[الأنعام : 38] وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ
38 - (وما من) زائدة (دابة) تمشي (في الأرض ولا طائر يطير) في الهواء (بجناحيه إلا أمم أمثالكم) في تدبير خلقها ورزقها وأحوالهم (ما فرطنا) تركنا (في الكتاب) اللوح المحفوظ (من) زائدة (شيء) فلم نكتبه (ثم إلى ربهم يحشرون) فيقضي بينهم ويقتص للجماء من القرناء ثم يقول لهم كونوا ترابا
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء المعرضين محنك ، المكذبين بآيات الله : أيها القوم، لا تحسبن الله غافلا عما تعملون ، أو أنه غير مجازيكم على ما تكسبون! وكيف يغفل عن أعمالكم ، أو يترك مجازاتكم عليها، وهو غير غافل عن عمل شيء دب على الأرض صغير أو كبير، ولا عمل طاب طائر بجناحيه في الهواء، بل جعل ذلك كله أجناساً مجنسةً وأصنافاً مصنفة، تعرف كما تعرفون ، وتتصرف فيما سخرت له كما تتصرفون ، ومحفوظ عليها ما عملت من عمل لها وعليها، ومثبت كل ذلك من أعمالها في أم الكتاب ، ثم إنه تعالى ذكره مميتها ثم منشرها ومجازيها يوم القيامة جزاء أعمالها. يقول : فالرب الذي لم يضيع حفظ أعمال البهائم والدواب في الأرض ، والطير في الهواء، حتى حفظ عليها حركاتها وأفعالها، وأثبت ذلك منها في أم الكتاب ، وحشرها ثم جازاها على ما سلف منها في دار البلاء، أحرى أن لا يضيع أعمالكم ، ولا يفرط في حفظ أفعالكم التي تجترحونها أيها الناس ، حتى يحشركم فيبن زيكم على جميعهاً، إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً، إذ كان قد خصكم من نعمه ، وبسط عليكم من فضله ، ما لم يعم به غيركم في الدنيا، وكنتم بشكره أحق ، وبمعرفة واجبه عليكم أولى، لما أعطاكم من العقل الذي به بين الأشياء تميزون ، والفهم الذي لم يعطه البهائم والطير، الذي به بين مصالحكم ومضاركم تفرقون .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "أمم أمثالكم"، أصناف مصنفة تعرف بأسمائها.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله : "وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم"، يقول : الطير أمة، والإنس أمة، والجن أمة .
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : "إلا أمم أمثالكم"، يقول : إلا خلق أمثالكم .
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج في قوله : "وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم"، قال : الذرة فما فوقها من ألوان ما خلق الله من الدواب .
وأما قوله : "ما فرطنا في الكتاب من شيء"، فإن معناه : ما ضيعنا إثبات شيء منه ، كالذي :
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس : "ما فرطنا في الكتاب من شيء" ، ما تركنا شيئا إلا قد كتبناه في أم الكتاب .
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "ما فرطنا في الكتاب من شيء"، قال: لم نغفل الكتاب ، ما من شيء إلا وهو في الكتاب .
وحدثني به يونس مرة أخرى، قال في قوله : "ما فرطنا في الكتاب من شيء"، قال : كلهم مكتوب في أم الكتاب .
وأما قوله : "ثم إلى ربهم يحشرون"، فإن أهل التأويل اختلفوا في معنى حشرهم ، الذي عناه الله تعالى ذكره في هذا الموضع .
فقال بعضهم : حشرها ، موتها.
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل ، عن سعيد، عن مسروق ، عن عكرمة، عن ابن عباس : "وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم"، قال ابن عباس : موت البهائم حشرها .
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "ثم إلى ربهم يحشرون"، قال : يعني بالحشر، الموت .
حدثتم عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : "ثم إلى ربهم يحشرون"، يعني بالحشر: الموت .
وقال آخرون : الحشر في هذا الموضع ، يعنى به الجمع لبعث الساعة وقيام القيامة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، وحدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن جعفر بن برقان ، عن يزيد بن الأصم ، عن أبي هريرة في قوله : "إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون"، قال : يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة، البهائم والدواب والطير وكل شيء ، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول : كوني تراباً، فلذلك يقول الكافر: "يا ليتني كنت ترابا" [النبأ : 40].
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، وحدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن الأعمش ، عمن ذكره ، "عن أبى ذر قال : بينا أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ انتطحت عنزتان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتدرون فيما انتطحتا؟ قالوا : لا ندري! قال : لكن الله يدري ، وسيقضي بينهما".
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق بن سليمان قال ، حدثنا فطر بن خليفة، عن منذر الثوري ، عن أبي ذر قال : "انتطحت شاتان عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي : يا أبا ذر، أتدري فيم انتطحتا؟ قلت : لا! قال : لكن الله يدري وسيقضي بينهما! قال أبو ذر: لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علماً".
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أن كل دابة وطائر محشور إليه. وجائز أن يكون معنيا بذلك حشر القيامة، وجائز أن يكون معنياً به حشر الموت ، وجائز أن يكون معنياً به الحشران جميعاً، ولا دلالة في ظاهر التنزيل ، ولا في خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أي ذلك المراد بقوله : "ثم إلى ربهم يحشرون"، إذ كان (الحشر)، في كلام العرب الجمع ، من ذلك قول الله تعالى ذكره : "والطير محشورة كل له أواب" [ص : 9]، يعني : مجموعة . فإذ كان الجمع هو (الحشر)، وكان الله تعالى ذكره جامعاً خلقه إليه يوم القيامة، وجامعهم بالموت ، كان أصوب القول في ذلك أن يعم بمعنى الآية ما عمه الله بظاهرها، وأن يقال : كل دابة وكل طائر محشور إلى الله بعد الفناء وبعد بعث القيامة، إذ كان الله تعالى ذكره قد عم بقوله : "ثم إلى ربهم يحشرون"، ولم يخص به حشراً دون حشر.
فإن قال قائل : فما وجه قوله : "ولا طائر يطير بجناحيه"؟ وهل يطير الطائر إلا بجناحيه؟ فما في الخبر عن طيرانه بالجناحين من الفائدة؟
قيل : قد قدمنا القول فيما مضى أن الله تعالى ذكره أنزل هذا الكتاب بلسان قوم ، وبلغاتهم وما يتعارفونه بينهم ويستعملونه في منطقهم خاطبهم . فإذ كان من كلامهم إذا أرادوا المبالغة في الكلام أن يقولوا : (كلمت فلاناً بفمي )، و (مشيت إليه برجلي ) و (ضربته بيدي )، خاطبهم تعالى بنظير ما يتعارفونه في كلامهم ، ويستعملونه في خطابهم ، ومن ذلك قوله تعالى ذكره : "إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة" [ص:23] .
قوله تعالى :" وما من دابة في الأرض " تقدم معنى الدابة والقول فيه في البقرة وأصله الصفة، من دب يدب فهو داب إذا مشى مشياً تقارب خطو " ولا طائر يطير بجناحيه " بخفض طائر عطفاً على اللفظ .
وقرأ الحسن وعبد الله بن أبي إسحاق ولا طائر بالرفع عطفاً على الموضع، و من زائدة التقدير: وما دابة. بجناحيه تأكيد وإزالة للإبهام، فإن العرب تستعمل الطيران لغير الطائر تقول للرجل،: طر في حاجتي، أي أسرع فذكر بجناحيه ليتمحض القول في الطير، وهو في غيره مجاز، وقيل: إن اعتدال جسد الطائر بين الجناحين يعينه على الطيران ولو كان غير معتدل لكن يميل فأعلمنا أن الطيران بالجناحين و" ما يمسكهن إلا الله " [النحل: 79] والجناح أحد ناحيتي الطير الذي يتمكن به من الطيران في الهواء وأصله الميل إلى ناحية من النواحي، ومنه جنحت السفينة إذا مالت إلى ناحية الأرض لاصقة بها فوقعت. وطائر الإنسان عمله، وفي التنزيل" وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه"[الإسراء: 13] " إلا أمم أمثالكم " أي هم جماعات مثلكم في أن الله عز وجل خلقهم وتكفل بأرزاقهم وعدل عليهم، فلا ينبغي أن تظلموهم ، ولا تجاوزوا فيهم ما أمرتم به. و دابة تقع على جميع ما دب، وخص بالذكر ما في الأرض دون السماء لأنه الذي يعرفونه ويعاينونه. وقيل: هي أمثال لنا في التسبيح والدلالة والمعنى: وما من دابة ولا طائر إلا وهو يسبح الله تعالى، ويدل على وحدانيته لو تأمل الكفار وقال أبو هريرة:
هي أمثال لنا على معنى أنه يحشر البهائم غداً ويقتص للجماء من القرناء ثم يقول الله لها: كوني تراباً. وهذا اختيار الزجاج فإنه قال: "إلا أمم أمثالكم "في الخلق والرزق والموت والبعث والاقتصاص، وقد دخل فيه معنى القول الأول أيضاً. وقال سفيان بن عيينة: أي ما من صنف من الدواب والطير إلا في الناس شبه منه ، فمنهم من يعدوا كالأسد ومنهم من يشره كالخنزير ومنهم من يعوي كالكلب، ومنهم من يزهو كالطاوس، فهذا معنى المماثلة، واستحسن الخطابي هذا وقال: فإنك تعاشر البهائم والسباع فخذ حذرك، وقال مجاهد في قوله عز وجل: " إلا أمم أمثالكم" قال : أصناف لهن أسماء تعرف بها كما تعرفون. وقيل غير هذا مما لا يصح من أنها مثلنا في المعرفة وأنها تحشر وتنعم في الجنة، وتعوض من الآلام التي حلت بها في الدنيا وأن أهل الجنة يستأنسون بصورهم، والصحيح " إلا أمم أمثالكم " في كونها مخلوقة دالة على الصانع محتاجة إليه مرزوقة من جهته، كما أن رزقكم على الله . وقول سفيان أيضاً حسن، فإنه تشبيه واقع في الوجود .
قوله تعالى :" ما فرطنا في الكتاب من شيء " أي في اللوح المحفوظ فإنه أثبت فيه ما يقع من الحوادث. وقيل: أي في القرآن أي ما تركنا شيئاً من أمر الدين إلا وقد دللنا عليه في القرآن إما دلالة مبينة مشروحة، وإما مجملة يتلقى بيانها من الرسول الله صلى الله عليه وسلم أو من الإجماع، أو من القياس الذي ثبت بنص الكتاب ، قال الله تعالى :"ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء " [النحل: 89] " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم " [النحل: 44] وقال : " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " [الحشر: 7] فأجمل في هذه الآية وآية النحل ما لم ينص عليه لم يذكره فصدق خبر الله بأنه ما فرط في الكتاب من شيء إذا ذكره إما تفصيلاً وإما تأصيلاً، وقال : " اليوم أكملت لكم دينكم " [المائدة: 3].
قوله تعالى :" ثم إلى ربهم يحشرون " أي للجزاء كما سبق في خبر أبي هريرة وفي صحيح مسلم عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" ودل بهذا على أن البهائم تحشر يوم القيامة، وهذا قول أبي ذر وأبي هريرة والحسن وغيرهم، وروى عن ابن عباس. قال ابن عباس في رواية: حشر الدواب والطير موتها، وقاله الضحاك والأول أصح لظاهر الآية والخبر الصحيح، وفي التنزيل " وإذا الوحوش حشرت" [التكوير:5] وقول أبي هريرة فيما روى جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم عنه: يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة،البهائم والدواب والطير وكل شيء، فيبلغ من عدل الله تعالى يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول: "كوني تراباً" فذلك قوله تعالى :" ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا" [النبأ: 40] وقال عطاء: فإذا رأوا بني آدم وما هم عليه من الجزع قلن: الحمد لله الذي لم يجعلنا مثلكم، فلا جنة نرجو ولا نار نخاف فيقول الله تعالى لهن: كن تراباً فحينئذ يتمنى الكافر أن يكون تراباً، وقالت جماعة: هذا الحشر الذي في الآية يرجع إلى الكفار وما تخلل كلام معترض وإقامة حجج، وأما الحديث فالمقصود منه التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب والقصاص والاعتناء فيه حتى يفهم منه أنه لا بد لكل أحد منه، وأنه لا محيص له عنه، وعضدوا هذا بما في الحديث في غير الصحيح عن بعض رواته من الزيادة فقال: حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء وللحجر لما ركب على الحجر، وللعود لما خدش العود .قالوا: فظهر من هذا أن المقصود منه التمثيل المفيد للاعتبار والتهويل، لأن الجمادات لا يعقل خطابها ولا ثوابها ولا عقابها، ولم يصر إليه أحد من العقلاء ومتخيلة من جملة المعتوهين الأغبياء، قالوا: ولأن القلم لا يجري عليهم فلا يجوز أن يؤاخذوا .
قلت: الصحيح القول الأول لما ذكرناه من حديث أبي هريرة، وإن كان القلم لا يجري عليهم في الأحكام ولكن فيما بينهم يؤاخذون به ، و"روي عن أبي ذر قال :
انتطحت شاتان عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا ذر هل تدري فيما انتطحتا؟ قلت: لا . قال : لكن الله تعالى يدري وسيقضي بينهما " وهذا نص، وقد زدناه بياناً في كتاب التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة والله أعلم .
يقول تعالى مخبراً عن المشركين, أنهم كانوا يقولون لولا نزل عليه آية من ربه, أي خارق على مقتضى ما كانوا يريدون, ومما يتعنتون كقولهم "لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً" الايات "قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون" أي هو تعالى قادر على ذلك, ولكن حكمته تعالى تقتضي تأخير ذلك, لأنه لو أنزل وفق ما طلبوا ثم لم يؤمنوا, لعاجلهم بالعقوبة كما فعل بالأمم السالفة, كما قال تعالى: " وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا " وقال تعالى: "إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين". وقوله "وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم" قال مجاهد: أي أصناف مصنفة تعرف بأسمائها. وقال قتادة: الطير أمة, والإنس أمة, والجن أمة, وقال السدي "إلا أمم أمثالكم" أي خلق أمثالكم.
وقوله "ما فرطنا في الكتاب من شيء" أي الجميع علمهم عند الله, ولا ينسى واحداً من جميعها من رزقه وتدبيره, سواء كان برياً أو بحرياً, كقوله "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين" أي مفصح بأسمائها وأعدادها ومظانها, وحاصر لحركاتها وسكناتها, وقال تعالى: "وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم" وقد قال الحافظ أبو يعلى, حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا عبيد بن واقد القيسي أبو عباد, حدثني محمد بن عيسى بن كيسان, حدثنا محمد بن المنكدر, عن جابر بن عبد الله, قال: قل الجراد في سنة من سني عمر رضي الله عنه التي ولي فيها, فسأل عنه فلم يخبر بشيء, فاغتم لذلك, فأرسل راكباً إلى كذا, وآخر إلى الشام, وآخر إلى العراق, يسأل هل رؤي من الجراد شيء أم لا ؟ قال: فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد, فألقاها بين يديه, فلما رآها كبر ثلاثاً, ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "خلق الله عز وجل ألف أمة منها ستمائة في البحر وأربعمائة في البر وأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد فإذا هلكت تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه". وقوله "ثم إلى ربهم يحشرون" قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو نعيم, حدثنا سفيان عن أبيه, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله "ثم إلى ربهم يحشرون" قال: حشرها الموت, وكذا رواه ابن جرير من طريق إسرائيل, عن سعيد عن مسروق, عن عكرمة عن ابن عباس, قال: موت البهائم حشرها, وكذا رواه العوفي عنه, قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد والضحاك مثله: (والقول الثاني) إن حشرها هو يوم بعثها يوم القيامة, لقوله "وإذا الوحوش حشرت" وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن سليمان, عن منذر الثوري, عن أشياخ لهم, عن أبي ذر, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان, فقال "يا أبا ذر هل تدري فيم تنتطحان ؟" قال: لا, قال "لكن الله يدري وسيقضي بينهما" ورواه عبد الرزاق, عن معمر, عن الأعمش, عمن ذكره, عن أبي ذر, قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذ انتطحت عنزان, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون فيم انتطحتا ؟" قالوا: لا ندري, قال "لكن الله يدري وسيقضي بينهما" رواه ابن جرير, ثم رواه من طريق منذر الثوري, عن أبي ذر, فذكره, وزاد: قال أبو ذر: ولقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحيه في السماء, إلا ذكر لنا منه علماً, وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه: حدثني عباس بن محمد, وأبو يحيى البزار, قالا: حدثنا حجاج بن نصير, حدثنا شعبة, عن العوام بن مراجم من بني قيس بن ثعلبة, عن أبي عثمان النهدي, عن عثمان رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة" وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر, عن جعفر بن برقان, عن يزيد بن الأصم, عن أبي هريرة, في قوله "إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون" قال: يحشر الخلق كلهم يوم القيامة, البهائم والدواب والطير وكل شيء, فيبلغ من عدل الله يومئذ, أن يأخذ للجماء من القرناء, ثم يقول كوني تراباً, فلذلك يقول الكافر "يا ليتني كنت تراباً" وقد روي هذا مرفوعاً في حديث الصور.
وقوله "والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات" أي مثلهم في جهلهم, وقلة علمهم, وعدم فهمهم. كمثل أصم, وهو الذي لا يسمع, أبكم وهو الذي لا يتكلم, وهو مع هذا في ظلمات لا يبصر, فكيف يهتدي مثل هذا إلى الطريق, أو يخرج مما هو فيه, كقوله "مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون" وكما قال تعالى: " أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور " ولهذا قال " من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم " أي هو المتصرف في خلقه بما يشاء .
قوله: 38- "وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم" الدابة من دب يدب فهو داب: إذا مشى مشياً فيه تقارب خطو. وقد تقدم بيان ذلك في البقرة "ولا طائر" معطوف على "دابة" مجرور في قراءة الجمهور. وقرأ الحسن وعبد الله بن أبي إسحاق "ولا طائر" بالرفع عطفاً على موضع من دابة على تقدير زيادة من، و "بجناحيه" لدفع الإبهام، لأن العرب تستعمل الطيران لغير الطير كقولهم: طرفي حاجتي: أي أسرع، وقيل إن اعتدال جسد الطائر بين الجناحين يعينه على الطيران، ومع عدم الاعتدال يميل، فأعلمنا سبحانه أن الطيران بالجناحين، وقيل ذكر الجناحين للتأكيد كضرب بيده وأبصر بعينيه ونحو ذلك. والجناح: أحد ناحيتي الطير الذي يتمكن به من الطيران في الهواء، وأصله الميل إلى ناحية من النواحي. والمعنى: ما من دابة من الدواب التي تدب في أي مكان من أمكنة الأرض ولا طائر يطير في أي ناحية من نواحيها "إلا أمم أمثالكم" أي جماعات مثلكم خلقهم الله كما خلقكم، ورزقهم كما رزقكم داخلة تحت علمه وتقديره وإحاطته بكل شيء، وقيل: " أمثالها " في ذكر الله والدلالة عليه، وقيل: " أمثالها " في كونهم محشورين، روي ذلك عن أبي هريرة. وقال سفيان بن عيينة: أي ما من صنف من الدواب والطير إلا في الناس شبه منه، فمنهم من يعدو كالأسد، ومنهم من يشره كالخنزير، ومنهم من يعوي كالكلب، ومنهم من يزهو كالطاوس، وقيل: "أمثالكم" في أن لها أسماء تعرف بها. وقال الزجاج: "أمثالكم" في الخلق والرزق والموت والبعث والاقتصاص. والأولى أن تحمل المماثلة على كل ما يمكن وجود شبه فيه كائناً ما كان. قوله: "ما فرطنا في الكتاب من شيء" أي ما أغفلنا عنه ولا ضيعنا فيه من شيء. والمراد بالكتاب: اللوح المحفوظ، فإن الله أثبت فيه جميع الحوادث، وقيل إن المراد به القرآن: أي ما تركنا في القرآن من شيء من أمر الدين إما تفصيلاً أو إجمالاً، ومثله قوله تعالى: "ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء"، وقال: "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم"، ومن جملة ما أجمله في الكتاب العزيز قوله: "ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" فأمر في هذه الآية باتباع ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل حكم سنه الرسول لأمته قد ذكره الله سبحانه في كتابه العزيز، بهذه الآية وبنحو قوله تعالى: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني" وبقوله: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة"، ومن في "من شيء" مزيدة للاستغراق. قوله: "ثم إلى ربهم يحشرون" يعني الأمم المذكورة، وفيه دلالة على أنها تحشر كما يحشر بنو آدم، وقد ذهب إلى هذا جمع من العلماء، ومنهم أبو ذر وأبو هريرة والحسن وغيرهم. وذهب ابن عباس إلى أن حشرها موتها، وبه قال الضحاك. والأول أرجح للآية، ولما صح في السنة المطهرة من أنه يقاد يوم القيامة للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، ولقول الله تعالى: "وإذا الوحوش حشرت"، وذهبت طائفة من العلماء إلى أن المراد بالحشر المذكور في الآية حشر الكفار، وما تخلل كلام معترض. قالوا: وأما الحديث فالمقصود به التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب والقصاص. واستدلوا أيضاً بأن في هذا الحديث خارج الصحيح عن بعض الرواة زيادة، ولفظه: "حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء، وللحجر لم ركب على الحجر؟ والعود لم خدش العود؟" قالوا: والجمادات لا يعقل خطابها ولا ثوابها ولا عقابها.
38- قوله عز وجل: " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه "، قيد الطيران بالجناح تأكيداً كما يقال نظرت بعيني وأخذت بيدي، "إلا أمم أمثالكم "، قال مجاهد : أصناف مصنفة تعرف بأسمائها يريد أن كل جنس من الحيوان أمة، فالطير أمة، والدواب أمة، والسباع أمة، تعرف بأسمائها مثل بني آدم، يعرفون بأسمائهم، يقال: الإنس والناس .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي أنا علي بن الجعد أنا المبارك هو ابن فضالة عن الحسن عن عبد الله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن الكلاب أمة لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها كل أسود بهيم " .
وقيل: أمم أمثالكم يفقه بعضهم عن بعض، وقيل: أمم أمثالكم في الخلق والموت والبعث، وقال عطاء : أمم أمثالكم في التوحيد والمعرفة، وقال أبن قتيبة: أمم أمثالكم في الغذاء وابتغاء الرزق وتوقي المهالك .
" ما فرطنا في الكتاب "، أي: في اللوح المحفوظ، " من شيء ثم إلى ربهم يحشرون "، قال ابن عباس و الضحاك : حشرها موتها، وقال أبو هريرة: يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير، وكل شيء فيأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كوني تراباً فحينئذ يتمنى الكافر ويقول: " يا ليتني كنت تراباً " .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبوالحسن الطيسفوني أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لتردن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء ".

38 " وما من دابة في الأرض " تدب على وجهها . " ولا طائر يطير بجناحيه " في الهواء وصفه به قطعا لمجاز السرعة ونحوها . وقرئ ولا طائر بالرفع على المحل . " إلا أمم أمثالكم " محفوظة أحوالها مقدرة أرزاقها وآجالها ، والمقصود من ذلك الدلالة على كمال قدرته وشمول علمه وسعة تدبيره ، ليكون كالدليل على أنه قادر على أن ينزل آية . وجمع الأمم للحمل على المعنى . " ما فرطنا في الكتاب من شيء " يعني اللوح المحفوظ ، فإنه مشتمل على ما يجري في العالم من الجليل والدقيق لم يهمل فيه أمر ، حيوان ولا جماد . أو القرآن فإنه قد دون فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلا أو مجملا ، ومن مزيدة وشيء في موضع المصدر لا بالمفعول به ، فإن فرط لا يتعدى بنفسه وقد عدي بفي إلى الكتاب . وقرئ "ما فرطنا " بالتخفيف . " ثم إلى ربهم يحشرون " يعني الأمم كلها فينصف بعضها من بعض كما روي : أنه يأخذ للجماء من القرناء . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : حشرها موتها .
38. There is not an animal in the earth, nor a flying creature flying on two wings, but they are peoples like unto you. We have neglected nothing in the Book (of Our decrees). Then unto their Lord they will be gathered.
38 - There is not an animal (that lives) on the earth, nor a being that flies on its wings, but (forms part of) communities like you. nothing have we omitted from the book, and they (all) shall be gathered to their lord in the end.