[الانفطار : 5] عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ
5 - (علمت نفس) أي كل نفس وقت هذه المذكورات وهو يوم القيامة (ما قدمت) من الأعمال (و) ما (أخرت) منها فلم تعمله
وقوله : " علمت نفس ما قدمت وأخرت " يقول تعالى ذكره : علمت كل نفس ما قدمت لذلك اليوم من عمل صالح ينفعه ، وأخرت وراءه من شيء سنه فعمل به .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : ثني عن القرظي أنه قال في " علمت نفس ما قدمت وأخرت " قال : ما قدمت مما عملت ، وأما ما أخرت فالسنة يسنها الرجل يعمل بها من بعده .
وقال آخرون : عني بذلك : ما قدمت من الفرائض التي أدتها ، وما أخرت من الفرائض التي ضيعتها .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن أبيه ، عن سعيد بن مسروق ، عن عكرمة " علمت نفس ما قدمت " قال : ما افترض عليها ( وما أخرت ) قال : مما افترض عليها .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس " علمت نفس ما قدمت وأخرت " قال : تعلم ما قدمت من طاعة الله ، وما أخرت ما أمرت به من حق الله عليها لم تعمل به .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله " علمت نفس ما قدمت وأخرت " قال : ما قدمت من خير ، وأخرت من حق الله عليها لم تعمل به .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة " ما قدمت وأخرت " قال : ما قدمت من طاعة الله وما أخرت من حق الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " علمت نفس ما قدمت وأخرت " قال : ما قدمت : عملت ، وما أخرت : تركت وضيعت ، وأخرت من العمل الصالح الذي دعاها الله إليه .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ما قدمت من خير أو شر ، وأخرت من خير أو شر .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوام ، عن إبراهيم التيمي ، قال : ذكروا عنده هذه الآية " علمت نفس ما قدمت وأخرت " قال : أنا مما أخر الحجاج .
وإنما اخترنا القول الذي ذكرناه ، لأن كل ما عمل العبد من خير أو شر فهو مما قدمه ، وأن ما ضيع من حق الله عليه وفرط فيه فلم يعمله ، فهو مما قدم من شر ، وليس ذلك مما أخر من العمل ، لأن العمل هو ما عمله ، فأما ما لم يعمله فإنما هو سيئة قدمها ، فلذلك قلنا : ما أخر : هو ما سنه من سنة حسنة وسيئة مما إذا عمل به العامل كان له مثل أجر العامل بها أو وزره .
قوله تعالى:" علمت نفس ما قدمت وأخرت" مثل: " ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر" [ القيامة:13]، وتقدم. وهذا جواب ((إذا السماء انفطرت)) لأنه قسم في قول الحسن وقع على قوله تعالى:" علمت نفس" يقول : إذا بدت هذه الأمور من أشراط الساعة ختمت الأعمال فعلمت كل نفس ما كسبت، فإنها لا ينفعها عمل بعد ذلك. وقيل: أي إذا كانت هذه الأشياء قامت القيامة، فحوسبت كل نفس بما عملت، وأوتيت كتابها بيمينها أو بشمالها، فتذكرت عند قراءته جميع أعمالها. وقيل : هو خبر، وليس بقسم، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.
يقول تعالى: "إذا السماء انفطرت" أي انشقت كما قال تعالى: "السماء منفطر به" "وإذا الكواكب انتثرت" أي تساقطت "وإذا البحار فجرت" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : فجر الله بعضها في بعض. وقال الحسن : فجر الله بعضها في بعض فذهب ماؤها, وقال قتادة : اختلط عذبها بمالحها.
وقال الكلبي : ملئت "وإذا القبور بعثرت" قال ابن عباس : بحثت, وقال السدي : تبعثر تحرك فيخرج من فيها "علمت نفس ما قدمت وأخرت" أي إذا كان هذا حصل هذا. وقوله تعالى: " يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم " هذا تهديد لا كما يتوهمه بعض الناس من أنه إرشاد إلى الجواب حيث قال الكريم حتى يقول قائلهم غره كرمه, بل المعنى في هذه الاية: ما غرك يا ابن آدم بربك الكريم أي العظيم حتى أقدمت على معصيته وقابلته بما لا يليق. كما جاء في الحديث "يقول الله تعالى يوم القيامة يا ابن آدم ما غرك بي ؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين ؟".
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر , حدثنا سفيان أن عمر سمع رجلاً يقرأ " يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم " فقال عمر : الجهل. وقال أيضاً: حدثنا عمر بن شيبة , حدثنا أبو خلف , حدثنا يحيى البكاء , سمعت ابن عمر يقول وقرأ هذه الاية "يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم" قال ابن عمر : غره والله جهله, قال: وروي عن ابن عباس والربيع بن خثيم والحسن مثل ذلك وقال قتادة : "ما غرك بربك الكريم" شيء, ما غر ابن آدم غير هذا العدو الشيطان. وقال الفضيل بن عياض : لو قال لي ما غرك بي لقلت: ستورك المرخاة. وقال أبو بكر الوراق : لو قال لي ما غرك بربك الكريم لقلت: غرني كرم الكريم. قال البغوي : وقال بعض أهل الإشارة: إنما قال بربك الكريم دون سائر أسمائه وصفاته كأنه لقنه الإجابة وهذا الذي تخيله هذا القائل ليس بطائل لأنه إنما أتى باسمه الكريم لينبه على أنه لا ينبغي أن يقابل الكريم بالأفعال القبيحة وأعمال الفجور, وقد حكى البغوي عن الكلبي ومقاتل أنهما قالا: نزلت هذه الاية في الأسود بن شريق ضرب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاقب في الحالة الراهنة فأنزل الله تعالى: " ما غرك بربك الكريم ".
وقوله تعالى: "الذي خلقك فسواك فعدلك" أي ما غرك بالرب الكريم "الذي خلقك فسواك فعدلك" أي جعلك سوياً مستقيماً معتدل القامة منتصبها في أحسن الهيئات والأشكال. قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر , حدثنا جرير , حدثني عبد الرحمن بن ميسرة عن جبير بن نفير , عن بشر بن جحاش القرشي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق يوماً في كفه فوضع عليها أصبعه ثم قال: "قال الله عز وجل: يا ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه ؟ حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد, فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة ؟" وكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة , عن يزيد بن هارون , عن جرير بن عثمان به. قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي وتابعه يحيى بن حمزة عن ثور بن يزيد عن عبد الرحمن بن ميسرة .
وقوله تعالى: "في أي صورة ما شاء ركبك" قال مجاهد : في أي شبه أب أو أم أوخال أو عم. وقال ابن جرير : حدثني محمد بن سنان القزاز , حدثنا مطهر بن الهيثم , حدثنا موسى بن علي بن رباح , حدثني أبي عن جدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "ما ولد لك ؟ قال: يا رسول الله ما عسى أن يولد لي إما غلام وإما جارية. قال فمن يشبه ؟ قال: يا رسول الله من عسى أن يشبه إما أباه وإما أمه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم عندها: مه لا تقولن هكذا إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله تعالى كل نسب بينها وبين آدم ؟ أما قرأت هذه الاية في كتاب الله تعالى في أي صورة ما شاء ركبك" قال: شكلك.
وهكذا رواه ابن أبي حاتم والطبراني من حديث مطهر بن الهيثم به, وهذا الحديث لو صح لكان فيصلاً في هذه الاية ولكن إسناده ليس بالثابت, لأن مطهر بن الهيثم قال فيه أبو سعيد بن يونس كان متروك الحديث, وقال ابن حبان , يروي عن موسى بن علي وغيره ما لا يشبه حديث الأثبات, ولكن في الصحيحين عن أبي هريرة " أن رجلاً قال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاماً أسود, قال :هل لك من إبل ؟ قال نعم, قال: فما ألوانها قال: حمر, قال: فهل فيها من أورق قال: نعم, قال: فأنى أتاها ذلك قال: عسى أن يكون نزعة عرق. قال: وهذا عسى أن يكون نزعة عرق". وقد قال عكرمة في قوله تعالى: "في أي صورة ما شاء ركبك" إن شاء في صورة قرد وإن شاء في صورة خنزير, وكذا قال أبو صالح "في أي صورة ما شاء ركبك" إن شاء في صورة كلب وإن شاء في صورة حمار وإن شاء في صورة خنزير. وقال قتادة : "في أي صورة ما شاء ركبك" قال: قادر والله ربنا على ذلك, ومعنى هذا القول عند هؤلاء أن الله عز وجل قادر على خلق النطفة على شكل قبيح من الحيوانات المنكرة الخلق, ولكن بقدرته ولطفه وحلمه يخلقه على شكل حسن مستقيم معتدل تام حسن المنظر والهيئة.
وقوله تعالى: "كلا بل تكذبون بالدين" أي إنما يحملكم على مواجهة الكريم ومقابلته بالمعاصي تكذيب في قلوبكم بالمعاد والجزاء والحساب. وقوله تعالى: " وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون " يعني وإن عليكم لملائكة حفظة كراماً فلا تقابلوهم بالقبائح فإنهم يكتبون عليكم جميع أعمالكم. قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا وكيع حدثنا سفيان ومسعر عن علقمة بن مرثد عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى حالتين الجنابة والغائط, فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بحرم حائط أو ببعيره أو ليستره أخوه". وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار فوصله بلفظ آخر فقال: حدثنا محمد بن عثمان بن كرامة حدثنا عبيد الله بن موسى عن حفص بن سليمان عن علقمة بن مرثد عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينهاكم عن التعري فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند ثلاث حالات: الغائط والجنابة والغسل, فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فليستتر بثوبه أو بجرم حائط أو ببعيره" ثم قال حفص بن سليمان : لين الحديث وقد روي عنه واحتمل حديثه, وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا زياد بن أيوب حدثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي حدثنا تمام بن نجيح عن الحسن يعني البصري عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من حافظين يرفعان إلى الله عز وجل ما حفظا في يوم فيرى في أول الصحيفة وفي آخرها استغفاراً إلا قال الله تعالى قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة" ثم قال تفرد به تمام بن نجيح وهو صالح الحديث (قلت): وثقه ابن معين وضعفه البخاري وأبو زرعة وابن أبي حاتم والنسائي وابن عدي ورماه ابن حبان بالوضع وقال الإمام أحمد لا أعرف حقيقة أمره. وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا إسحاق بن سليمان البغدادي المعروف بالقلوسي حدثنا بيان بن حمران حدثنا سلام عن منصور بن زاذان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله ملائكة يعرفون بني آدم ـ وأحسبه قال: ويعرفون أعمالهم ـ فإذا نظروا إلى عبد يعمل بطاعة الله ذكروه بينهم وسموه وقالوا أفلح الليلة فلان, نجا الليلة فلان, وإذا نظروا إلى عبد يعمل بمعصية الله ذكروه بينهم وسموه وقالوا هلك الليلة فلان", ثم قال البزار : سلام هذا أحسبه سلام المدائني وهو لين الحديث.
ثم ذكر سبحانه الجواب عما تقدم فقال: 5- "علمت نفس ما قدمت وأخرت" والمعنى: أنها علمته عند نشر الصحف لا عند البعث، لأنه وقت واحد من عند البعث إلى عند مصير أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار، والكلام في إفراد نفس هنا كما تقدم في السورة الأولى في قوله "علمت نفس ما أحضرت" ومعنى "ما قدمت وأخرت" ما قدمت من عمل خير أو شر، وما أخرت من سنة حسنة أو سيئة، لأن لها أجر ما سنته من السنن الحسنة وأجر من عمل بها، وعليها وزر ما سنته من السنن السيئة ووزر من عمل بها. وقال قتادة: ما قدمت من معصية وأخرت من طاعة، وقيل ما قدم من فرض وأخر من فرض، وقيل أول عمله وآخره، وقيل إن النفس تعلم عند البعث بما قدمت وأخرت علماً إجمالياً، لأن المطيع يرى آثار السعادة، والعاصي يرى آثار الشقاوة، وأما العلم التفصيلي فإنما يحصل عند نشر الصحف.
5- "علمت نفس ما قدمت وأخرت"، قيل: "ما قدمت" من عمل صالح أو سيئ، و "أخرت" من سنة حسنة أو سيئة. وقيل: "ما قدمت" من الصدقات "وأخرت" من التركات، على ما ذكرنا في قوله: "ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر" (القيامة- 13).
5-" علمت نفسً ما قدمت " من عمل أو صدقة . " وأخرت " من سيئة أو تركت ويجوز أن يراد بالتأخير التضييع وهو جواب " إذا " .
5. A soul will know what it hath sent before (it) and what left behind.
5 - (Then) shall each soul know what it hath sent forward and (what it hath) kept back.