[الأعراف : 12] قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ
12 - (قال) تعالى (ما منعك أ) ن (لا) زائدة (تسجد إذ) حين (أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيله لإبليس ، إذ عصاه فلم يسجد لآدم إذ أمره بالسجود له . يقول : قال الله لإبليس : " ما منعك " ، أي شيء منعك ، " أن لا تسجد " ، أن تدع السجود لآدم ، " إذ أمرتك " ، أن تسجد، " قال أنا خير منه " ، يقول : قال إبليس : أنا خير من آدم ، " خلقتني من نار وخلقته من طين " . فان قال قائل : أخبرنا عن إبليس ، ألحقته الملامة على السجود ، أم على ترك السجود؟ فان تكن لحقته الملامة على ترك السجود، فكيف قيل له : " ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك "؟ وإن كان النكير على السجود، فذلك خلاف ما جاء به التنزيل في سائر القرآن ، وخلاف ما يعرفه المسلمون ! .
قيل : إن الملامة لم تلحق إبليس إلا على معصيته ربه بتركه السجود لآدم إذ أمره بالسجود له .
غير أن في تأويل قوله : " ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك " بين أهل المعرفة بكلام العرب اختلافاً، أبدأ بذكر ما قالوا ، ثم أذكر الذي هو أولى ذلك بالصواب .
فقال بعض نحويي البصرة : معنى ذلك : ما منعك أن تسجد، و" لا" ههنا زائدة ، كما قال الشاعر :
أبى جوده لا البخل ، واستعجلت به نعم ، من فتى لا يمنع الجوع قاتله
وقال : فسرته العرب : أبى جوده البخل ، وجعلوا لا زائدة حشواً ههنا، وصلوا بها الكلام . قال : وزعم يونس أن أبا عمرو كان يجر البخل ، ويجعل لا مضافة إليه ، أراد: أبى جوده لا التي هي للبخل ، ويجعل لا مضافة، لأن لا قد تكون للجود والبخل ، لأنه لو قال له : امنع الحق ولا تعط المسكين فقال : لا، كان هذا جودا منه .
وقال بعض نحويي الكوفة نحو القول الذي ذكرناه عن البصريين ني معناه وتأويله ، غير أنه زعم أن العلة في دخول إلا في قوله : " أن لا تسجد " ، أن في أول الكلام جحداً ، يعني بذلك قوله :" لم يكن من الساجدين " ، فإن العرب ربما أعادوا في الكلام الذي فيه جحد ، الجحد ، كالاستيثاق والتوكيد له . قال : وذلك كقولهم :
ما إن رأينا مثلهن لمعشر سود الرؤوس ، فوالج وفيول
فأعاد على الجحد الذي هو ما جحداً، وهو قوله : إن ، فجمعهما للتوكيد.
وقال آخر منهم : ليست لا، بحشو في هذا الموضع ولا صلة، ولكن المنع ههنا بمعنى القول . وإنما تأويل الكلام : من قال لك لا تسجد إذ أمرتك بالسجود ، ولكن دخل في الكلام أن ، إذ كان المنع بمعنى القول ، لا في لفظه ، كما يفعل ذلك في سائر الكلام الذي يضارع القول ، وهو له في اللفظ مخالف ، كقولهم : ناديت أن لا تقم و حلفت أن لا تجلس ، وما أشبه ذلك من الكلام . وقال : خفض البخل من روى : أبى جوده لا البخل ، بمعنى: كلمة البخل ، لأن لا هي كلمة البخل ، فكأنه قال : كلمة البخل .
وقال بعضهم : معنى المنع ، الحول بين المرء وما يريده . قال : والممنوع مضطر به إلى خلاف ما منع منه ، كالممنوع من القيام وهو يريده ، فهو مضطر من الفعل إلى ما كان خلافاً للقيام ، إذ كان المختار للفعل هو الذي له السبيل إليه وإلى خلافه ، فيؤثر أحدهما على الآخر فيفعله . قال : فلما كانت صفة المنع ذلك ، فخوطب إبليس بالمنع فقيل له : " ما منعك أن لا تسجد " ، كان معناه كأنه قيل له : أئ شيء اضطرك إلى أن لا تسجد؟
قال أبو جعفر : والصواب عندى من القول في ذلك أن يقال : إن في الكلام محذوفاً قد كفى دليل الظاهر منه ، وهو أن معناه : ما منعك من السجود ، فأحوجك أن لا تسجد، فترك ذكر أحوجك ، استغناء بمعرفة السامعين قوله : " إلا إبليس لم يكن من الساجدين " ، أن ذلك معنى الكلام ، من ذكره . ثم عمل قوله : " ما منعك " ، في أن ، ما كان عاملاً فيه قبل أحوجك ، لو ظهر، إذ كان قد ناب عنه .
وإنما قلنا إن هذا القول أولى بالصواب ، لما قد مضى من دلالتنا قبل على أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله شيء لا معنى له ، وأن لكل كلمة معنى صحيحاً. فتبين بذلك فساد قول من قال : لا، في الكلام حشولامعنى لها.
وأما قول من قال : معنى المنع ههنا القول ، فلذلك دخلت لا مع أن فإن المنع وإن كان قد يكون قولاً وفعلاً، فليس المعروف في الناس استعمال المنع ، في الأمر بترك الشيء ، لأن المأمور بترك الفعل اذا كان قادراً على فعله وتركه ففعله ، لا يقال : فعله ، وهو ممنوع من فعله ، إلا على استكراه للكلام . وذلك أن المنع من الفعل حول بينه وبينه ، فغير جائز أن يكون وهو محول بينه وبينه فاعلاً له ، لأنه إن جاز ذلك ، وجب أن يكون محولاً بينه وبينه لا محولاً، وممنوعاً لا ممنوعاً.
وبعد، فإن إبليس لم يأتمر لأمر الله تعالى ذكره بالسجود لآدم كبراً، فكيف كان يأتمر لغيره في ترك أمر الله وطاعته بترك السجود لآدم ، فيجوز أن يقال له : أي شيء قال لك : لا تسجد لأدم إذ أمرتك بالسجود له ؟ ولكن معناه إن شاء الله ما قلت : ما منعك من السجود له فأحوجك ، أو: فأخرجك ، أو: فاضطرك الى أن لا تسجد له ، على ما بينت .
وأما قوله : " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " ، فانه خبر من الله جل ثناؤه عن جواب إبليس إياه إذ سأله : ما الذي منعه من السجود لآدم ، فأحوجه إلى أن لا يسجد له ، واضطره إلى خلافه أمره به ، وتركه طاعته ، أن المانع كان له من السجود ، والداعي له إلى خلافه أمر ربه في ذلك : أنه أشد منه أيداً، وأقوى منه قوة ، وأفضل منه فضلاً، لفضل الجنس الذي منه خلق ، وهو النار، على الذي خلق منه آدم ، وهو الطين . فجهل عدو الله وجه الحق ، وأخطأ سبيل الصواب . إذ كان معلوماً أن من جوهر النار الخفة والطيش والاضطراب والارتفاع علواً، والذي في جوهرها من ذلك هو الذي حمل الخبيث بعد الشقاء الذي سبق له من الله في الكتاب السابق ، على الاستكبار عن السجود لآدم ، والاستخفاف بأمر ربه ، فأورثه العطب والهلاك . وكان معلوماً أن من جوهر الطين الرزانة والأناة والحلم والحياء والثمئت ، وذلك الذي هو في جوهره من ذلك ، كان الداعي لآدم بعد السعادة التي كانت سبقت له من ربه في الكتاب السابق ، إلى التوبة من خطيئته ، ومسألته ربه العفو عنه والمغفرة . ولذلك كان الحسن و ابن سيرين يقولان : أول من قاس إبليس ، يعنيان بذلك : القياس والخطأ ، وهو هذا الذي ذكرنا من خطأ قوله ، وبعده من إصابة الحق ، في الفضل الذي خص الله به آدم على سائر خلقه : من خلقه إياه بيده ، ونفخه فيه من روحه ، وإسجاده له الملائكة، وتعليمه أسماء كل شيء ، مع سائر ما خصه به من كرامته . فضرب عن ذلك كله الجاهل صفحاً، وقصد الى الاحتجاج بأنه خلق من نار وخلق آدم من طين ! ! وهو في ذلك أيضاً له غير كفؤ، لو لم يكن لآدم من الله جل ذكره تكرمة شيء غيره ، فكيف والذي خص به من كرامته يكثر تعداده ، ويمل إحصاؤه .
حدثني عمرو بن مالك قال ، حدثنا يحيى بن سليم الطائفي ، عن هشام ، عن ابن سيرين قال : أول من قاس إبليس ، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس .
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا محمد بن كثير ، عن ابن شوذب ، عن مطر الوراق ، عن الحسن قوله : " خلقتني من نار وخلقته من طين " ، قال : قاس ابليس ، وهو أول من قاس .
وبنحو الذي قلنا ني ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عثمان بن سعيد قال ، حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : لما خلق الله آدم قال للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة، دون الملائكة الذين في السموات : " اسجدوا لآدم " ، فسجدوا كلهم أجمعون الا إبليس استكبر، لما كان حدث نفسه ، من كبره واغتراره ، فقال ؟ لا أسجد له ، وأنا خير منه ، وأكبر سناً، وأقوى خلقاً، خلقتني من نار وخلقته من طين ، يقول : إن النار أقوى من الطين .
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : " خلقتني من نار" ، قال : ثم جعل ذريته من ماء.
قال أبو جعفر : وهذا الذي قاله عدو الله ليس لما سأله عنه بجواب ، وذلك أن الله تعالى ذكره قال له : ما منعك من السجود؟ فلم يجب بأن الذي منعه من السجود أنه خلق من نار وخلق آدم من طين ، ولكنه ابتدأ خبراً عن نفسه ، فيه دليل على موضع الجواب فقال : " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ".
فيه أربع مسائل:
الأولى- قوله تعالى: "ما منعك" ما في موضع رفع بالابتداء، أي أي شيء منعك. وهذا سؤال توبيخ. " أن لا تسجد " في موضع نصب، أي من أن تسجد. ولا زائدة. وفي ص "ما منعك أن تسجد" [ص: 75] وقال الشاعر:
أبى جوده لا البخل فاستعجلت به نعم من فتىً لا يمنع الجود نائله
أراد أبي جوده البخل، فزاد لا وقيل، ليست بزائدة، فإن المنع فيه طرف من القول والدعاء، فكأنه قال: من قال لك ألا تسجد؟ أو من دعاك إلى ألا تسجد؟ كما تقول: قد قلت لك ألا تفعل كذا. وقيل: في الكلام حذف، والتقدير: ما منعك من الطاعة وأحوجك إلى ألا تسجد. قال العلماء: الذي أحوجه إلى ترك السجود هو الكبر والحسد: وكان أضمر ذلك في نفسه إذا أمر بذلك. وكان أمره من قبل خلق آدم، يقول الله تعالى: " إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " [ص: 71-72] فكأنه دخله أمر عظيم من قوله "فقعوا له ساجدين". فإن في الوقوع توضيع الواقع وتشريفاً لمن وقع له فأضمر في نفسه ألا يسجد إذا أمره في ذلك الوقت. فلما نفخ فيه الروح وقعت الملائكة سجداً، وبقي هو قائماً بين أظهرهم، فأظهر بقيامه وترك السجود ما في ضميره. فقال الله تعالى: " ما منعك أن لا تسجد " أي ما منعك من الانقياد لأمري، فأخرج سر ضميره فقال: "أنا خير منه".
الثانية -قوله تعالى: "إذ أمرتك" يدل على ما يقوله الفقهاء من أن الأمر يقتضي الوجوب بمطلقه من غير قرينة، لأن الذم علق على ترك الأمر المطلق الذي هو قوله عز وجل للملائكة: "اسجدوا لآدم" وهذا بين.
الثالثة- قوله تعالى: "قال أنا خير منه" أي منعني من السجود فضلي عليه، فهذا من إبليس جواب على المعنى. كما تقول: لمن هذه الدار؟ فيقول المخاطب: مالكها زيد. فليس هذا عين الجواب، بل هو كلام يرجع إلى معنى الجواب. "خلقتني من نار وخلقته من طين" فرأى أن النار أشرف من الطين، لعلوها وصعودها وخفتها، ولأنها جوهر مضيء. قال ابن عباس والحسن وابن سيرين: أول من قاس إبليس فأخطأ القياس. فمن قاس الدين برأيه قرنه الله مع إبليس. قال ابن سيرين: وما عبد الشمس والقمر إلا بالمقاييس. وقالت الحكماء: أخطأ عدو الله من حيث فضل النار على الطين، وإن كانا في درجة واحدة من حيث هي جماد مخلوق. فإن الطين أفضل من النار من وجوه أربعة:
أحدها- أن من جوهر الطين الرزانة والسكون، والوقار والأناة، والحلم، والحياء، والصبر. وذلك هو الداعي لآدم عليه السلام بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع، فأورثه المغفرة والاجتباء والهداية. ومن جوهر النار الخفة، والطيش، والحدة، والارتفاع، والاضطراب. وذلك هو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار، فأورثه الهلاك والعذاب واللعنة والشقاء، قاله القفال.
الثاني- أن الخبر ناطق بأن تراب الجنة مسك أذفر، ولم ينطق الخبر بأن في الجنة نار وأن في النار تراباً.
الثالث- أن النار سبب العذاب، وهي عذاب الله لأعدائه، وليس التراب سبباً للعذاب.
الرابع- أن الطين مستغن عن النار، والنار محتاجة إلى المكان ومكانها التراب.
قلت- ويحتمل قولاً خامساً وهو أن التراب مسجد وطهور، كما جاء في صحيح الحديث. والنار تخويف وعذاب، كما قال تعالى: "ذلك يخوف الله به عباده" [الزمر: 16]. وقال ابن عباس: كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس فعصى ربه، وهو أول من قاس برأيه. والقياس في مخالفة النص مردود.
الرابعة- واختلف الناس في القياس إلى قائل به، وراد له، فأما القائلون به فهم الصحابة والتابعون، وجمهور من بعدهم، وأن التعبد به جائز عقلاً واقع شرعاً، وهو الصحيح. وذهب القفال من الشافعية وأبو الحسين البصري إلى وجوب التعبد به عقلاً. وذهب النظام إلى أنه يستحيل التعبد به عقلاً وشرعاً، ورده بعض أهل الظاهر. والأول الصحيح. قال البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: المعنى لا عصمة لأحد إلا في كتاب الله أو سنة نبيه أو في إجماع العلماء إذا وجد فيها الحكم فإن لم يوجد فالقياس. وقد ترجم على هذا (باب من شبه أصلاً معلوماً بأصل مبين قد بين الله حكمه ليفهم السائل). وترجم بعد هذا (باب الأحكام التي تعرف بالدلائل وكيف معنى الدلالة وتفسيرها). وقال الطبري: الاجتهاد والاستنباط من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة هو الحق الواجب، والفرض اللازم لأهل العلم. وبذلك جاءت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن جماعة الصحابة والتابعين. وقال أبو تمام المالكي: أجمعت الأمة على القياس، فمن ذلك أنهم أجمعوا على قياس الذهب والورق في الزكاة. وقال أبو بكر: أقيلوني بيعتي. فقال علي: والله لا نقيلك ولا نستقيلك رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاك لدنيانا؟ فقاس الإمامة على الصلاة. وقاس الصديق الزكاة على الصلاة وقال: والله لا أفرق بين ما جمع الله. وصرح علي بالقياس في شارب الخمر بمحضر من الصحابة وقال: إنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فحده حد القاذف. وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري كتاباً فيه: الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في الكتاب والسنة، اعرف الأمثال والأشباه، ثم قس الأمور عند ذلك، فاعمد إلى أحبها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق فيما ترى. الحديث بطوله ذكره الدارقطني. وقد قال أبو عبيدة لعمر رضي الله عنهما في حديث الوباء، حين رجع عمر من سرغ: نفر من قدر الله؟ فقال عمر: نعم! نفر من قدر الله إلى قدر الله. ثم قال له عمر: أرأيت... فقايسه وناظره بما يشبه من مسألته بمحضر المهاجرين والأنصار، وحسبك. وأما الآثار وآي القرآن في هذا المعنى فكثير. وهو يدل على أن القياس أصل من أصول الدين، وعصمة من عصم المسلمين، يرجع إليه المجتهدون، ويفزع إليه العلماء العاملون، فيستنبطون به الأحكام. وهذا قول الجماعة الذين هم الحجة، ولا يلتفت إلى من شذ عنها. وأما الرأي المذموم والقياس المتكلف المنهى عنه فهو ما لم يكن على هذه الأصول المذكورة، لأن ذلك ظن ونزغ من الشيطان، قال الله تعالى: "ولا تقف ما ليس لك به علم" [الإسراء: 36]. وكل ما يورده المخالف من الأحاديث الضعيفة والأخبار الواهية في ذم القياس فهي محمولة على هذا النوع من القياس المذموم، الذي ليس له في الشرع أصل معلوم. وتتميم هذا الباب في كتب الأصول.
قال بعض النحاة في توجيه قوله تعالى: " ما منعك أن لا تسجد " لا هنا زائدة, وقال بعضهم زيدت لتأكيد الجحد, كقول الشاعر:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله
فأدخل إن وهي للنفي على ما النافية لتأكيد النفي, قالوا: وكذا ههنا " ما منعك أن لا تسجد " مع تقدم قوله "لم يكن من الساجدين" حكاهما ابن جرير وردهما, واختار أن منعك مضمن معنى فعل آخر, تقديره ما أحرجك وألزمك واضطرك أن لا تسجد إذ أمرتك ونحو هذا, وهذا القول قوي حسن, والله أعلم. وقول إبليس لعنه الله "أنا خير منه" من العذر الذي هو أكبر من الذنب, كأنه امتنع من الطاعة لأنه لا يؤمر الفاضل بالسجود للمفضول, يعني لعنه الله وأنا خير منه فكيف تأمرني بالسجود له ؟ ثم بين أنه خير منه بأنه خلق من نار, والنار أشرف مما خلقته منه وهو الطين, فنظر اللعين إلى أصل العنصر ولم ينظر إلى التشريف العظيم, وهو أن الله تعالى خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه, وقاس قياساً فاسداً في مقابلة نص قوله تعالى: "فقعوا له ساجدين" فشذ من بين الملائكة لترك السجود فهذا أبلس من الرحمة أي وأيس من الرحمة فأخطأ, قبحه الله في قياسه, ودعواه أن النار أشرف من الطين أيضاً, فإن الطين من شأنه الرزانة والحلم والأناة والتثبت, والطين محل النبات والنمو والزيادة والإصلاح, والنار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة, ولهذا خان إبليس عنصره ونفع آدم عنصره بالرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله والاعتراف وطلب التوبة والمغفرة.
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم" هكذا رواه مسلم, وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر, حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود, حدثنا نعيم بن حماد, حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خلق الله الملائكة من نور العرش وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم" قلت لنعيم بن حماد: أين سمعت هذا من عبد الرزاق ؟ قال: باليمن, وفي بعض ألفاظ هذا الحديث في غير الصحيح "وخلقت الحور العين من الزعفران", وقال ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا الحسين, حدثنا محمد بن كثير عن ابن شوذب عن مطر الوراق عن الحسن في قوله " خلقتني من نار وخلقته من طين " قال: قاس إبليس وهو أول من قاس, إسناده صحيح, وقال: حدثني عمرو بن مالك, حدثني يحيى بن سليم الطائفي عن هشام عن ابن سيرين, قال: أول من قاس إبليس, وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس إسناد صحيح أيضاً .
وجملة 12- " قال ما منعك أن لا تسجد " مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال له الله؟ و لا في " أن لا تسجد " زائدة للتوكيد بدليل قوله تعالى في سورة ص: "ما منعك أن تسجد"، وقيل: إن منع بمعنى قال، والتقدير: من قال لك أن لا تسجد، وقيل منع بمعنى دعا: أي ما دعاك إلى أن لا تسجد، وقيل في الكلام حذف، والتقدير: ما منعك من الطاعة وأحوجك إلى أن لا تسجد "إذ أمرتك": أي وقت أمرتك، وقد استدل به على أن الأمر للفور، والبحث مقرر في علم الأصول، والاستفهام في "ما منعك" للتقريع والتوبيخ، وإلا فهو سبحانه عالم بذلك، وجملة "قال أنا خير منه" مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فما قال إبليس؟ وإنما قال في الجواب أنا خير منه، ولم يقل منعني كذا، لأن في هذه الجملة التي جاء بها مستأنفة ما يدل على المانع وهو اعتقاده أنه أفضل منه. والفاضل لا يفعل مثل ذلك للمفضول مع ما تفيده هذه الجملة من إنكار أن يؤمر مثله بالسجود لمثله. ثم علل ما ادعاه من الخيرية بقوله: "خلقتني من نار وخلقته من طين" اعتقاداً منه أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين. وقد أخطأ عدو الله فإن عنصر الطين أفضل من عنصر النار من جهة رزانته وسكونه وطول بقائه وهي حقيقة مضطربة سريعة النفاد، ومع هذا فهو موجود في الجنة دونها، وهي عذاب دونه، وهي محتاجة إليه لتتحيز فيه، وهو مسجد وطهور، ولولا سبق شقاوته وصدق كلمة الله عليه لكان له بالملائكة المطيعين لهذا الأمر أسوة وقدوة، فعنصرهم النوري أشرف من عنصره الناري.
12- " قال "، الله تعالى يا إبليس: " ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك "، أي: وما منعك أن تسجد و(لا) زائدة كقوله تعالى: " وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون "(الأنبياء،95)." قال "، إبليس مجيباً " أنا خير منه " لأنك "خلقتني من نار وخلقته من طين "، والنار خير وأنو من الطين.
قال ابن عباس: أول من قاس إبليس فأخطأ القياس، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس.
قال ابن سيرين : ما عبدت الشمس إلا بالقياس.
قال محمد بن جرير : ظن الخبيث أن النار خير من الطين ولم يعلم أن الفضل لمن جعل الله له الفضل، وقد فضل الله الطين على النار من وجوه منها: أن من جوهر الطين الرزانة والوقار والحلم والصبر وهو الداعي لآدم بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع فأورثه الاجتباء والتوبة والهداية، ومن جوهر النار الخفة والطيش والحدة والارتفاع وهو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار، فأورثه اللعنة والشقاوة، ولأن الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفرقها ولأن التراب سبب الحياة، فإن حياة الأشجار والنبات به، والنار سبب الهلاك.

12. " قال ما منعك أن لا تسجد " أي أن تسجد ولا صلة مثلها في لئلا يعلم ، مؤكدة معنى الفعل الذي دخلت عليه ، ومنبهة على أن الموبخ عليه ترك السجود. وقيل الممنوع عن الشيء مضطر إلى خلافه فكأنه قيل : ما اضطرك إلى ألا تسجد. " إذ أمرتك " دليل على أن مطلق الأمر للوجوب والفور. " قال أنا خير منه " جواب من حيث المعنى استأنف به استبعاداً لأن يكون مثله مأموراً بالسجود لمثله كأنه قال : المانع أني خير منه ، ولا يحسن للفاضل أن يسجد للمفضول ، فكيف يحسن أن يؤمر به . فهو الذي سن التكبر وقال بالحسن والقبح العقليين أولاً . " خلقتني من نار وخلقته من طين " تعليل لفضله عليه ، وقد غلط في ذلك بأن رأى الفضل كله باعتبار العنصر وغفل عما يكون باعتبار الفاعل كما أشار إليه بقوله تعالى : " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " أي بغير واسطة ، وباعتبار الصورة كما نبه عليه بقوله "ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " وباعتبار الغاية وهو ملاكه ولذلك أمر الملائكة بسجوده لما بين لهم أنه أعلم منهم ، وأن له خواص ليست لغيره ، والآية دليل الكون والفساد وأن الشياطين أجسام كائنة، ولعل إضافة خلق الإنسان إلى الطين والشيطان إلى النار باعتبار الجزء الغالب. .
12. He said: What hindered thee that thou didst not fall prostrate when I bade thee? (Iblis) said: I am better than him. Thou createdst me of fire while him Thou didst create of mud.
12 - (God) said: What prevented Thee from bowing down when I commanded thee? He said: I am better than he: Thou didst create Me from fire, and him from clay.