً، وأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي، فلما قيل لي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عني الباطل حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبداً، فأجمعت صدقه، وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله، حتى جئت فلما سلمت تبسم تبسم المغضب، ثم قال: تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال: لي: ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ قال: قلت يا رسول الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلاً، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه أني لأرجو في عقبى الله، والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قد أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك. فقمت وثار رجال من بني سلمى فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا! لقد عجزت في ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به إليه المتخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك!. قال: فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي. قال: ثم قلت لهم هل لقى هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم! لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك. قال قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن ربيعة العامري وهلال بن أمية الواقفي. قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً فيهما أسوة، قال: فمضيت حين ذكروهما لي. قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه. قال: فاجتنبنا الناس، وقال: وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا! ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام، فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك بالله! هل تعلمن أني أحب الله ورسوله؟ قال: فسكت، فعدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم! ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون له إلى حتى جاءني فدفع إلي كتاباً من ملك غسان، وكنت كاتباً فقرأته فإذا فيه: أما بعد! فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك. قال فقلت حين قرأتها: وهذه أيضاً من البلاء! فتياممت بها لتنور فسجرته بها، حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. قال فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها فلا تقربنها. قال: فأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك. قال فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا ولكن لا يقربنك فقالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء! ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. قال: فقال بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. قال فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب! قال: فلبث بذلك عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا. قال: ثم صليت صلاة الفجر صباح الخمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر. قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء فرج. قال: فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، فذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرساً، وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلقاني الناس فوجاً فوجاً، يهنئونني بالتوبة ويقولون: لتهنئك توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره. قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور ويقول: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك. قال: فقلت أمين عند الله يا رسول الله أمن من عندك؟ قال: لا بل من عند الله. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر. قال: وكنا نعرف ذلك. قال: فلما جلست بين يديه: قلت: يا رسول الله، إن من توبة الله علي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. قال فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. قال وقلت: يا رسول الله، إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت. قال: فوالله ما علمت أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم هذا أحسن مما أبلاني الله به، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو الله أن يحفظني فيما بقي"، فأنزل الله عز وجل: "لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة" -حتى بلغ- "إنه بهم رؤوف رحيم * وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم" -حتى بلغ- "اتقوا الله وكونوا مع الصادقين". قال كعب: والله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، إن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد، وقال الله تعالى: "سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون * يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين". قال كعب: كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله عز وجل: "وعلى الثلاثة"، وليس الذي ذكر الله مما خلفنا تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه.
قوله تعالى: "ضاقت عليهم الأرض بما رحبت" أي بما اتسعت، يقال: منزل رحب ورحيب ورحاب. وما مصدرية، أي ضاقت عليهم الأرض برحبها، لأنهم كانوا مهجورين لا يعاملون ولا يكلمون. وفي هذا دليل على هجران أهل المعاصي حتى يتوبوا.
قوله تعالى: "وضاقت عليهم أنفسهم" أي ضاقت صدورهم بالهم والوحشة، وبما لقوه من الصحابة من الجفوة. "وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه" أي تيقنوا أن لا ملجأ يلجئون إليه في الصفح عنهم وقبول التوبة منهم إلا إليه. قال أبو بكر الوراق: التوبة النصوح أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت، وتضيق عليه نفسه، كتوبة كعب وصاحبيه.
قوله تعالى: "ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم" فبدأ بالتوبة منه. قال أبو زيد: غلطت في أربعة أشياء: في الابتداء مع الله تعالى، ظننت أني أحبه فإذا هو أحبني، قال الله تعالى: "يحبهم ويحبونه" [المائدة: 54]. وظننت أني أرضى عنه فإذا هو قد رضي عني، قال الله تعالى: "رضي الله عنهم ورضوا عنه" [المائدة: 119]. وظننت أني أذكره فإذا هو يذكرني، قال الله تعالى: "ولذكر الله أكبر" [العنكبوت: 45]. وظننت أني أتوب فإذا هو قد تاب علي، قال الله تعالى: "ثم تاب عليهم ليتوبوا". وقيل: المعنى ثم تاب عليهم ليثبتوا على التوبة، كما قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا" [النساء: 136] وقيل: أي فسح لهم ولم يعجل عقابهم كما فعل بغيرهم، قال جل وعز: "فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم" [النساء: 160].
قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن أخي الزهري محمد بن عبد الله, عن عمه محمد بن مسلم الزهري أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك, أن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين عمي, قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, فقال كعب بن مالك: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزاة تبوك, غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر ولم يعاتب أحد تخلف عنها, وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد, ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام, وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر, وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة, والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفراً بعيداً ومفاوز, واستقبل عدواً كثيراً فخلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم, فأخبرهم وجهه الذي يريد, والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير, لا يجمعهم كتاب حافظ ـ يريد الديوان ـ قال كعب: فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل, وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظلال وأنا إليها أصعر, فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه, فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض من جهازي شيئا, فأقول لنفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت, فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمر بالناس الجد, فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً وقلت أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه فغدوت بعد ما فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض من جهازي شيئاً, ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً, فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فألحقهم وليت أني فعلت, ثم لم يقدر ذلك لي فطفقت إذا خرجت في الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق أو رجلاً ممن عذره الله عز وجل, ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك, فقال وهو جالس في القوم بتبوك: "ما فعل كعب بن مالك" فقال رجل من بني سلمة: حبسه يا رسول الله برداه والنظر في عطفيه, فقال معاذ بن جبل: بئسما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك, حضرني بثي وطفقت أتذكر الكذب, وأقول بماذا أخرج من سخطه غداً وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي, فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً, زاح عني الباطل وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبداً, فأجمعت صدقه فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى ركعتين ثم جلس للناس, فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلاً, فيقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم ويستغفر لهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى, حتى جئت فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب, ثم قال لي "تعال" فجئت أمشي حتى جلست بين يديه, فقال لي: "ما خلفك ألم تكن قد اشتريت ظهراً" فقلت يا رسول الله إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر, لقد أعطيت جدلاً ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي, ولئن حدثتك بصدق تجد علي فيه إني لأرجو عقبى ذلك من الله عز وجل والله ما كان لي عذر, والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك, قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك" فقمت وقام إلي رجال من بني سلمة واتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا ولقد عجزت إلا أن تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون, فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك, قال: فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي, قال ثم قلت لهم هل لقي معي هذا أحد ؟ قالوا نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت, وقيل لهما مثل ما قيل لك, فقلت فمن هما ؟ قالوا مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي, فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً لي فيهما أسوة, قال: فمضيت حين ذكروهما لي قال ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه, فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف, فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان, وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم, فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد, وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم وأقول في نفسي أحرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟ ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر, فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي, فإذا التفت نحوه أعرض عني, حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي, فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام, فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله ؟ قال فسكت, قال فعدت له فنشدته فسكت, فعدت له فنشدته فسكت, فقال الله ورسوله أعلم .
قال ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار, فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا أنا بنبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك, قال فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاء فدفع إلي كتاباً من ملك غسان وكنت كاتباً, فإذا فيه: أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك وإن الله لم يجعلك في دار هوان ولا مضيعة, فالحق بنا نواسك, قال: فقلت حين قرأته وهذا أيضاً من البلاء, قال: فتيممت به التنور فسجرته به حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين, إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني يقول: يأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتزل امرأتك, قال فقلت أطلقها أم ماذا أفعل ؟ فقال: بل اعتزلها ولا تقربها, قال وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك, قال فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما يشاء, قال فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن هلالاً شيخ ضعيف ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه, قال "لا ولكن لا يقربنك" قالت وإنه والله ما به من حركة إلى شيء, وإنه والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا, قال فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه, قال فقلت والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أدري ما يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته وأنا رجل شاب.
قال: فلبثنا عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا, قال: ثم صليت صلاة الصبح صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا, فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت, سمعت صارخاً أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: أبشر يا كعب بن مالك, قال: فخررت ساجداً وعرفت أن قد جاء الفرج من الله عز وجل بالتوبة علينا, فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر, فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون, وركض إلي رجل فرساً وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس, فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته, والله ما أملك يومئذ غيرهما, واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنوني بتوبة الله, يقولون ليهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد, فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد والناس حوله, فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره, قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة, قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور "أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك" قال: قلت أمن عندك رسول الله أم من عند الله ؟ قال "لا بل من عند الله" قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر حتى يعرف ذلك منه, فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله, قال "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك" قال: فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر وقلت يا رسول الله: إنما نجاني الله بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقاً ما بقيت, قال: فوالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى, والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا, وإني لأرجو أن يحفظني الله عز وجل فيما بقي.
(قال) وأنزل الله تعالى: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم * وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم * يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " إلى آخر الايات. قال كعب: فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ, أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه, فإن الله تعالى قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد, فقال الله تعالى: "سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون * يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين" قال: وكنا أيها الثلاثة الذين خلفنا عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا فبايعهم واستغفر لهم, وأرجأ رسول الله أمرنا حتى قضى الله فيه, فلذلك قال عز وجل "وعلى الثلاثة الذين خلفوا" وليس تخليفه إيانا وارجاؤه أمرنا الذي ذكر مما خلفنا بتخليفنا عن الغزو, وإنما هو عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه.
هذا حديث صحيح ثابت متفق على صحته رواه صاحبا الصحيح البخاري ومسلم, من حديث الزهري بنحوه, فقد تضمن هذا الحديث تفسير هذه الاية الكريمة بأحسن الوجوه وأبسطها, وكذا روي عن غير واحد من السلف في تفسيرها, كما رواه الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله في قوله تعالى: "وعلى الثلاثة الذين خلفوا" قال: هم كعب بن مالك, وهلال بن أمية, ومرارة بن الربيع, وكلهم من الأنصار, وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد وكلهم قال مرارة بن ربيعة, وكذا في مسلم ابن ربيعة في بعض نسخه, وفي بعضها مرارة بن الربيع, وفي رواية عن الضحاك مرارة بن الربيع كما وقع في الصحيحين وهو الصواب, وقوله فسموا رجلين شهدا بدراً قيل إنه خطأ من الزهري, فإنه لا يعرف شهود واحد من هؤلاء الثلاثة بدراً, والله أعلم.
ولما ذكر تعالى ما فرج به عن هؤلاء الثلاثة من الضيق والكرب من هجر المسلمين إياهم نحواً من خمسين ليلة بأيامها, وضاقت عليهم أنفسهم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت, أي مع سعتها فسدت عليهم المسالك والمذاهب فلا يهتدون ما يصنعون, فصبروا لأمر الله واستكانوا لأمر الله وثبتوا حتى فرج الله عنهم بسبب صدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تخلفهم, وأنه كان عن غير عذر فعوقبوا على ذلك هذه المدة ثم تاب الله عليهم, فكان عاقبة صدقهم خيراً لهم وتوبة عليهم, ولهذا قال "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين" أي اصدقوا والزموا الصدق تكونوا من أهله وتنجوا من المهالك, ويجعل لكم فرجاً من أموركم ومخرجاً, وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش, عن شقيق عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر, وإن البر يهدي إلى الجنة, ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً, وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار, ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً" أخرجاه في الصحيحين, وقال شعبة عن عمرو بن مرة: سمع أبا عبيدة يحدث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل, اقروءا إن شئتم "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين" هكذا قرأها, ثم قال فهل تجدون لأحد فيه رخصة, وعن عبد الله بن عمرو في قوله "اتقوا الله وكونوا مع الصادقين" قال مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وقال الضحاك مع أبي بكر وعمر وأصحابهما, وقال الحسن البصري إن أردت أن تكون مع الصادقين فعليك بالزهد في الدنيا والكف عن أهل الملة.
قوله: 118- "وعلى الثلاثة الذين خلفوا" أي وتاب على الثلاثة الذين خلفوا: أي أخروا ولم تقبل توبتهم في الحال كما قبلت توبة أولئك المتخلفين المتقدم ذكرهم. قال ابن جرير: معنى خلفوا تركوا، يقال: خلفت فلاناً فارقته. وقرأ عكرمة بن خالد خلفوا بالتخفيف: أي أقاموا بعد نهوض رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى الغزو. وقرأ جعفر بن محمد خالفوا وهؤلاء الثلاثة: هم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع أو ابن ربيعة العامري، وهلال بن أمية الواقفي، وكلهم من الأنصار لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم توبتهم حتى نزل القرآن بأن الله قد تاب عليهم، وقيل معنى خلفوا فسدوا، مأخوذ من خلوف الفم. قوله: "حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت" معناه: أنهم أخروا عن قبول التوبة إلى هذه الغاية، وهي وقت أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وما مصدرية: أي برحبها، لإعراض الناس عنهم وعدم مكالمتهم من كل أحد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الناس أن يكالموهم، والرحب: الواسع، يقال: منزل رحب ورحيب ورحاب. وفي هذه الآية دليل على جواز هجران أهل المعاصي تأديباً لهم لينزجروا عن المعاصي. ومعنى ضيق أنفسهم عليهم: أنها ضاقت صدورهم بما نالهم من الوحشة وبما حصل لهم من الجفوة، وعبر بالظن في قوله: "وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه" عن العلم: أي علموا أن لا ملجأ يلجئون إليه قط إلا إلى الله سبحانه بالتوبة والاستغفار. قوله: "ثم تاب عليهم ليتوبوا" أي رجع عليهم بالقبول والرحمة، وأنزل في القرآن التوبة عليهم ليستقيموا أو وفقهم للتوبة فيما يستقبل من الزمان إن فرطت منهم خطيئة ليتوبوا عنها ويرجعوا إلى الله فيها ويندموا على ما وقع منهم "إن الله هو التواب" أي الكثير القبول لتوبة التائبين، "الرحيم" أي الكثير الرحمة لمن طلبها من عباده.
118-قوله تعالى: "وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت"، اتسعت، "وضاقت عليهم أنفسهم"، غما وهما، "وظنوا"، أي: تيقنوا، "أن لا ملجأ من الله"، لا مفزع من الله، "إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا"، أي: ليستقيموا على التوبة فإن توبتهم قد سبقت. "إن الله هو التواب الرحيم".
118."وعلى الثلاثة"وتاب على الثلاثة كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع."الذين خلفوا" تخلفوا عن الغزو أو خلف أمرهم فإنهم المرجئون . "حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت"أي برحبها لإعراض الناس عنهم بالكلية وهو مثل لشدة الحيرة." وضاقت عليهم أنفسهم"قلوبهم من فرط الوحشة والغم بحيث لا يسعها أنس ولا سرور. "وظنوا" وعلموا."أن لا ملجأ من الله" من سخطه ."إلا إليه"إلا إلى استغفاره."ثم تاب عليهم "بالتوفيق للتوبة ."ليتوبوا"أو أنزل قبول توبتهم ليعدوا من جملة التائبين ،أو رجع عليهم بالقبول والرحمة مرة بعد أخرى ليستقيموا على توبتهم."إن الله هو التواب"لمن تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة."الرحيم" المتفضل عليهم بالنعم.
118. And to the three also (did He turn in mercy) who were left behind: when the earth, vast as it is, was straitened for them, and their own souls were straitened for them till they bethought them that there is no refuge from Allah save toward Him. Then turned He unto them in mercy that they (too) might turn (repentant unto Him). Lo! Allah! He is the Relenting, the Merciful.
118 - (He turned in mercy also) to the three who were left behind; (they left guilty) to such a degree that the earth seemed constrained to them, for all its speciousness, and their (very) souls seemed straitened to them, and they perceived that there is no fleeing from God (and no refuge) but to himself. then he turned to them, that they might repent: for God is oft returning, most merciful.