[الجن : 3] وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا
3 - (وأنه) الضمير للشأن فيه وفي الموضعين بعده (تعالى جد ربنا) تنزه جلاله وعظمته عما نسب إليه (ما اتخذ صاحبة) زوجة (ولا ولدا)
وقوله : " وأنه تعالى جد ربنا " اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً ، وآمنا بأنه تعالى أمر بنا وسلطانه وقدرته .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله " وأنه تعالى جد ربنا " يقول : فعله وأمره وقدرته .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله " وأنه تعالى جد ربنا " يقول : تعالى أمر ربنا .
حدثنا محمد بن بشار ، و محمد بن المثنى قالا : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن قتادة ، في هذه الآية " تعالى جد ربنا " قال : أمر ربنا .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن السدي " تعالى جد ربنا " قال : أمر ربنا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا " قال : تعالى أمره أن يتخذ ولا يكون الذي قالوا صاحبة ولا ولداً ، وقرأ " قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد " [ سورة الإخلاص ] ، قال لا يكون ذلك منه .
وقال آخرون : عني بذلك جلال ربنا وذكره .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : قال عكرمة ، في قوله " جد ربنا " قال : جلال ربنا .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثني خالد بن يزيد ، قال : ثنا أبو إسرائيل ، عن فضيل ، عن مجاهد ، في قوله " وأنه تعالى جد ربنا " قال : جلال ربنا .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سليمان التيمي ، قال : قال عكرمة " تعالى جد ربنا " : جلال ربنا .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله " وأنه تعالى جد ربنا " : أي تعالى جلاله وعظمته وأمره .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله تعالى " جد ربنا " قال : تعالى أمر ربنا ، تعالت عظمته .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : تعالى غنى ربنا .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : قال الحسن ، في قوله تعالى " جد ربنا " قال : غنى ربنا .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن سليمان التيمي ، عن الحسن " تعالى جد ربنا " قال : غنى ربنا .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله " تعالى جد ربنا " قال : غنى ربنا .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : ثنا هشيم ، عن سليمان التيمي ، عن الحسن و عكرمة في قول الله " وأنه تعالى جد ربنا " قال أحدهما : غناه ، وقال الآخر : عظمته .
وقال آخرون : عني بذلك الجد هو أبو الأب ، قالوا : ذلك كان من كلام جهلة الجن .
ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : ثني أبو جعفر محمد بن عبد الله بن أبي سارة ، عن أبيه ، عن أبي جعفر ، " تعالى جد ربنا " قال : كان كلاماً من جهلة الجن .
وقال آخرون : عني بذلك : ذكره .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله " تعالى جد ربنا " قال : ذكره .
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال : عني بذلك : تعالت عظمة ربنا وقدرته وسلطانه .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لأن للجد في كلام العرب معنيين : أحدهما الجد الذي هو أبو الأب ، أو أبو الأم ، وذلك غير جائز أن يوصف به هؤلاء النفر الذين وصفه مالله بهذه الصفة ، وذلك أنهم قد قالوا : " فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا " ومن وصف الله بأن له ولداً أو جداً هو أبو أب أو أبو أم ، فلا شك أنه من المشركين ، والمعنى الآخر : الجد الذي بمعنى الحظ ، يقال : فلان ذو جد في هذا الأمر : إذا كان له حظ فيه ، وهو الذي يقال له بالفارسية البخت ، وهذا المعنى الذي قصده هؤلاء النفر من الجن بقيلهم " وأنه تعالى جد ربنا " إن شاء الله ، وإنما عنوا أن حظوته من الملك والسلطان والقدرة والعظمة عالية ، فلا يكون له صاحبة ولا ولد ، لأن الصاحبة إنما تكون للضعيف العاجز الذي تضطره الشهوة الباعثة إلى اتخاذها ، وأن الولد إنما يكون عن شهوة أزعجته إلى الوقاع الذي يحدث منه الولد ، فقال النفر من الجن : علا ملك ربنا وسلطانه وقدرته وعظمته أن يكون ضعيفاً ضعف خلقه الذين تضطرهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة ، أو وقاع شيء يكون منه ولد .
وقد بين عن صحة ما قلنا في ذلك إخبار الله عنهم أنهم نزهوا الله عن اتخاذ الصاحبة والولد بقوله : " وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا " يقال منه : رجل جدي وجديد ومجدود : أي ذو حظ فيما هو فيه ، ومنه قول حاتم الطائي :
أغزوا بني ثعل فالغزو جدكم عدوا الروابي ولا تبكوا لمن قتلا
وقال آخر :
يرفع جدك إني أمرؤ سقتني إليك الأعادي سجالا
وقوله " ما اتخذ صاحبة " يعني زوجة " ولا ولدا " .
واختلفت القراء في قراءة قوله " وأنه تعالى " فقرأه أبو جعفر القارئ وستة أحرف أخر بالفتح منها ( أنه استمع نفر وأن المساجد لله وأنه كان يقول سفيهنا وأنه كان رجال من الإنس وأنه لما قام عبد الله يدعوه وأن لو استقاموا على الطريقة ) وكان نافع يكسرها إلا ثلاثة أحرف : أحدهما " قل أوحي إلي أنه استمع نفر " والثانية " وألو استقاموا " [ الجن : 16 ] ، والثالثة " وأن المساجد لله " [ الجن : 18 ] ، وأما قراء الكوفة غير عاصم ، فإنهم يفتحون جميع ما في آخر سورة النجم وأول سورة الجن إلا قوله " فقالوا إنا سمعنا " ، وقوله " قل إنما أدعو ربي " وما بعده إلى آخر السورة ، وأنهم يكسرون ذلك غير قوله " ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم " [ الجن : 20 ] ، وأما عاصم ، فإنه كان يكسر جميعها إلا قوله " وأن المساجد لله " [ الجن : 18 ] ، فإنه كان يفتحها ، وأما أبو عمرو ، فإنه كان يكسر جميعها إلا قوله " وألو استقاموا على الطريقة " [ الجن : 16 ] ، فإنه كان يفتح هذه وما بعدها ، فأما الذين فتحوا جميعها إلا في موضع القول ، كقوله " فقالوا إنا سمعنا " [ الجن : 1 ] ، وقوله " قل إنما أدعو ربي " [ الجن : 20 ] ، ونحو ذلك ، فإنهم عطفوا أن في كل السورة على قوله فآمنا به ، وآمنا بكل ذلك ، ففتحوها بوقوع الإيمان عليها ، وكان الفراء يقول : لا يمنعنك أن تجد الإيمان يقبح في بعض ذلك من الفتح ، وأن الذي يقبح مع ظهور الإيمان قد يحسن فيه فعل مضارع للإيمان ، فوجب فتح أن كما قالت العرب :
إذا ما الغانيات برزن يوماً وزججن الحواجب والعيوبا
فنصب العيون لإتباعها الحواجب ، وهي لا تزعج ، وإنما تكحل ، فأضمر لها الكحل ، كذلك يضمر في الموضع الذي لا يحسن فيه آمنا صدقنا وآمنا وشهدنا ، قال : وبقول النصب قوله ( وأن لو استقاموا على الطريقة ) [ الجن : 16 ] ، فينبغي لمن كسر أن يحذف ( أن ) من ( لو ) لأن ( أن ) إذا خففت لم تكن حكاية ، ألا ترى أنك تقول : أقول لو فعلت لفعلت ، ولا تدخل ( أن ) ، وأما الذين كسروها كلهم وهم في ذلك يقولون ( وأن لو استقاموا ) [ الجن : 16 ] ، فكأنهم أضمروا يميناً مع ( لو ) وقطعوها عن النسق على أول الكلام ، فقالوا : والله أن لو استقاموا ، قال : والعرب تدخل ( أن ) في هذا الموضع مع اليمين وتحذفها ، قال الشاعر :
فأقسم لو شيء أتانا رسوله سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
قال : وأنشدنا آخر :
أما والله أن لو كنت حراً وما بالحر أنت ولا العتيق
وأدخل ( أن ) من كسرها كلها ، ونصب ( وإن المساجد لله ) الجن : 18 ] ، فإنه خص ذلك بالوحي ، وجعل " وألو " مضمرة فيها اليمين على ما وصفت ، وأما نافع فإن ما فتح من ذلك فإنه رده على قوله " أوحي إلي " وما كسره فإنه جعله من قول الجن ، وأحب ذلك إلي أن أقرأ به الفتح فيما كان وحياً ، والكسر فيما كان من قول الجن ، لأن ذلك أفصحها في العربية ، وأبينها في المعنى ، وإن كان للقراءات الأخر وجوه غير مدفوعة صحتها .
قوله تعالى : " وأنه تعالى جد ربنا" كان علقمة ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وابن عامر وخلف وحفص والسلمي ينصبون ((أن)) في جميع السورة في اثني عشر موضعاً، وهو : " وأنه تعالى جد ربنا" ، " وأنه كان يقول" ، " وأنا ظننا " ، و"أنه كان رجال" ، " وأنهم ظنوا" ، " وأنا لمسنا السماء" ، "وأنا كنا نقعد"، " وأنا لا ندري "، " وأنا منا الصالحون" ، "وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض" ، " وأنا لما سمعنا الهدى" ،" وأنا منا المسلمون" ، عطفاً على قوله :" أنه استمع نفر" ، " أنه استمع" لا يجوز فيه إلا الفتح، لأنها في موضع اسم فاعل (( أوحي )) فما بعده معطوف عليه. وقيل : هو محمول على الهاء في ((آمنا به)) أي وب ((أنه تعالى جد ربنا)) وجاز ذلك هو مضمر مجرور لكثرة حرف الجار مع ((أن)). وقيل : المعنى أي وصدقنا أنه جد ربنا. وقرأ الباقون كلها بالكسر وهو الصواب، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم عطفاً على قوله : " فقالوا إنا سمعنا" لأنه كله من كلام الجن. واما جعفر وشيبة فإنهما فتحا ثلاثة مواضع، وهي قوله تعالى : " وأنه تعالى جد ربنا" ، "وأنه كان يقول" ، " وأنه كان رجال " ، قالا : لأنه من الوحي، وكسرا ما بقي، لأنه من كلام الجن. واما قوله تعالى " وأنه لما قام عبد الله" فكلهم فتحوا إلا نافعاً وشيبة وزر بن حبيش وأبا بك والمفضل عن عاصم، فإنهم كسروا لا غير. ولا خلاف في فتح همزة " أنه استمع نفر من الجن"، " لو استقاموا " " وأن المساجد لله" ، " أن قد أبلغوا" . وكذلك لا خلاف في كسر ما بعد القول، نحو قوله تعالى" فقالوا إنا سمعنا" و" قل إنما أدعو ربي"[الجن : 20] و " قل إن أدري " و " قل إني لا أملك" [ الجن: 21] وكذلك لا خلاف في كسر ما كان بعد فاء الجزاء، نحو قوله تعالى: " فإن له نار جهنم" [ الجن: 23] و" فإنه يسلك من بين يديه" لأنه موضع ابتداء.
قوله تعالى: " وأنه تعالى جد ربنا" الجد في اللغة : العظمة والجلال، ومنه قول أنس: كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في عيوننا، أي عظم وجل. فمعنى: ((جد ربنا)) أي عظمته وجلاله، قاله عكرمة ومجاهد وقتادة. ومنه قيل للحظ : جد، ورجل مجدود أي محظوظ، وفي الحديث:
" ولا ينفع ذا الجد منك الجد " قال أبو عبيدة والخليل : أي ذا الغنى، منك الغنى، إنما تنفعه الطاعة. وقال ابن عباس : قدرته. الضحاك: فعله. وقال القرظي والضحاك أيضاً : آلاؤه ونعمه على خلقه. وقال أبو عبيدة والخفش : ملكه وسلطانه.
وقال السدي : امره. وقال سعيد بن جبير : " وأنه تعالى جد ربنا" أي تعالى ربنا. وقيل: إنهم عنوا بذلك الجد الذي هو أب الأب، ويكون هذا من قول الجن. وقال محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر الصادق والربيع : ليس لله تعالى جد. وإنما قالته الجن للجهالة، فلم يؤاخذوا به. وقال القشيري: ويجوز إطلاق لفظ الجد في حق الله تعالى، إذ لو لم يجز لما ذكر القرآن، غير انه لفظ موهم، فتجنبه أولى. وقراءة عكرمة (جد) لكر الجيم: على ضد الهزل. وكذلك قرا أبو حيوة ومحمد بن السميقع. ويروى عن ابن السميقع أيضاً وأبي الأشهب ((جد ربنا) وهو الجدوى والمنفعة. وقرأ عكرمة أيضاً ((جد)) بالتنوين ( ربنا) بالرفع على أنه مرفوع، بـ((تعالى)) و ((جد)) منصوب على التمييز. وعن عكرمة أيضاً (( جد )) بالتنوين والرفع (( ربنا)) بالرفع على تقدير: تعالى جد جد ربنا، فجد الثاني بدل من الأول وحذف وأقيم المضاف إليه مقامه. ومعنى الاية : وأنه تعالى جلال ربنا أن يتخذ صاحبة وولداً للاستئناس بهما والحاجة إليهما، والرب يتعالى عن الأنداد والنظراء.
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر قومه أن الجن استمعوا القرآن, فآمنوا به وصدقوه وانقادوا له, فقال تعالى: "قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً * يهدي إلى الرشد" أي إلى السداد والنجاح "فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً" وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: "وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن" وقد قدمنا الأحاديث الواردة في ذلك بما أغنى عن إعادته ههنا.
وقوله تعالى: "وأنه تعالى جد ربنا" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: "جد ربنا" أي فعله وأمره وقدرته. وقال الضحاك عن ابن عباس : جد الله آلاؤه وقدرته ونعمته على خلقه, وروي عن مجاهد وعكرمة : جلال ربنا, وقال قتادة : تعالى جلاله وعظمته وأمره, وقال السدي : تعالى أمر ربنا: وعن أبي الدرداء ومجاهد أيضاً وابن جريج : تعالى ذكره وقال سعيد بن جبير : "تعالى جد ربنا" أي تعالى ربنا, فأما ما رواه ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرى , حدثنا سفيان عن عمرو , عن عطاء , عن ابن عباس , قال: الجد أب ولو علمت الجن أن في الإنس جداً ما قالوا تعالى جد ربنا, فهذا إسناد جيد ولكن لست أفهم ما معنى هذا الكلام ولعله قد سقط شيء والله أعلم.
وقوله تعالى: "ما اتخذ صاحبة ولا ولداً" أي تعالى عن اتخاذ الصاحبة والأولاد, أي قالت الجن: تنزه الرب جل جلاله حين أسلموا وآمنوا بالقرآن عن اتخاذ الصاحبة والولد ثم قالوا "وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططاً" قال مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي "سفيهنا" يعنون إبليس "شططاً" قال السدي عن أبي مالك : "شططاً" أي جوراً, وقال ابن زيد : أي ظلماً كبيراً ويحتمل أن يكون المراد بقولهم سفيهنا اسم جنس لكل من زعم أن لله صاحبة أو ولداً, ولهذا قالوا "وأنه كان يقول سفيهنا" أي قبل إسلامه "على الله شططاً" أي باطلاً وزوراً, ولهذا قالوا "وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً" أي ما حسبنا أن الإنس والجن يتمالؤون على الكذب على الله تعالى في نسبة الصاحبة والولد إليه, فلما سمعنا هذا القرآن وآمنا به علمنا أنهم كانوا يكذبون على الله في ذلك.
وقوله تعالى: "وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً" أي كنا نرى أن لنا فضلاً على الإنس لأنهم كانوا يعوذون بنا إذا نزلوا وادياً أو مكاناً موحشاً من البراري وغيرها, كما كانت عادة العرب في جاهليتها يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان أن يصيبهم بشيء يسوؤهم, كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير وذمامه وخفارته, فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقاً أي خوفاً وإرهاباً وذعراً حتى بقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذاً بهم, كما قال قتادة "فزادوهم رهقاً" أي إثماً وازدادت الجن عليهم جراءة. وقال السدي : كان الرجل يخرج بأهله فيأتي الأرض فينزلها فيقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من الجن أن أضر أنا فيه أو مالي أو ولدي أو ماشيتي, قال قتادة : فإذا عاذ بهم من دون الله رهقتهم الجن الأذى عند ذلك.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان , حدثنا وهب بن جرير , حدثنا أبي , حدثنا الزبير بن الخريت عن عكرمة قال: كان الجن يفرقون من الإنس كما يفرق الإنس منهم أو أشد, فكان الإنس إذا نزلوا وادياً هرب الجن فيقول سيد القوم نعوذ بسيد أهل هذا الوادي, فقال الجن نراهم يفرقون منا كما نفرق منهم فدنوا من الإنس فأصابوهم بالخبل والجنون, فذلك قول الله عز وجل: "وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً" أي إثماً. وقال أبو العالية والربيع وزيد بن أسلم "رهقاً" أي خوفاً وقال العوفي عن ابن عباس "فزادوهم رهقاً" أي إثماً, وكذا قال قتادة وقال مجاهد : زاد الكفار طغياناً.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا فروة بن أبي المغراء الكندي , حدثنا القاسم بن مالك ـ يعني المزني ـ عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبيه عن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي من المدينة في حاجة وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة, فآوانا المبيت إلى راعي غنم, فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملاً من الغنم فوثب الراعي فقال: يا عامر الوادي جارك, فنادى مناد لا نراه يقول: يا سرحان أرسله. فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة. وأنزل الله تعالى على رسوله بمكة "وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً" ثم قال: وروي عن عبيد بن عمير ومجاهد وأبي العالية والحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي نحوه وقد يكون هذا الذئب الذي أخذ الحمل, وهو ولد الشاة, كان جنياً حتى يرهب الإنسي ويخاف منه, ثم رده عليه لما استجار به ليضله ويهينه ويخرجه عن دينه والله أعلم. وقوله تعالى: "وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً" أي لن يبعث الله بعد هذه المدة رسولاً, قاله الكلبي وابن جرير .
3- "وأنه تعالى جد ربنا" قرأة حمزة والكسائي وابن عامر وحفص وعلقمة ويحيى بن وثاب والأعمش وخلف والسلمي "وأنه تعالى" بفتح أن، وكذا قرأوا فيما بعدها مما هو معطوف عليها، وذلك أحد عشر موضوعاً إلى قوله: "وأنه لما قام عبد الله" وقرأ الباقون بالكسر في هذه المواضع كلها إلا في قوله: " وأن المساجد لله " فإنهم اتفقوا على الفتح، أما من قرأ بالفتح في هذه المواضع، فعلى العطف على محل الجار والمجرور في "فآمنا به" كأنه قيل فصدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا الخ، وأما من قرأ بالكسر في هذه المواضع فعلى العطف على إنا سمعنا: فقالوا: إنا سمعنا قرآنا، وقالوا إنه تعالى جد ربنا إلى آخره. واختار أبو حاتم وأبو عبيد قراءة الكسر لأنه كله من كلام الجن ومما هو محكي عنهم بقوله "فقالوا إنا سمعنا". وقرأ أبو جعفر وشعبة بالفتح في ثلاثة مواضع، وهي "وأنه تعالى جد ربنا".
3- "وأنه تعالى جد ربنا"، قرأ أهل الشام والكوفة غير أبي بكر عن عاصم: "وأنه تعالى" بفتح الهمزة وكذلك ما بعده إلى قوله: "وأنا منا المسلمون"، وقرأ الآخرون بكسرهن، وفتح أبو جعفر منها "وأنه" وهو ما كان مردوداً إلى الوحي، وكسر ما كان حكاية عن الجن.
والاختيار كسر الكل لأنه من قول الجن لقومهم فهو معطوف على قوله: "فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً"، وقالوا: "وأنه تعالى".
ومن فتح رده على قوله: "فآمنا به" وآمنا بكل ذلك، ففتح أن لوقوع الإيمان عليه.
"جد ربنا"، جلال ربنا وعظمته، قاله مجاهد وعكرمة وقتادة. يقال: جد الرجل، أي: عظم، ومنه قول أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا، أي: عظم قدره.
وقال السدي: "جد ربنا" أي أمر ربنا. وقال الحسن: غنى ربنا. ومنه قيل للجد: حظ، ورجل مجدود.
وقال ابن عباس: قدرة ربنا. قال الضحاك: فعله.
وقال القرظي: آلاؤه ونعماؤه على خلقه.
وقال ألأخفش: علا ملك ربنا، "ما اتخذ صاحبةً ولا ولداً"، قيل: تعالى جل جلاله وعظمته عن أن يتخذ صاحبةً أو ولداً.
3-" وأنه تعالى جد ربنا " قرأه ابن كثير و البصريان بالكسر على أنه من جملة المحكي بعد القول ، وكذا ما بعده إلا قوله : " وألو استقاموا " . " وأن المساجد " ، " وأنه لما قام " فإنها من جملة الموحى به ووافقهم نافع و أبو بكر إلا في قوله :" وأنه لما قام " على استئناف أو مقول ، وفتح الباقون الكل إلا ما صدر بالفاء على أن ما كان من قولهم فمعطوف على محل الجار والمجرور في " به " كأنه قيل : صدقنا " أنه تعالى جد ربنا " أي عظمته من جد فلان في عيني إذا عظم ، أو سلطانه أو غناه مستعار من الجد الذي هو البخت ، والمعنى وصفه بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته أو لسلطانه أو لغناه وقوله : " ما اتخذ صاحبةً ولا ولداً " بيان لذلك ، وقرئ جداً على التمييز " جد ربنا " بالكسر أي صدق ربوبيته ، كأنهم سمعوا من القرآن ما نبههم على خطأ ما اعتقدوه من الشرك واتخاذ الصاحبة والولد .
3. And (we believe) that He, exalted be the glory of our Lord! hath taken neither wife nor son,
3 - And exalted is the Majesty of our Lord: He has taken neither a wife nor a son.