[التحريم : 1] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
1 - (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) من أمتك مارية القبطية لما واقعها في بيت حفصة وكانت غائبة فجاءت وشق عليها كون ذلك في بيتها وعلى فراشها حيث قلت هي حرام علي (تبتغي) بتحريمها (مرضات أزواجك) أي رضاهن (والله غفور رحيم) غفر لك هذا التحريم
أخرج الحاكم والنسائي بسند صحيح عن انس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به حفصة حتى جعلها على نفسه حراما فأنزل الله يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك الآية
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا أيها النبي المحرم على نفسه ما أحل الله له ، يبتغي بذلك مرضاة أزواجه ، لم تحرم على نفسك الحلال الذي أحله الله لك ، تلتمس بتحريمك ذلك مرضاة أزواجك .
واختلف أهل العلم في الحلال الذي كان الله جل ثناؤه أحله لرسوله ، فحرمه على نفسه ابتغاء مرضاة أزواجه ، فقال بعضهم : كان ذلك مارية مملوكته القبطية ، حرمها على نفسه بيمين أنه لا يقربها طالباً بذلك رضا حفصة بنت عمر زوجته ، لأنها كانت غارت بأن خلا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في يومها وفي حجرتها .
ذكر من قال ذلك :
"حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي ، قال : ثني ابن أبي مريم ، قال : ثنا أبو غسان ، قال : ثني زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب أم إبراهيم في بيت بعض نسائه ، قال : فقالت : أي رسول الله في بيتي وعلى فراشي ! فجعلها عليه حراماً ، فقالت : يا رسول الله كيف تحرم عليك الحلال ؟ فحلف لها بالله لا يصيبها ، فأنزل الله عز وجل " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك " "قال : زيد : فقوله أنت علي حرام لغو .
حدثني يعقوب قال : ثني ابن علية ، قال : ثنا داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، قال : قال مسروق ، إن النبي صلى الله عليه وسلم حرم جاريته ، وآلى منها ، فجعل الحلال حراماً ، وقال في اليمين : " قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " .
حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : ثنا سفيان ، عن داود ، عن الشعبي ، عن مسروق ، قال : آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرم ، فعوتب في التحريم ، وأمر بالكفارة في اليمين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، قال لها : أنت حرام علي ، والله لا أطؤك .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك " قال : كان الشعبي يقول : حرمها عليه ، وحلف لا يقربها ، فعوتب في التحريم ، وجاءت الكفارة في اليمين .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة و عامر الشعبي ، أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم جاريته ، قال الشعبي : حلف بيمين مع التحريم ، فعاتبه الله في التحريم ، وجعل له كفارة اليمين .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " قال : إنه وجدت امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جاريته في بيتها ، فقالت : يا رسول الله أنى كان هذا الأمر ، وكنت أهونهن عليك ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : اسكتي لا تذكري هذا لأحد ، هي علي حرام إن قربتها بعد هذا أبداً ، فقالت : يا رسول الله وكيف تحرم عليك ما أحل الله لك حين تقول هي علي حرام أبداً ؟ فقال : والله لا آتيها أبداً ، فقال الله " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " ... الآية ، قد غفرت هذا لك ، وقولك والله " قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم " .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتاة ، فغشيها ، فبصرت به حفصة ، وكان اليوم يوم عائشة ، وكانتا متظاهرتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اكتمي علي ولا تذكري لعائشة ما رأيت ، فذكرت حفصة لعائشة ، فغضبت عائشة ، فلم تزل بنبي الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقربها أبداً ، فأنزل الله هذه الآية وأمره أن يكفر يمينه ، ويأتي جاريته .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن عامر ، في قول الله " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " في جارية أتاها ، فاطلعت عليه حفصة ، فقال : هي علي حرام فاكتمي ذلك ، ولا تخبري به أحداً فذكرت ذلك .
وقال آخرون : بل حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته ، فجعل الله عز وجل تحريمه إياها بمنزلة اليمين ، فأوجب فيها من الكفارة مثل ما أوجب في اليمين إذا حنث فيها صاحبها .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله " قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا حرموا شيئاً مما أحل الله لهم أن يكفروا أيمانهم ، بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة ، وليس يدخل ذلك في طلاق .
"حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " إلى قوله " وهو العليم الحكيم " قال : كانت حفصة وعائشة متحابتين وكانتا زوجتي النبي صلى الله عليه وسلم ، فذهبت حفصة إلى أبيها ، فتحدثت عنده ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جاريته ، فظلت معه في بيت حفصة ، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة ، فرجعت حفصة ، فوجدتهما في بيتها ، فجعلت تنتظر خروجها ، وغارت غيرة شديدة ، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته ، ودخلت حفصة فقالت : قد رأيت من كان عندك ، والله قد سؤتني ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والله لأرضينك فإني مسر إليك سراً فاحفظيه ، قالت : ما هو ؟ قال : إني أشهدك أن سريتي هذه علي حرام رضاً لك ، وكانت حفصة وعائشة تظاهران على نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، فانطلقت حفصة إلى عائشة ، فأسرت إليها أن أبشري إن النبي صلى الله عليه وسلم قد حرم عليه فتاته ، فلما أخبرت بسر النبي صلى الله عليه وسلم أظهر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم عليه ، فأنزل الله على رسوله لما تظاهرتا عليه " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك " إلى قوله " وهو العليم الحكيم " ".
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا هشام الدستوائي ، قال : كتب إلى يحيى يحدث عن يعلى بن حكيم ، عن سعيد بن جبير ، أن ابن عباس كان يقول : في الحرام يمين تكفرها ، وقال ابن عباس " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " [ الأحزاب : 21 ] ، يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم جاريته ، فقال الله جل ثناؤه : " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " إلى قوله " قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " فكفر يمينه ، فصير الحرام يميناً .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : أنبأنا أبو عثمان " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيت حفصة ، فإذا هي ليست ثم ، فجاءته فتاته ، وألقى عليها ستراً ، فجاءت حفصة فقعدت على الباب حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته ، فقالت : والله لقد سؤتني ، جامعتها في بيتي أو كما قالت ، قال : وحرمها النبي صلى الله عليه وسلم ، أو كما قال " .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " ... الآية ، قال : كان حرم فتاته القبطية أم ولده إبراهيم يقال لها مارية في يوم حفصة ، وأسر ذلك إليها ، فأطلعت عليه عائشة ، وكانتا تظاهران على نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، فأحل الله له ما حرم على نفسه ، فأمر أن يكفر عن يمينه ، وعوتب في ذلك ، فقال " قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم " قال قتادة : وكان الحسن يقول حرمها عليه ، فجعل الله فيها كفارة يمين .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم حرمها يعني جاريته ، فكانت يمنياً .
"حدثنا سعيد بن يحيى ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس ، قال : قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : من المرأتان ؟ قال : عائشة ، وحفصة ، وكان بدء الحديث في شأن أم إبراهيم القبطية ، أصابها النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة في يومها ، فوجدته حفصة ، فقالت : يا بني الله لقد جئت إلي شيئاً ما جئت إلى أحد من أزواجك بمثله في يومي وفي دوري ، وعلى فراشي ، قال : ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها ؟ قالت : بلى ، فحرمها ، وقال : لا تذكري ذلك لأحد فذكرته لعائشة ، فأظهره الله عز وجل عليه ، فأنزل الله " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك " ... الآيات كلها ، فبلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كفر يمينه ، وأصاب جاريته ".
وقال آخرون : كان ذلك شراباً يشربه ، كان يعجبه ذلك .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى قال : ثنا أبو داود ، قال : ثنا شعبة ، عن قيس بن مسلم ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد ، قال : نزلت هذه الآية في شراب " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك " .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا أبو قطن البغدادي عمرو بن الهيثم ، قال : ثنا شعبة ، عن قيس بن مسلم ، عن عبد الله بن شداد مثله .
قال : ثنا أبو قطن ، قال : ثنا يزيد بن إبراهيم ، عن ابن أبي مليكة ، قال : نزلت في شراب .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : كان الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه شيئاً كان الله قد أحله له ، وجائز أن يكون ذلك كان جاريته ، وجائز أن يكون كان شراباً من الأشربة ، وجائز أن يكون كان غير ذلك ، غير أنه أي ذلك كان ، فإنه كان تحريم شيء كان له حلالاً ، فعاتبه الله على تحريمه على نفسه ما كان له قد أحله ، وبين له تحله يمينه في يمين كان حلف بها مع تحريمه ما حرم على نفسه .
فإن قال قائل : وما برهانك على أنه صلى الله عليه وسلم كان حلف مع تحريمه ما حرم ، فقد علمت قول من قال : لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك غير التحريم ، وأن التحريم هو اليمين ؟ قيل : البرهان على ذلك واضح ، وهو أنه لا يعقل في لغة عربية ولا عجمية أن قول القائل لجاريته ، أو لطعام أو شراب ، هذا علي حرام يمين ، فإذا كان ذلك غير معقوب ، فمعلوم أن اليمين غير قول الله القائل للشيء الحلال له : هو علي حرام ، وإذا كان ذلك كذلك صح ما قلنا ، وفسد ما خالفه ، وبعد ، فجائز أن يكون تحريم النبي صلى الله عليه وسلم ما حرم على نفسه من الحلال الذي كان الله تعالى ذكره ، أحله له بيمين ، فيكون قوله " لم تحرم ما أحل الله " معناه : لم تحلف على الشيء الذي قد أحله الله أن لا تقربه ، فتحرمه على نفسك باليمين .
وإنما قلنا : إن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ذلك ، وحلف مع تحريمه ، كما :
حدثنا الحسن بن قزعة ، قال : ثنا مسلمة بن علقمة ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرم ، فأمر في الإيلاء بكفارة ، وقيل له في التحريم " لم تحرم ما أحل الله لك " .
وقوله : " والله غفور رحيم " يقول تعالى ذكره : والله غفور يا محمد لذنوب التائبين من عباده من ذنوبهم ، وقد غفر لك تحريمك على نفسك ما أحله الله لك ، رحيم بعباده أن يعاقبهم على ما قد تابوا من الذنوب بعد التوبة .
سورة التحريم
مدنية في قول الجميع، وهي اثنتا عشرة آية. وتسمى سورة النبي
قوله تعالى:" يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " ثبت في صحيح مسلم عن" عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يمكث عند زينب بن جحش فيشرب عندها عسلاً، قالت: فتواطأت أنا وحفصة أن أيتنا ما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني أجد منك ريح مغاير ! أكلت مغافير ؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك. فقال: هل شربت عسلاً عند زينب جحش ولن أعود له " . فنزل: " لم تحرم ما أحل الله لك " - إلى قوله - " إن تتوبا" لعائشة وحفصة، " وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا " لقوله: بل شربت عسلاً. وعنها أيضاً قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب الحلواء والعسل، فكان إذا صلى العصر دار على نسائه فيدنو منهن، فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس،" فسألت عن ذلك فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل، فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شربةً. فقلت: أما والله لنحتالن له، فذكرت ذلك لسودة وقلت: إذا دخل عليك سيدنو منك فقولي له: يا رسول الله، أكلت مغافير ؟ فإنه سيقول لك لا فقولي له: ما هذه الريح ؟ - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح - فإنه سيقول لك سقتني حفصة شربة عسل. فقولي له: جلست نحله العرفط. وسأقول ذلك له، وقوليه أنت يا صفية. فلما دخل على سودة - قالت: تقول سودة والله الذي لا إله إلا هو لقد كدت أن أبادئه بالذي قلت لي، وإنه لعلى الباب، فرقاً منك. فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله ، أكلت مغافير ؟ قال: لا قالت: فما هذه الريح ؟ قال: سقتني حفصة شربة عسل قالت: جرست نحله العرفط. فلما دخل علي قلت له مثل ذلك. ثم دخل على صفية فقالت بمثل ذلك. فلما دخل على حفصة قالت: يا رسول الله، ألا أسيقك منه. قال ل حاجة لي به قالت: تقول سودة سبحان الله! والله لقد حرمناه. قالت: قلت لها اسكتي. ففي هذه الرواية أن التي شرب عندها العسل حفصة. وفي الأولى زينب. وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه شربه عند سودة. وقد قيل: إنما هي أم سلمة، رواه أسباط عن السدي. وقاله عطاء بن أبي مسلم. ابن العربي: وهذا كله جهل أو تصور بغير علم. فقال باقي نسائه حسداً وغيرةً لمن شرب ذلك عندها: إنا لنجد منك ريح المغافير. والمغافير: بقلة أو صمغة متغيرة الرائحة، فيها حلاوة، واحدها مغفور، وجرست: أكلت. والعرفط: نبت له ريح كريح الخمر. وكان عليه السلام يعجبه أن يوجد منه الريح الطيبة أو يجدها، ويكره الريح الخبيثة لمناجاة الملك. فهذا قول. وقول آخر - أنه أراد بذلك المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها لأجل أزواجه، قال ابن عباس وعكرمة. والمرأة أم شريك. وقول ثالث - إن التي حرم مارية القبطية، وكان قد أهداها له المقوقس ملك الاسكندرية. قال ابن إسحاق: هي من كورة أنصنا من بلد يقال له حفن فواقعها في بيت حفصة. وروى الدارقطني عن ابن عباس عن عمر قال: " دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده مارية في بيت حفصة، فوجدته حفصة معها - وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها - فقالت له: تدخلها بيتي ! ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك. فقال لها: لا تذكري هذا لعائشة فهي على حرام إن قربتها قالت حفصة: وكيف تحرم عليك وهي جاريتك؟ فحلف لها ألا يقربها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تذكريه لأحد. فذكرته لعائشة فآلى لا يدخل على نسائه شهراً، فاعتزلهن تسعا وعشرين ليلة، فأنزل الله عزوجل " تحرم ما أحل الله لك تبتغي " الآية.
الثانية-: أصح هذه الأقوال أولها. وأضعفها وأوسطها. قال ابن العربي: أما ضعفه في السند فلعدم عدالة رواته، وأما ضعفه في معناه فلأن رد النبي صلى الله عليه وسلم للموهبة ليس تحريماً لها، لأن من رد من وهب له لم يحرم عليه، إنما حقيقة التحريم بعد التحليل. وأما من روى أنه حرم مارية القبطية فهو أمثل في السند وأقرب إلى المعنى، لكنه لم يدون في الصحيح . وروي مرسلاً. وقد روى ابن وهب عن مالك عن زيد بن أسلم قال:" حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أم إبراهيم فقال: أنت علي حرام والله لا آتينك ". فأنزل الله عز وجل في ذلك: " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " وروى مثله ابن القاسم عنه. وروى أشهب عن مالك قال: راجعت عمر امرأة من الأنصار في شئ فاقشعر من ذلك وقال: ما كان النساء هكذا ! قالت: بلى، وقد كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يراجعنه. فأخذ ثوبه فخرج إلى حفصة فقال لها: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت: نعم، ولو أعلم أنك تكره ما فعلت. فلما بلغ عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هجر نساءه قال: رغم أنف حفصة. وإنما الصحيح أنه كان في العسل وأنه شربه عند زينب، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه، فجرى ما جرى فحلف ألا يشربه وأسر ذلك. ونزلت الآية في الجميع.
الثالثة-: قوله تعالى: "لم تحرم" إن كان النبي صلى الله عليه وسلم حرم ولم يخلف فليس ذلك بيمين عندنا. ولا يحرم قول الرجل: هذا علي حرام شيئاً حاشا الزوجة. وقال أبو حنيفة: إذا أطلق حمل على المأكول والمشروب دون الملبوس، وكانت يمنياً توجب الكفارة. وقال زفر: هو يمين في الكل حتى في الحركة والكون. وعول المخالف على أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم العسل فلزمته الكفارة. وقد قال الله تعالى: " قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " فسماه يميناً. ودليلنا قول الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا " المائدة:87، وقوله تعالى: " قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون " يونس: 59 . فذم الله المحرم لحلال ولم يوجب عليه كفارة. قال الزجاج: ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله ولم يجعل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يحرم إلا ما حرم الله عليه. فمن قال لزوجته أو أمته: أنت علي حرام، ولم ينو طلاقاً ولا ظهاراً فهذا اللفظ يوجب كفارة اليمين. ولو خاطب بهذا اللفظ جمعاً من الزوجات والإماء فعليه كفارة واحدة. ولو حرم على نفسه طعاماً أو شيئاً آخر لم يلزمه بذلك كفارة عند الشافعي ومالك. وتجب بذلك كفارة عند أبي مسعود والثوري وأبي حنيفة.
الرابعة-: واختلف العلماء في الرجل يقول لزوجته: أنت علي حرام على ثمانية عشر قولا: أحدهما-: لا شيء عليه. وبه قال الشعبي ومسروق وربيعة وأبوسلمة وأصبغ. وهو عندهم كتحريم الماء والطعام، قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " المائدة:87 والزوجية من الطيبات ومما أحل الله. وقال تعالى: " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام " النحل:116. وما لم يحرمه الله فليس لأحد أن يحرمه، ولا أن يصير بتحريمه حراماً. ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أحله الله هو علي حرام. وإنما امتنع من مارية ليمين تقدمت منه وهو قوله : والله لا أقربها بعد اليوم فقيل له: لم تحرم ما أحل الله لك، أي لم تمتنع منه بسبب اليمين. يعني أقدم عليه وكفر.
وثانيها-: أنها يمين يكفرها، قاله أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم - والأوزاعي، وهو مقتضى الآية. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: إذا حرم الرجل عليه امرأته فإنما هي يمين يكفرها. وقال ابن عباس: لقد كان لكم في رسوله الله أسوة حسنة، يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حرم جاريته فقال الله تعالى: " لم تحرم ما أحل الله لك" - إلى قوله - " قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " فكفر عن يمينه وصير الحرام يميناً. خرجه الدارقطني.
وثالثها-: إنها تجب فيها كفارة وليست بيمين، قاله ابن مسعود وابن عباس أيضاً في إحدى روايتيه، والشافعي في أحد قوليه، وفي هذا القول نظر. والآية ترده على ما يأتي.
ورابعها-: هي ظهار، ففيها كفارة الظهار، قال عثمان وأحمد بن حنبل وإسحاق.
وخامسها: أنه إن نوى الظهار وهو ينوي أنها محرمة كتحريم ظهر أمه كان ظهاراً.
وإن نوى تحريم عينها عليه بغير طلاق تحريماً مطلقاً وجبت كفارة يمين. وإن لم ينو شيئاً فعليه كفارة يمين، قاله الشافعي.
وسادسها-: أنها طلقة رجعية، قاله عمر بن الخطاب والزهري وعبد العزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون.
وسابعها-: أنها طلقة بائنة، قاله حماد بن أبي سليمان وزيد بن ثابت. ورواه ابن خويز مندادعن مالك.
وثامنها-: أنها ثلاث تطليقات، قاله علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت أيضاً وأبو هريرة.
وتاسعها-: هي في المدخول بها ثلاث، وينوي في غير المدخول بها، قاله الحسن وعلي بن زيدوالحكم وهو مشهور مذهب مالك.
وعاشرها-: هي ثلاث، ولا ينوي بحال ولا في محل وإن لم يدخل، قاله عبد الملك في المبسوط، وبه قال ابن أبي ليلى.
وحادي عشرها-: هي في التي لم يدخل بها واحدة، وفي التي دخل بها ثلاث، قاله أبو مصعب ومحمد بن عبد الحكم.
وثاني عشرها-: أنه إن نوى الطلاق أو الظهار كان ما نوى. فإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثاً. فإن نوى ثنتين فواحدة. فإن لم ينو شيئاً كان يميناً وكان الرجل مولياً من امرأته، قاله أبو حنيفة وأصحابه. وبمثله قال زفر، إلا أنه قال إذا نوى اثنتين ألزمناه.
وثالث عشرها-: أنه لا تنفعه نية الظهار وإنما يكون طلاقاً، قال ابن القاسم.
ورابع عشرها-: قال يحيى بن عمر: يكون طلاقاً، فإن ارتجعها لم يجز له وطؤها حتى يكفر كفارة الظهار.
وخامس عشرها-: إن نوى الطلاق فما أراد من أعداده. وإن نوى واحدة فهي رجعية.وهو قول الشافعي رضي الله عنه. وروي مثله عن أبي بكر وعمر وغيرهم من الصحابة والتابعين.
وسادس عشرها-: إن نوى ثلاثاً فثلاثاً، وإن واحدة فواحدةً. وإن نوى يميناً فهي يمين. وإن لم ينو شيئاً فلا شي عليه. وهو قول سفيان. وبمثله قال الأوزاعي وأبو ثور، إلا أنهما قالا: إن لم ينو شيئاً فهي واحدة.
وسابع عشرها-: له نيته ولا يكون أقل من واحدة، قاله أبو شهاب. وإن لم ينو شيئاً لم يكن شئ، قاله ابن العربي. ورأيت لسعيد بن جبير وهو:
الثامن عشر-: أن عليه عتق رقبة وإن لم يجعلها ظهاراً. ولست أعلم لها وجهاً ولا يبعد في المقالات عندي.
قلت: قد ذكره الدارقطني في سننه عن ابن عباس فقال: حدثنا الحسين بن إسماعيل قال حدثنا محمد بن منصور قال حدثنا روح قال حدثنا سفيان الثوري عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي علي حراماً. فقال: كذبت ! ليس عليك بحرام، ثم تلا " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " عليك أغلظ الكفارات: عتق رقبة. وقد قال جماعة من أهل التفسير: إنه لما نزلت هذه الآية كفر عن يمنيه بعتق رقبة، وعاد صلى الله عليه وسلم إلى مارية، قال زيد بن أسلم وغيره.
الخامسة-: قال علماؤنا: سبب الاختلاف في هذا الباب أنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نص ولا ظاهر صحيح يعتمد عليه في هذه المسألة، فتجاذبها العلماء لذلك. فمن تمسك بالبراءة الأصلية فقال: لا حكم، فلا يلزم بها شئ. وأما من قال إنها يمين، فقال: سماها الله يميناً. وأما من قال: تجب فيها كفارة وليس بيمين فبناه على أحد أمرين: أحدهما - أنه ظن أن الله تعالى أوجب الكفار فيها وإن لم تكن يميناً. والثاني - أن معنى اليمين عنده التحريم، فوقعت الكفارة على المعنى. وأما من قال: إنها طلقة رجعية، فإنه يحمل اللفظ على أقل وجوهه، والرجعية محرمة الوطء كذلك، فيحمل اللفظ عليه. وهذا يلزم مالكاً، لقوله: إن الرجعية محرمة الوطء. وكذلك وجه من قال :إنها ثلاث، فحمله على أكبر معناه وهو الطلاق الثلاث. وأما من قال: إنه ظهار، فلأنه أقل درجات التحريم، فإنه تحريم لا يرفع درجات النكاح. وأما من قال: إنه طلقة بائنة، فعول على أن الطلاق الرجعي لا يحرم المطلقة، وأن الطلاق البائن يحرمها. وأما قول يحيى بن عمر فإنه احتاط بأن جعله طلاقاً، فلما ارتجعها احتاط بأن يلزمه الكفارة ابن العربي: وهذا لا يصح، لأنه جمع بين المضادين، فإنه لا يجمع ظهار وطلاق في معنى لفظ واحد، فلا وجه للاحيتاط فيما لا يصح اجتماعه في الدليل. وأما من قال: ينوي في التي لم يدخل بها، فلأن الواحدة تبينها وتحرمها شراعاً إجماعاً. وكذلك قال: من لم يحكم باعتبار نيته: إن الواحدة تكفي قبل الدخول في التحريم بالإجماع، فيكفي أخذاً بالأقل المتفق عليه. وأما من قال:إنه ثلاث فيهما، فلأنه أخذ بالحكم الأعظم، لو صرح بالثلاث لنفذت في التي لم يدخل بها نفوذها في التي دخل بها. ومن الواجب يكون المعنى مثله وهو التحريم. والله أعلم. وهذا كله في الزوجة. وأما في الأمة فلا يلزم فيها شئ من ذلك، إلا أن ينوي به العتق عند مالك. وذهب عامة العلماء إلى أن عليه كفارة يمين. ابن العربي: والصحيح أنها طلقة واحدة، لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقله وهو الواحدة إلا أن يعدد. وكذلك إذا التحريم يكون أقله إلا أن يقيد بالأكثر، مثل أن يقول: أنت علي حرام إلا بعد زواج، فهذا نص على المراد.
قلت: أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في حفصة لما خلا النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها بجاريته، ذكره الثعلبي. وعلى هذا فكأنه قال: لا يحرم عليك ما حرمته على نفسك ولكن عليك كفارة يمين، وإن كان في تحريم العسل والجارية أيضاً. فكأنه قال: لم يحرم عليك ما حرمته، ولكن ضممت إلى التحريم يميناً فكفر عن اليمين. وهذا صحيح ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ثم حلف، كما ذكره الدارقطني. وذكر البخاري معناه في قصة العسل عن عبيد بن عمير عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عند زينب بنت جحش عسلاً ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل: أكلت مغافير ؟ إني لأجد منك ريح مغافير ! قال: لا ولكن شربت عسلاً ولن أعود له وقد حلفت لا تخبرني بذلك أحداً . يبتغي مرضاة أزواجه، فيعني بقوله: ولن أعود له على جهة التحريم. وبقوله: حلفت أي بالله، بدليل أن الله تعالى أنزل عليه عند ذلك معاتبته على ذلك، وحوالته على كفارة اليمين بقوله تعالى: " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " يعني العسل المحرم بقوله: لن أعود له. " تبتغي مرضاة أزواجك " أي تفعل ذلك طلباً لرضاهن. " والله غفور رحيم " غفور لما أوجب المعاتبة، رحيم يرفع المؤاخذة. وقد قيل: إن ذلك كان ذنباً من الصغائر. والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى،وأنه لم تكن له صغيرة ولا كبيرة.
تفسير سورة التحريم
بسم الله الرحمـن الرحيم
اختلف في سبب نزول صدر هذه السورة فقيل: نزلت في شأن مارية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرمها, فنزل قوله تعالى: " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك " الاية.
قال أبو عبد الرحمن النسائي: أخبرنا إبراهيم بن يونس بن محمد, حدثنا أبي, حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها, فأنزل الله عز وجل "يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك" إلى آخر الاية. وقال ابن جرير: حدثني ابن عبد الرحيم البرقي, حدثنا ابن أبي مريم, حدثنا أبو غسان, حدثني زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب أم إبراهيم في بيت بعض نسائه فقالت: أي رسول الله في بيتي وعلى فراشي ؟ فجعلها عليه حراماً فقالت: أي رسول الله كيف تحرم عليك الحلال ؟ فحلف لها بالله لا يصيبها فأنزل الله تعالى: "يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك" قال زيد بن أسلم: فقوله أنت علي حرام لغو وهكذا روى عبد الرحمن بن زيد عن أبيه.
وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا يونس, حدثنا ابن وهب عن مالك عن زيد بن أسلم قال: قال لها: "أنت علي حرام والله لا أطؤك" وقال سفيان الثوري وابن علية عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق قال: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرم, فعوتب في التحريم وأمر بالكفارة في اليمين رواه ابن جرير وكذا روي عن قتادة وغيره عن الشعبي نفسه, وكذا قال غير واحد من السلف منهم الضحاك والحسن وقتادة ومقاتل ابن حيان, وروى العوفي عن ابن عباس القصة مطولة.
وقال ابن جرير: حدثنا سعيد بن يحيى, حدثنا أبي, حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: قلت لعمر بن الخطاب: من المرأتان ؟ قال: عائشة وحفصة. وكان بدء الحديث في شأن أم إبراهيم مارية القبطية أصابها النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة في نوبتها, فوجدت حفصة: فقالت: يا نبي الله لقد جئت إلي شيئاً ما جئت إلى أحد من أزواجك في يومي وفي دوري وعلى فراشي قال: "ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها" قالت: بلى فحرمها وقال لها "لا تذكري ذلك لأحد" فذكرته لعائشة فأظهره الله عليه فأنزل الله تعالى: " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك " الايات كلها. فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر عن يمينه وأصاب جاريته. وقال الهيثم بن كليب في مسنده: حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي, حدثنا مسلم بن إبراهيم, حدثنا جرير بن حازم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة: "لا تخبري أحداً وإن أم إبراهيم علي حرام" فقالت: أتحرم ما أحل الله لك ؟ قال: "فو الله لا أقربها" قال: فلم يقربها حتى أخبرت عائشة. قال: فأنزل الله تعالى: "قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم" وهذا إسناد صحيح ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة, وقد اختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المستخرج.
وقال ابن جرير أيضاً: حدثني يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن علية, حدثنا هشام الدستوائي قال: كتب إلي يحيى يحدث عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير أن ابن عباس كان يقول في الحرام يمين تكفرها, وقال ابن عباس "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم جاريته فقال الله تعالى: " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " فكفر يمينه فصير الحرام يميناً, ورواه البخاري عن معاذ بن فضالة عن هشام الدستوائي عن يحيى, هو ابن أبي كثير, عن ابن حكيم وهو يعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الحرام يمين تكفر وقال ابن عباس: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" ورواه مسلم من حديث هشام الدستوائي به. وقال النسائي: أنبأنا عبد الله بن عبد الصمد بن علي, حدثنا مخلد وهو ابن يزيد, حدثنا سفيان عن سالم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أتاه رجل فقال إني جعلت امرأتي علي حراماً, قال: كذبت ليست عليك بحرام ثم تلا هذه الاية "يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك" عليك أغلظ الكفارات عتق رقبة, تفرد به النسائي من هذا الوجه بهذا اللفظ.
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن زكريا, حدثنا عبد الله بن رجاء, حدثنا إسرائيل عن مسلم عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: "يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك" قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريته ومن ههنا ذهب من ذهب من الفقهاء ممن قال بوجوب الكفارة على من حرم جاريته أو زوجته أو طعاماً أو شراباً أو ملبساً أو شيئاً من المباحات, وهو مذهب الإمام أحمد وطائفة, وذهب الشافعي إلى أنه لا تجب الكفارة فيما عدا الزوجة والجارية إذا حرم عينيهما أو أطلق التحريم فيهما في قول, فأما إن نوى بالتحريم طلاق الزوجة أو عتق الأمة نفذ فيهما.
وقال ابن أبي حاتم حدثني أبو عبد الله الظهراني أنبأنا حفص بن عمر العدني أنبأنا الحكم بن أبان أنبأنا عكرمة عن ابن عباس قال: نزلت هذه الاية "يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك" في المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وهذا قول غريب, والصحيح أن ذلك كان في تحريمه العسل كما قال البخاري عند هذه الاية: حدثنا إبراهيم بن موسى أنبأنا هشام بن يوسف عن ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب عسلاً عند زينب بنت جحش ويمكث عندها, فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير إني أجد منك ريح مغافير, قال: "لا ولكني كنت أشرب عسلاً عند زينت بنت جحش فلن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحداً" " تبتغي مرضاة أزواجك " هكذا أورد هذا الحديث ههنا بهذا اللفظ.
وقال في كتاب الأيمان والنذور: حدثنا الحسن بن محمد, حدثنا الحجاج عن ابن جريج قال زعم عطاء أنه سمع عبيد بن عمير يقول: سمعت عائشة تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلاً, فتواطأت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل له إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير, فدخل على إحداهما النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ذلك له فقال: "لا بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له" فنزلت " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم * وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير * إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما " لعائشة وحفصة "وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً" لقوله: "بل شربت عسلاً" وقال إبراهيم بن موسى عن هشام: "ولن أعود له وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحداً" وهكذا رواه في كتاب الطلاق بهذا الإسناد ولفظه قريب منه, ثم قال: المغافير شبيه بالصمغ يكون في الرمث فيه حلاوة, أغفر به الرمث إذا ظهر فيه, واحدها مغفور ويقال مغافير, وهكذا قال الجوهري قال وقد يكون المغفور أيضاً للعشر والثمام والسلم والطلح, قال والرمث بالكسر مرعى من مراعي الإبل وهو من الحمض, قال والعرفط شجر من العضاه ينضح المغفور.
وقد روى مسلم هذا الحديث في كتاب الطلاق من صحيحه عن محمد بن حاتم عن حجاج بن محمد عن ابن جريج, أخبرني عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة به, ولفظه كما أورده البخاري في الأيمان والنذور, ثم قال البخاري في كتاب الطلاق: حدثنا فروة بن أبي المغراء, حدثنا علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل, وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن, فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس أكثر ما كان يحتبس, فغرت فسألت عن ذلك فقيل لي أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل, فسقت النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة فقلت: أما والله لنحتالن له, فقلت لسودة بنت زمعة: إنه سيدنو منك فإذا دنا منك فقولي أكلت مغافير فإنه سيقول لك لا, فقولي له ما هذه الريح التي أجد فإنه سيقول لك سقتني حفصة شربة عسل, فقولي جرست نحله العرفط وسأقول لك, وقولي له أنت يا صفية ذلك, قالت: تقول سودة فو الله ما هو إلا أن قام على الباب, فأردت أن أناديه بما أمرتني فرقاً منك, فلما دنا منها قالت له سودة: يا رسول الله أكلت مغافير ؟ قال: "لا" قالت: فما هذه الريح التي أجد منك ؟ قال: "سقتني حفصة شربة عسل" قالت: جرست نحله العرفط, فلما دار إلي قلت نحو ذلك فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك, فلما دار إلى حفصة قالت له: يا رسول الله ألا أسقيك منه ؟ قال: "لا حاجة لي فيه" قالت: تقول سودة والله لقد حرمناه, قلت لها اسكتي, هذا لفظ البخاري. وقد رواه مسلم عن سويد بن سعيد عن علي بن مسهر به وعن أبي كريب وهارون بن عبد الله والحسن بن بشر ثلاثتهم عن أبي أسامة حماد بن أسامة عن هشام بن عروة به, وعنده قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح, يعني الريح الخبيثة, ولهذا قلن له أكلت مغافير لأن ريحها فيه شيء, فلما قال: "بل شربت عسلاً" قلن جرست نحله العرفط أي رعت نحله شجر العرفط الذي صمغه المغافير, فلهذا ظهر ريحه في العسل الذي شربته. قال الجوهري: جرست النحل العرفط تجرس إذا أكلته, ومنه قيل للنحل جوارس, قال الشاعر:
* تظل على الثمراء منها جوارس*
وقال الجرس والجرس الصوت الخفي, ويقال: سمعت جرس الطير إذا سمعت صوت مناقيرها على شيء تأكله, وفي الحديث "فيسمعون جرس طير الجنة" قال الأصمعي: كنت في مجلس شعبة, قال: فيسمعون جرش طير الجنة بالشين فقلت جرس فنظر إلي فقال: خذوها عنه فإنه أعلم بهذا منا, والغرض أن هذا السياق فيه أن حفصة هي الساقية للعسل, وهو من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن خالته عائشة, وفي طريق ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة أن زينب بنت جحش هي التي سقته العسل, وأن عائشة وحفصة تواطأتا وتظاهرتا عليه فالله أعلم. وقد يقال إنهما واقعتان ولا بعد في ذلك إلا أن كونهما سبباً لنزول هذه الاية فيه نظر, والله أعلم. ومما يدل على أن عائشة وحفصة رضي الله عنهما هما المتظاهرتان الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال: حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن ابن عباس قال: لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى: "إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما" حتى حج عمر وحججت معه, فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة فتبرز, ثم أتاني فسكبت على يديه فتوضأ فقلت: يا أمير المؤمنين, من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى: "إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما" فقال عمر: واعجباً لك يا ابن عباس: قال الزهري: كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه قال: هي عائشة وحفصة.
قال: ثم أخذ يسوق الحديث قال: كنا معشر قريش قوماً نغلب النساء, فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم قال: وكان منزلي في دار أمية بن زيد بالعوالي, قال: فغضبت يوماً على امرأتي فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت: ما تنكر أن أراجعك فو الله إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. قال: فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: نعم. قلت: وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل ؟ قالت: نعم. قلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر, أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت, لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئاً وسليني من مالي ما بدا لك, ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم ـ أي أجمل ـ وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك ـ يريد عائشة ـ قال: وكان لي جار من الأنصار, وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, ينزل يوماً وأنزل يوماً فيأتيني بخبر الوحي وغيره, وآتيه بمثل ذلك.
قال: وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لتغزونا, فنزل صاحبي يوماً ثم أتى عشاء فضرب بابي ثم ناداني فخرجت إليه فقال: حدث أمر عظيم, فقلت: وما ذاك أجاءت غسان ؟ قال: لا بل أعظم من ذلك وأطول طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه. فقلت: قد خابت حفصة وخسرت قد كنت أظن هذا كائناً حتى إذا صليت الصبح شددت علي ثيابي, ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت: أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا أدري هو هذا معتزل في هذه المشربة, فأتيت غلاماً له أسود فقلت استأذن لعمر, فدخل الغلام ثم خرج إلي فقال: ذكرتك له فصمت, فانطلقت حتى أتيت المنبر فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم, فجلست عنده قليلاً ثم غلبني ما أجد, فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر, فدخل ثم خرج فقال: قد ذكرتك له فصمت, فخرجت, فجلست إلى المنبر ثم غلبني ما أجد, فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر, فدخل ثم خرج إلي فقال: قد ذكرتك له, فصمت, فوليت مدبراً, فإذا الغلام يدعوني فقال: ادخل قد أذن لك, فدخلت فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو متكىء على رمال الحصير ـ قال الإمام أحمد: وحدثناه يعقوب في حديث صالح قال: رمال حصير ـ وقد أثر في جنبه فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك ؟ فرفع رأسه إلي وقال: "لا" فقلت: الله أكبر. ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قوماً نغلب النساء, فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم, فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فغضبت علي امرأتي يوماً فإذا هي تراجعني, فأنكرت أن تراجعني فقالت: ما تنكر أن أراجعك ؟ فو الله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه, وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل, فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسرت, أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله فإذا هي قد هلكت.
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله قد دخلت على حفصة فقلت لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم أو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك. فتبسم أخرى, فقلت: استأنس يا رسول الله, قال: "نعم" فجلست فرفعت رأسي في البيت, فو الله ما رأيت في البيت شيئاً يرد البصر إلا أهبة مقامه, فقلت: ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك, فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله, فاستوى جالساً وقال: "أفي شك أنت يا ابن الخطاب. أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا" فقلت استغفر لي يا رسول الله. وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهراً من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله عز وجل. وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن الزهري به, وأخرجه الشيخان من حديث يحيى بن سعيد الأنصاري عن عبيد بن حنين, عن ابن عباس, قال: مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له, حتى خرج حاجاً فخرجت معه فلما رجعنا وكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له, قال: فوقفت حتى فرغ ثم سرت معه, فقلت: يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم. هذا لفظ البخاري, ولمسلم: من المرأتان اللتان قال الله تعالى: "وإن تظاهرا عليه" قال عائشة وحفصة, ثم ساق الحديث بطوله ومنهم من اختصره.
وقال مسلم أيضاً: حدثني زهير بن حرب, حدثنا عمر بن يونس الحنفي, حدثنا عكرمة بن عمار عن سماك بن الوليد أبي زميل, حدثني عبد الله بن عباس, حدثني عمر بن الخطاب, قال: لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه دخلت المسجد, فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه, وذلك قبل أن يؤمر بالحجاب فقلت لأعلمن ذلك اليوم, فذكر الحديث في دخوله على عائشة وحفصة ووعظه إياهما, إلى أن قال: فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسكفة المشربة, فناديت فقلت: يا رباح استأذن لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فذكر نحو ما تقدم ـ إلى أن قال ـ فقلت: يا رسول الله ما يشق عليك من أمر النساء, فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكال وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك, وقلما تكلمت ـ وأحمد الله ـ بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي, فنزلت هذه الاية آية التخيير "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن" "وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير" فقلت: أطلقتهن ؟ قال: "لا" فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق نساءه. ونزلت هذه الاية "وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم" فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر. وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة ومقاتل بن حيان والضحاك وغيرهم "وصالح المؤمنين" أبو بكر وعمر, زاد الحسن البصري وعثمان, وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد "وصالح المؤمنين" قال: علي بن أبي طالب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن أبي عمر, حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن الحسين, قال: أخبرني رجل ثقة يرفعه إلى علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: "وصالح المؤمنين" قال: "هو علي بن أبي طالب" إسناده ضعيف وهو منكر جداً, وقال البخاري: حدثنا عمر بن عون, حدثنا هشيم عن حميد عن أنس قال: قال عمر: اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه, فقلت لهن "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن" فنزلت هذه الاية, وقد تقدم أنه وافق القرآن في أماكن: منها في نزول الحجاب, ومنها في أسارى بدر, ومنها قوله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى, فأنزل الله تعالى: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا الأنصاري, حدثنا حميد عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب: بلغني شيء كان بين أمهات المؤمنين وبين النبي صلى الله عليه وسلم فاستقريتهن أقول: لتكفن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ليبدلنه الله أزواجاً خيراً منكن, حتى أتيت على آخر أمهات المؤمنين فقالت: يا عمر أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن, فأمسكت فأنزل الله عز وجل "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكاراً" وهذه المرأة التي ردته عما كان فيه من وعظ النساء هي أم سلمة كما ثبت ذلك في صحيح البخاري.
وقال الطبراني: حدثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني, حدثنا إسماعيل البجلي, حدثنا أبو عوانة عن أبي سنان عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: "وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً" قال: دخلت حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها وهو يطأ مارية, فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تخبري عائشة حتى أبشرك ببشارة. أن أباك يلي الأمر من بعد أبي بكر إذا أنا مت" فذهبت حفصة فأخبرت عائشة, فقالت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من أنبأك هذا ؟ قال: "نبأني العليم الخبير" فقالت عائشة: لا أنظر إليك حتى تحرم مارية, فحرمها, فأنزل الله تعالى: "يا أيها النبي لم تحرم" إسناده فيه نظر وقد تبين مما أوردناه تفسير هذه الايات الكريمات, ومعنى قوله: "مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات" ظاهر. وقوله تعالى: "سائحات" أي: صائمات, قاله أبو هريرة وعائشة وابن عباس وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء, ومحمد بن كعب القرظي وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو مالك وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والضحاك والربيع بن أنس والسدي وغيرهم, وتقدم فيه حديث مرفوع عند قوله: "السائحون" في سورة براءة, ولفظه "سياحة هذه الأمة الصيام" وقال زيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن "سائحات" أي مهاجرات, وتلا عبد الرحمن "السائحون", أي المهاجرون, والقول الأول أولى, والله أعلم.
وقوله تعالى: "ثيبات وأبكاراً" أي منهن ثيبات ومنهن أبكاراً ليكون ذلك أشهى إلى النفس, فإن التنوع يبسط النفس, ولهذا قال: "ثيبات وأبكاراً" وقال أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا أبو بكر بن صدقة, حدثنا محمد بن محمد بن مرزوق, حدثنا عبد الله بن أمية, حدثنا عبد القدوس عن صالح بن حيان, عن ابن بريدة, عن أبيه "ثيبات وأبكاراً" قال: وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الاية أن يزوجه, فالثيب آسية امرأة فرعون وبالأبكار مريم بنت عمران. وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة مريم عليها السلام من طريق سويد بن سعيد: حدثنا محمد بن صالح بن عمر عن الضحاك ومجاهد عن ابن عمر قال: جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت خديجة فقال: إن الله يقرئها السلام ويبشرها ببيت في الجنة من قصب بعيد من اللعب لا نصب فيه ولا صخب, من لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت عمران وبيت آسية بنت مزاحم.
ومن حديث أبي بكر الهذلي عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة وهي في الموت فقال: "يا خديجة إذا لقيت ضرائرك فأقرئيهن مني السلام", فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل تزوجت قبلي ؟ قال: "لا, ولكن الله زوجني مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وكلثم أخت موسى" ضعيف أيضاً, وقال أبو يعلى: حدثنا إبراهيم بن عرعرة, حدثنا عبد النور بن عبد الله, حدثنا يوسف بن شعيب عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعلمت أن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران وكلثم أخت موسى وآسية امرأة فرعون ؟" فقلت: هنيئاً لك يا رسول الله, وهذا أيضاً ضعيف وروي مرسلاً عن ابن أبي داود.
هي اثنا عشرة آية
وهي مدنية. قال القرطبي: في قول الجميع، وتسمى سورة النبي. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال نزلت سورة التحريم بالمدينة، ولفظ ابن مردويه سورة المحرم. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال: أنزلت بالمدينة سورة النساء "يا أيها النبي لم تحرم".
قوله: 1- "يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك" اختلف في سبب نزول الآية على أقوال: الأول قول أكثر المفسرين. قال الواحدي: قال المفسرون: كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة فزارت أباها، فلما رجعت أبصرت مارية في بيتها مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تدخل حتى خرجت مارية ثم دخلت، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم في وجه حفصة الغيرة والكآبة قال لها: لا تخبري عائشة ولك علي أن لا أقربها أبداً، فأخبرت حفصة عائشة وكانت متصافيتين، فغضبت عائشة ومل تزل بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقرب مارية، فأنزل الله هذه السورة. قال القرطبي: أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في حفصة، وذكر القصة. وقيل السبب أنه كان صلى الله عليه وسلم يشرب عسلاً عند زينب بنت جحش، فتواطأت عائشة وحفصة أن تقولا له إذا دخل عليهما إنا نجد منك ريح مغافير. وقيل السبب المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم. وسيأتي دليل هذه الأقوال آخر البحث إن شاء الله وستعرف كيفية الجمع بينها، وجملة " تبتغي مرضاة أزواجك " مستأنفة، أو مفسرة لقوله تحرم، أو في محل نصب على الحال من فاعل تحرم: أي مبتغياً به مرضاة أزواجك، ومرضاة اسم مصدر، وهو الرضى وأصله مرضوة، وهو مضاف إلى المفعول: أي أن ترضي أزواجك، أو إلى الفاعل: أي أن يرضين هن "والله غفور رحيم" أي بليغ المغفرة والرحمة لما فرط منك من تحريم ما أحل الله لك، قيل وكان ذلك ذنباً من الصغائر، فلذا عاتبه الله عليه، وقيل إنها معاتبة على ترك الأولى.
1- " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم "، وسبب نزولها ما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عبيد الله بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء ويحب العسل، وكان إذا صلى العصر جاز على نسائه فيدنو منهن، فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها شربة، فقلت: أما والله لنحتالن له، فذكرت ذلك لسودة، وقلت: إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له: يا رسول الله أكلت مغافير؟ فإنه سيقول: لا، فقولي له: ما هذه الريح وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح، فإنه سيقول: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي له: جرست نحله العرفط، وسأقول ذلك وقوليه أنت يا صفية، فلما دخل على سودة، تقول سودة: والله الذي لا إله إلا هو لقد كدت أن أباديه بالذي قلت لي وإنه لعلى الباب، فرقاً منك، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله أكلت مغافير؟ قال: لا، قلت: فما بال هذه الريح! قال: سقتني حفصة شربة عسل، قالت: جرست نحله العرفط، فلما دخل علي قلت له مثل ذلك، ودخل على صفية فقالت له مثل ذلك، فلما دخل على حفصة قالت له: يا رسول الله ألا أسقيك منه قال: لا حاجة لي به، قالت: تقول سودة: سبحان الله لقد حرمناه، قالت: قلت لها اسكتي".
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا الحسن بن محمد الصباح، حدثنا الحجاج عن ابن جريح قال: زعم عطاء أنه سمع عبيد بن عمير يقول "سمعت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلاً فتواصيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير، فدخل على إحداهما فقالت له ذلك، فقال: لا بأس شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له، فنزلت: " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك " إلى قوله: "إن تتوبا إلى الله" لعائشة وحفصة، "وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً"، لقوله: بل شربت عسلاً".
وبهذا الإسناد قال: حدثنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام بن يوسف، عن ابن جريح، عن عطاء بإسناده وقال: قال: لا، ولكن كنت أشرب عسلاً عند زينب بنت جحش فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحداً، يبتغي بذلك مرضاة أزواجه.
وقال المفسرون: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه، فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة أبيها فأذن لها، فلما خرجت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جاريته مارية القبطية فأدخلها بيت حفصة، فوقع عليها فلما رجعت حفصة وجدت البابا مغلقاً، فجلست عند الباب فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يقطر عرقاً، وحفصة تبكي فقال: ما يبكيك؟ فقالت: إنما أذنت لي من أجل هذا، أدخلت أمتك بيتي، ثم وقعت عليها في يومي وعلى فراشي، أما رأيت لي حرمة وحقاً؟ ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليست هي جاريتي أحلها الله لي؟ اسكتي فهي حرام علي ألتمس بذاك رضاك، فلا تخبري بهذا امرأة منهن. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قرعت حفصة الجدار التي بينها وبين عائشة فقالت: ألا أبشرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم عليه أمته مارية، وإن الله قد أراحنا منها، وأخبرت عائشة بما رأت، وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فغضبت عائشة فلم تزل بنبي الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقربها، فأنزل الله عز وجل: "يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك" يعني العسل ومارية "تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم".
1-" يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " روي "أنه عليه الصلاة والسلام خلا بمارية في نوبة عائشة رضي الله تعالى عنها أو حفصة ، فاطلعت على ذلك حفصة فعاتبته فيه فحرم مارية فنزلت" . وقيل " شرب عسلاً عند حفصة ، فواطأت عائشة سودة وصفية فقلن له إنا نشم منك ريح المعافير فحرم العسل فنزلت " " تبتغي مرضاة أزواجك " تفسيراً لـ" تحرم " أو حال من فاعله أو استئناف لبيان الداعي إليه . " والله غفور " لك هذه الزلة فإنه لا يجوز تحريم ما أحله الله . "رحيم " رحمك حيث لم يؤاخذك به وعاتبك محاماة على عصمتك .
Surah 66. At-Tahrim
1. O Prophet! Why bannest thou that which Allah hath made lawful for thee, seeking to please thy wives? And Allah is Forgiving, Merciful.
SURA 66: TAHRIM
1 - O Prophet! Why holdest thou to be forbidden that which God has made lawful to thee? Thou seekest to please thy consorts. But God is Oft Forgiving, Most Merciful.