[الأنعام : 91] وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ
91 - (وما قدروا) أي اليهود (الله حق قدره) أي ما عظموه حق عظمته أو ما عرفوه حق معرفته (إذ قالوا) للنبي صلى الله عليه وسلم وقد خاصموه في القرآن (ما أنزل الله على بشر من شيء قل) لهم (من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس يجعلونه) بالياء والتاء في المواضع الثلاثة (قراطيس) أي يكتبونه في دفاتر مقطعة (يبدونها) أي ما يحبون إبداءه منها (ويخفون كثيرا) مما فيها كنعت محمد صلى الله عليه وسلم (وعلمتم) أيها اليهود في القرآن (ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) من التوراة ببيان ما التبس عليكم واختلفتم فيه (قل الله) أنزله إن لم يقولوه لا جواب غيره (ثم ذرهم في خوضهم) باطلهم (يلعبون)
قوله تعالى وما قدروا الله الآية أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف فخاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين وكان حبرا سمينا فغضب وقال ما أنزل الله على بشر من شيء فقال أصحابه ويحك ولا على موسى فأنزل الله وما قدروا الله حق قدره الآية مرسل
وأخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة وتقدم حديث آخر في سورة النساء وأخرج ابن جرير من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال قالت اليهود والله ما أنزل الله من السماء كتابا فأنزلت
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره : "وما قدروا الله حق قدره"، وما أجلوا الله حق إجلاله ، ولا عظموه حق تعظيمه ، "إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء"، يقول : حين قالوا: لم ينزل الله على آدمي كتاباً ولا وحياً.
واختلف أهل التأويل في المعني بقوله : "إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء"، وفي تأويل ذلك .
فقال بعضهم : كان قائل ذلك رجلاً من اليهود.
ثم اختلفوا في اسم ذلك الرجل .
فقال بعضهم : كان اسمه : مالك بن الصيف .
وقال بعضهم : كان اسمه : فنحاص .
واختلفوا أيضاً في السبب الذي من أجله قال ذلك.
ذعر من قال : كان قائل ذلك : مالك بن الصيف .
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين ؟ وكان حبراً سمينا، فغضب فقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء! فقال له أصحابه الذين معه : ويحك! ولا موسى؟ فقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء! فأنزل الله : "وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى"، الآية .
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قاك ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة فوله : "وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء"، قال : نزلت في مالك بن الصيف ، كان من قريظة، من أحبار يهود، "قل" يا محمد "من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس"، الآية .
ذكر من قال : نزلت في فنحاص اليهودي.
حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء"، قال : قال فنحاص اليهودي : ما أنزل الله على محمد من شيء!.
وقال آخرون : بل عني بذلك جماعة من اليهود، سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آيات مثل آيات موسى .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد قال ، حدثنا يونس قال ، حدثنا أبو معشر المدني ، عن محمد بن كعب القرظي قال : جاء ناس من يهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محتب، فقالوا: يا أبا القاسم ، ألا تأتينا بكتاب من السماء، كما جاء به موسى ألواحا يحملها من عند الله؟ فأنزل الله : "يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة"، الآية [النساء: 53]. فجثا رجل من يهود فقال : ما أنزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئاً! فأنزل الله : "وما قدروا الله حق قدره". قال محمد بن كعب: ما علموا كيف الله، "إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا"، فحل رسول الله صلى الله عليه وسلم حبوته ، وجعل يقول : ولا على أحد!
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة : "وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء"، إلى قوله : "في خوضهم يلعبون"، هم اليهود والنصارى، قوم تاهم الله علما فلم يقتدوا به ، ولم يأخذوا به ، ولم يعملوا به ، فذمهم ل لله في عملهم ذلك . ذكر لنا أن أبا الدرداء كان يقول : إن من أكثر ما أنا مخاصم به غداً أن يقال : يا أبا الدرداء، قد علمت ، فماذا عملت فيما علمت ؟.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله : "وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء"، يعني من بني إسرائيل ، قالت اليهود: يا محمد، أنزل الله عليك كتابا؟ قال : نعم! قالوا : والله ما أنزل الله من السماء كتاباً! قال : فأنزل الله : "قل" يا محمد "من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس"، إلى قوله : "ولا آباؤكم"، قال : الله أنزله.
وقال آخرون : هذا خبر من الله جل ثناؤه عن مشركي قريش أنهم قالوا : "ما أنزل الله على بشر من شيء".
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، قال عبد الله بن كثير: إنه سمع مجاهداً يقول : "وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء"، قالها مشركو قريش. قال : وقوله : "قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا"، قال : هم يهود، الذين يبدونها ويخفون كثيراً. قال : وقوله : "وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم"، قال : هذا للمسلمين.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله : "وما قدروا الله حق قدره"، قال : هم الكفار، لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم، فمن آمن أن الله على كل شيء قدير، فقد قدر الله حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك ، فلم يقدر الله حق قدره.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وما قدروا الله حق قدره"، يقول : مشركو قريش.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال : عني بقوله: "وما قدروا الله حق قدره"، مشركو قريش. وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم أولاً، فإن يكون ذلك أيضاً خبراً عنهم ، أشبه من أن يكون خبراً عن اليهود ولما يجر لهم ذكر يكون هذا به متصلاً، مع ما في الخبر عمن أخبر الله عنه في هذه الآية، من إنكاره أن يكون الله أنزل على بشر شيئاً من الكتب ، وليس ذلك مما تدين به اليهود، بل المعروف من دين اليهود : الإقرار بصحف إبراهيم وموسى ، وزبور داود. وإذ لم يأت بما روي من الخبر، بأن قائل ذلك كان رجلاً من اليهود، خبر صحيح متصل السند، ولا كان على أن ذلك كان كذلك من أهل التأويل إجماع ، وكان الخبر من أول السورة ومبتدئها إلى هذا الموضع خبراً عن المشركين من عبدة الأوثان ، وكان قوله : "وما قدروا الله حق قدره"، موصولاً بذلك غير مفصول منه ، لم يجز لنا أن ندعي أن ذلك مصروف عما هو به موصول ، إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل.
ولكني أظن أن الذين تأولوا ذلك خبراً عن اليهود، وجدوا قوله : قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم، فوجهوا تأويل ذلك إلى أنه لأهل التوراة، فقرأوه على وجه الخطاب لهم : "تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم"، فجعلوا ابتداء الآية خبراً عنهم ، إذ كانت خاتمتها خطاباً لهم عندهم . وغير ذلك من التأويل والقراءة أشبه بالتنزيل ، لما وصفت قبل من أن قوله : "وما قدروا الله حق قدره"، في سياق الخبر عن مشركي العرب وعبدة الأوثان وهو به متصل ، فالأولى أن يكون ذلك خبراً عنهم.
والأصوب من القراءة في قوله : يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً، أن يكون بالياء لا بالتاء، على معنى : أن اليهود يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً، ويكون الخطاب بقوله : "قل من أنزل الكتاب"، لمشركي قريش. وهذا هو المعنى الذي قصده مجاهد إن شاء الله في تأويل ذلك ، وكذلك كان يقرأ.
حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد، عن أيوب ، عن مجاهد أنه كان يقرأ هذا الحرف: يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "قل"، يا محمد، لمشركي قومك القائلين لك : "ما أنزل الله على بشر من شيء"، قل : "من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا"، يعني : جلاء وضياء من ظلمة الضلالة، "وهدى للناس"، يقول : بياناً للناس ، يبين لهم به الحق من الباطل فيما أشكل عليهم من أمر دينهم ، "تجعلونه قراطيس تبدونها".
فمن قرأ ذلك: "تجعلونه"، جعله خطاباً لليهود على ما بينت من تأويل من تأول ذلك كذلك.
ومن قرأه بالياء يجعلونه، فتأويله في قراءته : يجعله أهله قراطيس ، وجرى الكلام في يبدونها بذكر القراطيس ، والمراد منه المكتوب في القراطيس ، يراد : يبدون كثيراً مما يكتبون في القراطيس فيظهرونه للناس ، ويخفون كثيراً مما يثبتونه في القراطيس فيسرونه ويكتمونه الناس.
ومما كانوا يكتمونه إياهم ، ما فيها من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته ، كالذي:
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً، اليهود.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج ، عن ابن جريج، عن عكرمة : قل ، يا محمد من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها، يعني يهود، لما أظهروا من التوراة، ويخفون كثيراً ، مما أخفوا من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه ، قال ابن جريج : وقال عبد الله بن كثير: انه سمع مجاهداً يقول : يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفرن كثيرا، قال : هم يهود، الذين يبدونها ويخفون كثيراً.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره : وعلمكم الله جل ثناؤه بالكتاب الذي أنزله إليكم ، ما لم تعلموا أنتم من أخبار من قبلكم ، ومن أنباء من بعدكم ، وما هو كائن في معادكم يوم القيامة، "ولا آباؤكم"، يقول : ولم يعلمه آباؤكم ، أيها المؤمنون بالله من العرب وبرسوله صلى الله عليه وسلم، كالذي:
حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد، عن أيوب ، عن مجاهد : "وعلمتم" معشر العرب "ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم".
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال : قال عبد الله بن كثير: إنه سمع مجاهداً يقول في قوله : "وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم"، قال : هذه للمسلمين.
وأما قوله : "قل الله"، فإنه أمر من الله جل ثناؤه نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يجيب استفهامه هؤلاء المشركين عما أمره باستفهامهم عنه بقوله : قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً، بقيل الله ، كأمره إياه في موضع آخر في هذه السورة بقوله : "قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين" [الأنعام : 63]. فأمره باستفهام المشركين عن ذلك ، كما أمره باستفهامهم إذ قالوا : "ما أنزل الله على بشر من شيء"، عمن أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس . ثم أمره بالإجابة عنه هنالك بقيله : "قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون" [الأنعام : 64]، كما أمره بالإجابة ههنا عن ذلك بقيله : الله أنزله على موسى، كما:
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس : "قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس"، قال : الله أنزله .
ولو قيل : معناه : قل : هو الله ، على وجه الأمر من الله له بالخبر عن ذلك -لا على وجه الجواب ، إذ لم يكن قوله : "قل من أنزل الكتاب" مسالة من المشركين لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فيكون قوله : قل الله ، جواباً لهم عن مسألتهم ، لأنما هو أمر من الله لمحمد بمسألة القوم : "من أنزل الكتاب"؟ فيجب أن يكون الجواب منهم غير الذي قاله ابن عباس من تأويله -كان جائزاً، من أجل أنه استفهام ، ولا يكون للاستفهام جواب، وهو الذي اخترنا من القول في ذلك لما بينا.
وأما قوله : "ثم ذرهم في خوضهم يلعبون"، فإنه يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ثم ذر هؤلاء المشركين العادلين بربهم الأوثان والأصنام ، بعد احتجاجك عليهم في قيلهم : "ما أنزل الله على بشر من شيء" بقولك : "من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس"، وإجابتك ذلك بان الذي أنزله : الله الذي أنزل عليك كتابه ، "في خوضهم"، يعني : فيما يخوضون فيه من باطلهم وكفرهم بالله وآياته ، "يلعبون"، يقول : يستهزئون ويسخرون .
وهذا من الله وعيد لهؤلاء المشركين وتدذد لهم . يقول الله جل ثناؤه : ثم دعهم لاعبين ، يا محمد، فإني من وراء ما هم فيه من استهزائهم بآياتي بالمرصاد، وأذيقهم بأسي ، وأحل بهم إن تمادوا في غيهم سخطي.
قوله تعالى: "وما قدروا الله حق قدره" أي فيما وجب له واستحال عليه وجاز. قال ابن عباس: ما آمنوا أنه على كل شيء قدير. وقال الحسن: ما عظموه حق عظمته. وهذا يكون من قولهم: لفلان قدر. وشرح هذا أنهم لما قالوا: "ما أنزل الله على بشر من شيء" نسبوا الله عز وجل إلى أنه لا يقيم الحجة على عباده، ولا يأمرهم بما لهم فيه الصلاح، فلم يعظموه حق عظمته ولا عرفوه حق معرفته. وقال أبو عبيدة: أي ما عرفوا الله حق معرفته. قال النحاس: وهذا معنى حسن، لأن معنى قدرت الشيء وقدرته عرفت مقداره. ويدل عليه قوله: "إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء" أي لم يعرفوه حق معرفته، إذ أنكروا أن يرسل رسولاً. والمعنيان متقاربان. وقد قيل: وما قدروا نعم الله حق تقديرها. وقرأ أبو حيوة: وما قدروا الله حق قدره بفتح الدال، وهي لغة.
"إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء" قال ابن عباس وغيره: يعني مشركي قريش. وقال الحسن و سعيد بن جبير: الذي قاله أحد اليهود، قال: لم ينزل الله كتاباً من السماء. قال السدي: اسمه فنحاص. وعن سعيد بن جبير أيضاً قال: هو "مالك بن الصيف، جاء يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين؟ وكان حبراً سميناً. فغضب وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء. فقال له أصحابه الذين معه: ويحك! ولا على موسى؟ فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء"، فنزلت الآية. ثم قال نقضاً لقولهم ورداً عليهم: "قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس" -أي في قراطيس- "تبدونها وتخفون كثيرا" هذا لليهود الذين أخفوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها من الأحكام. وقال مجاهد: قوله تعالى "قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى" خطاب للمشركين، وقوله: "تجعلونه قراطيس" لليهود وقوله: " وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم" للمسلمين. وهذا يصح على قراءة من قرأ "تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون" بالياء. والوجه على قراءة التاء أن يكون كله لليهود، ويكون معنى "وعلمتم ما لم تعلموا" أي وعلمتم ما لم تكونوا تعلمونه أنتم ولا آباؤكم، على وجه المن عليهم بإنزال التوراة. وجعلت التوراة صحفاً فلذلك قال "قراطيس تبدونها" أي تبدون القراطيس. وهذا ذم لهم، ولذلك كره العلماء كتب القرآن أجزاء. "قل الله" أي قل يا محمد الله الذي أنزل ذلك الكتاب على موسى وهذا الكتاب علي. أو قل الله علمكم الكتاب. "ثم ذرهم في خوضهم يلعبون" أي لاعبين، ولو كان جواباً للأمر لقال يلعبوا. ومعنى الكلام التهديد. وقيل: هو من المنسوخ بالقتال، ثم قيل: يجعلونه في موضع الصفة لقوله "نورا وهدى" فيكون في الصلة. ويحتمل أن يكون مستأنفاً، والتقدير: يجعلونه ذا قراطيس. وقوله: "تبدونها وتخفون كثيرا" يحتمل أن يكون صفة لقراطيس، لأن النكرة توصف بالجمل. ويحتمل أن يكون مستأنفاً حسبما تقدم.
يقول الله تعالى وما عظموا الله حق تعظيمه, إذ كذبوا رسله إليهم, قال ابن عباس ومجاهد وعبد الله بن كثير: نزلت في قريش, واختاره ابن جرير, وقيل نزلت في طائفة من اليهود, وقيل في فنحاص رجل منهم, وقيل في مالك بن الصيف "قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء" والأول أصح, لأن الاية مكية, واليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء, وقريش والعرب قاطبة كانوا ينكرون إرسال محمد صلى الله عليه وسلم لأنه من البشر, كما قال "أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس" وكقوله تعالى: " وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا * قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا " وقال ههنا "وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء" قال الله تعالى: "قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس" أي قل يا محمد لهؤلاء المنكرين لإنزال شيء من الكتب من عند الله, في جواب سلبهم العام, بإثبات قضية جزئية موجبة, "من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى" وهو التوراة التي قد علمتم, وكل أحد أن الله قد أنزلها على موسى بن عمران, نوراً وهدى للناس, أي ليستضاء بها في كشف المشكلات, ويهتدى بها من ظلم الشبهات, وقوله "تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً" أي تجعلون جملتها قراطيس, أي قطعاً تكتبونها من الكتاب الأصلي, الذي بأيديكم, وتحرفون منها ما تحرفون, وتبدلون وتتأولون, وتقولون هذا من عند الله, أي في كتابه المنزل, وما هو من عند الله, ولهذا قال "تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً" وقوله تعالى: " وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم " أي ومن أنزل القرآن الذي علمكم الله فيه, من خبر ما سبق, ونبأ ما يأتي مالم تكونوا تعلمون ذلك, لا أنتم ولا آباؤكم, وقد قال قتادة: هؤلاء مشركو العرب وقال مجاهد هذه للمسلمين, وقوله تعالى: "قل الله" قال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس, أي قل الله أنزله, وهذا الذي قاله ابن عباس, هو المتعين في تفسير هذه الكلمة, لا ما قاله بعض المتأخرين, من أن معنى "قل الله" أي لا يكون خطابك لهم, إلا هذه الكلمة, كلمة "الله" وهذا الذي قاله هذا القائل, يكون أمراً بكلمة مفردة, من غير تركيب, والإتيان بكلمة مفردة لا يفيد في لغة العرب فائدة يحسن السكوت عليها, وقوله "ثم ذرهم في خوضهم يلعبون" أي ثم دعهم في جهلهم وضلالهم يلعبون, حتى يأتيهم من الله اليقين, فسوف يعلمون ألهم العاقبة أم لعباد الله المتقين ؟ وقوله "وهذا كتاب" يعني القرآن "أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى" يعني مكة "ومن حولها" من أحياء العرب, ومن سائر طوائف بني آدم, ومن عرب وعجم, كما قال في الاية الأخرى "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً" وقال "لأنذركم به ومن بلغ" وقال "ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده" وقال "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً" وقال " وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد " وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي" وذكر منهن "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة, وبعثت إلى الناس عامة" ولهذا قال " والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به " أي كل من آمن بالله واليوم الاخر, يؤمن بهذا الكتاب المبارك, الذي أنزلناه إليك يا محمد, وهو القرآن "وهم على صلاتهم يحافظون" أي يقيمون بما فرض عليهم من أداء الصلوات في أوقاتها .
قوله: 91- "وما قدروا الله حق قدره" قدرت الشيء وقدرته عرفت مقداره، وأصله: الستر، ثم استعمل في معرفة الشيء: أي لم يعرفوه حق معرفته حيث أنكروا إرساله للرسل وإنزاله للكتب. وقيل المعنى: وما قدروا نعم الله حق تقديرها. وقرأ أبو حمزة "وما قدروا الله حق قدره" بفتح الدال: وهي لغة، ولما وقع منهم هذا الإنكار وهم من اليهود أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يورد عليهم حجة لا يطيقون دفعها، فقال: "قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى" وهم يعترفون بذلك ويذعنون له، فكان في هذا من التبكيت لهم والتقريع ما لا يقادر قدره مع إلجائهم إلى الاعتراف بما أنكروه من وقوع إنزال الله على البشر وهم الأنبياء عليهم السلام، فبطل جحدهم وتبين فساد إنكارهم، وقيل: إن القائلين بهذه المقالة هم كفار قريش فيكون إلزامهم بإنزال الله الكتاب على موسى من جهة أنهم يعترفون بذلك ويعلمونه بالأخبار من اليهود، وقد كانوا يصدقونهم و "نوراً وهدى" منتصبان على الحال و "للناس" متعلق بمحذوف هو صفة لهدى: أي كائناً للناس. قوله: "تجعلونه قراطيس" أي تجعلون الكتاب الذي جاء به موسى في قراطيس تضعونه فيها ليتم لكم ما تريدونه من التحريف والتبديل وكتم صفة النبي صلى الله عليه وسلم المذكورة فيه، وهذا ذم لهم، والضمير في "تبدونها" راجع إلى القراطيس، وفي "تجعلونه" راجع إلى الكتاب، وجملة تجعلونه في محل نصب على الحال، وجملة تبدونها صفة لقراطيس "وتخفون كثيراً" معطوف على تبدونها: أي وتخفون كثيراً منها، والخطاب في "وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم" لليهود: أي والحال أنكم قد علمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم، ويحتمل أن تكون هذه الجملة استئنافية مقررة لما قبلها، والذي علموه هو الذي أخبرهم به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الأمور التي أوحى الله إليه بها، فإنها اشتملت على ما لم يعلموه من كتبهم ولا على لسان أنبيائهم ولا علمه آباؤهم، ويجوز أن يكون ما في ما لم تعلموا عبارة عما علموه من التوراة، فيكون ذلك على وجه المن عليهم بإنزال التوراة، وقيل: الخطاب للمشركين من قريش وغيرهم، فتكون ما عبارة عما علموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمره الله رسوله بأن يجيب عن ذلك الإلزام الذي ألزمهم به حيث قال: "من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى" فقال: "قل الله" أي أنزله الله "ثم ذرهم في خوضهم يلعبون" أي ذرهم في باطلهم حال كونهم يلعبون: أي يصنعون صنع الصبيان الذين يلعبون.
91- قوله تعالى " وما قدروا الله حق قدره "، أي ما عظموه حق عظمته، وقيل: ما وصفوه حق صفته، " إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء "، قال سعيد بن جبير:" جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين وكان حبراً سميناً فغضب، وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء".
وقال السدي : نزلت في فنحاص بن عازوراء، وهو قائل هذه المقالة.
وفي القصة: أن مالك بن الصيف لما سمعت اليهود منه تلك المقالة عتبوا عليه، وقالوا: أليس أن الله أنزل التوراة على موسى ؟ فلم قلت ما أنزل الله على بشر من شيء ؟فقال مالك بن الصيف أغضبني محمد فقلت ذلك، فقالوا له: وأنت إذا غضبت تقول[على الله] غير الحق فنزعوه عن الحبرية، وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قالت اليهود: يا محمد أنزل الله عليك كتاباً ؟قال: نعم، قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتاباً، فأنزل الله: " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء "، فقال الله تعالى: " قل "، لهم، " من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس "، يعني التوراة، " تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً "، أي: تكتبون عنه دفاتر وكتباً مقطعة تبدونها، أي: تبدون ما تحبون وتخفون كثيراً من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم. قرأ ابن كثير وأبو عمر " يجعلون " " تبدونها " " وتخفون "، بالياء جميعاً، لقوله تعالى " وما قدروا الله حق قدره "، وقرأ الآخرون بالتاء، لقوله تعالى " قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ".
وقوله " وعلمتم ما لم تعلموا "، [الأكثرون على أنها خطاب لليهود، يقول: علمتم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ما لم تعلموا] " أنتم ولا آباؤكم "، قال الحسن : جعل لهم علم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فضيعوه ولم ينتفعوا به .
وقال مجاهد : هذا خطاب للمسلمين يذكرهم النعمة فيما علمهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم " قل الله "، هذا راجع إلى قوله " قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى "، فإن أجابوك وإلا فقل أنت: الله، أي: قل أنزله الله ، " ثم ذرهم في خوضهم يلعبون "
91 " وما قدروا الله حق قدره " وما عرفوه حق معرفته في الرحمة والإنعام على العباد . " إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء " حين أنكروا الوحي وبعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وذلك من عظائم رحمته وجلائل نعمته أو في السخط على الكفار وشدة البطش بهم حين جسروا على هذه المقالة ' والقائلون هم اليهود قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن بدليل نقض كلامهم ، وإلزامهم بقوله : " قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس " وقراءة الجمهور " تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا " بالتاء وإنما قرأ بالياء ابن كثير و أبو عمرو حملا على قالوا وما قدروا ، وتضمن ذلك توبيخهم على سوء جهلهم بالتوراة وذمهم على تجزئتها بإبداء بعض انتخبوه وكتبوه في ورقات متفرقة وإخفاء بعض لا يشتهونه . وروي " أن مالك بن الصيف قاله لما أغضبه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين قال : نعم إن الله يبغض الحبر السمين ، قال عليه الصلاة والسلام : فأنت الحبر السمين " وقيل هم المشركين وإلزامهم بإنزال التوراة لأنه كان من المشهورات الذائعة عندهم ولذلك كانوا يقولون : " لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم " و" علمتم " على لسان محمد صلى الله عليه وسلم . " ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم " زيادة على ما في التوراة وبيانا لما التبس عليكم وعلى آبائكم الذين كانوا أعلم منكم ونظيره " إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون " وقيل الخطاب لمن آمن من قريش " قل الله " أي أنزله الله ، أو الله أنزله . أمره بأن يجيب عنهم إشعارا بأن الجواب متعين لا يمكن غيره ، وتنبيها على أنهم بهتوا بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب . " ثم ذرهم في خوضهم " في أباطيلهم فلا عليك بعد التبليغ وإلزام الحجة " يلعبون " حال من هم الأول ، والظرف صلة ذرهم أو يلعبون أو حال منهم الأول ، والظرف صلة ذرهم أو يلعبون أو حال من مفعوله ، أو فاعل يلعبون أو من هم الثاني والظرف متصل بالأول .
91. And they measure not the power of Allah its true measure when they say: Allah hath naught revealed unto a human being. Say (unto the Jews who speak thus): Who revealed the Book which Moses brought, a light and guidance for mankind, which ye have put on parchments which ye show, but ye hide much (thereof), and by which ye were taught that which ye knew not yourselves nor (did) your fathers (know it)? Say: Allah. Then leave them to their play of cavilling.
91 - Do just estimate of God do they make when they say: nothing doth God send down to man (by way of revelation): say: who then sent down the book which Moses brought? a light and guidance to man: but ye make it into (separate) sheets for show, while ye conceal much (of its contents): therein were ye taught that which ye knew not neither ye nor your fathers. say: God (sent it down): then leave them to plunge in vain discourse and trifling.