[الأنعام : 76] فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ
76 - (فلما جن) أظلم (عليه الليل رأى كوكبا) قيل هو الزُّهَرة (قال) لقومه وكانوا نجَّامين (هذا ربي) في زعمكم (فلما أفل) غاب (قال لا أحب الآفلين) أن أتخذهم أربابا لأن الرب لا يجوز عليه التغير والانتقال لأنهما من شأن الحوادث فلم ينجع فيهم ذلك
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره : فلما واراه الليل وغيبه.
يقال منه : "جن عليه الليل" وجنه الليل وأجنه، و أجن عليه. وإذا ألقيت على، كان الكلام بالألف أفصح منه بغير الألف، أجنه الليل، أفصح من أجن عليه و جن عليه الليل، أفصح من جنه، وكل ذلك مقبول مسموع من العرب. جنه الليل، في أسد، وأجنه وجنه في تميم.
والمصدر من: جن عليه، جنا وجنوناً وجناناً، ومن أجن إجناناً. ويقال : أتى فلان في جن الليل. و الجن من ذلك لأنهم استجنوا عن أعين بني آدم فلا يرون. وكل ما توارى عن أبصار الناس، فإن العرب تقول فيه: قد جن، ومنه قول الهذلي :
وماء وردت قبيل الكرى وقد جنه السدف الأدهم
وقال عبيد:
وخرق تصيح البوم فيه مع الصدى مخوف إذا ما جنه الليل مرهوب
ومنه : أجننت الميت إذا واريته في اللحد، و جننته، وهو نظير جنون الليل، في معنى غطيته. ومنه قيل للترس مجن لأنه يجن من استجن به فيغطيه ويواريه .
وقوله: "رأى كوكبا"، يقول: أبصر كوكباً حين طلع، "قال هذا ربي"، فروي عن ابن عباس في ذلك ، ما :
حدثني به المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله : "وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقني"، يعني به الشمس والقمر والنجوم ، "فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي"، فعبده حتى غاب، فلما غاب قال : لا أحب الآفلين ، "فلما رأى القمر بازغا قال هذا رب"، فعبده حتى غاب ، فلما غاب قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، "فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر"، فعبدها حتى غابت ، فلما غابت قال : يا قوم إني بريء مما تشركون. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: "فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الأفلين"، علم أن ربه دائم لا يزول. فقرأ حتى بلغ : "هذا ربي هذا أكبر"، رأى خلقاً هو أكبر من الخلقين الأولين وأنور.
وكان سبب قيل إبراهيم ذلك ، ما:
حدثني به محمد بن حميد قال ، حدثنا سلمة بن الفضل قال ، حدثني محمد بن إسحق - فيما ذكر لنا، والله أعلم- أن آزر كان رجلاً من أهل كوثى ، من قرية بالسواد، سواد الكوفة، وكأن إذ ذاك ملك المشرق لنمرود، فلما أراد الله أن يبعث إبراهيم ، عليه السلام ، خليل الرحمن ، حجةً على قومه ، ورسولاً إلى عباده ، ولم يكن فيما بين نوح وإبراهيم نبي إلا هود وصالح ، فلما تقارب زمان إبراهيم الذي أراد الله ما أراد، أتى أصحاب النجوم نمرود فقالوا له : تعلم ، أنا نجد في علمنا أن غلاماً يولد في قريتك هذه يقال له إبراهيم، يفارق دينكم ، ويكسر أوثانكم ، في شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا . فلما دخلت السنة التي وصف أصحاب النجوم لنمرود، بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقريته فحبسها عنده، إلا ما كان من أم إبراهيم امرأة آزر، فإنه لم يعلم بحبلها، وذلك أنها كانت امرأة حدثاً، فيما يذكر، لم تعرف الحبل في بطنها، ولما أراد الله أن يبلغ بولدها، يريد أن يقتل كل غلام ولد في ذلك الشهر من تلك السنة، حذراً على ملكه . فجعل لا تلد امرأة غلاماً في ذلك الشهر من تلك السنة، إلا أمر به فذبح. فلما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلاً إلى مغارة كانت قريباً منها، فولدت فيها إبراهيم، وأصلحت من شأنه ما يصنع بالمولود، ثم سدت عليه المغارة، ثم رجعت إلى بيتها، ثم كانت تطالعه في المغارة فتنظر ما فعل، فتجده حياً يمص إبهامه، يزعمون، والله أعلم، أن الله جعل رزق إبراهيم فيها وما يجيئه من مصه. وكان آزر، فيما يزعمون، سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل، فقالت : ولدت غلاماً فمات فصدقها، فسكت عنها. وكان اليوم، فيما يذكرون ، على إبراهيم في الشباب كالشهر، والشهر كالسنة. فلم يلبث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر شهراً حتى قال لأمه: أخرجيني أنظر فأخرجته عشاءً فنظر، وتفكر في خلق السماوات والأرض ، وقال إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لرب، ما لي إله غيره ثم نظر في السماء فرأى كوكباً، قال: "هذا ربي"، ثم اتبعه ينظر إليه ببصره حتى غاب ، فلما أفل قال : لا أحب الأفلين، ثم طلع القمر فرآه بازغاً، قال : "هذا ربي"، ثم اتبعه ببصره حتى غاب ، فلما أفل قال : "لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين" فلما دخل عليه النهار و-طلعت الشمس ، أعظم الشمس ، ورأى شيئاً هو أعظم نوراً من كل شيء رآه قبل ذلك، فقال : "هذا ربي"، هذا أكبر فلما أفلت قال : "قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ". ثم رجع إبراهيم إلى أبيه آزر وقد استقامت وجهته، وعرف ربه، وبرىء من دين قومه، إلا أنه لم يبادئهم بذلك . وأخبر أنه ابنه، وأخبرته أم إبراهيم أنه ابنه، وأخبرته بما كانت صنعت من شأنه، فسر بذلك آزر وفرح فرحاً شديداً. وكان آزر يصنع أصنام قومه التي يعبدونها، ثم يعطيها إبراهيم يبيعها، فيذهب بها إبراهيم ، فيما يذكرون ، فيقول : من يشتري ما يضره ولا ينفعه، فلا يشتريها منه أحد. فإذا بارت عليه، ذهب بها إلى نهر فصوب فيه رؤوسها، وقال : اشربي، استهزاءً بقومه وما هم عليه من الضلالة، حتى فشا عيبه إياها واستهزاؤه بها في قومه وأهل قريته، من غير أن يكون ذلك بلغ نمرود الملك .
قال أبو جعفر: وأنكر قوم من غير أهل الرواية هذا القول الذي روي عن ابن عباس وعمن روي عنه، من أن إبراهيم قال للكوكب أو للقمر: "هذا ربي"، وقالوا: غير جائز أن يكون لله نبي ابتعثه بالرسالة، أتى عليه وقت من الأوقات وهو بالغ إلا وهو لله موحد، وبه عارف ، ومن كل ما يعبد من دونه برييء . قالوا: ولو جاز أن يكون قد أتى عليه بعض الأوقات وهو به كافر، لم يجز أن يختصه بالرسالة، لأنه لا معنى فيه إلا وفي غيره من أهل الكفر به مثله. وليس بين الله وبين أحد من خلقه مناسبة، فيحابيه باختصاصه بالكرامة. قالوا : وإنما أكرم من أكرم منهم لفضله في نفسه ، فأثابه لاستحقاقه الثواب بما أثابه من الكرامة. وزعموا أن خبر الله عن قيل إبراهيم عند رؤيته الكوكب أو القمر أو الشمس : "هذا ربي"، لم يكن لجهله بأن ذلك غير جائز أن يكون ربه، وإنما قال ذلك على وجه الإنكار منه أن يكون ذلك ربه، وعلى العيب لقومه في عبادتهم الأصنام، إذ كان الكوكب والقمر والشمس أضوأ وأحسن وأبهج من الأصنام، ولم تكن مع ذلك معبودة، وكانت آفلة زائلة غير دائمة، فالأصنام التي هي دونها في الحسن وأصغر منها في الجسم، أحق أن لا تكون معبودة ولا آلهة. قالوا: وإنما قال ذلك لهم، معارضة، كما يقول أحد المتناظرين لصاحبه معارضاً له في قول باطل قال به بباطل من القول، على وجه مطالبته إياه بالفرقان بين القولين الفاسدين عنده، اللذين يصحح خصمه أحدهما ويدعي فساد الآخر.
وقال آخرون منهم : بل ذلك كان منه في حال طفولته، وقبل قيام الحجة عليه. وتلك حال لا يكون فيها كفر ولا إيمان.
وقال آخرون منهم : إنما معنى الكلام : أهذا ربي ؟ على وجه الإنكار والتوبيخ ، أي : ليس هذا ربي. وقالوا : قد تفعل العرب مثل ذلك، فتحذف الألف التي تدل على معنى الاستفهام. وزعموا أن مات ذلك قول الشاعر:
رفوني وقالوا: يا خويلد، لا ترع فقلت، وأنكرت الوجوه: هم هم؟
يعني: أهم هم ؟ قالوا: ومن ذلك قول أوس:
لعمرك ما أدري، وإن كنت دارياً، شعيت بن سهم أم شعيث بن منقر
بمعن : أشعيت بن سهم؟ فحذف (الألف)، ونظائر ذلك. وأما تذكير "هذا" في قوله : "فلما رأى الشمس بازغةً قال هذا ربي"، فإنما هو على معنى: هذا الشيء الطالع ربي.
قال أبو جعفر وفي خبر الله تعالى عن قيل إبراهيم حين أفل القمر: "لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين"، الدليل على خطأ هذه الأقوال التي قالها هؤلاء القوم، وأن الصواب من القول في ذلك، الإقرار بخبر الله تعالى الذي أخبر به عنه، والإعراض عما عداه.
وأما قوله: "فلما أفل"، فإن معناه : فلما غاب وذهب ، كما:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال ، قال ابن إسحق: (الأفول )، الذهاب.
يقال منه: (أفل النجم يأفل ويأفل أفولاً وأفلاً)، إذا غاب، ومنه قول ذي الرمة: مصابيح ليست باللواتي تقودها نجوم، ولا بالآفلات الدوالك
ويقال: (أين أفلت عنا) بمعنى: أين غبت عنا؟
قوله تعالى: "فلما جن عليه الليل" أي ستره بظلمته، ومنه الجنة والجنة والجنة والجنين والمجن والجن كله بمعنى الستر. وجنان الليل ادلهمامه وستره. قال الشاعر:
ولولا جنان الليل أدرك ركضنا بذي الرمث والأرطى عياض بن ناشب
ويقال: جنون الليل أيضاً. ويقال: جنه الليل وأجنه الليل، لغتان. "رأى كوكبا" هذه قصة أخرى، غير قصة عرض الملكوت عليه. فقيل: رأى ذلك من شق الصخرة الموضوعة على رأس السرب. وقيل: لما أخرجه أبوه من السرب وكان وقت غيبوبة الشمس فرأى الإبل والخيل والغنم فقال: لا بد لها من رب. ورأى المشتري أو الزهرة ثم القمر ثم الشمس، وكان هذا في آخر الشهر. قال محمد بن إسحاق: وكان ابن خمس عشرة سنة. وقيل: ابن سبع سنين. وقيل: لما حاج نمروذاً كان ابن سبع عشرة سنة.
قوله تعالى: "قال هذا ربي" اختلف في معناه على أقوال، فقيل: كان هذا منه في مهلة النظر وحال الطفولية وقبل قيام الحجة، وفي تلك الحال لا يكون كفر ولا إيمان. فاستدل قائلو هذه المقالة بما روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: "فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي" فعبده حتى غاب عنه، وكذلك الشمس والقمر، فلما تم نظره قال: "بريء مما تشركون" واستدل بالأقوال، لأنه أظهر الآيات على الحدوث. وقال قوم: هذا لا يصح، وقالوا: غير جائز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف، ومن كل معبود سواه بريء. قالوا: وكيف يصح أن يتوهم هذا على من عصمه الله وأتاه رشده من قبل، وأراه ملكوته ليكون من الموقنين، ولا يجوز أن يوصف بالخلو عن المعرفة، بل عرف الرب أول النظر. قال الزجاج: هذا الجواب عندي خطأ وغلط ممن قاله، وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم أنه قال: "واجنبني وبني أن نعبد الأصنام" [إبراهيم: 35] وقال جل وعز: "إذ جاء ربه بقلب سليم" [الصافات: 84] أي لم يشرك به قط. قال: والجواب عندي أنه قال: "الليل رأى" على قولكم، لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر، ونظير هذا قوله تعالى: "أين شركائي" [القصص: 62] وهو جل وعلا واحد لا شريك له. والمعنى: أين شركائي على قولكم. وقيل: لما خرج إبراهيم من السرب رأى ضوء الكوكب وهو طالب لربه، فظن أنه ضوءه قال: "هذا ربي" أي بأنه يتراءى لي نوره. "فلما أفل" علم أنه ليس بربه. "فلما رأى القمر بازغا" ونظر إلى ضوئه " قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي " وليس هذا شركاً. إنما نسب ذلك الضوء إلى ربه فلما رآه زائلاً دله العلم على أنه غير مستحق لذلك، فنفاه بقلبه وعلم أنه مربوب وليس برب. وقيل: إنما قال "هذا ربي" لتقرير الحجة على قومه فأظهر موافقتهم، فلما أفل النجم قرر الحجة وقال: ما تغير لا يجوز أن يكون رباً. وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ويحكمون بها. وقال النحاس: ومن أحسن ما قيل في هذا ما صح عن ابن عباس أنه قال في قول الله عز وجل: "نور على نور" [النور: 35] قال: كذلك قلب المؤمن يعرف الله عز وجل ويستدل عليه بقلبه، فإذا عرفه ازداد نوراً على نور، وكذا إبراهيم عليه السلام عرف الله عز وجل بقلبه واستدل عليه بدلائله، فعلم أن له رباً وخالقاً. فلما عرفه الله عز وجل بنفسه ازداد معرفة فقال: "أتحاجوني في الله وقد هدان". وقيل: هو على معنى الاستفهام والتوبيخ، منكراً لفعلهم. والمعنى أهذا ربي، أو مثل هذا يكون رباً؟ فحذف الهمزة. وفي التنزيل "أفإن مت فهم الخالدون" [الأنبياء: 34] أي أفهم الخالدون. وقال الهذلي:
رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
آخر:
لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً بسبع رمين الجمر أم بثمان
وقيل: المعنى هذا ربي على زعمكم، كما قال تعالى: "أين شركائي الذين كنتم تزعمون" [القصص: 62و74]. وقال: "ذق إنك أنت العزيز الكريم" [الدخان: 49] أي عند نفسك. وقيل: المعنى أي وأنتم تقولون هذا ربي، فأضمر القول، وإضماره في القرآن كثير. وقيل: المعنى في هذا ربي، أي هذا دليل على ربي.
قال الضحاك عن ابن عباس: إن أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزر, وإنما كان اسمه تارح, رواه ابن أبي حاتم وقال أيضاً: حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل, حدثنا أبي حدثنا أبو عاصم شبيب, حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قوله "وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر" يعني بآزر الصنم, وأبو إبراهيم اسمه تارح, وأمه اسمها مثاني, وامرأته اسمها سارة, وأم إسماعيل اسمها هاجر, وهي سرية إبراهيم, وهكذا قال غير واحد من علماء النسب أن اسمه تارح, وقال مجاهد والسدي: آزر اسم صنم, قلت: كأنه غلب عليه آزر, لخدمته ذلك الصنم فالله أعلم, وقال ابن جرير وقال آخرون: هو سب وعيب بكلامهم, ومعناه معوج, ولم يسنده ولا حكاه عن أحد. وقد قال ابن أبي حاتم: ذكر عن معتمر بن سليمان, سمعت أبي يقرأ "وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر" قال: بلغني أنها أعوج, وأنها أشد كلمة قالها إبراهيم عليه السلام, ثم قال ابن جرير: والصواب أن اسم أبيه آزر, ثم أورد على نفسه قول النسابين أن اسمه تارح, ثم أجاب بأنه قد يكون له اسمان, كما لكثير من الناس, أو يكون أحدهما لقباً, وهذا الذي قاله جيد قوي والله أعلم, واختلف القراء في أداء قوله تعالى: "وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر" فحكى ابن جرير عن الحسن البصري, وأبي يزيد المدني, أنهما كانا يقرآن "وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة" معناه يا آزر أتتخذ أصناماً آلهة, وقرأ الجمهور بالفتح, إما على أنه علم أعجمي لا ينصرف أيضاً, كأحمر وأسود, فأما من زعم أنه منصوب, لكونه معمولاً لقوله "أتتخذ أصناماً" تقديره يا أبت أتتخذ آزر أصناماً آلهة, فإنه قول بعيد في اللغة, فإن ما بعد حرف الاستفهام, لا يعمل فيما قبله لأن له صدر الكلام, كذا قرره ابن جرير وغيره, وهو مشهور في قواعد العربية, والمقصود أن إبراهيم وعظ أباه في عبادة الأصنام, وزجره عنها ونهاه فلم ينته, كما قال "وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة ؟" أي أتتأله لصنم تعبده من دون الله "إني أراك وقومك" أي السالكين مسلكك "في ضلال مبين" أي تائهين لا يهتدون أين يسلكون, بل في حيرة وجهل وأمركم في الجهالة والضلال بين واضح لكل ذي عقل سليم. وقال تعالى: " واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا * إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا * يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا * يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا * يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا * قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا * قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا * وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا " فكان إبراهيم عليه السلام, يستغفر لأبيه مدة حياته, فلما مات على الشرك وتبين إبراهيم ذلك, رجع عن الاستغفار له وتبرأ منه, كما قال تعالى: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم " وثبت في الصحيح أن إبراهيم, يلقى أباه آزر يوم القيامة, فيقول له آزر يا بني اليوم لا أعصيك, فيقول إبراهيم أي رب ألم تعدني أنك لا تخزني يوم يبعثون, وأي خزي أخزى من أبي الأبعد فيقال يا إبراهيم, انظر ما وراءك فإذا هو بذيخ متلطخ, فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار, قوله "وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض" أي نبين له وجه الدلالة في نظره إلى خلقهما, على وحدانية الله عز وجل, في ملكه وخلقه, وأنه لا إله غيره ولا رب سواه, كقوله "قل انظروا ماذا في السموات والأرض" وقال " أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب " وأما ما حكاه ابن جرير وغيره عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والسدي وغيرهم, قالوا: واللفظ لمجاهد: فرجت له السموات, فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى بصره إلى العرش, وفرجت له الأرضون السبع, فنظر إلى ما فيهن, وزاد غيره فجعل ينظر إلى العباد على المعاصي, ويدعو عليهم, فقال الله له إني أرحم بعبادي منك, لعلهم أن يتوبوا أو يرجعوا. وروى ابن مردويه في ذلك حديثين مرفوعين, عن معاذ وعلي, ولكن لا يصح إسنادهما, والله أعلم, وروى ابن أبي حاتم من طريق العوفي, عن ابن عباس, في قوله "وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين" فإنه تعالى جلا له الأمر سره وعلانيته, فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق, فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب, قال الله إنك لا تستطيع هذا فرده كما كان قبل ذلك, فيحتمل أن يكون كشف له عن بصره حتى رأى ذلك عياناً, ويحتمل أن يكون عن بصيرته, حتى شاهده بفؤاده وتحققه وعرفه, وعلم ما في ذلك من الحكم الباهرة, والدلالات القاطعة كما رواه الإمام أحمد والترمذي, وصححه عن معاذ بن جبل في حديث المنام "أتاني ربي في أحسن صورة فقال يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ فقلت لا أدري يا رب, فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفت ذلك" وذكر الحديث. قوله "وليكون من الموقنين" قيل الواو زائدة تقديره وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض, ليكون من الموقنين, كقوله " وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين " وقيل بل هي على بابها, أي نريه ذلك ليكون عالماً وموقناً, وقوله تعالى: "فلما جن عليه الليل" أي تغشاه وستره "رأى كوكباً" أي نجماً "قال هذا ربي فلما أفل" أي غاب, قال محمد بن إسحاق بن يسار: الأفول الذهاب, وقال ابن جرير: يقال: أفل النجم يأفل ويأفل أفولاً وأفلا, إذا غاب ومنه قول ذي الرمة:
مصابيح ليست باللواتي تقودها دياج ولا بالافلات الزوائل
ويقال: أين أفلت عنا ؟ بمعنى أين غبت عنا, قال " لا أحب الأفلين " قال قتادة: علم أن ربه دائم لا يزول, "فلما رأى القمر بازغاً" أي طالعاً "قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي" أي هذا المنير الطالع ربي "هذا أكبر" أي جرماً من النجم ومن القمر وأكثر إضاءة "فلما أفلت" أي غابت "قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين" أي أخلصت ديني, وأفردت عبادتي "للذي فطر السموات والأرض" أي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق "حنيفاً" أي في حال كوني حنيفاً, أي مائلاً عن الشرك إلى التوحيد, ولهذا قال "وما أنا من المشركين" وقد اختلف المفسرون في هذا المقام: هل هو مقام نظر أو مناظرة ؟ فروى ابن جرير: من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس, ما يقتضي أنه مقام نظر, واختاره ابن جرير مستدلاً بقوله "لئن لم يهدني ربي" الاية, وقال محمد بن إسحاق: قال ذلك حين خرج من السرب الذي ولدته فيه أمه, حين تخوفت عليه من نمروذ بن كنعان, لما كان قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه على يديه, فأمر بقتل الغلمان عامئذ, فلما حملت أم إبراهيم به وحان وضعها ذهبت به إلى سرب ظاهر البلد فولدت فيه إبراهيم, وتركته هناك, وذكر أشياء من خوارق العادات, كما ذكرها غيره من المفسرين من السلف والخلف, والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام, كان في هذا المقام مناظراً لقومه, مبيناً لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام, فبين في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية, التي هي على صور الملائكة السماوية ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم, الذين هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه, وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته, ليشفعوا لهم عنده في الرزق والنصر, وغير ذلك مما يحتاجون إليه. وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل, وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة, وهي: القمر وعطارد والزهرة والشمس والمريخ والمشتري وزحل, وأشدهن إضاءة وأشرفهن عندهم الشمس, ثم القمر ثم الزهرة, فبين أولاً صلوات الله وسلامه عليه أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية, فإنها مسخرة مقدرة بسير معين, لا تزيغ عنه يميناً ولا شمالاً, ولا تملك لنفسها تصرفاً, بل هي جرم من الأجرام خلقها الله منيرة, لما له في ذلك من الحكم العظيمة, وهي تطلع من المشرق ثم تسير فيما بينه وبين المغرب حتى تغيب عن الأبصار فيه, ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال, ومثل هذه لا تصلح للإلهية, ثم انتقل إلى القمر فبين فيه مثل ما بين في النجم, ثم انتقل إلى الشمس كذلك, فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار, وتحقق ذلك بالدليل القاطع, "قال يا قوم إني بريء مما تشركون" أي أنا بريء من عبادتهن وموالاتهن, فإن كانت آلهة فكيدوني بها جميعاً ثم لا تنظرون "إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين" أي إنما أعبد خالق هذه الأشياء ومخترعها ومسخرها ومقدرها ومدبرها, الذي بيده ملكوت كل شيء وخالق كل شيء, وربه ومليكه وإلهه, كما قال تعالى: " إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين " وكيف يجوز أن يكون إبراهيم ناظراً في هذا المقام. وهو الذي قال الله في حقه "ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين * إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون" الايات, وقال تعالى: " إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين * شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم * وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين * ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين " وقال تعالى : "قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين" وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مولود يولد على الفطرة" وفي صحيح مسلم, عن عياض بن حمار, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله إني خلقت عبادي حنفاء" وقال الله في كتابه العزيز " فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله " وقال تعالى: "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا بلى" ومعناه على أحد القولين كقوله " فطرة الله التي فطر الناس عليها " كما سيأتي بيانه. فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة, فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله أمة قانتاً لله حنيفاً, ولم يك من المشركين, ناظراً في هذا المقام, بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة والسجية المستقيمة, بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب, وما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظراً لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظراً قوله تعالى .
قوله: 76- "فلما جن عليه الليل" أي ستره بظلمته، ومنه الجنة والمجن والجن كله من الستر، قال الشاعر:
ولولا جنان الليل أدرك ركضنا بذي الرمث والأرطي عياض بن ثابت
والفاء للعطف على قال إبراهيم: أي واذكر إذ قال وإذ جن عليه الليل فهو قصة أخرى غير قصة عرض الملكوت عليه، وجواب لما "رأى كوكباً" قيل: رآه من شق الصخرة الموضوعة على رأس السرب الذي كان فيه، وقيل: رآه لما أخرجه أبوه من السرب وكان وقت غيبوبة الشمس، قيل رأى المشتري وقيل الزهرة. قوله: "هذا ربي" جملة مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا قال عند رؤية الكوكب؟ قيل: وكان هذا منه عند قصور النظر لأنه في زمن الطفولية، وقيل: أراد قيام الحجة على قومه كالحاكي لما هو عندهم وما يعتقدون لأجل إلزامهم، وبالثاني قال الزجاج، وقيل هو على حذف حرف الاستفهام: أي أهذا ربي، ومعناه إنكار أن يكون مثل هذا رباً، ومثله قوله تعالى: " أفإن مت فهم الخالدون " أي أفهم الخالدون، ومثله قول الهذلي:
رقوني وقالوا يا خويلد لم ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
أي أهم هم، وقول الآخر:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا بسبع رمين الجمر أم بثمانيا
أي أبسبع، وقيل المعنى: وأنتم تقولون هذا ربي فأضمر القول، وقيل المعنى على حذف مضاف: أي هذا دليل ربي "فلما أفل" أي غرب "قال" إبراهيم " لا أحب الأفلين " أي الآلهة التي تغرب، فإن الغروب تغير من حال إلى حال، وهو دليل الحدوث.
76- " فلما جن عليه الليل رأى كوكباً "،الآية، قال أهل التفسير: ولد إبراهيم عليه السلام في زمن نمرود بن كنعان، وكان نمرود أول من وضع التاج على رأسه ودعا الناس إلى عبادته، وكان له كهان ومنجمون، فقالوا له:إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه، يقال: إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء عليهم السلام.
وقال السدي : رأى نمرود في منامة كأن كوكبا طلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء، ففزع من ذلك فزعاً شديداً، فدعا السحرة والكهنة فسألهم عن ذلك، فقالوا: هو مولود يولد في ناحيتك في هذه السنة، فيكون هلاكك وهلاك ملكك وأهل بيتك على يديه، قالوا: فأمر بذبح كل غلام يولد في ناحيته في تلك السنة، وأمر بعزل الرجال عن النساء، وجعل على كل عشرة رجال رجلاً فإذا حاضت المرأة خلى بينها وبين زوجها، لأنهم كانوا لا يجامعون في الحيض، فإذا طهرت حال بينهما، فرجع آزر فوجد امرأته قد طهرت من الحيض فواقعها ، فحملت بإبراهيم عليه السلام.
وقال محمد بن إسحق : بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقرية، فحبسها عنده إلا ما كان من أم إبراهيم عليه السلام، فإنه لم يعلم بحبلها لأنها كانت جارية حديثة السن، لم يعرف الحبل في بطنها .وقال السدي : خرج نمرود بالرجال إلى المعسكر ونحاهم عن النساء تخوفاً من ذلك المولود أن يكون فمكث بذلك ما شاء الله ثم بدت له حاجة إلى المدينة، فلم يأتمن عليها أحداً من قومه إلا آزر، فبعث إليه ودعاه وقال له: إن لي حاجة أحببت أن أوصيك بها ولا أبعثك إلا لثقتي بك ،فأقسمت عليك أن لا تدنو من أهلك، فقال آزر: أنا أشح على ديني من ذلك ، فأوصاه بحاجته، فدخل المدينة وقضى حاجته، ثم قال: لو دخلت على أهلي فنظرت إليهم فلما نظر إلى أم إبراهيم عليه السلام لم يتمالك حتى وقعها ، فحملت بإبراهيم عليه السلام .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لما حملت أم إبراهيم قال الكهان لنمرود: إن الغلام الذي أخبرناك به قد حملته أمه الليلة، فأمر نمرود بذبح الغلمان،فلما دنت ولادة أم إبراهيم عليه السلام وأخذها المخاض خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها، فوضعته في نهر يابس ثم لفته في خرقة ووضعته في حلفاء، فرجعت فأخبرت زوجها بأنها ولدت، وأن الولد في موضع كذا فانطلق أبوه فأخذه من ذلك المكان وحفر له سرباً عند نهر، فواراه فيه وسد عليه بابه بصخرة مخافة السباع، وكانت أمه تختلف إليه فترضعه .
وقال محمد بن إسحاق : لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلاً إلى مغارة كانت قريبة منها فولدت فيها إبراهيم عليه السلام وأصلحت من شأنه ما يصنع بالمولود، ثم سدت عليه المغارة ورجعت إلى بيتها ثم كانت تطالعه لتنظر ما فعل فتجده حياً يمص إبهامه .
قال أبو روق : وقالت أم إبراهيم ذات يوم لأنظرن إلى أصابعه، فوجدته يمص من أصبع ماءً، ومن أصبع لبناً، ومن أصبع عسلاً، ومن أصبع تمراً، ومن أصبع سمناً.
وقال محمد بن إسحاق : كان آزر قد سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل ؟ فقالت: ولدت غلاماً فمات، فصدقها فسكت عنها، وكان اليوم على إبراهيم في الشباب كالشهر والشهر كالسنة فلم يمكث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر شهراً حتى قال لأمه أخرجيني فأخرجته عشاءً فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض، وقال: إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربي الذي مالي إله غيره، ثم نظر إلى السماء فرأى كوكباً فقال: هذا ربي، ثم أتبعه ببصره لينظر إليه حتى غاب، فلما أفل، قال: لا أحب الآفلين، ثم رأى القمر بازغاً قال هذا ربي وأتبعه ببصره حتى غاب، ثم طلعت الشمس هكذا إلى آخره، ثم رجع إلى أبيه آزر وقد استقامت وجهه وعرف ربه وبرئ من دين قومه إلا أنه لم ينادهم بذلك، فأخبره أنه ابنه وأخبرته أم إبراهيم أنه ابنه، وأخبرته بما كانت صنعت في شأنه فسر آزر بذلك وفرح فرحاً شديداً.
وقيل: إنه كان في السرب سبع سنين، وقيل: ثلاث عشرة سنة، وقيل: سبع عشرة سنة، قالوا: فلما شب إبراهيم عليه السلام، وهو في السرب قال لأمه: من ربي ؟ قالت: أنا، قال: فمن ربك ؟ قالت: أبوك، قال: فمن رب أبي ؟ قالت: نمرود، قال فمن ربه ؟ قالت له: اسكت فسكت، ثم رجعت إلى زوجها فقالت: أرأيت الغلام الذي كنا نحدث أنه يغير دين أهل الأرض فإنه ابنك، ثم أخبرته بما قال، فأتاه أبوه آزر، فقال له إبراهيم عليه السلام: يا أبتاه من ربي ؟ قال: أمك، قال:فمن رب أمي ؟ قال: أنا قال: فمن ربك ؟ قال: نمرود قال: فمن رب نمرود ؟ فلطمه لطمة وقال له: اسكت فلما جن عليه الليل دنا من باب السرب فنظر من خلال الصخرة فأبصر كوكباً، قال: هذا ربي.
ويقال إنه قال لأبويه أخرجاني فأخرجاه من السرب وانطلقا به حين غابت الشمس، فنظر إبراهيم إلى الإبل والخيل والغنم، فسأل أباه ما هذه ؟ فقال: إبل وخيل وغنم، فقال: ما لهذه بد من أن يكون لها رب وخالق، ثم نظر فإذا المشتري قد طلع، ويقال: الزهرة، وكانت تلك الليلة في آخر الشهر فتأخر طلوع القمر فيها، فرأى الكوكب قبل القمر، فذلك قوله عز وجل" فلما جن عليه الليل " أي: دخل ، يقال: جن الليل وأجن الليل، وجنه الليل، وأجن عليه الليل يجن جنوناً وجناناً إذا أظلم وغطى كل شيء، وجنون الليل سواده، " رأى كوكباً " قرأ أبو عمرو " رأى " بفتح الراء وكسر الألف، ويكسرهما ابن عامر و حمزة و الكسائي و أبو بكر، وفتحهما الآخرون. " قال هذا ربي ".
واختلفوا في قوله ذلك: فأجراه بعضهم على الظاهر، وقالوا: كان إبراهيم عليه السلام مسترشداً طالباً للتوحيد حتى وفقه الله تعالى وآتاه رشده فلم يضره ذلك في حال الاستدلال، وأيضاً كان ذلك في حال طفوليته قبل قيام الحجة عليه، فلم يكن كفراً.
وأنكر الآخرون هذا القول، وقالوا: لا يجوز أن يكون لله رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله موحد وبه عارف، ومن كل معبود سواه برئ وكيف يتوهم هذا على من عصمة الله وطهره وآتاه رشده من قبل وأخبر عنه فقال: " إذ جاء ربه بقلب سليم "(الصافات،84)وقال: " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض "، أفتراه أراه الملكوت ليوقن فلما أيقن رأى كوكباً قال: هذا ربي معتقداً ؟ فهذا مالا يكون أبداً.
ثم قالوا: فيه أربعة أوجه من التأويل:
أحدها: أن إبراهيم عليه السلام أراد أن يستدرج القوم بهذا القول ويعرفهم خطأهم وجهلهم في تعظيم ما عظموه، وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها، ويرون أن الأمور كلها إليها فأراهم أنه معظم ما عظموه وملتمس الهدى من حيث ما التمسوه، فلما أفل أراهم النقص الداخل على النجوم ليثبت خطأ ما يدعون، ومثل هذا مثل الحواري الذي ورد على قوم يعبدون الصنم، فأظهر تعظيمه فأكرموه حتى صدروا في كثر من الأمور عن رأيه إلى أن دهمهم عدو فشاوروه في أمره، فقال: الرأي أن ندعو هذا الصنم حتى يكشف عنا ما قد أظلنا، فاجتمعوا حوله يتضرعون فلما تبين لهم أنه لا ينفع ولا يدفع دعاهم إلى أن يدعوا الله فدعوه فصرف عنهم ما كانوا يحذرون، فأسلموا.
والوجه الثاني من التأويل: أنه قال على وجه الاستفهام تقديره: أهذا ربي ؟ كقوله تعالى " أفإن مت فهم الخالدون " (الأنبياء،34) ؟ أي: أفهم الخالدون ؟ وذكره على وجه التوبيخ منكراً لفعلهم، يعني: ومثل هذا يكون رباً، أي: ليس هذا ربي .
والوجه الثالث: أنه على وجه الاحتجاج عليهم، يقول: هذا ربي بزعمكم ؟ فلما غاب قال: لو كان إلهاً لما غاب، كما قال: [" ذق إنك أنت العزيز الكريم " (الدخان، 49)، أي: عند نفسك وبزعمك، وكما أخبر عن موسى أنه قال:]" وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنه "(طه ،97) يريد إلهك بزعمك .
والوجه الرابع: فيه إضمار وتقديره يقولون هذا ربي، كقوله " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا "، (البقرة،127) أي: يقولون ربنا تقبل منا. " فلما أفل قال لا أحب الأفلين "، ومالا يدوم .

76 " فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي " تفصيل وبيان لذلك . وقيل عطف على قال إبراهيم وكذلك نري اعتراض فإن أباه وقومه كانوا يعبدون الأصنام والكواكب ، فأراد أن ينبههم على ضلالتهم ويرشدهم إلى الحق من طريق النظر والاستدلال . وجن عليه الليل ستره بظلامه والكواكب كان الزهزة أو المشتري وقوله : " هذا ربي " على سبيل الوضع فإن المستدل على فساد قول يحكيه على ما يقوله الخصم ثم يكر عليه بالإفساد ، أو على وجه النظر والاستدلال ، وإنما قاله زمان مراهقته أو أول أوان بلوغه . " فلما أفل " أي غاب ، " قال لا أحب الأفلين " فضلا عن عبادتهم فإن الانتقال والاحتجاب بالأستار يقتضي الأمان والحدوث وينافي الألوهية .
76. When the night grew dark upon him he beheld a star. He said: This is my Lord. But when it set, he said: I love not things that set
76 - When the night covered him over, he saw a star: he said: this is my lord. but when it set, he said: I love not those that set.