[الحشر : 9] وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
9 - (والذين تبوؤا الدار) المدينة (والإيمان) ألفوه وهم الأنصار (من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة) حسدا (مما أوتوا) أي آتى النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين من أموال بني النضير المختصة بهم (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) حاجة إلى ما يؤثرون به (ومن يوق شح نفسه) حرصها على المال (فأولئك هم المفلحون)
وأخرج ابن المنذر عن يزيد الأصم ان الأنصار قالوا يا رسول الله أقسم بيننا وبين إخواننا المهاجرين الأرض نصفين قال لا ولكن تكفونهم المؤنةوتقاسمونهم الثمرة والأرض أرضكم قالوا رضينا فأنزل الله والذين تبوءوا الدار الآية
وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله أصابني الجهد فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا فقال ألا رجل يضيفه هذه الليلة يرحه الله فقام رجل من الأنصار فقال أنا يا رسول الله فذهب إلى أهله فقال لأمرأته ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخرينه شيئا قالت والله ما عندي الا قوت الصبية قال فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة ففعلت ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لقد عجب الله أوضحك من فلان وفلانة فأنزل الله تعالى ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة
وأخرج مسدد في مسنده وابن المنذر عن ابي المتوكل الناجي ان رجلا من المسلمين فذكر نحوه وفيه أن الرجل الذي أضاف ثابت بن قيس ابن شماس فنزلت فيه هذه الآية
واخرج الواحدي من طريق محارب بن دثار عن ابن عمر قال أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا فبعث به إليه فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها أهل سبعة أبيات حتى رجعت إلى أولئك فنزلت ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة الآية
يقول تعالى ذكره : " والذين تبوؤوا الدار والإيمان " يقول : اتخذوا المدينة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فابتنوها منازل ، " والإيمان " بالله ورسوله " من قبلهم " يعني : من قبل المهاجرين ، " يحبون من هاجر إليهم " : يحبون من ترك منزله ، وانتقل إليهم من غيرهم ، وعني بذلك الأنصار يحبون المهاجرين .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله " والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم " قال : الأنصار نعت ، قال محمد بن عمرو : سفاطة أنفسهم ، وقال الحارث : سخاوة أنفسهم عند ما روي عنهم من ذلك وإيثارهم إياهم ، ولم يصب الأنصار من ذلك الفيء شيء .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، " والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا " يقول : مما أعطوا إخوانهم هذا الحي من الأنصار ، أسلموا في ديارهم ، فابتنوا المساجد والمسجد ، قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم ، فأحسن الله عليهم الثناء في ذلك ، وهاتان الطائفتان الأولتان من هذه الآية ، أخذتا بفضلهما ، ومضتا على مهلهما ، وأثبت الله حظهما في الفيء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله عز وجل " والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون " قال : هؤلاء الأنصار يحبون من هاجر إليهم من المهاجرين .
وقوله : " ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا " يقل جل ثناؤه : ولا يجد الذين تبوءوا الدار من قبلهم ، وهم الأنصار في صدورهم حاجة ، يعني حسداً مما أوتوا ، يعني مما أوتي المهاجرون من الفيء ، وذلك لما ذكرنا لنا من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين الأولين دون الأنصار ، إلا رجلين من الأنصار ، أعطاهما لفقرهما ، وإنما فعل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، أنه حدث أن بني النضير خلوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث يشاء ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المهاجرين الأولين دون الأنصار ، إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك من خرشة ذكرا فقراً ، فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا " المهاجرون ، قال : وتكلم في ذلك ( يعني أموال بني النضير ) بعض من تكلم من الأنصار ، فعاتبهم الله عز وجل في ذلك فقال : " وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير " "قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم : إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم فقالوا : أموالنا بينهم قطائع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوغير ذلك ؟ قالوا : وما ذلك يا رسول الله ، قال : هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر ، فقالوا : نعم يا رسول الله" .
وبنحو الذي قلنا في قوله : " ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا " قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا سليمان أبو داود ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله " ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا " قال : الحسد .
قال : ثنا عبد الصمد ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ( حاجة في صدورهم ) قال : حسداً في صدورهم .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أبو رجاء ، عن الحسن ، مثله .
وقوله : " ويؤثرون على أنفسهم " يقول تعالى ذكره وهو يصف الأنصار الذي تبوءوا الدار والإيمان من قبل المهاجرين " ويؤثرون على أنفسهم " يقول : ويعطون المهاجرين أموالهم إيثاراً لهم بها على أنفسهم " ولو كان بهم خصاصة " يقول : ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم ، والخصاصة مصدر ، وهي أيضاً اسم ، وهو كل ما تخللته ببصرك كالكوة والفرجة في الحائط ، تجمع خصاصات وخصاص ، كما قال الراجز :
قد علم المقاتلات هجا
والناظرات من خصاص لمجا
لأورينها دلجاً أو منجا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن أبيه ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليضيفه ، فلم يكن عنده ما يضيفه ، فقال : ألا رجل يضيف هذا رحمه الله ؟ فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة ، فانطلق به إلى رحله ، فقال لامرأته : أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نومي الصبية ، وأطفئي المصباح ، وأري بأنك تأكلين معه ، واتركيه لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففعلت ، فنزلت " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن فضيل ، عن غزوان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، أن رجلاً من الأنصار بات به ضيف ، فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه ، فقال لامرأته : نومي الصبية وأطفئي المصباح ، وقربي للضيف ما عندك ، قال : فنزلت هذه الآية " ومن يوق شح نفسه " يقول تعالى ذكره : من وقاه الله شح نفسه " فأولئك هم المفلحون " المخلدون في الجنة ، والشح في كلام العرب : البخل ، ومنع الفضل من المال ، ومنه قوله عمرو بن كلثوم :
ترى اللحز الشحيح إذا أمرت عليه لماله فيها مهينا
يعني بالشحيح : البخيل ، يقال : إنه لشحيح بين الشح والشح ، وفيه شحة شديدة وشحاحة ، وأما العلماء فإنهم يرون أن الشح في هذا الموضع إنما هو أكل أموال الناس بغير حق .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا المسعودي ، عن أشعت ، عن أبي الشعثاء عن أبيه ، قال : أتى رجل ابن مسعود فقال : إني أخاف أن أكون قد هلكت ، قال : وما ذاك ؟ قال : أسمع الله يقول " ومن يوق شح نفسه " وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء ، قال : ليس ذاك بالشح الذي ذكر الله في القرآن ، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلماً ذلك البخل ، وبئس الشيء البخل .
حدثني يحيى بن إبراهيم ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن جامع ، عن الأسود بن هلال قال : جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود ، فقال : يا أبا عبد الرحمن ، إني أخشى أن تكون أصابتني هذه الآية " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " والله ما أعطي شيئاً أستطيع منعه ، قال : ليس ذلك بالشح ، إنما الشح أن تأكل مال أخيك بغير حقه ، ولكن ذلك البخل .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا يحيى و عبد الرحمن ، قالا : ثنا سفيان ، عن طارق بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي الهياج الأسدي ، قال : كنت أطوف بالبيت ، فرأيت رجلاً يقول : اللهم قني شح نفسي ، لا يزيد على ذلك ، فقلت له ، فقال ، إني إذا وقيت نفسي لم أسرق ، ولم أزن ، ولم أفعل شيئاً ، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف .
حدثني محمد بن إسحاق ، قال : ثنا سلمان بن عبد الرحمن الدمشقي ، قال : ثنا إسماعيل بن عياش ، قال : ثنا مجمع بن جارية الأنصاري ، عن عمه يزيد بن جارية الأنصاري ، عن أنس بن مالك ، " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : برئ من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة " .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثنا زياد بن يونس أبو سلامة ، عن نافع بن عمر المكي ، عن ابن ابي مليكة ، عن عبد الله بن عمر ، قال : إن نجوت من ثلاث طمعت أن أنجو ، قال عبد الله بن صفوان ما هن أنبيك فيهن ؟ قال : أخرج المال العظيم فأخرجه ضراراً ، ثم أقول : أقرض ربي هذه الليلة ، ثم تعود نفسي فيه حتى أعيده من حيث أخرجته ، وإن نجوت من شأن عثمان ، قال ابن صفوان : أما عثمان فقتل يوم قتل ، وأنت تحب قتله وترضاه ، فأنت ممن قتله ، وأما أنت فرجل لم يقك الله شح نفسك ، قال : صدقت .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله عز وجل " ومن يوق شح نفسه " قال : ومن وقي شح نفسه فلم يأخذ من الحرام شيئاً ، ولم يقربه ، ولم يدعه الشح أن يحبس من الحلال شيئاً ، فهو من المفلحين ، كما قال الله عز وجل .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " ومن يوق شح نفسه " قال : من لم يأخذ شيئا لشيء نهاه الله عز وجل عنه ، ولم يدعه الشح على أن يمنع شيئاً من شيء أمره الله به ، فقد وقاه الله شح نفسه ، فهو من المفلحين .
فيه إحدى عشرة مسألة :
الأولى - قوله تعالى :" والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم " لا خلاف أن الذين تبوءوا الدار هم الأنصار الذين استوطنوا المدينة قبل المهاجرين إليها . والإمان نصب بفعل غير تبوأ ، لأن التبوء إنما يكون في الأماكن . و" من قبلهم " من صلة تبوأ والمعنى : والذين تبوءوا الدار من قبل المهاجرين واعقدوا الإيمان وأخلصوه لأن الإيمان ليس بمكان يتبوأ ، كقوله تعالى : " فأجمعوا أمركم وشركاءكم " [ يونس : 71 ] أي وادعوا شركاءهم ، وذكره أبو علي و الزمخشري وغيرهما . ويكون من باب قوله : علفتها تبنا وماء باردا .ويجوز حمله على حذف الضاف كأنه قال :تبوءوا الدار وما صع الإيمان . ويجوز حمله على ما دل عليه تلوأ ، كأنه قال : لزموا الدار ولزوا الإيمان فلم يفارقوهما :ويجوز أن يكون تبوأ الإيمان على طريق المثل ،كما تقول : تبوأ من بني فلان الصميم . والتبوء : التمكن والاستقرار . وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين ،بل أراد آمنوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم .
الثانية -: واختلف أيضا هل هذه الآية مقطوع مما قبلها أو معطوفة ، فتأول قولهم أنها معطوفة على قوله : "للفقراء المهاجرين " وأن الآيات التي في الحشر كلها معطوفة بعضها على بعض .ولو تأملوا ذلك وأنصفوا لوجوه على خلاف ما ذهبوا إليه ،لان الله تعالى يقول : " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا "إلى قوله - " الفاسقين " فأخبر عن بني النضير وبني قينقاع .ثم قال : " وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء " فأخبر أن ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم ، لأنه لم يوجف عليه حين خلوه . وما قدم فيهم من القتال وقطع شجرهم فقد كانوا رجعوا عنه وانقع ذلك الأمر ،ثم قال : " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل " وهذا كلام غير معطوف على الأول . وكذا " والذين تبوؤوا الدار والإيمان " ابتداء كلام في مدح الأنصار والثناء عليهم، فإنهم سلموا ذلك الفيء للمهاجرين ،وكأنه الفيء للفقراء المهاجرين ،والأنصار يحبون لهم لم يحسدوهم على ما صفا لهم من الفيء .وكذا ." والذين جاؤوا من بعدهم " البتداء الكلام ،والخبر يقولون "ربنا اغفر لنا " .قال إسماعيل بن إسحاق :إن قوله " والذين تبوؤوا الدار " " والذين جاؤوا" معطوف على ما قبل وأنهم شركاء في الفيء ،أي هذا المال للمهاجرين والذين تبوءوا الدار . وقال مالك بن أوس قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا الآية" إنما الصدقات للفقراء" فقال :هذه اهؤلاء هم قرأ " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه " [الأنفال: 41 ] فقال : هذه لهؤلاء .ثم قرأ "وما أفاء الله على رسوله " - حتى بلغ - " للفقراء المهاجرين " ،و" الذين تبوؤوا الدار والإيمان " " والذين جاؤوا من بعدهم " ثم قال :لئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه منها لم يعرق فيها جبينه . وقيل : إنه دعا المهاجرين والانصار واستشارهم فيما فتح الله عليه من ذلك ،وقال لهم : تثبتوا الامر وتدبروه ثم اغدوا علي ففكر في ليلته فتبين له أن هذه الآيات التي في سورة الحشرى وتلا" ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى" -إلى قوله - " للفقراء المهاجرين " فلما بلغ قوله " أولئك هم الصادقون " قال : ماهي لهؤلاء فقط .وتلا قوله : " والذين جاؤوا من بعدهم " - إلى قوله - " رؤوف رحيم " ثم قال :ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك . والله اعلم .
الثالثة-: روى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر قال : لولا من يأتي من آخر الناس ما فتحه قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وفي الروايات المستفيضة من الطرق الكثيرة : أن عمر أبقى سود العراق ومصر وما ظهر عليه من الغنائم ، لتكون من أعطيات المقاتلة وأرزاق الحشوة والذراري ،وأن الزبير وبلالا وغير واحد من الصحابة أرادوه على قسم ما فتح عليهم ، فكره ذلك منهم واختلف فيما فعل من ذلك ، فقيل : إنه استطاب أنفس أهل الجيش ، فمن رضي له بترك حظه بغير ثمن ليبقيه للمسلمين قلة ومن أبي أعطاه ثمن حظه . فمن قال :إنما أبقى الأرض بعد استطابة أنفس القوم جعل فعله كفعل النبي صلى الله عليه لأنه قسم خيبر ، لأن اشتراءه إياها وترك من ترك عن طيب نفسه بمنزلة قسمها . وقيل : إنه أبقاها بغير شيء أعطاه أهل الجيوش. وقيل : إنه تأول في ذلك قول الله سبحانه وتعالى :" للفقراء المهاجرين " - إلى قله - " ربنا إنك رؤوف رحيم " على ما تقدم . والله أعلم .
الرابعة - : واختلف العلماء في قسمة العقار ، فقال مالك :للإمام أن يوقفها لمصالح المسلمين وقال أبو حنيفة :الإمام مخيرين أن يقسمها أو يجعلها وقفا لمصالح المسلين . وقال الشافعي :ليس للإمام حبسها عنهم بغير رضاهم ، بل بقسمها عليهم كسائر الأموال .فمن طاب نفسا عن حقه للإمام أن يجعله وقفا عليهم فله . ومن لم تطب نفسه فهو أحق بماله . وعمر رضي الله عنه استطاب نفوس الغانمين واشتاها منهم .
قلت : وعى هذا يكون قوله :" والذين جاؤوا من بعدهم " مقطوعا مما قبله ، وانهم ندبوا بالدعاء للأولين والثناء عليهم .
الخامسة -: قال ابن وهب : سمعت مالكا يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق فقال : إن المدينة تبوأت بالإيمان والهجرة ، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف ، ثم قرأ " والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم " الآية . وقد مضى الكلام في هذا وفي الصلاة في المسجدين :المسجد الحرام ومسجد المدينة ،فلا معنى للإعادة .
السادسة -قوله تعالى : " ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا " يعني لا يحسدون المهاجرين علىما خصوا به من مال الفيء وغيره ، كذلك قال الناس .وفيه تقدير حذف مضافين ، المعنى مس حاجة من فقد ما أوتوا . وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته فهو حاجة .وكان المهاجرون في دور الأنصار :
فلما غنم عليه الصلاة والسلام أموال بني النضير ،دعا الانصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم في منازلهم ،وإشراكهم في أموالهم .ثم قال : " إن أحببتم قسمت ما أفاء الله علي من بني النضير بينكم وبينهم ،وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دونكم " .
فقال سعيد بن عبادة و سعيد بن معاذ : بل نقسمه بين المهاجرين ، ويكونون في دورنا كما كانوا . ونادت الأنصار : رضينا وسلمنا يا رسول الله ،"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار ". وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين ولم يعط الأنصار شيئا إلا الثلاثة الذين ذكرناهم . ويحتمل أن يريد به " ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا " إذا كان قليل بل يقنعون به ويرضون .وقد كانوا على هذه الحالة حين حياة النبي صلى الله عليه وسلم دنيا ،ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه وسلم بحكم الدنيا . وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال :
"سترون بعدي أثره فاصبروا حتى تلقوني على الحوض " .
السابعة -: قوله تعالى :" ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " في الترمذي عن "أبي هريرة :
أن رجلا [من الأنصار] بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه ، فقال لأمرأته :نومي الصبية وأطفئي السراج وقربي للضيف ما عندك ،فنزلت هذه الآية " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " " قال :هذا حديث حسن صحيح .خرجه مسلم أيضا . وخرج" عن أبي هريرة قال :
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :إني مجهود .فأرسل إلى بعض نسائه فقالت : والذي بعثك بالحق ماعندي إلا ماء . ثم أرسل إلى الأخرى فقالت مثل ذلك ، حتى قلن كلهن مثل ذلك : لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال:من يضيف هذا الليلة رحمة الله .؟ فقام رجل من الأنصار فقال :أنا يا رسول الله . فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته : هل عندك شيء ؟ فقالت :لا ، إلا قوت صبياني .قال :فعليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل ،فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه قال : فقعدوا وأكل الضيف .فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : قد عجب الله عز وجل من صنيعكم . " وفي رواية عن أبي هريرة قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضيفه لم يكن عنده ما يضيفه . فقال : ألا رجل يضيف هذا رحمه الله ؟ فقام رجل من الأنصار يقال :له أبو طلحة، فانطلق به إلى رحله ...، وساق الحديث بنحو الذي قبله ،وذكر فيه نزول الآية وذكر المهدوي عن أبي هريرة أن هذا نزل في ثابت بن قيس ورجل من الأنصار - نزل به ثابت - يقال له أبو المتوكل ، فلم يكن عند أبي المتوكل إلا قوته وقوت صبيانه ، فقال لامرأته : أطفئي السراج ونومي الصبية ، وقدم ما كان عنده إلى ضيفه .وكذا ذكر النحاس قال : قال أبو هريرة : نزلت برجل من الأنصار - يقال له أبو المتوكل - ثابت بن قيس ضيفا ، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه ، فقال لامرأته : أطفئي السراج ونومي الصبية فنزلت " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة "- إلى قوله - " فأولئك هم المفلحون " وقيل : إن فاعل ذلك أبو طلحة .وذكر القشيري أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم : وقال ابن عمر : أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا ،فبعثه إليهم ، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها سبعة أبيات ، حتى رجعت إلى أولئك ، فنزلت " ويؤثرون على أنفسهم ". ذكره الثعلبي عن أنس قال: أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة وكان مجهودا فوجه به إلى جار له ، فتداولته سبعة أبيات ، ثم عاد إلى الأول ، فنزلت " ويؤثرون على أنفسهم " الآية . وقال ابن عباس : "
قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم بني النضير : إن شئتم قسمت للمهاجرين من دياركم وأموالكم وشاركتموهم في هذه الغنيمة وان شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم نقسم لكم من الغنيمة شيئا " فقالت الأنصار : بل نقسم لإخواننا من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة ، فنزلت " ويؤثرون على أنفسهم "الآية .والأول أصح . "وفي الصحيحين عن أنس :
أن الرجل كان يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم النخلات من أرضه حتى فتحت عليه قريظة والنضير ، فجعل بعد ذلك يرد عليه ما كان أعطاه . " لفظ مسلم وقال الزهري عن أنس بن مالك : لما قدم المهاجرون من مكة إلى المدينة قدموا وليس بأيديهم شيء وكان الأنصار أهل الأرض والعقار ، فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام ويكفونهم العمل والمؤونة ، و"كانت أم أنس بن مالك تدعى أم سليم ، وكانت أم عبد الله بن أبي طلحة ، كان أخا لأنس لأمه ، وكانت أعطت أم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقا لها ، فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مولاته ، أم أسامة بن زيد . قال ابن شهاب : فأخبرني أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة ، رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم . قال : فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم عذاقها ، واعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مكانهن من حائطه . " خرجه مسلم أيضا .
الثامنة- الإيثار : هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنياوية ، ورغبة في الحظوظ الدينية . وذلك ينشأ عن قوة اليقين ، وتوكيد المحبة ، والصبر على المشقة . يقال : آثرته بكذا ، أي خصصته به وفضلته . ومفعول الإيثار محذوف ، أي يؤثرونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم ، لا عن عنى بل مع احتياجهم إليها ، حسب ما تقدم بيانه . وفي موطأ مالك : أنه بلغه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، أن مسكينا سألها وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف ، فقالت لمولاة لها : أعطيه إياه ، فقالت : ليس لك ما تفطرين عليه ؟ فقالت : أعطيه إياه .قالت ففعلت .قالت فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان ما كان يهدى لنا : شاة وكفنها . فدعتني عائشة فقالت ك كلي من هذا ، فهذا خير من قرصك . قال علماؤنا : هذا من المال الرابح ، والفعل الزاكي عند الله تعالى يجعل منه ما يشاء ، ولا ينقص ذلك مما يدخر عنه . ومن ترك شيئا لله لم يجد فقده . وعائشة رضي الله عنها في فعلها هذا من الذين أثنى الله عليهم بأنهم يؤثرون على أنفسهم مع ما هم فيه من الخصاصة ، وأن من فعل ذلك فقد وقي شح نفسه وأفلح فلاحا لا خسارة بعده . ومعنى ( شاة وكفنها ) فإن العرب - أو بعض العرب أو بعض وجوههم - كان هذا من طعامهم ، يأتون إلى الشاة أو الخروف إذا سلخوه غطوه كله بعجين البر وكفنوه به ثم علقوه في التنور ، فلا يخرج من ودكه شيء إلا في ذلك الكفن ، وذلك من طيب الطعام عندهم . وروى النسائي عن نافع أن ابن عمر اشتكى واشتهى عنبا ، فاشترى له عنقود بدرهم ، فجاء مسكين فسأل ، فقال أعطوه إياه ، فخالف إنسان فاشتراه بدرهم ، ثم جاء به إلى ابن عمر ، فجاء المسكين فسأل ، فقال أعطوه إياه ، ثم خالف إنسان فاشتراه بدرهم ، هم جاء به إليه ، فأراد السائل أن يرجع فمنع . ولو علم ابن عمر أنه ذلك العنقود ما ذاقه ،لأن ما خرج لله لا يعود فيه .وذكر ابن المبارك قال : أخبرنا محمد بن مطرف قال : حدثنا أبو حازم عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع عن مالك الدار : إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خذ أربعمائة دينار ، فجعلها في صرة ثم قال للغلام : اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح ، ثم تلكأ ساعة في البيت حتى تنظر ماذا يصنع بها . فذهب بها الغلام إليه فقال : يقول لك أمير المؤمنين : اجعل هذه في بعض حاجتك ، فقال :وصله الله ورحمه ، قال :تعالي ياجارية أذهبي بهذه السبعة إلى فلان ، بهذه الخمسة إلى فلان ، حتى أنفذها . فرجع الغلام إلى عمر ، فأخره فوجده قد اعد مثلها لمعاذ بن جبل ، وقال : اذهب بهذا إلى معاذ بن جبل وتلكأ في البيت ساعة حتى تنظر ماذا يصنع ، فذهب بها إليه فقال : يقول لك أمير المؤمنين : اجعل هذه في بعض حاجتك ، فقال : رحمه الله ووصله ، وقال : يا جارية ، اذهبي إلى بيت فلان بكذا وبيت فلان بكذا ، فاطلعت امرأة معاذ فقالت : ونحن ! والله مساكين فأعطنا . ولم يبق في الخرقة إلا ديناران قد جاء بهما إليها . فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فسر بذلك عمر وقال إنهم إخوة ! بعضهم من بعض . ونحوه عن عائشة رضي الله عنها في إعطاء معاوية إياها ، وكان عشر آلاف وكان المنكدر دخل عليها فإن قيل : وردت أخبار صحيحة في النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء ، قيل له : إنما كره ذلك في حق من لا يوثق منه الصبر على الفقر ، وخاف أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفعه . فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على أنفسهم ، فلم يكونوا بهذه الصفة ، بل كانوا كما قال الله تعالى : " والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس " [ البقرة : 177 ] . وكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك . والإمساك لمن لا يصبر . ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار . "وروي رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل البيضة من الذهب فقال :
هذه صدقة ، فرما بها وقال :يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به ثم يقعد يتكفف الناس . "والله أعلم .
التاسعة : - والإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس . ومن الأمثال السائرة:
والجود بالنفس أقصى غاية الجود
ومن عبارات الصوفية الشيقة في حد المحبة : أنها الإيثار ، ألا ترى ان امرأة العزيز لما تناهت في حبها ليوسف عليه السلام ، آثرته على نفسها فقالت : أنا راودته عن نفسه .وافضل الجود بالنفس الجود على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم ،" ففي الصحيح:
أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم .فيقول له أبوطلحة : لا تشرف يا رسول الله ! لا يصيبونك ! نحري دون نحرك ! ووقي بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت . " وقال حذيفة العدوي : انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي - ومعي شيء من الماء - وأنا برجل يقول آه !آه ! فأشار إلي ابن عمي أن انطلق إليه فإذا هو هشام بن العاص فقلت : أسقيك ؟ فأشار أن نعم .فسمع آخر يقول : آه !آه ! فأشار هشام أن انطلق فجئته فإذا هو قد مات . وقال أبو يزيد البسطامي : ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ ! قدم علينا حاجا فقل لي : با أبا يزيد ، ما حد الزهد عندكم ؟فقلت : إن وجدنا أكلنا . وإن فقدنا صبرنا . فقال هكذا كلاب بلخ عندنا .فقلت : وما حد الزهد عندكم ؟ قال : إن فقدنا شكرنا ، وإن وجدنا آثرنا .وسئل ذو النون المصري : ما حد المنشرح صدره ؟ قال ثلاث :تفريق المجموع ،وترك طلب المفقود ، والإيثار عند القوت . وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلا بقرية من قرى الري ، ومعهم أرغفة معدودة لا تشبع جميعهم ، فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج وجلسوا للطعام ، فلما رفع فإذا الطعام بحاله لم يأكل منه شيئا ، إيثارا لصاحبه على نفسه .
العاشرة : - قوله تعالى : " ولو كان بهم خصاصة " الخصاصة : الحاجة التي تختل بها الحال . واصلها من الاختصاص وهو انفراد بالأمر. فالخصاصة الانفراد بالحاجة ، أي لو كان بهم فاقة وحاجة . ومنه قول الشاعر :
أما الربيع إذا تكون خصاصة عاش السقيم به وأثرى المقتر
الحادية عشرة - قوله تعالى : " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " الشح والبخل سواء ، يقال : رجل شحيح بين الشح والشح والشحاحة . قال عمرو بن كلثوم :
ترى اللحز الشحيح إذا أمرت عليه لماله فيها مهينا
وجعل بعض أهل اللغة الشحيح أشد من البخيل . وفي الصحاح : الشح البخل مع حرص ، تقول : شححت (بالكسر ) تشح .وشححت أيضا وتشح .ورجل شحيح ، وقوم شحاح وأشحة . والمراد بالآية : الشح بالزكاة وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضيافة ، وما شاكل ذلك . فليس بشحيح ولا بخيل من أنفق في ذلك ون أمسك عن نفسه . ومن وسع على نفسه ولم ينفق فيما ذكرناه من الزكوات والطاعات فلم يوق شح نفسه . وروى لأسود عن ابن مسعود أن رجلا أتاه فقال له : إني أخاف أن أكون قد هلكت ؟ قال : وما ذلك ؟ قال سمعت الله عز وجل يقول : " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " وأنا رجل شحيح لا أكاد أخرج من يدي شيئا . فقال ابن مسعود : ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن ، إنما الشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلما ، ولكن ذلك البخل وبئس الشيء البخل . ففرق رضي الله عنه بين البخل والشح . وقال طاوس : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده ، والشخ أن يشح بما في يد الناس ، يجب أن يكون له ما في أيدهم بالحل والحرام ، لا يقنع . ابن جبير :الشح منع الزكاة وادخار الحرام .ابن عيينة :الشح الظلم .الليث : ترك الفرائض وانتهاك المحارم .ابن عباس : من اتبع هواه ولم يقبل بالإيمان فذلك الشحيح . ابن زيد : من لم يأخذ شيئا لشيء نهاه الله عنه ، ولم يدعه الشح على أن يمنع شيئا من شيء أمره الله به ، فقد وقاه الله شح نفسه . "وقال أنس :
قال النبي صلى الله عليه وسلم برئ من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة ". وعنه : "
أن النب صلى الله عليه وسلم كان يدعوا اللهم إني أعوذ بك من شح نفسي وإسرافها ووساوسها " . وقال أبو الهياج الأسدي : رأيت رجلا في الطواف يدعو : اللهم قني شح نفسن . لا يزيد شيئا ،فقلت له ؟ فقال : إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل .فإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف .
قلت : يدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم :
"اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم ". وقد بيناه في آخر آل عمران . وقال كسرى لأصحابه : أي شيء أضر بابن آدم ؟ قالوا : الفقر .فقال كسرى : الشح أضر من الفقر ، لأن الفقير إذا وجد شبع ،والشحيح والشحيح إذا وجد لم يشبع أبدا .
يقول تعالى مبيناً حال الفقراء المستحقين لمال الفيء أنهم "الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً" أي خرجوا من ديارهم وخالفوا قومهم ابتغاء مرضاة الله ورضوانه "وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون" أي هؤلاء الذين صدقوا قولهم بفعلهم وهؤلاء هم سادات المهاجرين. ثم قال تعالى مادحاً للأنصار ومبيناً فضلهم وشرفهم وكرمهم, وعدم حسدهم وإيثارهم مع الحاجة فقال تعالى: " والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم " أي سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم. قال عمر: وأوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم كرامتهم, وأوصيه بالأنصار خيراً الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل, أن يقبل من محسنهم وأن يعفو عن مسيئهم رواه البخاري ههنا أيضاً.
قوله تعالى: "يحبون من هاجر إليهم" أي من كرمهم وشرف أنفسهم يحبون المهاجرين ويواسونهم بأموالهم قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد حدثنا حميد عن أنس قال: قال المهاجرون يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلاً في كثير, لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله. قال "لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم" لم أره في الكتب من هذا الوجه.
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يقطع لهم البحرين. قالوا لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها قال "إما لا فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم أثرة" تفرد به البخاري من هذا الوجه. وقال البخاري: حدثنا الحكم بن نافع أخبرنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قالت الأنصار اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل, قال: لا. فقالوا: أتكفوننا المؤنة ونشرككم في الثمرة. قالوا: سمعنا وأطعنا. تفرد به دون مسلم "ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا" أي ولا يجدون في أنفسهم حسداً للمهاجرين فيما فضلهم الله به من المنزلة والشرف والتقديم في الذكر والرتبة.
قال الحسن البصري "ولا يجدون في صدورهم حاجة" يعني الحسد "مما أوتوا" قال قتادة يعني فيما أعطى إخوانهم. وكذا قال ابن زيد ومما يستدل به على هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن أنس قال: كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يطلع عليكم الان رجل من أهل الجنة" فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد علق نعليه بيده الشمال, فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك, فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى, فلما كان في اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً, فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى, فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: إني لا حيت أبي فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثاً, فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت قال "نعم".
قال أنس: فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا تعار تقلب على فراشه ذكر الله وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً, فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أن أحتقر عمله, قلت يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة, ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرات "يطلع عليكم الان رجل من أهل الجنة" فطلعت أنت الثلاث المرات, فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به, فلم أرك تعمل كبير عمل, فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ماهو إلا ما رأيت, فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه. قال عبد الله: فهذه التي بلغت بك وهي التي لا تطاق, ورواه النسائي في اليوم والليلة عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن معمر به, وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري عن رجل عن أنس, فالله أعلم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: "ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا" يعني مما أوتوا المهاجرين, قال وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم في الأنصار فعاتبهم الله في ذلك فقال تعالى: "وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير" قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم" فقالوا أموالنا بيننا قطائع, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو غير ذلك" قالوا: وما ذاك يا رسول الله ؟ قال: "هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر" فقالوا: نعم يا رسول الله. وقوله تعالى: "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" يعني حاجة أي يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم ويبدءون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك.
وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضل الصدقة جهد المقل" وهذا المقام أعلى من حال الذين وصف الله تعالى: "ويطعمون الطعام على حبه" وقوله "وآتى المال على حبه" فإن هؤلاء تصدقوا وهم يحبون ما تصدقوا به, وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به, وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه, ومن هذا المقام تصدق الصديق رضي الله عنه بجميع ماله, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبقيت لأهلك ؟" فقال رضي الله عنه: أبقيت لهم الله ورسوله, وهكذا الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه, وهو جريح مثقل أحوج ما يكون إلى الماء, فرده الاخر إلى الثالث فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم ولم يشربه أحد منهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
وقال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير حدثنا أبو أسامة حدثنا فضيل بن غزوان حدثنا أبو حازم الأشجعي عن أبي هريرة قال: أتى رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أصابني الجهد, فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاً, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يضيف هذه الليلة رحمه الله" فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله, فذهب إلى أهله فقال لامرأته: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه شيئاً, فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم, وتعالي فأطفيء السراج ونطوي بطوننا الليلة, ففعلت ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لقد عجب الله عز وجل ـ أو ضحك ـ من فلان وفلانة" وأنزل الله تعالى: "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" وكذا رواه البخاري في موضع آخر ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن فضيل بن غزوان وفي رواية لمسلم تسمية هذا الأنصاري بأبي طلحة رضي الله عنه.
وقوله تعالى: "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" أي من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح.
قال أحمد: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا داود بن قيس الفراء عن عبيد الله بن مقسم, عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة, واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم" انفرد بإخراجه مسلم فرواه عن القعنبي عن داود بن قيس به.
وقال الأعمش وشعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث عن زهير بن الأقمر عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة, واتقوا الفحش فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش, وإياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم, أمرهم بالظلم فظلموا, وأمرهم بالفجور ففجروا, وأمرهم بالقطيعة فقطعوا" ورواه أحمد وأبو داود من طريق شعبة والنسائي من طريق الأعمش, كلاهما عن عمرو بن مرة به, وقال الليث عن يزيد بن الهاد عن سهيل بن أبي صالح عن صفوان بن أبي يزيد عن القعقاع بن الجلاح عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبداً, ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبدة بن سليمان, أخبرنا ابن المبارك, حدثنا المسعودي عن جامع بن شداد عن الأسود بن هلال قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: يا أبا عبد الرحمن إني أخاف أن أكون قد هلكت, فقال له عبد الله: وما ذاك ؟ قال: سمعت الله يقول "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أخرج من يدي شيئاً, فقال عبد الله: ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله في القرآن, إنما الشح الذي ذكر الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً, ولكن ذاك البخل وبئس الشيء البخل.
وقال سفيان الثوري عن طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن أبي الهياج الأسدي قال: كنت أطوف بالبيت فرأيت رجلاً يقول: اللهم قني شح نفسي لا يزيد على ذلك, فقلت له, فقال: إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل, وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. رواه ابن جرير. وقال ابن جرير: حدثني محمد بن إسحاق, حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي, حدثنا إسماعيل بن عياش, حدثنا مجمع بن جارية الأنصاري عن عمه يزيد بن جارية عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "برىء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة".
وقوله تعالى: " والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم " هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء وهم المهاجرون ثم الأنصار ثم التابعون لهم بإحسان كما قال في آية براءة "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه" فالتابعون لهم بإحسان هم المتبعون لاثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة الداعون لهم في السر والعلانية, ولهذا قال تعالى: في هذه الاية الكريمة " والذين جاؤوا من بعدهم يقولون " أي قائلين " ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا " أي بغضاً وحسداً " للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم " وما أحسن ما استنبط الإمام مالك رحمه الله من هذه الاية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب, لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم " ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي, حدثنا محمد بن بشر, حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه عن عائشة أنها قالت: أمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم ثم قرأت هذه الاية " والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان " الاية. وقال إسماعيل بن علية عن عبد الملك بن عمير عن مسروق عن عائشة قالت: أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسببتموهم. سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها" رواه البغوي, وقال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم, حدثنا أيوب عن الزهري قال: قال عمر رضي الله عنه "وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب" قال الزهري: قال عمر رضي الله عنه: هذه لرسول لله صلى الله عليه وسلم خاصة وقرى عربية فدك وكذا مما أفاء الله على رسوله من أهل القرى, فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ـ وللفقراء المهاجرين الذي أخرجوا من ديارهم وأموالهم ـ والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم ـ والذين جاؤوا من بعدهم فاستوعبت هذه الاية الناس فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق. قال أيوب ـ أو قال حظ ـ إلا بعض من تملكون من أرقائكم. كذا رواه أبو داود وفيه انقطاع.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى, حدثنا أبو ثور عن معمر عن أيوب عن عكرمة بن خالد عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: قرأ عمر بن الخطاب " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم " ثم قال: هذه لهؤلاء, ثم قرأ "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى" الاية. ثم قال: هذه لهؤلاء, ثم قرأ " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب * للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون * والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون * والذين جاؤوا من بعدهم " ثم قال: استوعبت هذه المسلمين عامة وليس أحد إلا له فيها حق ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه فيها لم يعرق فيها جبينه.
ثم لما فرغ من مدح المهاجرين مدح الأنصار فقال: 9- " والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم " المراد بالدار المدينة، وهي دار الهجرة، ومعنى تبوئهم الدار والإيمان أنهم اتخذوها مباءة: أي تمكنوا منها تمكناً شديداً، والتبوأ في الأصل إنما يكون للمكان، ولكنه جعل الإيمان مثله لتمكنهم فيه تنزيلاً للحال منزلة المحل، وقيل إن الإيمان منصوب بفعل غير الفعل المذكور، والتقدير: واعتقدوا الإيمان أو وأخلصوا الإيمان كذا قال أبو علي الفارسي. ويجوز أن يكون على حذف مضاف: أي تبوأوا الدار وموضع الإيمان، ويجوز أن يكون تبوأوا مضمنا لمعنى لزموا، والتقدير: لزموا الداء والإيمان، ومعنى من قبلهم: من قبل هجرة المهاجرين فلا بد من تقدير مضاف، لأن الأنصار إنما آمنوا بعد إيمان المهاجرين، والموصول مبتدأ وخبره "يحبون من هاجر إليهم" وذلك لأنهم أحسنوا إلى المهاجرين وأشركوهم في أموالهم ومساكنهم "ولا يجدون في صدورهم حاجة" أي لا يجد الأنصار في صدورهم حسداً وغيظاً وحزازة "مما أوتوا" أي مما أوتي المهاجرون دونهم من الفيء، بل طابت أنفسهم بذلك. وفي الكلام مضاف محذوف: أي لا يجدون في صدورهم مس حاجة أو أثر حاجة، وكل ما يجده الإنسان في صدره مما يحتاج إليه فهو حاجة. وكان المهاجرون في دور الأنصار، فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين من إنزالهم إياهم في منازلهم، وإشراكهم في أموالهم، ثم قال: إن أحببتم قسمت ما أفاء الله علي من بني النضير بينكم وبين المهاجرين، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم والمشاركة لكم في أموالكن، وإن أحببتم أعطيتهم ذلك وخرجوا من دياركم، فرضوا بقسمة ذلك في المهاجرين وطابت أنفسهم "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" الإيثار خصصته، والمعنى: ويقدمون المهاجرين على أنفسهم في حظوظ الدنيا "ولو كان بهم خصاصة" أي حاجة وفقر، والخصاصة مأخوذة من خصاص البيت، وهي الفرج التي تكون فيه، وجملة لو كان بهم خصاصة في محل نصب على الحال، وقيل إن الخصاصة مأخوذة من الاختصاص، وهو الانفراد بالأمر، فالخصاصة الانفراد بالحاجة، ومنه قول الشاعر:
إن الربيع إذا يكون خصاصة عاش السقيم به وأثري المقتر
"ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" قرأ الجمهور "يوق" بسكون الواو وتخفيف القاف من الوقاية. وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة بفتح الواو وتشديد القاف. وقرأ الجمهور "شح نفسه" بضم الشين. وقرأ ابن عمر وابن أبي عبلة بكسرها. والشح: البخل مع حرص، كذا في الصحاح، وقيل الشح أشد من البخل. قال مقاتل: شح نفسه: حرص نفسه. قال سعيد بن جبير: شح النفس هو أخذ الحرام ومنع الزكاة. قال ابن زيد: من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عنه ولم يمنع شيئاً أمره الله بأدائه فقد وقي شح نفسه. قال طاوس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشح أن يشح بما في أيدي الناس، يحب أن يكون له ما في أيديهم بالحلال والحرام لا يقنع. وقال ابن عيينة: الشح الظلم. وقال الليث: ترك الفرائض وانتهاك المحارم. والظاهر من الآية أن الفلاح مترتب على عدم شح النفس بشيء من الأشياء التي يقبح الشح بها شرعاً من زكاة أو صدقة أو صلة رحم أو نحو ذلك كما تفيده إضافة الشح إلى النفس، والإشارة بقوله: "فأولئك" إلى من باعتبار معناها، وهو مبتدأ وخبره "هم المفلحون" والفلاح الفوز والظفر بكل مطلوب.
9- " والذين تبوؤوا الدار والإيمان "، وهم الأنصار تبوؤا الدار توطنوا الدار، أي: المدينة، اتخذوها دار الهجرة والإيمان، "من قبلهم"، أي أسلموا في ديارهم وآثروا الإيمان وابتنوا المساجد قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين.
ونظم الآية: والذين تبوؤا الدار من قبلهم أي من قبل قدوم المهاجرين عليهم، وقد آمنوا لأن الإيمان ليس بمكان تبوء.
"يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة"، حزازة وغيظاً وحسداً، "مما أوتوا"، أي مما أعطى المهاجرين دونهم من الفيء، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار فطابت أنفس الأنصار بذلك، "ويؤثرون على أنفسهم"، أي يؤثرون على إخوانهم من المهاجرين بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم، "ولو كان بهم خصاصة"، فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون، وذلك أنهم قاسموهم ديارهم وأموالهم:
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا مسدد، حدثنا عبد الله بن داود عن فضيل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة "أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستضافه فبعث إلى نسائه هل عندكن من شيء؟ فقلن ما معناه: إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يضم أو يضيف هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبيان، فقال: هيئي طعامك وأصبحي سراجك ونومي صبيانك، إذا أرادوا عشاءً، فهيأت طعامها وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما، فأنزل الله عز وجل: "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون"".
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قالت الأنصار: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: لا، فقالوا: تكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان عن يحيى بن سعد سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال: "دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين، فقالوا: لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها، قال: ألا فاصبروا حتى تلقوني على الحوض، فإنه سيصيبكم أثرة بعدي".
وروي عن ابن عباس قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النضير للأنصار: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة، فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها، فأنزل الله عز وجل: "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون"".
والشح في كلام العرب: البخل ومنع الفضل. وفرق العلماء بين الشح والبخل. روي أن رجلاً قال لعبد الله بن مسعود: إني أخاف أن أكون قد هلكت، فقال: وما ذاك؟ قال: أسمع الله يقول: "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون"، وأنا رجل شحيح، لا يكاد يخرج من يدي شيء، فقال عبد الله: ليس ذلك بالشح الذي ذكر الله عز وجل في القرآن، ولكن الشح أن تأكل مال أخيك ظلماً ولكن ذاك / البخل، وبئس الشيء البخل.
وقال ابن عمر: ليس الشح أن يمنع الرجل ماله، إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له.
وقال سعيد بن جبير: الشح هو أخذ الحرام ومنع الزكاة. وقيل: الشح هو الحرص الشديد الذي يحمله على ارتكاب المحارم.
قال ابن زيد: من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عنه، ولم يدعه الشح إلى أن يمنع شيئاً من شيء أمره الله به فقد وقاه شح نفسه.
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو سعيد خلف بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي نزار، حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن حزاز القهندري، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إسحاق السعدي، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا القعنبي، حدثنا داود بن قيس الفراء عن عبيد الله بن مقسم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم".
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي، حدثنا أبو العباس الأصم، أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أخبرنا أبي وشعيب قالا: أخبرنا الليث عن يزيد ابن الهاد عن سهيل بن أبي صالح عن صفوان بن أبي يزيد عن القعقاع هو ابن اللجلاج عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبداً، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً".
9-" والذين تبوؤوا الدار والإيمان " عطف على المهاجرين ، والمراد بهم الأنصار الذين ظهر صدقهم فإنهم لزموا المدينة والإيمان وتمكنوا فيهما ، وقيل المعنى تبوءوا دار الهجرة ودار الإيمان فحذف المضاف من الثاني والمضاف إليه من الأول وعوض عنه اللام ، أو تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان كقوله :
علفتها تبناً وماء بارداً
وقيل سمى المدينة بالإيمان لأنها مظهرة ومصيره . " من قبلهم " من قبل هجرة المهاجرين .وقيل تقدير الكلام والذين تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان . " يحبون من هاجر إليهم " ولا يثقل عليهم . " ولا يجدون في صدورهم " في أنفسهم . " حاجةً " ما تحمل عليه الحاجة كالطلب والحزازة والحسد والغيظ . " مما أوتوا " مما أعطي المهاجرين من الفيء وغيره . " ويؤثرون على أنفسهم " ويقدمون المهاجرين على أنفسهم حتى إن كان عنده مرأتان نزل عن واحدة وزوجها من أحدهم . " ولو كان بهم خصاصةً " حاجة من خصاص البناء وهي فرجة . "ومن يوق شح نفسه " حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الإنفاق . "فأولئك هم المفلحون " الفائزون بالثناء العاجل والثواب الآجل .
9. Those who entered the city and the faith before them love these who flee unto them for refuge, and find in their breasts no need for that which hath been given them, but prefer (the fugitives) above themselves though poverty become their lot. And whoso is saved from his own avarice such are they who are successful.
9 - But those who before them, had homes (in Medina) and had adopted the Faith, show their affection to such as came to them for refuge, and entertain no desire in their hearts for things given to the (latter), but give them preference over themselves, even though poverty was their (own lot). And those saved from the covetousness of their own souls, they are the ones that achieve prosperity.