[الأنعام : 36] إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ
36 - (إنما يستجيب) دعاءك إلى الإيمان (الذين يسمعون) سماع تفهم واعتبار (والموتى) أي الكفار شبههم بهم في عدم السماع (يبعثهم الله) في الآخرة (ثم إليه يرجعون) يردون فيجازيهم بأعمالهم
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لا يكبرن عليك إعراض هؤلاء المعرضين عنك ، وعن الاستجابة لدعائك إذا دعوتهم إلى توحيد ربهم والإقرار بنبوتك ، فإنه لا يستجيب لدعائك إلى ما تدعوه إليه من ذلك ، إلا الذين فتح الله أسماعهم للإصغاء إلى الحق ، وسهل لهم اتباع الرشد، دون من ختم الله على سمعه ، فلا يفقه من دعائك إياه إلى الله وإلى اتباع الحق إلا ما تفقه الأنعام من أصوات رعاتها، فهم كما وصفهم به الله تعالى ذكره : "صم بكم عمي فهم لا يعقلون" [البقرة : 71]، "والموتى يبعثهم الله"، يقول : والكفار يبعثهم الله مع الموتى، فجعلهم تعالى ذكره في عداد الموتى الذين لا يسمعون صوتاً، ولا يعقلون دعاء، ولا يفقهون قولاً، إذ كانوا لا يتدبرون حجج الله ، ولا يعتبرون آياته ، ولا يتذكرون فينزجرون عما هم عليه من تكذيب رسل الله وخلافهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "إنما يستجيب الذين يسمعون"، المؤمنون ، للذكر، "والموتى"، الكفار، حين يبعثهم الله مع الموتى.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد، مثله .
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "إنما يستجيب الذين يسمعون"، قال: هذا مثل المؤمن ، سمع كتاب الله فانتفع به وأخذ به وعقله . والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم ، وهذا مثل الكافر أصم أبكم ، لا يبصر هدى ولا ينتفع به .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان الثوري ، عن محمد بن جحادة، عن الحسن : "إنما يستجيب الذين يسمعون" ، المؤمنون ، "والموتى" ، قال : الكفار .
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن محمد بن جحادة قال : سمعت الحسن يقول في قوله : "إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله"، قال : الكفار.
وأما قوله : "ثم إليه يرجعون"، فإنه يقول تعالى ذكره : ثم إلى الله يرجع المؤمنون الذين استجابوا لله والرسول ، والكفار الذين يحول الله بينهم وبين أن يفقهوا عنك شيئاً، فيثيب هذا المؤمن على ما سلف من صالح عمله في الدنيا بما وعد أهل الإيمان به من الثواب ، ويعاقب هذا الكافر بما أوعد أهل الكفر به من العقاب ، لا يظلم أحداً منهم مثقال ذرة.
قوله تعالى :" إنما يستجيب الذين يسمعون " أي سماع إصغاء وتفهم وإرادة الحق، وهم المؤمنون الذين يقبلون ما يسمعون فينتفعون به ويعملون، قال معناه الحسن ومجاهد وتم الكلام. قال: " والموتى يبعثهم الله " وهم الكفار، عن الحسن ومجاهد، أي هم بمنزلة الموتى في أنهم لا يقبلون ولا يصغون إلى حجة. وقيل: الموتى كل من مات " يبعثهم الله " أي للحساب، وعلى الأول بعثهم هدايتهم إلى الإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وعن الحسن: هو بعثهم من شركهم حتى يؤمنوا بك يا محمد - يعني عند حضور الموت - في حال الإلجاء في الدنيا .
سورة الأنعام الآية السابعة والثلاثون
383
قوله تعالى :" وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه " قال الحسن: لولا ها هنا بمعنى هلا وقال الشاعر:
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا
وكان هذا منهم تعنتاً بعد ظهور البراهين، وإقامة الحجة بالقرآن الذي عجزوا أن يأتوا بسورة مثله، لما فيه من الوصف وعلم الغيوب" ولكن أكثرهم لا يعلمون " أي لا يعلمون أن الله عز وجل إنما ينزل من الآيات ما فيه مصلحة لعباده، وكان في علم الله أن يخرج من أصلابهم أقواماً يؤمنون به ولم يرد استئصالهم، وقيل: " ولكن أكثرهم لا يعلمون " إن الله قادر على إنزالها. الزجاج: طلبوا أن يجمعهم على الهدى أي جمع إلجاء.
يقول تعالى مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم, في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه "قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون" أي قد أحطنا علماً بتكذيبهم لك, وحزنك وتأسفك عليهم, كقوله "فلا تذهب نفسك عليهم حسرات" كما قال تعالى في الاية الأخرى " لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين " "فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً" وقوله "فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون" أي لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر "ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون" أي ولكنهم يعاندون الحق, ويدفعونه بصدورهم, كما قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق, عن ناجية بن كعب, عن علي, قال: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك, ولكن نكذب ما جئت به, فأنزل الله "فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون" ورواه الحاكم من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق, ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن الوزير الواسطي بمكة, حدثنا بشر بن المبشر الواسطي, عن سلام بن مسكين, عن أبي يزيد المدني, أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أبا جهل فصافحه, فقال له رجل: ألا أراك تصافح هذا الصابىء ؟ فقال: والله إني لأعلم إنه لنبي, ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعاً ؟ وتلا أبو يزيد "فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون" وقال أبو صالح وقتادة: يعلمون أنك رسول الله ويجحدون, وذكر محمد بن إسحاق عن الزهري في قصة أبي جهل, حين جاء يستمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم من الليل, هو وأبو سفيان صخر بن حرب, والأخنس بن شريق, ولا يشعر أحد منهم بالاخر, فاستمعوها إلى الصباح, فلما هجم الصبح تفرقوا, فجمعتهم الطريق, فقال كل منهم للاخر: ما جاء بك ؟ فذكر له ما جاء به, ثم تعاهدوا أن لا يعودوا لما يخافون من علم شباب قريش بهم, لئلا يفتتنوا بمجيئهم, فلما كانت الليلة الثانية جاء كل منهم, ظناً أن صاحبيه لا يجيئان, لما سبق من العهود, فلما أصبحوا جمعتهم الطريق, فتلاوموا ثم تعاهدوا أن لا يعودوا, فلما كانت الليلة الثالثة جاؤوا أيضاً, فلما أصبحوا تعاهدوا أن لا يعودوا لمثلها ثم تفرقوا, فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه, ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته, فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد, قال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها, وأعرف ما يراد بها, وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها, قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به, ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل, فدخل عليه بيته, فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال: ماذا سمعت ؟ قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف, أطعموا فأطعمنا, وحملوا فحملنا, وأعطوا فأعطينا, حتى إذا تجاثينا على الركب, وكنا كفرسي رهان, قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه, قال: فقام عنه الأخنس وتركه.
وروى ابن جرير من طريق أسباط عن السدي في قوله "قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون" لما كان يوم بدر, قال الأخنس بن شريق لبني زهرة: يا بني زهرة إن محمداً ابن أختكم فأنتم أحق من ذب عن ابن أخته, فإنه إن كان نبياً لم تقاتلوه اليوم, وإن كان كاذباً كنتم أحق من كف عن ابن أخته, قفوا حتى ألقى أبا الحكم, فإن غلب محمد رجعتم سالمين, وإن غلب محمد, فإن قومكم لم يصنعوا بكم شيئاً ـ فيومئذ سمي الأخنس وكان اسمه أبي ـ فالتقى الأخنس وأبو جهل, فخلا الأخنس بأبي جهل فقال: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب, فإنه ليس هاهنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا ؟ فقال أبو جهل: ويحك والله إن محمداً لصادق, وما كذب محمد قط, ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة, فماذا يكون لسائر قريش ؟ فذلك قوله "فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون" فآيات الله محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله "ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا" هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية له, فيمن كذبه من قومه, وأمر له بالصبر كما صبر أولو العزم من الرسل, ووعد له بالنصر كما نصروا, وبالظفر حتى كانت لهم العاقبة, بعد ما نالهم من التكذيب من قومهم والأذى البليغ, ثم جاءهم النصر في الدنيا كما لهم النصر في الاخرة, ولهذا قال "ولا مبدل لكلمات الله" أي التي كتبها بالنصر في الدنيا والاخرة لعباده المؤمنين, كما قال "ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون" وقال تعالى: "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز" وقوله " ولقد جاءك من نبإ المرسلين " أي من خبرهم, كيف نصروا وأيدوا على من كذبهم من قومهم, فلك فيهم أسوة وبهم قدوة. ثم قال تعالى: "وإن كان كبر عليك إعراضهم" أي إن كان شق عليك إعراضهم عنك "فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء" قال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: النفق السرب, فتذهب فيه فتأتيهم بآية, أو تجعل لك سلماً في السماء, فتصعد فيه فتأتيهم بآية, أفضل مما آتيتهم به فافعل, وكذا قال قتادة والسدي وغيرهما. وقوله "ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين" كقوله تعالى: " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا " الاية, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله "ولو شاء الله لجمعهم على الهدى" قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس, ويتابعوه على الهدى, فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول, وقوله تعالى "إنما يستجيب الذين يسمعون" أي إنما يستجيب لدعائك يا محمد من يسمع الكلام ويعيه ويفهمه, كقوله "لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين". وقوله "والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون" يعني بذلك الكفار, لأنهم موتى القلوب, فشبههم الله بأموات الأجساد, فقال "والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون" وهذا من باب التهكم بهم والازدراء عليهم.
36- "إنما يستجيب الذين يسمعون" أي إنما يستجيب لك إلى ما تدعو إليه الذين يسمعون سماع تفهم بما تقتضيه العقول وتوجبه الأفهام وهؤلاء ليسوا كذلك، بل هم بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون ولا يعقلون لما جعلنا على قلوبهم من الأكنة وفي آذانهم من الوقر، ولهذا قال: "والموتى يبعثهم الله" شبههم بالأموات بجامع أنهم جميعاً لا يفهمون الصواب ولا يعقلون الحق: أي أن هؤلاء لا يلجئهم الله إلى الإيمان وإن كان قادراً على ذلك كما يقدر على بعثة الموتى للحساب "ثم إليه يرجعون" إلى الجزاء فيجازي كلاً بما يليق به كما تقتضيه حكمته البالغة.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "قالوا يا حسرتنا" قال: الحسرة الندامة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والخطيب بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "يا حسرتنا" قال: الحسرة أن يرى أهل النار منازلهم من الجنة، فتلك الحسرة. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "ألا ساء ما يزرون" قال: ما يعلمون. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "لعب ولهو" قال: كل لعب: لهو. وأخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والضياء في المختارة عن علي بن أبي طالب قال: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله "فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون". وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي يزيد المدني أن أبا جهل قال: والله إني لأعلم أنه صادق، ولكن متى كنا تبعاً لبني عبد مناف؟. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن أبي ميسرة نحو رواية علي بن أبي طالب. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون" قال: يعلمون أنك رسول الله ويجحدون. وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: "ولقد كذبت رسل من قبلك" قال: يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال: "فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض" والنفق: السرب، فتذهب فيه فتأتيهم بآية أو تجعل لهم سلماً في السماء فتصعد عليه "فتأتيهم بآية" أفضل مما أتيناهم به فافعل "ولو شاء الله لجمعهم على الهدى" يقول سبحانه: لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "نفقاً في الأرض" قال: سرباً "أو سلماً في السماء" قال: يعني الدرج. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله: "إنما يستجيب الذين يسمعون" قال: المؤمنون "والموتى" قال: الكفار. وأخرج هؤلاء عن مجاهد مثله.
36- " إنما يستجيب الذين يسمعون "، يعني: المؤمنين الذين يسمعون الذكر فيتبعونه وينتفعون به دون من ختم الله على سمعه، " والموتى "، يعني الكفار، "يبعثهم الله ثم إليه يرجعون "، فيجزيهم بأعمالهم .
36 " إنما يستجيب الذين يسمعون " إنما يجيب الذين يسمعون بفهم وتأمل لقوله تعالى : " أو ألقى السمع وهو شهيد " وهؤلاء كالموتى الذين لا يسمعون . " والموتى يبعثهم الله " فيعلمهم حين لا ينفعهم الإيمان . " ثم إليه يرجعون " للجزاء .
36. Only those can accept who hear. As for the dead, Allah will raise them up; then unto Him they will be returned.
36 - Those who listen (in truth), be sure, will accept: as to the dead, God will raise them up; then will they be turned unto him.