[الأعراف : 150] وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
150 - (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان) من جهتهم (أسفاً) شديد الحزن (قال) لهم (بئسما) أي بئس خلافة (خلفتمونيـ) ـها (من بعدي) خلافتكم هذه حيث أشركتم (أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح) ألواح التوراة غضباً لربه فتكسرت (وأخذ برأس أخيه) أي بشعره بيمنيه ولحيته بشماله (يجره إليه) غضباً (قال) يا ( ابن أمِّ) بكسر الميم وفتحها ، أراد أمي وذكرها أعطف لقلبه (إن القوم استضعفوني وكادوا) قاربوا (يقتلونني فلا تشمت) تفرح (بي الأعداء) بإهانتك إياي (ولا تجعلني مع القوم الظالمين) بعبادة العجل في المؤاخذة
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولما رجع موسى إلى قومه من بني إسرائيل، رجع غضبان أسفاً، لأن الله كان قد أخبره أنه قد فتن قومه، وأن السامري قد أضلهم، فكان رجوعه غضبان أسفاً لذلك.
و((الأسف)) شدة الغضب، والتغيظ به على من أغضبه، كما:
حدثني عمران بن بكار الكلاعي قال، حدثنا عبد السلام بن محمد الحضرمي قال، حدثني شريح بن يزيد قال، سمعت نصر بن علقمة يقول: قال أبو الدرداء : قول الله: " غضبان أسفا "، قال: ((الأسف))، منزلة وراء الغضب، أشد من ذلك، وتفسير ذلك في كتاب الله: ذهب إلى قومه غضبان، وذهب أسفاً.
وقال آخرون في ذلك ما:
حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي : " أسفا " قال: حزيناً.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: " ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا "، يقول: ((أسفاً))، حزيناً، وقال في ((الزخرف)): " فلما آسفونا " [الزخرف: 55]، يقول: أغضبونا، و((الأسف))، على وجهين: الغضب، والحزن.
حدثنا نصر بن علي قال، حدثنا سليمان بن سليمان قال، حدثنا مالك بن دينار قال، سعت الحسن يقول في قوله: " ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا "، قال: غضبان حزيناً.
وقوله: " قال بئسما خلفتموني من بعدي "، يقول: بئس الفعل فعلتم بعد فراقي إياكم وأوليتموني فيمن خلفت ورائي من قومي فيكم، وديني الذي أمرك به ربكم.
يقال منه: ((خلفه بخير))، و((خلفه بشر))، إذا أولاه في أهله أو قومه ومن كان منه بسبيل من بعد شخوصه عنهم، خيراً أو شراً.
وقوله: " أعجلتم أمر ربكم "، يقول: أسبقتم أمر ربكم في نفوسكم وذهبتم عنه؟
يقال منه: ((عجل فلان هذا الأمر))، إذا سبقه، و((عجل فلان فلاناً))، إذا سبقه، و((لا تعجلني يا فلان))، لا تذهب عني وتدعني، و((أعجلته))، استحثثته.
القول في تأويل قوله: " وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين ".
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وألقى موسى الألواح. ثم اختلف أهل العلم في سبب إلقائه إياها.
فقال بعضهم: ألقاها غضباً على قومه الذين عبدوا العجل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا الأصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب قال، حدثني سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: لما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً، فأخذ برأس أخيه يجره إليه، وألقى الألواح من الغضب.
وحدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا ابن عيينة قال، قال أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما رجع موسى إلى قومه، وكان قريباً منهم، سمع أصواتهم، فقال: إني لأسمع أصوات قوم لاهين. فلما عاينهم وقد عكفوا على العجل، ألقى الألواح فكسرها، وأخذ برأس أخيه يجره إليه.
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أخذ موسى الألواح، ثم رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً، فقال: " يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا "، إلى قوله: " فكذلك ألقى السامري " [طه: 86 - 87]، فألقى موسى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه " قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي " [طه: 94].
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق قال: لما انتهى موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، ألقى الألواح من يده، ثم أخذ برأس أخيه ولحيته، ويقول: " ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * أن لا تتبعن أفعصيت أمري " [طه: 92 - 93].
وقال آخرون: إنما ألقى موسى الألواح لفضائل أصابها فيها لغير قومه، فاشتد ذلك عليه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " أخذ الألواح " [الأعراف: 154]، قال: رب، إني أجد في الألواح أمةً خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة محمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون - أي آخرون في الخلق - السابقون في دخول الجنة، رب اجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرأونها - وكان من قبلهم يقرأون كتابهم نظراً، حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئاً، ولم يعرفوه. قال قتادة : وإن الله أعطاكم أيتها الأمة من الحفظ شيئاً لم يعطه أحداً من الأمم - قال: رب اجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر، ويقاتلون فضول الضلالة، حتى يقاتلوا الأعور الكذاب، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم، ثم يؤجرون عليها - وكان من قبلهم من الأمم إذا تصدق بصدقة فقبلت منه، بعث الله عليها ناراً فأكلتها، وإن ردت عليه تركت تأكلها الطير والسباع، قال: وإن الله أخذ صدقاتكم من غنيكم لفقيركم - قال: رب اجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمئة، رب اجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها، فإذا عملها كتبت عليه سيئة واحدة، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم المستجيبون والمستجاب لهم، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد، قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم المشفعون والمشفوع لهم، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد. قال: وذكر لنا أن نبي الله موسى عليه نبذ الألواح وقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد! قال: فأعطي نبي الله موسى عليه السلام ثنتين لم يعطهما نبي، قال الله: " يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي " [الأعراف: 143]. قال: فرضي نبي الله، ثم أعطي الثانية: " ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " [الأعراف: 159]، قال: فرضي نبي الله صلى الله عليه وسلم كل الرضى.
حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: لما أخذ موسى الألواح قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة هم خير الأمم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: يارب إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون يوم القيامة، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد. ثم ذكر نحو حديث بشر بن معاذ، إلا أنه قال في حديثه: فألقى موسى عليه السلام الألواح، وقال: اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليهما.
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك، أن يكون سبب إلقاء موسى الألواح كان من أجل غضبه على قومه لعبادتهم العجل، لأن الله جل ثناؤه بذلك أخبر في كتابه فقال: " ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه ".
وذكر أن الله لما كتب لموسى عليه السلام في الألواح التوراة، أدناه منه حتى سمع صريف القلم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن السدي ، عن أبي عمارة، عن علي عليه السلام قال: كتب الله الألواح لموسى عليه السلام، وهو يسمع صريف الأقلام في الألواح.
... قال حدثنا إسرائيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: أدناه حتى سمع صريف الأقلام.
وقيل: إن التوراة كانت سبعة أسباع، فلما ألقى موسى الألواح تكسرت، فرفع منها ستة أسباعها، وكان فيما رفع ((تفصيل كل شيء))، الذي قال الله: " وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء "، وبقي الهدى والرحمة في السبع الباقي، وهو الذي قال الله: " أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون " [الأعراف: 154].
وكانت التوراة فيما ذكر سبعين وقر بعير، يقرأ منها الجزء في سنة، كما:
حدثني المثنى قال، حدثنا محمد بن خالد المكفوف قال، حدثنا عبد الرحمن، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس قال: أنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير، يقرأ منها الجزء في سنة، لم يقرأها إلا أربعة نفر: موسى بن عمران، وعيسى، وعزير، ويوشع بن نون، صلوات الله عليهم.
واختلفوا في " الألواح ".
فقال بعضهم: كانت من زمرد أخضر.
وقال بعضهم: كانت من ياقوت.
وقال بعضهم: كانت من برد.
ذكر الرواية بما ذكرنا من ذلك.
حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي قال، حدثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ألقى موسى الألواح فتكسرت، فرفعت إلا سدسها. قال ابن جريج : وأخبرني أن الألواح من زبرجد وزمرد من الجنة.
وحدثني موسى بن سهل الرملي، وعلي بن داود، وعبد الله بن أحمد بن شبويه، وأحمد بن الحسن الترمذي قالوا، أخبرنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر عن الربيع، عن أبي العالية قال: كانت ألواح موسى عليه السلام من برد.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن أبي الجنيد، عن جعفر بن أبي المغيرة قال: سألت سعيد بن جبير عن الألواح، من أي شيء كانت؟ قال: كانت من ياقوتة، كتابة الذهب، كتبها الرحمن بيده، فسمع أهل السموات صريف القلم وهو يكتبها.
حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم، حدثنا عبد الرحمن، عن محمد بن أبي الوضاح، عن خصيف، عن مجاهد أو سعيد بن جبير قال: كانت الألواح زمرداً، فلما ألقى موسى الألواح بقي الهدى والرحمة، وذهب التفصيل.
قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا الأشجعي، عن محمد بن مسلم، عن خصيف، عن مجاهد قال: كانت الألواح من زمرد أخضر.
وزعم بعضهم: أن الألواح كانت لوحين.
فإن كان الذي قال كما قال، فإنه قيل: " وكتبنا له في الألواح "، وهما لوحان، كما قيل: " فإن كان له إخوة " [النساء: 11]، وهما أخوان.
وأما قوله: " وأخذ برأس أخيه يجره إليه "، فإن ذلك من فعل نبي الله صلى الله عليه وسلم كان، لموجدته على أخيه هرون في تركه أتباعه، وإقامته مع بني إسرائيل في الموضع الذي تركهم فيه، كما قال جل ثناؤه مخبراً عن قيل موسى عليه السلام له: " ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * أن لا تتبعن أفعصيت أمري " [طه: 92 -93]، حين أخبره هرون بعذره فقبل عذره، وذلك قيله لموسى: " لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي " [طه: 94]، وقال: " ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء "، الآية.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: " يا ابن أم ".
فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض أهل البصرة: " يا ابن أم "، بفتح ((الميم)) من ((الأم)).
وقرأ ذلك عامة أهل الكوفة: ((ابن أم))، بكسر ((الميم)) من ((الأم)).
واختلف أهل العربية في فتح ذلك وكسره، مع إجماع جميعهم على أنهما لغتان مستعملتان في العرب.
فقال بعض نحويي البصرة: قيل ذلك بالفتح، على أنهما اسمان جعلا اسماً واحداً، كما قيل: ((يا ابن عم))، وقال: هذا شاذ لا يقاس عليه. وقال: من قرأ ذلك: ((يا ابن أم))، فهو على لغة الذين يقولون: ((هذا غلام قد جاء))، جعله اسماً واحداً آخره مكسور، مثل قوله: ((خاز باز)).
وقال بعض نحويي الكوفة: قيل ((يا ابن أم)) و((يا ابن عم))، فنصب كما ينصب المعرب في بعض الحالات، فيقال: ((يا حسرتا))، ((يا ويلتا)). قال: فكأنهم قالوا: ((يا أماه))، و((يا عماه))، ولم يقولوا ذلك في ((أخ))، ولو قيل ذلك لكان صواباً. قال: والذين خفضوا ذلك، فإنه كثر في كلامهم حتى حذفوا الياء. قال: ولا تكاد العرب تحذف ((الياء)) إلا من الاسم المنادى يضيفه المنادي إلى نفسه، إلا قولهم: ((يا ابن أم)) و((يا ابن عم))، وذلك أنهما يكثر استعمالهما في كلامهم، فإذا جاء ما لا يستعمل أثبتوا ((الياء)) فقالوا: ((يا ابن أبي)) و((يا ابن أختي، وأخي)) و((يا ابن خالتي))، و((يا ابن خالي)).
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إذا فتحت ((الميم)) من " ابن أم " فمراد به الندبة: يا ابن أماه، وكذلك من ((ابن عم)). فإذا كسرت فمراد به الإضافة، ثم حذفت ((الياء)) التي هي كناية اسم المخبر عن نفسه. وكأن بعض من أنكر تشبيه كسر ذلك إذا كسر ككسر الزاي من ((خازباز))، لأن ((خازباز)) لا يعرف الثاني إلا بالأول، ولا الأول إلا بالثاني، فصار كالأصوات.
وحكي عن يونس الجرمي تأنيث ((أم)) وتأنيث ((عم))، وقال: لا يجعل اسماً واحداً إلا مع ((ابن)) المذكر. قالوا: وأما اللغة الجيدة والقياس الصحيح، فلغة من قال: ((يا ابن أمي)) بإثبات ((الياء))، كما قال أبو زبيد:
يا ابن أمي، ويا شقيق نفسي أنت خلفتني لدهر شديد
وكما قال الآخر:
يا ابن أمي! ولو شهدتك إذ تد عو تميماً وأنت غير مجاب
وإنما أثبت هؤلاء الياء في ((الأم))، لأنها غير مناداة، وإنما هو ((الابن)) دونها. وإنما تسقط العرب ((الياء)) من المنادى إذا أضافته إلى نفسها، لا إذا أضافته إلى غير نفسها، كما قد بينا.
وقيل: إن هرون إنما قال لموسى عليه السلام: " يا ابن أم "، ولم يقل: ((يا ابن أبي))، وهما لأب واحد وأم واحدة، استعطافاً له على نفسه برحم الأم.
وقوله: " إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني "، يعني بالقوم، الذين عكفوا على عبادة العجل وقالوا: ((هذا إلهنا وإله موسى))، وخالفوا هرون. وكان استضعافهم إياه: تركهم طاعته واتباع أمره. " وكادوا يقتلونني "، يقول: قاربوا ولم يفعلوا.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: " فلا تشمت ".
فقرأ قرأة الأمصار ذلك: " فلا تشمت بي الأعداء "، بضم ((التاء)) من ((تشمت)) وكسر ((الميم)) منها، من قولهم: ((أشمت فلان فلاناً بفلان))، إذا سره فيه بما يكرهه المشمت به.
وروي عن مجاهد أنه قرأ ذلك: ((فلا تشمت بي الأعداء)).
حدثني بذلك عبدالكريم قال حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، قال حميد بن قيس: قرأ مجاهد : ((فلا تشمت بي الأعداء)).
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة ، عن حميد قال: قرأ مجاهد : ((فلا تشمت بي الأعداء)).
حدثت عن يحيى بن زياد الفراء قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن رجل، عن مجاهد ، أنه قال: ((لا تشمت)).
وقال الفراء : قال الكسائي : ما أدري، فلعلهم أرادوا: فلا تشمت بي الأعداء، فإن تكن صحيحة فلها نظائر. العرب تقول: ((فرغت وفرغت))، فمن قال ((فرغت))، قال: ((أنا أفرغ))، ومن قال: ((فرغت))، قال: ((أنا أفرغ))، وكذلك: ((ركنت)) ((وركنت))، و((شملهم أمر)) و((شملهم))، في كثير من الكلام. قال: و((الأعداء)) رفع، لأن الفعل لهم، لمن قال: ((تشمت)) أو ((تشمت)).
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز القراءة إلا بها، قراءة من قرأ: " فلا تشمت ": بضم ((التاء)) الأولى، وكسر ((الميم)) من: ((أشمت به عدوه أشمته به))، ونصب ((الأعداء))، لإجماع الحجة من قرأة الأمصار عليها، وشذوذ ما خالفها من القراءة، وكفى بذلك شاهداً على ما خالفها. هذا مع إنكار معرفة عامة أهل العلم بكلام العرب: ((شمت فلان فلاناً بفلان))، و((شمت فلان بفلان يشمت به))، وإنما المعروف من كلامهم إذا أخبروا عن شماتة الرجل بعدوه: ((شمت به)) بكسر ((الميم)): ((يشمت به))، بفتحها في الاستقبال.
وأما قوله: " ولا تجعلني مع القوم الظالمين "، فإنه قول هرون لأخيه موسى. يقول: لا تجعلني في موجدتك علي وعقوبتك لي ولم أخالف أمرك، محل من عصاك فخالف أمرك، وعبد العجل بعدك، فظلم نفسه، وعبد غير من له العبادة، ولم أشايعهم على شيء من ذلك، كما:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : " ولا تجعلني مع القوم الظالمين "، قال: أصحاب العجل.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ، بمثله.
قوله تعالى: "ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا" لم ينصرف غضبان لأن مؤنثه غضبى، ولأن الألف والنون فيه بمنزلة ألفي التأنيث في قولك حمراء. وهو نصب على الحال. وأسفاً شديد الغضب. قال أبو الدرداء: الأسف منزلة وراء الغضب أشد من ذلك.وهو أسف وأسيف وأسفان وأسوف. والأسيف أيضاً الحزين. ابن عباس والسدي: رجع حزيناً من صنيع قومه. وقال الطبري: أخبره الله عز وجل قبل رجوعه أنهم قد فتنوا بالعجل، فلذلك رجع وهو غضبان. ابن العربي: وكان موسى عليه السلام من أعظم الناس غضباً، لكنه كان سريع الفيئة، فتلك بتلك. قال ابن القاسم: سمعت مالكاً يقول: كان موسى عليه السلام إذا غضب طلع الدخان من قلنسوته، ورفع شعر بدنه جبته. وذلك أن الغضب جمرة تتوقد في القلب. ولأجله أمر النبي صلى الله عليه وسلم من غضب أن يضطجع. فإن لم يذهب غضبه اغتسل: فيخمدها اضطجاعه ويطفئها اغتساله. وسرعة غضبه كان سبباً لصكه ملك الموت ففقأ عينه. وقد تقدم في المائدة ما للعلماء في هذا. وقال الترمذي الحكيم: وإنما استجاز موسى عليه السلام ذلك لأنه كليم الله، كأنه رأى أن من اجترأ عليه أو مد إليه يدا بأذىً فقد عظم الخطب فيه. ألا ترى أنه احتج عليه فقال:من أين تنزع روحي؟ أمن فمي وقد ناجيت به ربي! أم من سمعي وقد سمعت به كلام ربي! أم من يدي وقد قبضت منه الألواح! أم من قدمي وقد قمت بين يديه أكلمه بالطور! أم من عيني وقد أشرق وجهي لنوره. فرجع إلى ربه مفحماً. وفي مصنف أبي داود "عن أبي ذر قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا:
إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع". وروي أيضاً "عن أبي وائل القاص قال: دخلنا على عروة بن محمد السعدي فكلمه رجل فأغضبه، فقام ثم رجع وقد توضأ، فقال: حدثني أبي عن جدي عطية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ".
قوله تعالى: "بئسما خلفتموني من بعدي" ذم منه لهم، أي بئس العمل عملتم بعدي. يقال: خلفه، بما يكره. ويقال في الخير أيضاً. يقال منه: خلفه بخير أو بشر في أهله وقومه بعد شخوصه. "أعجلتم أمر ربكم" أي سبقتموه. والعجلة: التقدم بالشيء قبل وقته، وهي مذمومة. والسرعة: عمل الشيء في أول أوقاته، وهي محمودة. قال يعقوب: يقال عجلت الشيء سبقته. وأعجلت الرجل استعجلته، أي حملته على العجلة. ومعنى أمر ربكم أي ميعاد ربكم، أي وعد أربعين ليلة. وقيل: أي تعجلتم سخط ربكم. وقيل: أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر من ربكم.
قوله تعالى: "وألقى الألواح" فيه مسألتان:
الأولى- قوله تعالى: "وألقى الألواح" أي مما اعتراه من الغضب والأسف حين أشرف على قومه وهم عاكفون على عبادة العجل، وعلى أخيه في إهمال أمرهم، قال سعيد بن جبير. ولهذا قيل: ليس الخبر كالمعاينة. ولا التفات لما روي عن قتادة إن صح عنه، ولا يصح: أن إلقاءه الألواح إنما كان لما رأى فيها من فضيلة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن ذلك لأمته. وهذا قول رديء لا ينبغي أن يضاف إلى موسى صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه أن الألواح تكسرت، وأنه رفع منها التفصيل وبقي فيها الهدى والرحمة.
الثانية- وقد استدل بعض جهال المتصوفة بهذا على جواز رمي الثياب إذا اشتد طربهم على المغنى. ثم منهم من يرمي بها صحاحاً، ومنهم من يخرقها ثم يرمي بها. قال: هؤلاء في غيبة فلا يلامون، فإن موسى عليه السلام لما غلب عليه الغم بعبادة قومه العجل، رمى الألواح فكسرها، ولم يدر ما صنع. قال أبو الفرج الجوزي: من يصحح عن موسى عليه السلام أنه رماها رمي كاسر؟ والذي ذكر في القرآن ألقاها، فمن أين لنا أنها تكسرت؟ ثم لو قيل: تكسرت فمن أين لنا أنه قصد كسرها؟ ثم لو صححنا ذلك عنه قلنا كان في غيبة، حتى لو كان بين يديه بحر من نار لخاضه. ومن يصحح لهؤلاء غيبتهم وهم يعرفون المغنى من غيره، ويحذرون من بئر لو كانت عندهم. ثم كيف تقاس أحوال الأنبياء على أحوال هؤلاء السفهاء. وقد سئل ابن عقيل عن تواجدهم وتخريق ثيابهم فقال: خطأ وحرام، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال. فقال له قائل: فإنهم لا يعقلون ما يفعلون. فقال: إن حضروا هذه الأمكنة مع علمهم أن الطرب يغلب عليهم فيزيل عقولهم أثموا بما أدخلوه على أنفسهم من التخريق وغيره مما أفسدوا، ولا يسقط عنهم خطاب الشرع، لأنهم مخاطبون قبل الحضور بتجنب هذا الموضع الذي يفضي إلى ذلك. كما هم منهيون عن شرب المسكر، كذلك هذا الطرب الذي يسميه أهل التصوف وجداً إن صدقوا أن فيه سكر طبع، وإن كذبوا أفسدوا مع الصحو، فلا سلامة فيه مع الحالين، وتجنب مواضع الريب واجب.
قوله تعالى: "وأخذ برأس أخيه يجره إليه" أي بلحيته وذؤابته. وكان هارون أكبر من موسى -صلوات الله وسلامه عليهما- بثلاث سنين، وأحب إلى بني إسرائيل من موسى، لأنه كان لين الغضب.
وللعلماء في أخذ موسى برأس أخيه أربعة تأويلات:
الأول- أن ذلك كان متعارفاً عندهم، كما كانت العرب تفعله من قبض الرجل على لحية أخيه وصاحبه إكراماً وعظيماً، فلم يكن ذلك عن طريق الإذلال.
الثاني- أن ذلك إنما كان ليسر إليه نزول الألواح عليه، لأنها نزلت عليه في هذه المناجاة وأراد أن يخفيها عن بني إسرائيل قبل التوراة. فقال له هارون: لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، لئلا يشتبه سراره على بني إسرائيل بإذلاله.
الثالث- إنما فعل ذلك به لأنه وقع في نفسه أن هارون مائل مع بني إسرائيل فيما فعلوه من أمر العجل. ومثل هذا لا يجوز على الأنبياء.
الرابع- ضم إليه أخاه ليعلم ما لديه، فكره ذلك هارون لئلا يظن بنو إسرائيل أنه أهانه، فبين له أخوه أنهم استضعفوه، يعني عبدة العجل، وكادوا يقتلونه أي قاربوا. فلما سمع عذره قال، رب اغفر لي ولأخي، أي اغفر لي ما كان من الغضب الذي ألقيت من أجله الألواح، ولأخي لأنه ظنه مقصراً في الإنكار عليهم وإن لم يقع منه تقصير، أي اغفر لأخي إن قصر. قال الحسن: عبد كلهم العجل غير هارون، إذ لو كان ثم مؤمن غير موسى وهارون لما اقتصر على قوله: رب اغفر لي ولأخي، ولدعا لذلك المؤمن أيضاً. وقيل: استغفر لنفسه من فعله بأخيه، فعل ذلك لموجدته عليه، إذ لم يلحق به فيعرفه ما جرى ليرجع فيتلافاهم، ولهذا قال: " يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * أن لا تتبعن " [طه: 92-93] الآية. فبين هارون أنه إنما أقام خوفاً على نفسه من القتل. فدلت الآية على أن لمن خشي القتل على نفسه عند تغيير المنكر أن يسكت. وقد تقدم بيان هذا في آل عمران. ابن العربي: وفيها دليل على أن الغضب لا يغير الأحكام كما زعم بعض الناس، فإن موسى عليه السلام لم يغير غضبه شيئاً من أفعال، بل اطردت على مجراها من إلقاء لوح وعتاب أخ وصك ملك. المهدوي: لأن غضبه كان لله عز وجل، وسكوته عن بني إسرائيل خوفاً أن يتحاربوا ويتفرقوا.
قوله تعالى: "قال ابن أم" وكان ابن أمه وأبيه. ولكنها كلمة لين وعطف. قال الزجاج: قيل كان هارون أخا موسى لأمه لا لأبيه. وقرئ بفتح الميم وكسرها، فمن فتح جعل ابن أم اسماً واحداً كخمسة عشر، فصار كقولك: يا خمسة عشر أقبلوا. ومن كسر الميم جعله مضافاً إلى ضمير المتكلم ثم حذف ياء الإضافة، لأن مبنى النداء على الحذف، وأبقى الكسرة في الميم لتدل على الإضافة، كقوله: "يا عباد" [الزمر: 10]. يدل على قراءة ابن السميقع يابن أمي بإثبات الياء على الأصل. وقال الكسائي والفراء وأبو عبيد: يابن أم بالفتح، تقديره يابن أماه. وقال البصريون: هذا القول خطأ، لأن الألف خفيفة لا تحذف ولكن جعل الاسمين اسماً واحداً. وقال الأخفش وأبو حاتم: يابن أم بالكسر كما تقول: يا غلام غلام أقبل، وهي لغة شاذة والقراءة بها بعيدة. وإنما هذا فيما يكون مضافاً إليك، فأما المضاف إلى مضاف إليك فالوجه أن تقول: يا غلام غلامي، ويابن أخي. وجوزوا يابن أم، يابن عم، لكثرتها في الكلام. قال الزجاج والنحاس: ولكن لها وجه حسن جيد، يجعل الابن مع الأم ومع العم اسماً واحداً، بمنزلة قولك: يا خمسة عشر أقبلوا، فحذفت الياء كما حذفت من يا غلام "إن القوم استضعفوني" استذلوني وعدوني ضعيفاً. "وكادوا" أي قاربوا. "يقتلونني" بنونين، لأنه فعل مستقبل. ويجوز الإدغام في غير القرآن. "فلا تشمت بي الأعداء" أي لا تسرهم. والشماتة: السرور بما يصيب أخاك من المصائب في الدين والدنيا. وهي محرمة منهي عنها. وفي الحديث "عن النبي صلى الله عليه وسلم:
لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك". و"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ منها ويقول:
اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء ودرك الشقاء وشماتة الأعداء". أخرجه البخاري وغيره. وقال الشاعر:
إذا ما الدهر جر على أناس كلاكله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا
وقرأ مجاهد ومالك بن دينار تشمت بالنصب في التاء وفتح الميم، الأعداء بالرفع. والمعنى: لا تفعل بي ما تشمت من أجله الأعداء، أي لا يكون ذلك منهم لفعل تفعله أنت بي. وعن مجاهد أيضاً تشمت بالفتح فيهما الأعداء بالنصب. قال ابن جني: المعنى فلا تشمت بي أنت يا رب. وجاز هذا كما قال: "الله يستهزئ بهم" [البقرة: 15] ونحوه. ثم عاد إلى المراد فأضمر فعلاً نصب به الأعداء، كأنه قال: ولا تشمت بي، الأعداء. قال أبو عبيد: وحكيت عن حميد: فلا تشمت بكسر الميم. قال النحاس: ولا وجه لهذه القراءة، لأنه إن كان من شمت وجب أن يقول تشمت. وإن كان من أشمت وجب أن يقول تشمت وقوله: "ولا تجعلني مع القوم الظالمين" قال مجاهد: يعني الذين عبدوا العجل.
يخبر تعالى أن موسى عليه السلام لما رجع إلى قومه من مناجاة ربه تعالى وهو غضبان أسف قال أبو الدرداء الأسف أشد الغضب. "قال بئسما خلفتموني من بعدي" يقول بئس ما صنعتم في عبادة العجل بعد أن ذهبت وتركتكم, وقوله "أعجلتم أمر ربكم" يقول استعجلتم مجيئي إليكم وهو مقدر من الله تعالى. وقوله "وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه" قيل كانت الألواح من زمرد وقيل من ياقوت وقيل من برد وفي هذا دلالة على ما جاء في الحديث: "ليس الخبر كالمعاينة" ثم ظاهر السياق أنه إنما ألقى الألواح غضباً على قومه, وهذا قول جمهور العلماء سلفاً وخلفاً. وروى ابن جرير عن قتادة في هذا قولاً غريباً لا يصح إسناده إلى حكاية قتادة وقد رده ابن عطية وغير واحد من العلماء وهو جدير بالرد وكأنه تلقاه قتادة عن بعض أهل الكتاب وفيهم كذابون ووضاعون وأفاكون وزنادقة. وقوله "وأخذ برأس أخيه يجره إليه" خوفاً أن يكون قد قصر في نهيهم كما قال في الاية الأخرى " قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * أن لا تتبعن أفعصيت أمري * قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي " وقال ههنا "ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين" أي لا تسوقني سياقهم وتجعلني معهم وإنما قال: ابن أم ليكون أرق وأنجع عنده وإلا فهو شقيقه لأبيه وأمه فلما تحقق موسى عليه السلام براءة ساحة هارون عليه السلام كما قال تعالى: "ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري" فعند ذلك "قال" موسى "رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين" وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه عز وجل أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح".
قوله: 150- "ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً" هذا بيان لما وقع من موسى بعد رجوعه، وانتصاب غضبان و أسفاً على الحال، والأسف شديد الغضب. قيل: هو منزلة وراء الغضب أشد منه وهو أسف وأسيف وأسفان وأسوف، قال ابن جرير الطبري: أخبره الله قبل رجوعه بأنهم قد فتنوا، فلذلك رجع وهو غضبان أسفاً "قال بئسما خلفتموني من بعدي" هذا ذم من موسى لقومه: أي بئس العمل ما عملتموه من بعدي: أي من بعد غيبتي عنكم، يقال: خلفه بخير وخلفه بشر، استنكر عليهم ما فعلوه وذمهم لكونهم قد شاهدوا من الآيات ما يوجب بعضه الانزجار والإيمان بالله وحده، ولكن هذا شأن بني إسرائيل في تلون حالهم واضطراب أفعالهم، ثم قال منكراً عليهم: "أعجلتم أمر ربكم" والعجلة: التقدم بالشيء قبل وقته، يقال: عجلت الشيء سبقته وأعجلت الرجل حملته على العجلة، والمعنى: أعجلتم عن انتظار أمر ربكم: أي ميعاده الذي وعدنيه، وهو الأربعون ففعلتم ما فعلتم، وقيل معناه: تعجلتم سخط ربكم، وقيل معناه: أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم "وألقى الألواح" أي طرحها لما اعتراه من شدة الغضب والأسف حين أشرف على قومه وهم عاكفون على عبادة العجل. قوله: "وأخذ برأس أخيه يجره إليه" أي أخذ برأس أخيه هارون أو بشعر رأسه حال كونه يجره إليه: فعل به ذلك لكونه لم ينكر على السامري ولا غيره ما رآه من عبادة بني إسرائيل للعجل فقال هارون معتذراً منه: "ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني" أي إني لم أطق تغيير ما فعلوه لهذين الأمرين استضعافهم لي، ومقاربتهم لقتلي وإنما قال ابن أم مع كونه أخاه من أبيه وأمه، لأنها كلمة لين وعطف، ولأنها كانت كما قيل مؤمنة. وقال الزجاج: قيل كان هارون أخا موسى لأمه لا لأبيه. قرئ ابن أم بفتح الميم تشبيهاً له بخمسة عشر، فصار كقولك: يا خمسة عشر أقبلوا. وقال الكسائي والفراء وأبو عبيد: إن الفتح على تقدير يابن أما. وقال البصريون هذا القول خطأ: لأن الألف خفيفة لا تحذف، ولكن جعل الإسمين إسماً واحداً كخمسة عشر، واختاره الزجاج والنحاس. وأما من قرأ بكسر الميم فهو على تقدير ابن أمي، ثم حذفت الياء وأبقيت الكسرة لتدل عليها. وقال الأخفش وأبو حاتم: ابن أم بالكسر كما تقول: يا غلام أقبل، وهي لغة شاذة والقراءة بها بعيدة، وإنما هذا فيما يكون مضافاً إليك. وقرئ " ابن أم " بإثبات الياء. قوله: "فلا تشمت بي الأعداء" الشماتة: السرور من الأعداء بما يصيب من يعادونه مع المصائب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء ودرك الشقاء وجهد البلاء وشماتة الأعداء" وهو في الصحيح، ومنه قول الشاعر:
إذا ما الدهر جر على أناس كلاكله أناخ بآخــرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا
والمعنى: لا تفعل بي ما يكون سبباً للشماتة منهم. وقرأ مجاهد ومالك بن دينار "فلا تشمت بي الأعداء" بفتح حرف المضارعة وفتح الميم ورفع الأعداء على أن الفعل مسند إليهم: أي لا يكون ذلك منهم لفعل تفعله بي. وروي عن مجاهد أنه قرأ "تشمت" كما تقدم عنه مع نصب الأعداء. قال ابن جني: والمعنى فلا تشمت بي أنت يا رب وجاز هذا كما في قوله: "الله يستهزئ بهم" ونحوه ثم عاد إلى المراد فأضمر فعلاً نصب به الأعداء كأنه قال: ولا تشمت يا رب بي الأعداء، وما أبعد هذه القراءة عن الصواب وأبعد تأويلها عن وجوه الإعراب. قوله: "ولا تجعلني مع القوم الظالمين" أي لا تجعلني بغضبك علي في عداد القوم الظالمين: يعني الذين عبدوا العجل أو لا تعتقد أني منهم.
150 - قوله عز وجل " ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً " قال أبو الدرداء الأسف : شديد الغضب . وقال ابن عباس و السدي : أسفا أي حزيناً . والأسف أشد من الحزن ، " قال بئسما خلفتموني من بعدي " أي: بئس ما عملتم بعد ذهابي ، يقال : خلفه بخير أو بشر إذا أولاه في أهله بعد شخوصه عنهم خيراً أو شراً ، " أعجلتم " أسبقتم " أمر ربكم " ، قال الحسن : وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين ليله . وقال الكلبي : أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم . " وألقى الألواح "، التي فيها التوراة وكان حاملاً لها ، فألقاها على الأرض من شدة الغضب .
قالت الرواة : كانت التوراة سبعة أسباع ، فلما ألقى الألواح تكسرت فرفعت ستة أسباعها وبقي سبع , فرفع ما كان من أخبار الغيب ، وبقي ما فيه الموعظة والأحكام والحلال والحرام ، " وأخذ برأس أخيه " ، بذوائبه ولحيته " يجره إليه " ، وكان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين وأحب إلى بني إسرائيل من موسى ، لأنه كان لين الغضب . " قال " هارون عند ذلك ، " ابن أم " قرأ أهل الكوفة والشام هاهنا وفي طه بكسر الميم ، يريد يا ابن أمي ، فحذف ياء الإضافة وأبقيت الكسرة لتدل على الإضافة كقوله : ( يا عباد ) وقرأ أهل الحجاز والبصرة وحفص : بفتح الميم على معنى يا ابن أماه .
وقيل : جعله اسماً واحداً وبناه على الفتح ، كقولهم : حضرموت ، وخمسة عشر ، ونحوهما ، وإنما قال ابن أم وكان هارون أخاه لأبيه وأمه ليرققه ويستعطفه .
وقيل : كان أخاه لأمه دون أبيه ، " إن القوم استضعفوني " ، يعني عبدة العجل ، " وكادوا يقتلونني " ، هموا وقاربوا أن يقتلونني ، " فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني " في مؤاخذتك علي " مع القوم الظالمين " ، يعني عبدة العجل .
150. " ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً" شديد الغضب وقيل حزينا . " قال بئسما خلفتموني من بعدي " فعلتم بعدي حيث عندتم العجل ، والخطاب للعبدة أو أقمتم مقامي فلم تكفوا العبدة والخطاب لهارون والمؤمنين معه ! وما نكرة موصوفة تفسر المستكن في بئس والمخصوص بالذم محذوف تقديره بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم ، ومعنى من بعدي من بعد انطلاقي ، أو من بعد ما رأيتم مني من التوحيد والتنزيه والحمل عليه والكف عما ينافيه . " أعجلتم أمر ربكم " أتركتموه غير تام ، كأنه ضمن عجل معنى سبق فعدى تعديته ، أو أعجلتم وعد ربكم الذي وعدنيه من الأربعين وقدرتم موتي وغيرتم بعدي كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم . " وألقى الألواح " طرحها من شدة الغضب وفرط الضجر حمية للدين . روي : أن التوراة كانت سبعة أسباع في سبعة ألواح فلما ألقاها انكسرت فرفع ستة أسباعها وكان فيها تفصيل كل شيء وبقي سبع كان فيه المواعظ والأحكام . " وأخذ برأس أخيه " بشعر رأسه . " يجره إليه " توهما بأنه قصر في كفهم ، وهارون كان أكبر منه بثلاث سنين وكان حمولا لينا ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل . " قال ابن أم " ذكر الأم ليرققه عليه وكانا من أب وأم . وقرأ ابن عامر وحمزة و
الكسائي وأبو بكر عن عاصم هنا وفي ( طه) " يا ابن أم " بالكسر وأصله يا ابن أمي فحذفت الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفا كالمنادى المضاف إلى الياء ، والباقون بالفتح زيادة في التخفيف لطوله أو تشبيها بخمسة عشر . " إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني " إزاحة لتوهم التقصير في حقه ، والمعنى بذلت وسعي في كفهم حتى قهروني واستضعفوني وقاربوا قتلي . " فلا تشمت بي الأعداء " فلا تفعل بي ما يشمتون بي لأحله . " ولا تجعلني مع القوم الظالمين " معدودا في عدادهم بالمؤاخذة أو نسبة التقصير .
150. And when Moses returned unto his people, angry and grieved, he said: Evil is that (course) which ye took after I had left you. Would ye hasten on the judgment of your Lord? And he cast down the tablets, and he seized his brother by the head, dragging him toward him. He said: Son of my mother! Lo! the folk did judge me weak and almost killed me. Oh, make not mine enemies to triumph over me and place me not among the evil doers!
150 - When Moses came back to his people, angry and grieved, he said: evil it is that ye have done in my place in my absence: did ye make haste to bring on the judgment of your Lord? he put down the tablets, seized his brother by (the hair of) his head, and dragged him to him. Aaron said: son of my mother the people did indeed reckon me as naught, and went near to slaying me make not the enemies rejoice over my misfortune, nor count thou me amongst the people of sin.