[المنافقون : 8] يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ
8 - (يقولون لئن رجعنا) أي من غزوة بني المصطلق (إلى المدينة ليخرجن الأعز) عنوا به أنفسهم (منها الأذل) عنوا به المؤمنين (ولله العزة) الغلبة (ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون) ذلك
أخرج البخاري وغيره عن زيد بن أرقم قال سمعت عبد الله بن أبي يقول لأصحابه لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا فلئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فذكرت ذلك لعمي فذكر ذلك عمي للنبي صلى الله عليه وسلم فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا فكذبني وصدقه فأصابني شيء لم يصبني قط مثله فجلست في البيت فقال عمي ما أردت إلا أن أكذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك فأنزل الله إذا جاءك المنافقون فبعث إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها ثم قال إن الله قد صدقك له طرق كثيرة عن زيد وفي بعضها أن ذلك في غزوة تبوك وان نزول السورة ليلا
يقول تعالى ذكره : يقول هؤلاء المنافقون الذين وصف صفتهم قبل " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " فيها ، ويعني بالأعز : الأشد والأقوح ، قال الله جل ثناؤه " ولله العزة " يعني : الشدة والقوة " ولرسوله وللمؤمنين " بالله " ولكن المنافقين لا يعلمون " ذلك .
وذكر أن سبب قيل ذلك عبد الله بن أبي كان من أجل أن رجلاً من المهاجرين كسع رجلاً من الأنصار .
ذكر من قال ذلك :
"حدثني محمد بن معمر ، قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثنا زمعة ، عن عمرو ، قال : سمعت جابر بن عبد الله ، قال : إن الأنصار كانوا أكثر من المهاجرين ، ثم إن المهاجرين كثروا فخرجوا في غزوة لهم فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار ، قال : فكان بينهما قتال إلى أن صرخ : يا معشر الأنصار ، وصرخ المهاجر : يا معشر المهاجرين ، قال : فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما لكم ولدعوة الجاهلية ؟ فقالوا : كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوها فإنها منتنة ، قال : فقال عبد الله بن أبي ابن سلول : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فقال عمر : يا رسول الله دعني فأقتله ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يتحدق الناس أن رسول الله يقتل أصحابه ".
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله " يقولون لئن رجعنا إلى المدينة " إلى " ولله العزة ولرسوله " قال : قال ذلك عبد الله بن أبي ابن سلول الأنصاري رأس المنافقين ، وناس معه من المنافقين .
حدثني أحمد بن منصور الرمادي قال : ثنا إبراهيم بن الحكم ، قال : ثني أبي عن عكرمة " أن عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول كان يقال له حباب ، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله ، فقال : يا رسول الله إن والدي يؤذي الله ورسوله ، فذرني حتى أقتله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقتل أباك عبد الله ! ثم جاء أيضاً فقال : يا رسول الله إن والدي يؤذي الله ورسوله ، فذرني حتى أقتله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقتل أباك ! فقال : يا رسول الله فتوضأ حتى أسقيه من وضوئك لعل قلبه أن يلين ، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه ، فذهب به إلى أبيه فسقاه ، ثم قال له : هل تدري ما سقيتك ؟ فقال له والده : نعم ، سقيتني بول أمك ، فقال له ابنه ، لا والله ، ولكن سقيتك وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم " . قال عكرمة : وكان عبد الله بن أبي عظيم الشأن فيهم ، وفيهم أنزلت هذه الآية في المنافقين " هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا " وهو الذي قال : " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " قال : فلما بلغوا المدينة ، مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن معه ، أخذ ابنه السيف ، ثم قال لوالده : أنت تزعم ( لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ) ؟ فوالله لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
"حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين ، عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله أن رجلاً من المهاجرين كسع رجلاً من الأنصار برجله وذلك في أهل اليمن شديد فنادى المهاجري يا للمهاجرين ، ونادى الأنصاري يا للأنصار ، قال : والمهاجرون يومئذ أكثر من الأنصار ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : دعوها فإنها منتنة ، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل "" .
"حدثني عمران بن بكار الكلاعي ، قال : ثنا يحيى بن واصح ، قال : ثنا علي بن سليمان ، قال : ثنا أبو إسحاق ، أن زيد بن أرقم ، أخبره أن عبد الله بن أبي ابن سلول قال " لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا " وقال " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " قال : فحدثني زيد أنه أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول عبد الله بن أبي ، قال : فجاء فحلف عبد الله بن أبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال ذلك ، قال أبو إسحاق ، فقال لي زيد : فجلست في بيتي حتى أنزل الله تصديق زيد ، وتكذيب عبد الله في " إذا جاءك المنافقون " ".
"حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " قرأ الآية كلها إلى " لا يعلمون " قال : قد قالها منافق عظيم النفاق في رجلين اقتتلا ، أحدهما غفاري ، والآخر جهني ، فظهر الغفاري على الجهني ، وكان بين جهينة والأنصار حلف ، فقال رجل من المنافقين وهو ابن أبي : يا بني الأوس ، يا بني الخزرج ، عليكم صاحبكم وحليفكم ! ثم قال : والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك ، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فسعى بها بعضهم إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر : يا نبي الله مر معاذ بن جبل أن يضرب عنق هذا المنافق ، فقال : لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه" .
ذكر لنا أنه كان أكثر على رجل من المنافقين عنده ، فقال : هلي يصلي ؟ فقال : نعم ولا خير في صلاته ، فقال : نهيت عن المصلين ، نهيت عن المصلين .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : اقتتل رجلان ، أحدهما من جهينة ، والآخر من غفار ، وكانت جهينة حليف الأنصار ، فظهر عليه الغفاري ، فقال رجل منهم عظيم النفاق ، عليكم صاحبكم ، عليكم صاحبكم ! فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : ( سمن كلبك يأكلك ) ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ! وهم في سفر فجاء رجل ممن سمعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبره ذلك ، فقال عمر : مر معاذاً يضرب عنقه ، فقال : والله لا يتحدق الناس أن محمداً يقتل أصحابه ، فنزل فيهم " هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله " .
وقوله " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " .
"حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن أن غلاماً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله إني سمعت عبد الله بن أبي يقول كذا وكذا ، قال : فلعلك غضبت عليه ؟ قال : لا والله لقد سمعته يقوله ، فلعلك أخطأ سمعك ؟ قال : لا والله يا نبي الله لقد سمعته يقوله قال : فلعله شبه عليك ؟ قال : لا والله ، قال : فأنزل الله تصديقاً للغلام " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم باذن الغلام ، فقال : وفت أذنك ، وفت أذنك يا غلام" .
"حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله " ليخرجن الأعز منها الأذل " قال : كان المنافقون يسمون المهاجرون : الجلابيب ، وقال : قال ابن أبي : قد أمرتكم في هؤلاء الجلابيب أمري ، قال : قال هذا بين أمج وعسفان على الكديد تنازعوا على الماء ، وكان المهاجرون قد غلبوا على الماء ، قال : وقال ابن أبي ايضاً ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل لقد قلت لكم : لا تنفقوا عليهم ، لو تركتموهم ما وجدوا ما يأكلون ، ويخرجوا ويهربوا ، فأتى عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ألا تسمع ما يقول ابن أبي ؟ قال : وما ذاك ؟ فأخبره وقال : دعني أضرب عنقه يا رسول الله ، قال : إذا ترعد له آنف كثيرة بيثرب قال عمر : فإن كرهت يا رسول الله أن يقتله رجل من المهاجرين ، فمر به سعد بن معاذ ومحمد بن مسلمة فيقتلانه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أكره أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ، ادعو لي عبد الله بن عبد الله بن أبي ، فدعاه ، فقال : ألا ترى ما يقول أبوك ؟ قال : وما يقول بأبي أنت وأمي ؟ قال : يقول لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فقال : فقد صدق والله يا رسول الله ، أنت والله الأعز وهو الأذل ، أما والله لقد قدمت المدينة يا رسول الله ، وإن أهل يثرب ليعلمون ما بها أحد أبر مني ، ولئن كان يرضي الله ورسوله أن آتيهما برأسه لآتينهما به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ، فلما قدموا المدينة ، قام عبد الله بن عبد الله بن أبي على بابها بالسيف لأبيه ، ثم قال : أنت القائل : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ؟ أما والله لتعرفن العزة لك أو لرسول الله ، والله لا يأويك ظله ، ولا تأويه أبداً إلا بإذن من الله ورسوله ، فقال : يا للخزرج ابني يمنعني بيتي ، يا للخزرج ابني يمنعني بيتي ، فقال : والله لا تأويه ابداً إلا بإذنه منه ، فاجتمع إليه رجال فكلموه ، فقال : والله لا يدخله إلا بإذن من الله ورسوله ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه ، فقال : اذهبوا إليه ، فقولوا له خله ومسكنه ، فأتوه ، فقال : أما إذا جاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم فنعم" .
"حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة و علي بن مجاهد ، عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن عبد الله بن أبي بكر ، وعن محمد بن يحيى بن حيان ، قال : كل قد حدثني بعض حديث بني المصطلق ، قالوا : بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق يجمعون له ، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل ، فتزاحف الناس فاقتتلوا ، فهزم الله بني المصطلق ، وقتل من قتل منهم ، ونقل رسول الله أبناءهم ونساءهم وأموالهم ، فأفاءهم الله عليه ، وقد أصيب رجل من بني كلب بن عوف بن عامر بن ليث بن بكر ، يقال له هشام بن صبابة أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت ، وهو يرى أنه من العدو فقتله خطأ ، فبينا الناس على ذلك الماء ، وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جهجاه بن سعيد ، يقود له فرسه ، فازدحم جهجاه وسنان الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا ، فصرخ الجهني ، يا معشر الأنصار ، وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين ، فغضب عبد الله بن أبي ابن سلول ، وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم ، غلام حديث السن ، ، فقال : قد فعلوها ؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ، والله ما أعدنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل : ( سمن كلبك يأكلك ) ، وأما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، ثم أقبل على من حضر من قومه ، فقال : هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم ، فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : وذلك عند فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه ، فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله مر به عباد بن بشر بن وقش فليقتله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ، لا ، ولكن أذن بالرحيل ، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها ، فارتحل الناس ، وقد مشى عبد الله بن أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمع منه ، فحلف بالله ما قلت ما قال ، ولا تكلمت به ، وكان عبد الله بن أبي في قومه شريفاً عظيماً ، فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه من الأنصار ، يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه ، ولم يحفظ ما قال الرجل ، حدباً على عبد الله بن ابي ، ودفعاً عنه ، فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار ، لقيه أسيد بن حضير ، فحياه بتحية النبوة وسلم عليه ، ثم قال : يا رسول الله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ما بلغك ما قال صاحبكم ؟ قال : فأي صاحب يا رسول الله ؟ قال : عبد الله بن أبي ، قال : وما قال ؟ قال : زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل ، قال أسيد ، فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت ، وهو والله الذليل وأنت العزيز ، ثم قال : يا رسول الله ارفقه به ، فوالله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه ، فإنه ليرى أنك قد استلته ملكاً ، ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى ، وليلتهم حتى أصبح ، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ، ثم نزل الناس ، فلم يكن إلا أن وجدوا مس الأرض وقعوا نياماً ، وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبي ، ثم راح بالناس وسلك الحجاز حتى نزل على ماء بالحجاز فويق النقيع ، يقال له نقعاء ، فلما راح رسول الله صلى الله عليه وسلم هبت على الناس ريح شديدة آذتهم وتخوفوها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تخافوا فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار ، فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت أحد بني قينقاع وكان من عظماء يهود وكهفاً للمنافقين ، قد مات ذلك اليوم ، فنزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين في عبد الله بن أبي ابن سلول ، ومن كان معه على مثل أمره فقال " إذا جاءك المنافقون " فلما نزلت هذه السورة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد فقال : هذا الذي أوفى الله بأذنه ، وبلغ عبد الله بن أبي الذين كان من أبيه" .
"حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة أن عبد الله بن أبي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه ، فإن كنت فاعلاً ، فمرني به فإنا أحمل إليك رأسه ، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل أبر بوالده مني ، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله ، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله ، فأقتل مؤمناً بكافر ، فأدخل النار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا ، وجعل بعد ذلك اليوم إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ، ويأخذونه ويعنفونه ويتوعدونه ، فقال رسول الله لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك عنهم من شأنهم : كيف ترى يا عمر ، أما والله لو قتلته يوم أمرتني بقتله لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته ، قال : فقال عمر : قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري" .
قوله تعالى: " يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ".
القائل ابن أبي كما تقدم. وقيل: إنه لما قال: " ليخرجن الأعز منها الأذل "
ورجع إلى المدينة لم يلبث إلا أياماً يسيرة حتى مات، فاستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم،وألبسه قميصه، فنزلت هذه الآية: " لن يغفر الله لهم ". وقد مضى بيان هذا كله في سورة براءة مستوفى. وروي أن عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول قال لأبيه: والذي لا إله إلا هو لا تدخل المدينة حتى تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأغر وأنا الأذل، فقاله توهموا أن العزة بكثرة الأموال والأتباع، فبين الله أن العزة والمتعة والقوة لله.
يقول تعالى مخبراً عن المنافقين عليهم لعائن الله أنهم "وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم" أي صدوا وأعرضوا عما قيل لهم استكباراً عن ذلك واحتقاراً لما قيل لهم, ولهذا قال تعالى: "ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون" ثم جازاهم على ذلك فقال تعالى: "سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين" كما قال في سورة براءة, وقد تقدم الكلام على ذلك وإيراد الأحاديث المروية هنالك.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن أبي عمر العدني قال: قال سفيان "لووا رؤوسهم" قال ابن أبي عمر: وحول سفيان وجهه على يمينه ونظر شزراً ثم قال: هو هذا. وقد ذكر غير واحد من السلف أن هذا السياق كله نزل في عبد الله بن أبي بن سلول كما سنورده قريباً إن شاء الله تعالى, وبه الثقة وعليه التكلان. وقد قال محمد بن إسحاق في السيرة: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة, يعني مرجعه من أحد, وكان عبد الله بن أبي بن سلول كما حدثني ابن شهاب الزهري له مقام يقومه كل جمعة, لا ينكر شرفاً له من نفسه ومن قومه, وكان فيهم شريفاً, إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يخطب الناس قام فقال: أيها الناس, هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم, أكرمكم الله به وأعزكم به فانصروه وعزروه واسمعوا له وأطيعوا, ثم يجلس حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع, يعني مرجعه بثلث الجيش ورجع الناس, قام يفعل ذلك كما كان يفعله, فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه وقالوا: اجلس, أي عدو الله لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت, فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بجراً أأن قمت أشدد أمره, فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد فقالوا: ويلك مالك ؟ قال: قمت أشدد أمره فوثب علي رجال من أصحابه يجذبونني ويعنفونني, لكأنما قلت بجراً أأن قمت أشدد أمره. قالوا: ويلك ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: والله ما أبتغي أن يستغفر لي, وقال قتادة والسدي: أنزلت هذه الاية في عبد الله بن أبي, وذلك أن غلاماً من قرابته انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فحدثه بحديث عنه وأمر شديد, فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يحلف بالله ويتبرأ من ذلك, وأقبلت الأنصار على ذلك الغلام فلاموه وعزلوه, وأنزل الله فيه ما تسمعون, وقيل لعدو الله: لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يلوي رأسه, أي لست فاعلاً, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو الربيع الزهراني, حدثنا حماد بن زيد, حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل منزلاً لم يرتحل حتى يصلي فيه, فلما كانت غزوة تبوك بلغه أن عبد الله بن أبي بن سلول قال: ليخرجن الأعز منها الأذل, فارتحل قبل أن ينزل آخر النهار, وقيل لعبد الله بن أبي: ائت النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستغفر لك, فأنزل الله تعالى: " إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون * اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون * ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون * وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون * وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم " وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن جبير. وقوله: إن ذلك كان في غزوة تبوك فيه نظر بل ليس بجيد, فإن عبد الله بن أبي بن سلول لم يكن ممن خرج في غزوة تبوك, بل رجع بطائفة من الجيش, وإنما المشهور عند أصحاب المغازي والسير أن ذلك في غزوة المريسيع, وهي غزوة بني المصطلق.
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: حدثني محمد بن يحيى بن حبان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة في قصة بني المصطلق, فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم هناك اقتتل على الماء جهجاه بن سعيد الغفاري, وكان أجيراً لعمر بن الخطاب وسنان بن وبر قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن يحيى بن حبان قال: ازدحما على الماء فاقتتلا, فقال سنان: يا معشر الأنصار, وقال الجهجاه: يا معشر المهاجرين, وزيد بن أرقم ونفر من الأنصار عند عبد الله بن أبي, فلما سمعها قال: قد ثاورونا في بلادنا, والله ما مثلنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك, والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل, ثم أقبل على من عنده من قومه وقال: ما صنعتم بأنفسكم, أحللتموهم بلادكم, وقاسمتموهم أموالكم, أما والله لو كففتم عنهم لتحولوا عنكم من بلادكم إلى غيرها, فسمعها زيد بن أرقم رضي الله عنه فذهب بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهو غليم عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فأخبره الخبر, فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله مر عباد بن بشر فليضرب عنقه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فكيف إذا تحدث الناس يا عمر أن محمداً يقتل أصحابه, لا, ولكن ناد يا عمر الرحيل" فلما بلغ عبد الله بن أبي أن ذلك قد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فاعتذر إليه, وحلف بالله ما قال, ما قال عليه زيد بن أرقم, وكان عند قومه بمكان فقالوا: يا رسول الله عسى أن يكون هذا الغلام أوهم ولم يثبت ما قال الرجل.
وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجراً في ساعة كان لا يروح فيها, فلقيه أسيد بن الحضير رضي الله عنه فسلم عليه بتحية النبوة ثم قال: والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما بلغك ما قال صاحبك ابن أبي ؟ زعم أنه إذا قدم المدينة سيخرج الأعز منها الأذل" قال: فأنت يا رسول الله العزيز وهو الذليل. ثم قال: ارفق به يا رسول الله, فوالله لقد جاء الله بك وإنا لننظم له الخرز لنتوجه, فإنه ليرى أن قد سلبته ملكاً, فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس حتى أمسوا وليلته حتى أصبحوا, وصدر يومه حتى اشتد الضحى ثم نزل بالناس ليشغلهم عما كان من الحديث, فلم يأمن الناس أن وجدوا مس الأرض فناموا ونزلت سورة المنافقين. وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ, أخبرنا أبو بكر بن إسحاق أخبرنا بشر بن موسى, حدثنا الحميدي, حدثنا سفيان, حدثنا عمر بن دينار, سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار: فقال الأنصاري: ياللأنصار! وقال المهاجرين يا للمهاجرين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بال دعوى الجاهلية ؟ دعوها فإنها منتنة".
وقال عبد الله بن أبي بن سلول: وقد فعلوها, والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل, قال جابر: وكان الأنصار بالمدينة أكثر من المهاجرين حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم كثر المهاجرون بعد ذلك, فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه" ورواه الإمام أحمد عن حسين بن محمد المروزي عن سفيان بن عيينة, ورواه البخاري عن الحميدي ومسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره عن سفيان به نحوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن الحكم, عن محمد بن كعب القرظي عن زيد بن أرقم قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فقال عبد الله بن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل, قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته, قال: فحلف عبد الله بن أبي أنه لم يكن شيء من ذلك, قال: فلامني قومي وقالوا: ما أردت إلى هذا ؟ قال: فانطلقت فنمت كئيباً حزيناً, قال: فأرسل إلي نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله قد أنزل عذرك وصدقك" قال: فنزلت هذه الاية " هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون * يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " ورواه البخاري عند هذه الاية عن آدم بن أبي إياس عن شعبة, ثم قال: وقال ابن أبي زائدة عن الأعمش عن عمرو عن ابن أبي ليلى عن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم, ورواه الترمذي والنسائي عندها أيضاً من حديث شعبة به.
(طريق أخرى عن زيد) قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يحيى بن آدم ويحيى بن أبي بكير قالا: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق قال: سمعت زيد بن أرقم, وقال ابن أبي بكير عن زيد بن أرقم قال: خرجت مع عمي في غزاة فسمعت عبد الله بن أبي بن سلول يقول لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل, فذكرت ذلك لعمي فذكره عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثته, فأرسل إلى عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا, فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه فأصابني هم لم يصبني مثله قط, وجلست في البيت فقال عمي: ما أردت إلا أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك! قال حتى أنزل الله "إذا جاءك المنافقون" قال: فبعث إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثم قال: "إن الله قد صدقك". ثم قال أحمد أيضاً: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا زهير, حدثنا أبو إسحاق أنه سمع زيد بن أرقم يقول: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصاب الناس شدة فقال عبد الله بن أبي لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينفضوا من حوله, وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل, فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله, فاجتهد يمينه ما فعل فقالوا: كذب زيد يا رسول الله, فوقع في نفسي مما قالوا فأنزل الله تصديقي "إذا جاءك المنافقون" قال ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم.
وقوله تعالى: "كأنهم خشب مسندة" قال كانوا رجالاً أجمل شيء, وقد رواه البخاري ومسلم والنسائي من حديث زهير ورواه البخاري أيضاً والترمذي من حديث إسرائيل كلاهما عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي الهمداني الكوفي عن زيد به.
(طريق أخرى عن زيد) قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا عبد بن حميد, حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن السدي عن أبي سعيد الأزدي, قال: حدثنا زيد بن أرقم قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان معنا أناس من الأعراب, فكنا نبتدر الماء وكان الأعراب يسبقوننا إليه فسبق أعرابي أصحابه ليملأ الحوض ويجعل حوله حجارة ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه, قال: فأتى رجل من الأنصار الأعرابي فأرخى زمام ناقته لتشرب, فأبى أن يدعه فانتزع حجراً فغاض الماء, فرفع الأعرابي خشبته فضرب بها رأس الأنصاري فشجه, فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره, وكان من أصحابه فغضب عبد الله بن أبي ثم قال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله, يعني الأعراب, وكانوا يحضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام, فقال عبد الله لأصحابه: إذا انفضوا من عند محمد فائتوا محمداً بالطعام فليأكل هو ومن معه, ثم قال لأصحابه: لئن رجعتم إلى المدينة فليخرج الأعز منها الأذل.
قال زيد وأنا ردف عمي, قال فسمعت عبد الله بن أبي يقول ما قال, فأخبرت عمي فانطلق فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف وجحد, قال فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني, قال فجاء إلي عمي فقال ما أردت إلا أن مقتك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبك والمسلمون, قال فوقع علي من الغم ما لم يقع على أحد قط, قال فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر, وقد خفقت برأسي من الهم, إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي, فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا, ثم إن أبا بكر لحقني وقال: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت: ما قال شيئاً إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي, فقال: أبشر ثم لحقني عمر فقلت له مثل قولي لأبي بكر, فلما أن أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين. انفرد بإخراجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. وهكذا رواه الحافظ البيهقي عن الحاكم عن أبي العباس محمد بن أحمد المحبوبي عن سعيد بن مسعود عن عبيد الله بن موسى به, وزاد بعد قوله سورة المنافقين " إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله " حتى بلغ " هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا " حتى بلغ " ليخرجن الأعز منها الأذل ".
وقد روى عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود عروة بن الزبير في المغازي, وكذا ذكر موسى بن عقبة في مغازيه أيضاً هذه القصة بهذا السياق, ولكن جعلا الذي بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام عبد الله بن أبي بن سلول إنما هو أوس بن أرقم من بني الحارث بن الخزرج, فلعله مبلغ آخر أو تصحيف من جهة السمع والله أعلم. وقد قال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا محمد بن عزيز الأيلي, حدثني سلامة, حدثني عقيل, أخبرني محمد بن مسلم أن عروة بن الزبير وعمرو بن ثابت الأنصاري أخبراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة المريسيع, وهي التي هدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها مناة الطاغية التي كانت بين قفا المشلل وبين البحر, فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فكسر مناة, فاقتتل رجلان في غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك أحدهما من المهاجرين والاخر من بهز, وهم حلفاء الأنصار, فاستعلى الرجل الذي من المهاجرين على البهزي فقال البهزي: يا معشر الأنصار, فنصره رجال من الأنصار, وقال المهاجري: يا معشر المهاجرين, فنصره رجال من المهاجرين حتى كان بين أولئك الرجال من المهاجرين والرجال من الأنصار شيء من القتال, ثم حجز بينهم فانكفأ كل منافق أو رجل في قلبه مرض إلى عبد الله بن أبي بن سلول فقال: قد كنت ترجى وتدفع فأصبحت لا تضر ولا تنفع, قد تناصرت علينا الجلابيب وكانوا يدعون كل حديث الهجرة الجلابيب, فقال عبد الله بن أبي عدو الله: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
قال مالك بن الدخشن وكان من المنافقين: ألم أقل لكم لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا, فسمع بذلك عمر بن الخطاب فأقبل يمشي حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن الناس أضرب عنقه, يريد عمر عبد الله بن أبي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: "أو قاتله أنت إن أمرتك بقتله ؟" قال عمر: نعم والله لئن أمرتني بقتله لأضربن عنقه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجلس" فأقبل أسيد بن حضير وهو أحد الأنصار ثم أحد بني عبد الأشهل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن الناس أضرب عنقه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو قاتله أنت إن أمرتك بقتله ؟" قال: نعم والله لئن أمرتني بقتله لأضربن بالسيف تحت قرط أذنيه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجلس" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آذنوا بالرحيل" فهجر بالناس فسار يومه وليلته والغد حتى متع النهار, ثم نزل ثم هجر بالناس مثلها حتى صبح بالمدينة في ثلاث سارها من قفا المشلل.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أرسل إلى عمر فدعاه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي عمر أكنت قاتله لو أمرتك بقتله ؟" قال عمر: نعم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لو قتلته يومئذ لأرغمت أنوف رجال لو أمرتهم اليوم بقتله امتثلوه, فيتحدث الناس أني قد وقعت على أصحابي فأقتلهم صبراً" وأنزل الله عز وجل " هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون * يقولون لئن رجعنا إلى المدينة " الاية. وهذا سياق غريب وفيه أشياء نفيسة لا توجد إلا فيه, وقال محمد بن إسحاق بن يسار: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عبد الله بن عبد الله بن أبي لما بلغه ما كان من أمر أبيه أتى رسول الله فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه, فإن كنت فاعلاً فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه, فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني, إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا".
وذكر عكرمة وابن زيد وغيرهما أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة وقف عبد الله بن عبد الله هذا على باب المدينة, واستل سيفه فجعل الناس يمرون عليه, فلما جاء أبوه عبد الله بن أبي قال له ابنه: وراءك! فقال: مالك ويلك ؟ فقال: والله لا تجوز من ههنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه العزيز وأنت الذليل, فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إنما يسير ساقة فشكا إليه عبد الله بن أبي ابنه, فقال ابنه عبد الله: والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له, فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما إذا أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجز الان. وقال أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده: حدثنا سفيان بن عيينة, حدثنا أبو هارون المدني قال: قال عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول لأبيه: والله لا تدخل المدينة أبداً حتى تقول: رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز وأنا الأذل, قال وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد أن تقتل أبي فو الذي بعثك بالحق, ما تأملت وجهه قط هيبة له, ولئن شئت أن آتيك برأسه لأتيتك فإني أكره أن أرى قاتل أبي.
ثم ذكر سبحانه مقالة شنعاء قالوها فقال: 8- "يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" القائل لهذه المقالة هو عبد الله بن أبي رأس المنفاقين، وعنى بالأعز نفسه ومن معه، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، ومراده بالرجوع رجوعهم من تلك الغزوة، وإنما أسند القول إلى المنافقين مع كون القائل هو فرد من سامعون له مطيعون. ثم رد الله سبحانه على قائل تلك المقالة فقال: "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين" أي القوة والغلبة لله وحده ولمن أفاضها عليه من رسله وصالحي عباده لا لغيرهم. اللهم كما جعلت العزة للمؤمنين على المنافقين على المنافقين فاجعل العزة للعادلين من عبادك، وأنزل الذلة على الجائرين الظالمين "ولكن المنافقين لا يعلمون" بما فيه النفع فيفعلونه، وبما فيه الضر فيجتنبونه، بل هم كالأنعام لفرط جهلهم ومزيد حيرتهم والطبع على قلوبهم.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن زيد بن أرقم قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصاب الناس شدة، فقال عبد الله بن أبي لأصحابه "لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا" من حوله، وقال: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله، فاجتهد يمينه ما فعل، فقالوا: كذب زيد رسول الله، فوقع في نفسي مما قالوا شدة حتى أنزل الله تصديقي في إذا جاءك المنافقون، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم، وهو قوله: "كأنهم خشب مسندة" قال: كانوا رجالاً أجمل شيء". وأخرج عنه بأطول من هذا ابن سعد وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: إنما سماهم الله منافقين لأنهم كتموا الشرك وأظهروا الإيمان. وأخرج ابن المنذر عنه "اتخذوا أيمانهم جنة" قال: حلفهم بالله إنهم لمنكم اجتنبوا بأيمانهم من القتل والحرب. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً "كأنهم خشب مسندة" قال نخل قيام. وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضاً، قال نزلت هذه الآية "هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا" في عسيف لعمر بن الخطاب. وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم وابن مسعود أنهما قرآ " لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة. قال سفيان: يرون أنها غزوة بني المصطلق فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال المهاجري ياللمهاجرين وقال الأنصاري ياللأنصار، فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم: ما بال دعوة الجاهلية؟ قالوا رجل من المهاجرين كسع رجلاً من الأنصار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها منتنة. فسمع ذلك عبد الله بن أبي فقال: أو قد فعلوها، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه" زاد الترمذي "فقال له ابنه عبد الله: والله لا تنفلت حتى تقر أنك الذليل، ورسول الله العزيز، ففعل".
8- "يقولون لئن رجعنا إلى المدينة"، من غزوة بني المصطلق، "ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين"، فعزة الله: قهره من دونه، وعزة رسوله: إظهار دينه على الأديان كلها، وعزة المؤمنين: نصر الله إياهم على أعدائهم. "ولكن المنافقين لا يعلمون"، ذلك ولو علموا ما قالوا هذه المقالة.
8-" يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " روي أن أعرابياً نازع أنصارياً في بعض العزوات على ماء ،فضرب الأعرابي رأسه بخشبة ،فشكى إلى أين ابن أبي فقال : لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينفضوا ، وإذا رجعنا إلى المدينة فليخرجن الأعز منها الأذل ،عنى بالأعز نفسه بالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقرئ ليخرجن بفتح الياء و ليخرجن على بناء المفعول و لنخرجن بالنون ، ونصب الأعز و الأذل على هذه القراءات مصدر أو حال على تقدير مضاف كخروج أو إخراج أو مثل . " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " ولله الغلبة والقوة ولمن أعزه من رسوله والمؤمنين .
" ولكن المنافقين لا يعلمون " من فرط جهلهم وغرورهم .
8. They say: Surely, if we return to Al Madinah the mightier will soon drive out the weaker; when might belongeth to Allah and to His messenger and the believers; but the hypocrites know not.
8 - They say, If we return to Medina, surely the more honorable (element) will expel therefrom the meaner. But honour belongs to God and His Apostle, and to the Believers; but the Hypocrites know not.