[القيامة : 13] يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ
13 - (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر) بأول عمله وآخره
يقول تعالى ذكره : يخبر الإنسان يومئذ ، يوم يجمع الشمس والقمر فيكوران بما قدم وأخر .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله " بما قدم وأخر " فقال بعضهم : معنى ذلك : بما قدم من عمل خير، أو شر أمامه ، مما عمله في الدنيا قبل مماته ، وما أخر بعد مماته من سيئة وحسنة ، أو سيئة يعمل بها من بعده .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله " ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر " يقول : ما عمل قبل موته ، وما سن فعمل به بعد موته .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن زياد بن أبي مريم عن ابن مسعود قال : " بما قدم " من عمله " وأخر " من سنة عمل بها من بعده من خير أو شر .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ينبأ الإنسان بما قدم من المعصية ، وأخر من الطاعة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله " ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر " يقول : بما قدم من المعصية ، وأخر من الطاعة ، فينبأ بذلك .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ينبأ بأول عمله وآخره .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور عن مجاهد " ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر " قال : بأول عمله وآخره .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن مجاهد مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
وحدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد و إبراهيم ، مثله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك " بما قدم " من طاعة " وأخر " من حقوق الله التي ضيعها .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله " ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم " من طاعة الله " وأخر " مما ضيع من حق الله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة " بما قدم وأخر " قال : بما قدم من طاعته ، وأخر من حقوق الله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : بما قدم من خير أو شر مما عمله ، وما أخر مما ترك عمله من طاعة الله .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر " قال : ما أخر ما ترك من العمل لم يعمله ، ما ترك من طاعة الله لم يعمل به ، وما قدم : ما عمل من خير أو شر .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن ذلك خبر من الله أن الإنسان ينبأ بكل ما قدم أمامه مما عمل من خير أو شر في حياته ، وأخر بعده من سنة حسنة أو سيئة مما قدم وأخر ، كذلك ما قدم من عمل عمله من خير أو شر ، وأخر بعده من عمل كان عليه فضيعه ، فلم يعمله مما قدم وأخر ، ولم يخصص الله من ذلك بعضاً دون بعض فكل ذلك مما ينبأ به الإنسان يوم القيامة .
قوله تعالى:" ينبأ الإنسان " أي يخبر ابن آدم برا كان او فاجراً " بما قدم وأخر": أي بما اسلف من عمل سيء او صالح، او اخر من سنة سيئة او صالحة يعمل بها بعده، قاله ابن عباس وابن مسعود. وروى منصور عن مجاهد قال : ينبأ اول عمله وآخره. وقاله النخعي. وقال ابن عباس ايضاً: أي بما قدم من المعصية، واخر من الطاعة. وهو قول قتادة. وقال ابن زيد : (( بم قدم)) من امواله لنفسه((واخر)) : خلف للورثة. وقال الضحاك: ينبأ بما قدم من فرض، واخر من فرض. قال القشيري: وهذا الإنباء يكون في القيامة عند وزن الأعمال. ويجوز ان يكون عند الموت.
قلت : والأول اظهر، لما خرجه ابن ماجه في سننه من حديث الزهري، حدثني ابو عبد الله الأغر عن ابي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(("ان مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً علمه ونشره، وولداً صالحاً تركه، او مصحفاً ورثه او مسجداً بناه، او بيتاً لابن السبيل بناه، او نهرا أجراه، او صدقة اخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته")) وخرجه ابو نعيم الحافظ بمعناه من "حديث قتادة عن انس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( سبع يجري اجرهن للعبد بعد موته وهو في قبره: من علم علماً او اجرى نهراً او حفر بئراً اوغرس نخلا او بنى مسجداً أو ورث مصحفاً او ترك ولداً يستغفر له بعد موته))" فقوله: ((" بعد موته وهو في قبره")) نص على ان ذلك لا يكون عند الموت، وانما يخبر بجميع ذلك عند وزن عمله، وان كان يبشربذلك في قبره. ودل على هذا ايضاً قوله الحق: " وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم" [ العنكبوت:13] وقوله تعالى:" ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم" [ النخل:25] وهذا لا يكون الا في الآخرة بعد وزن الأعمال. والله اعلم. وفي الصحيح:
((" من سن في الإسلام سنة حسنة كان له اجرها واجر من عمل بها بعده، من غير ان ينقص من اجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من غير ان ينقص من اوزارهم شيء")).
قد تقدم غير مرة أن المقسم عليه إذا كان منتفياً جاز الإتيان بلا قبل القسم لتأكيد النفي. والمقسم عليه ههنا هو إثبات المعاد والرد على ما يزعمه الجهلة من العباد ومن عدم بعث الأجساد, ولهذا قال تعالى: " لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوامة " قال الحسن : أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة, وقال قتادة : بل أقسم بهما جميعاً, هكذا حكاه ابن أبي حاتم : وقد حكى ابن جرير عن الحسن والأعرج أنهما قرءا "لا أقسم بيوم القيامة " وهذا يوجه قول الحسن لأنه أثبت القسم بيوم القيامة ونفى القسم بالنفس اللوامة, والصحيح أنه أقسم بهما جميعاً كما قاله قتادة رحمه الله, وهو المروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير , واختاره ابن جرير , فأما يوم القيامة فمعروف وأما النفس اللوامة فقال قرة بن خالد عن الحسن البصري في هذه الاية: إن المؤمن والله ما نراه إلا يلوم نفسه. ما أردت بكلمتي, ما أردت بأكلتي, ما أردت بحديث نفسي, وإن الفاجر يمضي قدماً ما يعاتب نفسه, وقال جويبر : بلغنا عن الحسن أنه قال في قوله: "ولا أقسم بالنفس اللوامة" قال: ليس أحد من أهل السموات والأرضين إلا يلوم نفسه يوم القيامة. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم عن إسرائيل عن سماك أنه سأل عكرمة عن قوله: "ولا أقسم بالنفس اللوامة" قال: يلوم على الخير والشر لو فعلت كذا وكذا, ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن إسرائيل به, وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار , حدثنا مؤمل , حدثنا سفيان عن ابن جريج عن الحسن بن مسلم عن سعيد بن جبير في قوله: "ولا أقسم بالنفس اللوامة" قال: تلوم على الخير والشر, ثم رواه من وجه آخر عن سعيد أنه سأل ابن عباس عن ذلك فقال: هي النفس اللؤوم, وقال علي بن أبي نجيح عن مجاهد تندم على ما فات وتلوم عليه, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : اللوامة المذمومة, وقال قتادة "اللوامة" الفاجرة. وقال ابن جرير : وكل هذه الأقوال متقاربة بالمعنى والأشبه بظاهر التنزيل أنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر وتندم على ما فات.
وقوله تعالى: " أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه " أي يوم القيامة أيظن أنا لا نقدر على إعادة عظامه وجمعها من أماكنها المتفرقة "بلى قادرين على أن نسوي بنانه" وقال سعيد بن جبير والعوفي عن ابن عباس : أن نجعله خفاً أو حافراً, وكذا قال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك وابن جرير , ووجهه ابن جرير بأنه تعالى لو شاء لجعل ذلك في الدنيا, والظاهر من الاية أن قوله تعالى: "قادرين" حال من قوله تعالى: "نجمع" أي أيظن الإنسان أنا لا نجمع عظامه ؟ بل سنجمعها قادرين على أن نسوي بنانه أي قدرتنا صالحة لجمعها, ولو شئنا بعثناه أزيد مما كان فنجعل بنانه وهي أطراف أصابعه مستوية, وهذا معنى قول ابن قتيبة والزجاج . وقوله: "بل يريد الإنسان ليفجر أمامه" قال سعيد عن ابن عباس : يعني يمضي قدماً, وقال العوفي عن ابن عباس "ليفجر أمامه" يعني الأمل, يقول الإنسان أعمل ثم أتوب قبل يوم القيامة, ويقال: هو الكفر بالحق بين يدي القيامة. وقال مجاهد "ليفجر أمامه" ليمضي أمامه راكباً رأسه, وقال الحسن : لا يلقى ابن آدم إلا تنزع نفسه إلى معصية الله قدماً قدماً إلا من عصمه الله تعالى, وروي عن عكرمة وسعيد بن جبير والضحاك والسدي وغير واحد من السلف: هو الذي يعجل الذنوب ويسوف التوبة, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هو الكافر يكذب بيوم الحساب, وكذا قال ابن زيد وهذا هو الأظهر من المراد, ولهذا قال بعده " يسأل أيان يوم القيامة " أي يقول متى يكون يوم القيامة وإنما سؤاله سؤال استبعاد لوقوعه وتكذيب لوجوده كما قال تعالى: "ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين * قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون".
وقال تعالى ههنا: "فإذا برق البصر" قرأ أبو عمرو بن العلاء برق بكسر الراء أي حار, وهذا الذي قاله شبيه بقوله تعالى: "لا يرتد إليهم طرفهم" أي بل ينظرون من الفزع هكذا وهكذا لا يستقر لهم بصر على شيء من شدة الرعب, وقرأ آخرون برق بالفتح وهو قريب في المعنى من الأول, والمقصود أن الأبصار تنبهر يوم القيامة وتخشع وتحار وتذل من شدة الأهوال ومن عظم ما تشاهده يوم القيامة من الأمور. وقوله تعالى: "وخسف القمر" أي ذهب ضوؤه "وجمع الشمس والقمر" قال مجاهد : كورا, وقرأ ابن زيد عند تفسير هذه الاية " إذا الشمس كورت * وإذا النجوم انكدرت " وروي عن ابن مسعود أنه قرأ " وجمع الشمس والقمر ". وقوله تعالى: "يقول الإنسان يومئذ أين المفر" أي إذا عاين ابن آدم هذه الأهوال يوم القيامة حينئذ يريد أن يفر ويقول أين المفر أي هل من ملجأ أو موئل, قال الله تعالى: " كلا لا وزر * إلى ربك يومئذ المستقر " قال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف: أي لا نجاة, وهذه الاية كقوله تعالى: " ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير " أي ليس لكم مكان تتنكرون فيه, وكذا قال ههنا: "لا وزر" أي ليس لكم مكان تعتصمون فيه, ولهذا قال: "إلى ربك يومئذ المستقر" أي المرجع والمصير.
ثم قال تعالى: "ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر" أي يخبر بجميع أعماله قديمها وحديثها, أولها وآخرها, صغيرها وكبيرها, كما قال تعالى: "ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً" وهكذا قال ههنا: " بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره " أي هو شهيد على نفسه عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر, وكما قال تعالى: "اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً" وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "بل الإنسان على نفسه بصيرة" يقول: سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه. وقال قتادة : شاهد على نفسه وفي رواية قال: إذا شئت والله رأيته بصيراً بعيوب الناس وذنوبهم غافلاً عن ذنوبه. وكان يقال: إن في الإنجيل مكتوباً يا ابن آدم تبصر القذاة في عين أخيك وتترك الجذل في عينك لا تبصره!.
وقال مجاهد : "ولو ألقى معاذيره" ولو جادل عنها فهو بصير عليها. وقال قتادة " ولو ألقى معاذيره" ولو اعتذر يومئذ بباطل لا يقبل منه. وقال السدي "ولو ألقى معاذيره" حجته. وكذا قال ابن زيد والحسن البصري وغيرهم واختاره ابن جرير . وقال قتادة عن زرارة عن ابن عباس "ولو ألقى معاذيره" يقول: لو ألقى ثيابه. وقال الضحاك : ولو ألقى ستوره وأهل اليمن يسمون الستر العذار. والصحيح قول مجاهد وأصحابه كقوله تعالى: "يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون" وقال العوفي عن ابن عباس "ولو ألقى معاذيره" هي الاعتذار ألم تسمع أنه قال "لا ينفع الظالمين معذرتهم" وقال "وألقوا إلى الله يومئذ السلم" "فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء" وقولهم "والله ربنا ما كنا مشركين".
13- " ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر " أي يخبر يوم القيامة بما عمل من خير وشر. وقال قتادة: بما عمل من طاعة، وما أخر من طاعة فلم يعمل بها. وقال زيد بن أسلم: بما قدم من أمواله وما خلف للورثة. وقال مجاهد: بأول عمله وآخره. وقال الضحاك: بما قدم من فرض وأخر من فرض. قال القشيري: هذا الإنباء يكون يوم القيامة عند وزن الأعمال، ويجوز أن يكون عند الموت. قال القرطبي: والأول أظهر.
13- "ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر"، قال ابن مسعود وابن عباس: "بما قدم" قبل موته من عمل صالح وسيئ، وما أخر: بعد موته من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها.
وقال عطية عن ابن عباس: "بما قدم" من المعصية "وأخر" من الطاعة.
وقال قتادة: بما قدم من طاعة الله، وأخر من حق الله فضيعه.
وقال مجاهد: بأول عمله وآخره. وقال عطاء: بما قدم في أول عمره وما أخر في آخر عمره.
وقال زيد بن أسلم: بما قدم من أمواله لنفسه وما أخر خلفه للورثة.
13-" ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر " بما قدم من عمل عمله وبما أخر منه لم يعمله ، أو بما قدم من عمل عمله وبما أخر من سنة حسنة أو سيئة عمل بها بعده ، أو بما قدم من مال تصدق به وبما أخر فخلفه ، أو بأول عمله وآخره .
13. On that day man is told the tale of that which he hath sent before and left behind.
13 - That Day will Man be told (all) that he put forward, and all that he put back.