[الحشر : 16] كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ
16 - مثلهم أيضا في سماعهم من المنافقين وتخلفهم عنهم (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين) كذبا منه ورياء
وقوله " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين " يقول تعالى ذكره : مثل هؤلاء المنافقين الذين وعدوا اليهود من النضير النصرة ، إن قوتلوا ، أو الخروج معهم إن أخرجوا ، ومثل النضير في غرورهم إياهم بإخلافهم الوعد ، وإسلامهم إياهم عند شدة حاجتهم إليهم ، وإلى نصرتهم إياهم ، كمثل الشيطان الذي غر إنساناً ، ووعده على اتباعه وكفره بالله ، النصرة عند الحاجة إليه ، فكفر الله واتبعه وأطاعه ، فلما احتاج إلى نصرته أسلمه وتبرأ منه ، وقال له " إني أخاف الله رب العالمين " في نصرتك .
وقد اختلف أهل التأويل في الإنسان الذي قال الله جل ثناؤه " إذ قال للإنسان اكفر " هو إنسان بعينه ، أم أريد به المثل لمن فعل الشيطان ذلك به ؟ فقال بعضهم : عني بذلك إنسان بعينه .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : ثنا النضر بن شميل ، قال : أخبرنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت عبد الله بن نهيك ، قال : سمعت علياً رضي الله عنه يقول : إن راهباً تعبد ستين سنة ، وإن الشيطان أراده فأعياه ، فعمد إلى امرأة فأجنها ، ولها إخوة ، فقال لإخوتها : عليكم بهذا القس فيداويها ، فجاءوا بها ، قال : فداواها ، وكانت عنده ، فبينما هو يوماً عندها إذ أعجبته ، فأتاها فحملت ، فعمد إليها فقتلها ، فجاء إخوتها ، فقال الشيطان للراهب : أنا صاحبك ، إنك أعييتني ، أنا صنعت بك هذا فأطعني أنجك مما صنعت بك ، اسجد لي سجدة ، فسجد له ، فلما سجد له قال : " إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين " فذلك قوله " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين " .
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : ثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن عمارة ، عن عبد الرحمن بن زيد ، عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين " قال : كانت امرأة ترعى الغنم ، وكان لها أربعة إخوة ، وكانت تأوي بالليل إلى صومعة راهب ، قال : فنزل الراهب ففجر بها ، فحملت ، فأتاه الشيطان ، فقال له اقتلها ثم ادفنها ، فإنك رجل مصدق يسمع كلامك ، فقتلها ثم دفنها ، قال : فأتى الشيطان إخوتها في المنام ، فقال لهم : إن الراهب صاحب الصومعة فجر بأختكم ، فلما أحبلها قتلها ، ثم دفنها في مكان كذا كذا ، فلما أصبحوا قال رجل منهم ، والله لقد رأيت البارحة رؤيا وما أدري أقصها عليكم أم أترك ؟ قالوا : لا ، بل قصها علينا ، قال : فقصها ، فقال الآخر : وأنا والله رأيت ذلك ، قالوا : فما هذا إلا لشيء ، فانطلقوا فاستعدوا ملكهم على ذلك الراهب ، فأتوه فأنزلوه ، ثم انطلقوا به ، فلقيه الشيطان فقال : إني أنا الذي أوقعتك في هذا ولن ينجيك منه غيري فاسجد لي سجدة واحدة وأنا أنجيك مما أوقعتك فيه ، فسجد له ، فلما أتوا به ملكهم تبرأ منه ، وأخذ فقتل .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر " ... إلى " وذلك جزاء الظالمين " قال عبد الله بن عباس : كان راهب بني إسرائيل يعبد الله فيحسن عبادته ، وكان يؤتى من كل أرض فيسئل عن الفقه ، وكان عالماً ، وإن ثلاثة إخوة كانت لهم أخت حسنة من أحسن الناس ، وإنهم أرادوا أن يسافروا فكبر عليهم أن يخلفوها ضائعة ، فجعلوا يأتمرون ما يفعلون بها ، فقال أحدهم ، أدلكم على من تتركونها عنده ؟ قالوا : من هو ؟ قال : راهب بني إسرائيل ، إن ماتت قام عليها ، وإن عاشت حفظها حتى ترجعوا إليه ، فعمدوا إليه فقالوا : إنا نريد السفر ، ولا نجد أحد أوثق في أنفسنا ولا أحفظ لما ولي منك لما جعل عندك ، فإن رأيت أن نجعل أختنا عندك فإنها ضائعة شديدة الوجع ، فإن ماتت فقم عليها ، وإن عاشت فأصلح إليها حتى نرجع ، فقال : أكفيكم إن شاء الله ، فانطلقوا فقام عليها فداواها حتى برأت ، وعاد إليها حسنها ، فاطلع إليها فوجدها متصنعة ، فلم يزل به الشيطان يزين له أن يقع عليها حتى وقع عليها ، فحملت ، ثم ندمه الشيطان فزين له قتلها ، قال : إن لم تقتلها افتضحت وعرف شبهك في الولد ، فلم يكن لك معذرة ، فلم يزل به حتى قتلها ، فلما قدم إخوتها سألوه ما فعلت ؟ قال : ماتت فدفنتها ، قالوا : قد أحسنت ، ثم جعلوا يرون في المنام ، ويخبرون أن الراهب هو قتلها ، وأنها تحت شجرة كذا كذا ، فعمدوا إلى الشجرة فوجدوها تحتها قد قتلت ، فعمدوا إليه فأخذوه ، فقال له الشيطان : أنا زينت لك الزنا وقتلها بعد الزنا ، فهل لك أن أنجيك ؟ قال : نعم ، قال : أفتطيعني قال : نعم ، قال : فاسجد لي سجدة واحدة ، فسجد له ثم قتل ، فذلك قوله " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك " .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : كان رجل من بني إسرائيل عابداً ، وكان ربما داوى المجانين ، فكانت امرأة جميلة ، فأخذها الجنون ، فجيء بها إليه ، فتركت عنده ، فأعجبته ، فوقع عليها فحملت ، فجاءه الشيطان فقال : إن علم بهذا افتضحت ، فاقتلها وادفنها في بيتك ، فقتلها ودفنها ، فجاء أهلها بعد ذلك بزمان يسألونه ، فقال : ماتت ، فلم يتهموه لصلاحه فيهم ، فجاءهم الشيطان فقال : إنها لم تمت ، ولكنه وقع عليها فقتلها ودفنها في بيته في مكان كذا كذا ، فجاء أهلها ، فقالوا : ما نتهمك ، فأخبرنا أين دفنتها ، ومن كان معك ، فوجدوها حيث دفنها ، فأخذ وسجن ، فجاءه الشيطان فقال : إن كنت تريد أن أخرجك مما أنت فيه فتخرج منه ، فاكفر بالله ، فأطاع الشيطان ، وكفر بالله ، فأخذ وقتل ، فتبرأ الشيطان منه حينئذ ، قال : فما أعلم هذه الآية إلا نزلت فيه : " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين " .
وقال آخرون : بل عني بذلك الناس كلهم ، وقالوا : إنما هذا مثل ضرب للنضير في غرور المنافقين إياهم :
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر " عامة الناس .
قوله تعالى : " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر " هذا ضرب مثل المنافقين واليهود في تخاذلهم وعدم الوفاء في نصرتهم. وحذف حرف العطف ، ولم يقل : كمثل الشيطان ، لأن حذف حرف العطف كثير ، كما تقول : أنت عاقل ، أنت كريم ، أنت عالم .
"وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم :
أن الإنسان الذي قال له الشيطان اكفر ، راهب تركت عنده امرأة أصابها لمم ليدعو لها ، فزين له الشيطان فوطئها فحملت ثم قتلها خوفا أن يفتضح ، فدل الشيطان قومها على موضعها ، فجاءوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه ، فجاء الشيطان فوعده إن سجد له أنجاه منهم ، فسجد له ، فتبرأ منه فأسلمه " .ذكره القاضي إسماعيل وعلي بن المديني عن سفيان بن عيينة عن عمر بن دينار عن عروة بن عامر عن عبيد بن رفاعة الزرقي عن النبي صلى الله عليه وسلم .وذكر خبره مطولا ابن عباس و وهب بن منبه . ولفظهما مختلف. قال ابن عباس في قوله تعالى: " كمثل الشيطان " : كان راهب في الفترة يقال له : برصيصا، قد تعبد في صومعته سبعين سنة ، لم يعص الله فيها طرفة عين ، قد أعيا إبليس ، فجمع إبليس مردة الشياطين فقال ألا أجد منكم من يكفيني أمر برصيصا ؟ فقال الأبيض ، وهو صاحب الأنبياء وهو الذي قصد النبي صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل ليوسوس إليه على وجه الوحي ، فجاء جبريل فدخل بينهما ، ثم دفعه بيده حتى وقع بأقصى الهند ، فذلك قوله تعالى : " ذي قوة عند ذي العرش مكين " [ التكوير : 20 ] فقال أنا أكفيكه ، فانطلق فتزيا بزي الرهبان ، وحلق وسط رأسه حتى أتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه ، وكان
ل اينفتل من صلاته إلا في كل عشر أيام يوما ، ولا يفطر إلا في كل عشر أيام ، وكان يواصل العشر أيام والعشرين والأكثر ، فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته ، فلما انفتل برصيصا من صلاته ، رأى الأبيض قائما يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان ، فندم حين لم يجبه ، فقال ما حاجتك ؟ فقال : أن أكون معك ، فأتأدب بأدبك ، وأقتبس من علمك ، ونجتمع على العبادة ، فقال : إني في شغل عنك ، ثم أقبل على صلاته ، وأقبل الأبيض أيضا على الصلاة ، فلما رأى برصيصا شدة اجتهاده وعبادته قال له : ما حاجتك ؟ فقال : أن تأذن لي فأرتفع إليك فأذن له فأقام الأبيض معه حولا لا يفطر إلا في كل أربعين يوما واحدا ، ولا ينفتل من صلاته إلا في كل أربعين يوما ، وربما مد إلى الثمانين ، فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه .ثم قال الأبيض : عندي دعوات يشفي الله بها السقيم والمبتلي والمجنون ،فعلمه إياها ثم جاء إلى إبليس فقال : وقد والله أهلكت الرجل .ثم تعرض لرجل فخنقه ، ثم قال لأهله - وقد تصور في صورة الآدميين -: إن في صاحبكم جنونا أفأطبه ؟ قالوا نعم .فقال : لا أقوى على جنيته ، ولكن اذهبوا به إلى برصيصا ، فإن عنده اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دعي به أجاب ، فجاءوه فدعا بتلك الدعوات ، فذهب عنه الشيطان . ثم جعل الأبيض يفعل بالناس ذلك ويرشدهم إلى برصيصا فيعافون .فانطلق إلى جارية من بنات الملوك بين ثلاثة إخوة ، وكان أبوهن ملكا فمات واستخلف أخاه ، وكان عمها ملكا في بني إسرائيل فعذبها وخنقها . ثم جاء إليهم في صورة رجل متطبب ليعالجها فقال : إن شيطانها مارد لا يطاق ، ولكن اذهبوا بها إلى برصيصا فدعوها عنده ، فإذا جاء شيطانها دعا لها فبرئت ، فقالوا : لا يجيبنا إلى هذا ، فقال فابنوا صومعة في جانب صومعته ثم ضعوها فيها ، وقولوا : هي أمانة عندك فاحتسب فيها . فسألوه ذلك فأبى ، فبنوا صومعة ووضعوا فيها الجارية ، فلما انفتل من صلاته عاين الجارية وما بها من الجمال فأسقط في يده ، فجاءها الشيطان فخنقها . فانفتل من صلاته ودعا لها فذهب عنها الشيطان ، ثم أقبل على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها . وكان يكشف عنها ويتعرض بها لبرصيصا ، ثم جاءه الشيطان فقال : ويحك ! واقعها ، فما تجد مثلها ثم تتوب بعد ذلك .فلم يزل به حتى واقعها فحملت وظهر حملها . فقال له الشيطان : ويحك ! قد انفضحت فهل لك أن تقتلها ثم تتوب فلا تنفضح ، فإن جاءوك وسألوك فقل جاءها شيطانها فذهب بها. فقتلها برصيصا ودفنها ليلا ، فأخذ الشيطان طرف ثوبها حتى بقي خارجا من التراب ، ورجع برصيصا إلى صلاته . ثم جاء الشيطان إلى إخوتها في المنام فقال : إن برصيصا فعل بأختكم كذا وكذا ، وقتلها ودفنهما في جبل كذا وكذا ، فاستعظموا ذلك وقالوا لبرصيصا : ما أختنا ؟ فقال ذهب بها شيطانها ، فصدقوه وانصرفوا . ثم جاءهم الشيطان في المنام وقال : إنها مدفونة في موضع كذا وكذا ، وإن طرف ردائها خارج من التراب ، فانطلقوا فوجدوها ، فهدموا صومعته وأنزلوه وخنقوه ، وحملوه إلى الملك فأقر على نفسه فأمر بقتله فلما صلب قال الشيطان : أتعرفني ؟قال لا والله ! قال :أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات ، أما اتقيت الله أما استحيت وأنت أعبد بني إسرائيل ! ثم لم يكفك صنيعك حتى فضحت نفسك ، وأقررت عليها وفضحت أشباهك من الناس ! فإن مت على هذه الحالة لم يفلح أحد من نظرائك بعدك .فقال كيف أصنع ؟ قال : تطيعني في خصلة واحدة وأنجيك منهم وآخذ بأعينهم . قال : وما ذلك ؟ قال تسجد لي سجدة واحدة ، فقال : أنا أفعل ، فسجد له من دون الله . فقال :يا برصيصا ، هذا أرت منك ، كان عاقبة أمرك أن كفرت بربك ، إني بريء منك ، إني أخاف الله رب العالمين .وقال وهب بن منبه : إن عابدا كان في بني إسرائيل ، وكان من أعبد أهل زمانه ، وكان في زمانه ثلاث إخوة لهم أخت ،وكانت بكرا ، ليس لهم أخت غيرها ، فخرج البعث على ثلاثتهم ، فلم يدروا عند من يخلفون أختهم ، ولا عند من يأمنون عليها ، ولا عند من يضعونها . قال فاجتمع رأيهم على أن يخلفونها عند عبد بني إسرائيل ، وكان ثقة في أنفسهم ، فأتوه فسألوه أن يخلفوها عنده ، فتكون في كنفه وجواره إلى أن يقفلوا من غزاتهم ، فأبى ذلك عليهم وتعوذ بالله منهم ومن أختهم . قال فلم يزالوا به حتى أطمعهم فقال : أنزلوها في بيت حذاء صومعتي ، فأنزلوها في ذلك البيت ثم انطلقوا وتركوها ، فمكثت في جوار ذلك العابد زمانا ، ينزل إليها الطعام من صومعته ، فيضعه عند باب الصومعة ، ثم يغلق بابه ويصعد في صومعته ، ثم يأمرها فتخرج من بيتها فتأخذ من بيتها فتأخذ ما وضعه لها من الطعام . قال : فتلطف له الشيطان فلم يزل يرغبه في الخير ، ويعظم عليه خروج الجارية من بيتها نهارا ، ويخوفه أن يراها أحد فيعلقها . قال: فلبث بذلك زمانا ، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير والأجر ، وقال له : لو كنت تمشي إليها بطعامها حتى تضعه في بيتها كان أعظم لأجرك ، قال : فلم يزل به حتى مشى إليها بطعامها فوضعه في بيتها ، قال : فلبث بذلك زمانا ثم جاء إبليس فرغبه في الخير وحضه عليه ، وقال : لو كنت تكلمها وتحدثها فتأنس بحديثك ، فإنها قد استوحشت وحشة شديدة .قال : فلم يزل به حتى حدثها زمانا يطلع عليها من فوق صومعته . قال ثم أتاه إبليس بعد ذلك فقال : لو كنت تنزل إليها فتقعد على باب صومعتك وتحدثها وتقعد على باب بيتها فتحدثك كان آنس لها . فلم يزل به حتى أنزله وأجلسه على باب صومعته يحدثها ، وتخرج الجارية من بيتها ، فلبثا زمانا يتحدثان ، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير وفيما له من حسن الثواب يصنع بها ، وقال : لو خرجت من باب صومعتك فجلست قريبا من باب بيتها كان آنس لها . فلم يزل به حتى فعل . قال : فلبثا زمانا ، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير وفيما له من حسن الثواب فيما يصنع بها ، وقال له : لو دنوت من باب بيتها فحدثتها ولم تخرج من بيتها ، ففعل . فكان ينزل من صومعته فيقعد على باب بيتها فيحدثها . فلبثا بذلك حينا ثم جاءه إبليس فقال : لو دخلت البيت ، معها تحدثها ولم تتركها تبرز وجهها لأحد كان أحسن بك . فلم يزل به حتى دخل البيت ، فجعل يحدثها نهاره كله ، فإذا أمسى صعد في صومعته . قال : ثم أتاه إبليس تعد ذلك ، فلم يزل نزينها له حتى ضرب العابد على فخذها وقبلها . فلم يزل به إبليس يحسنها في عينه ويسول له حتى وقع عليها فأحبلها ، فولدت له غلاما . فجاءه إبليس فقال له : أرأيت إن جاء إخوة هذه الجارية وقد ولدت منك ! كيف تصنع ! آمن عليك أن تفتضح أو يفضحوك ! فاعمد إلى ابنها فاذبحه وادفنه ، فإنها ستكتم عليك مخافة إخوتها أن يطلعوا ما صنعت بها ، ففعل .فقال له : أتراها تكتم إخوتها ما صنعت بها وقتلت ابنها ! خذها فاذبحها وادفنها مع ابنها . فلم يزل به حتى ذبحها وألقاها في الحفيرة مع ابنها ، وأطبق عليها صخرة عظيمة ، وسوى عليها التراب ، وصعد في صومعته يعبد فيها ، فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث ، حتى قفل إخوتها من الغزو ، فجاءوه فسألوه عنها فنعاها لهم وترحم عليها ، وبكى لهم وقال : كانت خير أمة ، وهذا قبرها فانظروا إليه . فأتى إخوتها القبر فبكوا على قبرها وترحموا عليها ، وأقاموا على قبرها أياما ثم انصرفوا إلى أهاليهم . فلما جن عليهم الليل واخذوا مضاجعهم ، أتاهم الشيطان في صورة رجل مسافر ، فبدأ بأكبرهم فسأله عن أختهم ÷ فأخبره بقول العابد وموتها وترحمه عليها ، وكيف أراهم موضع قبرها ، فكذبه الشيطان وقال : لم يصدقكم أمر أختكم ،إنه قد أحبل أختكم وولدت منه غلاما فذبحه وذبحها معه فزعا منكم ، وألقاها في حفيرة احتفرها خلف الباب الذي كانت فيه عن يمين من دخله. فانطقوا فادخلوا البيت الذي كانت فيه عن يمين من دخله فإنكم ستجدونها هنالك جميعا كما أخبرتكم . قال : وأتى الأوسط في منامه وقال له مثل ذلك . ثم أتى أصغرهم فقال له مثل ذلك فلما استيقظ القوم استيقظوا متعجبين لما رأى كل واحد منهم . فأقبل بعضهم على بعض ، يقول كل واحد منهم لقد رأيت عجبا ، فأخبر بعضهم بعضا بما رأى . قال : أكبرهم : هذا حلم ليس بشيء ، فامضوا بنا ودعوا هذا . قال أصغرهم : لا أمضي حتى آتي ذلك المكان فأنظر فيه . قال : فانطلقوا جميعا حتى دخلوا البيت الذي كانت فيه أختهم ، ففتحوا الباب وبحثوا الموضع الذي وصفه لهم في منامهم ، فوجدوا أختهم وابنها مذبوحين في الحفيرة كما قيل لهم ، فسألوا العابد فصدق قول إبليس فيما صنع بهما . فاستدعوا عليهم ملكهم ، فأنزل من صومعته فقدموه ليصلب ، فلما أوقفوه على الخشبة أتاه الشيطان فقال له : قد علمت أني صاحبك الذي فتنتك في المرأة حتى حبلتها وذبحتها وذبحت ابنها ، فإن أنت أطعتني اليوم وكفرت بالله الذي خلقك خلصتك مما أنت فيه . قال : فكفر العابد بالله ، فلما كفر خلى عنه الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه . قال : ففيه نزلت هذه الآية " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين " - إلى قوله - " جزاء الظالمين "
قال ابن عباس : فضرب الله هذا مثلا للمنافقين مع اليهود .وذلك أن الله تعالى أمر نبيه عليه السلام أن يجلي بني النضير من المدينة ،فدس إليهم المنافقون إلا تخرجوا من دياركم ، فإن قاتلوكم كنا معكم ، وإن أخرجوكم كنا معكم ،فحاربوا النبي صلى الله عليه وسلم فخذلهم المنافقون ،وتبرءوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا العابد . فكان الرهبان بعد ذلك لا يمشون إلا بالتقية والكتمان .وطمع أهل الفسوق والفجور في الأحبار فرموهم بالبهتان والقبيح ،حتى كان أمر جريح الراهب ،وبرأه الله فانبسطت بعده الرهبان وظهروا للناس . وقيل : المعنى مثل المنافقون في غدرهم لبني النضير كمثل إبليس إذ قال لكفار قريش : " لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم "[الأنفال : 48 ] الآية .وقال مجاهد المراد بالإنسان ها هنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم . ومعنى قوله تعالى : " إذ قال للإنسان اكفر " أي أغواه حتى قال : إني كافر .وليس قول الشيطان : "إني أخاف الله رب العالمين " حقيقة ،إنما هو على وجه التبرؤ من الإنسان ، فهو تأكيد لقوله تعالى : " إني بريء منك " وفتح الياء من إني نافع وابن كثير وأبو عمرو .وأسكن الباقون . " فكان عاقبتهما " أي عاقبة الشيطان وذلك الإنسان " أنهما في النار خالدين فيها " نصب على الحال .والتثنية ظاهر فيمن جعل الآية مخصوصة في الراهب والشيطان . ومن جعلها في الجنس فالمعنى : وكان عاقبة الفريقين أو الصنفين . ونصب عاقبتهما على أنه خبر كان . والإسم " أنهما في النار " وقرأ الحسن فكان عاقبتهما بالرفع على الضد من ذلك .وقرأ الأعمش خالدين فيها بالرفع وذلك خلاف المرسوم . ورفعه على أنه خبر أن والظرف ملغى .
يخبر تعالى عن المنافقين كعبد الله بن أبي وأضرابه حين بعثوا إلى يهود بني النضير يعدونهم النصر من أنفسهم فقال تعالى: " ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم " قال الله تعالى: "والله يشهد إنهم لكاذبون" أي لكاذبون فيما وعدوهم به إما لأنهم قالوا لهم قولاً, ومن نيتهم أن لا يفوا لهم به, وإما لأنهم لا يقع منهم الذي قالوه, ولهذا قال تعالى: "ولئن قوتلوا لا ينصرونهم" أي لا يقاتلون معهم "ولئن نصروهم" أي قاتلوا معهم "ليولن الأدبار ثم لا ينصرون" وهذه بشارة مستقلة بنفسها, كقوله تعالى: "لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله" أي يخافون منكم أكثر من خوفهم من الله "إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية" ولهذا قال تعالى "ذلك بأنهم قوم لا يفقهون" ثم قال تعالى: "لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر" يعني أنهم من جبنهم وهلعهم لا يقدرون على مواجهة جيش الإسلام بالمبارزة والمقاتلة بل إما في حصون أو من وراء جدر محاصرين فيقاتلون للدفع عنهم ضرورة.
ثم قال تعالى: "بأسهم بينهم شديد" أي عداوتهم فيما بينهم شديدة, كما قال تعالى: "ويذيق بعضكم بأس بعض" ولهذا قال تعالى: "تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى" أي تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين وهم مختلفون غاية الاختلاف, قال إبراهيم النخعي: يعني أهل الكتاب والمنافقين "ذلك بأنهم قوم لا يعقلون" ثم قال تعالى: "كمثل الذين من قبلهم قريباً ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم" قال مجاهد والسدي ومقاتل بن حيان: يعني كمثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر, وقال ابن عباس: كمثل الذين من قبلهم يعني يهود بني قينقاع, وكذا قال قتادة ومحمد بن إسحاق, وهذا القول أشبه بالصواب فإن يهود بني قينقاع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجلاهم قبل هذا.
وقوله تعالى: "كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك" يعني مثل هؤلاء اليهود في اغترارهم بالذين وعدوهم النصر من المنافقين وقول المنافقين لهم لئن قوتلتم لننصرنكم, ثم لما حقت الحقائق وجد بهم الحصار والقتال, تخلوا عنهم وأسلموهم للهلكة, مثالهم في هذا كمثل الشيطان إذ سول للإنسان ـ والعياذ بالله ـ الكفر, فإذا دخل فيما سول له تبرأ منه وتنصل وقال "إني أخاف الله رب العالمين". وقد ذكر بعضهم ههنا قصة لبعض عباد بني إسرائيل هي كالمثال لهذا المثل, لا أنها المرادة وحدها بالمثل, بل هي منه مع غيرها من الوقائع المشاكلة لها, فقال ابن جرير: حدثنا خلاد بن أسلم أخبرنا النضر بن شميل أخبرنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت عبد الله بن نهيك قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول إن راهباً تعبد ستين سنة, وإن الشيطان أراده فأعياه فعمد إلى امرأة فأجنها, ولها إخوة فقال لإخوتها عليكم بهذا القس فيداويها, قال فجاؤوا بها إليه فداواها وكانت عنده, فبينما هو يوماً عندها إذ أعجبته فأتاها فحملت, فعمد إليها فقتلها فجاء إخوتها, فقال الشيطان للراهب: أنا صاحبك إنك أعييتني أنا صنعت هذا بك فأطعني أنجك مما صنعت بك, فاسجد لي سجدة, فسجد له فلما سجد له قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين, فذلك قوله: " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين ".
وقال ابن جرير: حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي حدثنا أبي عن أبيه عن جده عن الأعمش عن عمارة عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله بن مسعود في هذه الاية "كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين" قال: كانت امرأة ترعى الغنم وكان لها أربعة إخوة, وكانت تأوي بالليل إلى صومعة راهب, قال فنزل الراهب ففجر بها فحملت, فأتاه الشيطان فقال له اقتلها ثم ادفنها فإنك رجل مصدق يسمع قولك, فقتلها ثم دفنها قال فأتى الشيطان إخوتها في المنام, فقال لهم إن الراهب صاحب الصومعة فجر بأختكم, فلما أحبلها قتلها ثم دفنها في مكان كذا وكذا, فلما أصبحوا قال رجل منهم: والله لقد رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصها عليكم أم أترك ؟ قالوا: لابل قصها علينا. قال فقصها فقال الاخر: وأنا والله لقد رأيت ذلك, فقال الاخر: وأنا والله لقد رأيت ذلك, قالوا: فوالله ما هذا إلا لشيء قال فانطلقوا فاستعدوا ملكهم على ذلك الراهب, فأتوه فأنزلوه ثم انطلقوا به فلقيه الشيطان, فقال إني أنا الذي أوقعتك في هذا ولن ينجيك منه غيري, فاسجد لي سجدة واحدة وأنجيك مما أوقعتك فيه, قال فسجد له, فلما أتوا به ملكهم تبرأ منه وأخذ فقتل. وكذا روي عن ابن عباس وطاوس ومقاتل بن حيان نحو ذلك, واشتهر عند كثير من الناس أن هذا العابد هو برضيضا فالله أعلم.
وهذه القصة مخالفة لقصة جريج العابد فإن جريجاً اتهمته امرأة بغي بنفسها, وادعت أن حملها منه ورفعت أمرها إلى ولي الأمر فأمر به فأنزل من صومعته وخربت صومعته وهو يقول ما لكم ما لكم ؟ قالوا يا عدو الله فعلت بهذه المرأة كذا وكذا, فقال جريج اصبروا ثم أخذ ابنها وهو صغير جداً, ثم قال يا غلام من أبوك. قال أبي الراعي وكانت قد أمكنته من نفسها فحملت منه, فلما رأى بنو إسرائيل ذلك عظموه كلهم تعظيماً بليغاً وقالوا نعيد صومعتك من ذهب, قال لابل أعيدوها من طين كما كانت. وقوله تعالى: "فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها" أي فكان عاقبة الامر بالكفر والفاعل له ومصيرهما إلى نار جهنم خالدين فيها "وذلك جزاء الظالمين" أي جزاء كل ظالم.
ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلاً آخر فقال: 16- "كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر" أي مثلهم في تخاذلهم وعدم تناصرهم، فهو إما خبر مبتدأ محذوف، أو خبر آخر للمبتدأ المقدر قبل قوله: "كمثل الذين من قبلهم" على تقدير حذف حرف العطف كما تقول: أنت عاقل، أنت عامل، أنت كريم. وقيل المثل الأول خاص باليهود، والثاني خاص بالمنافقين، وقيل المثل الثاني بيان للمثل الأول. ثم بين سبحانه وجه الشبه فقال: "إذ قال للإنسان اكفر" أي أغراه بالكفر وزينه له وحمله عليه، والمراد بالإنسان هنا جنس من أطاع الشيطان من نوع الإنسان، وقيل هو عابد كان في بني إسرائيل حمله الشيطان على الكفر فأطاعه "فلما كفر قال إني بريء منك" أي فلما كفر الإنسان مطاوعة للشيطان، وقبولاً لتزيينه قال الشيطان إني بريء منك، وهذ يكون منه يوم القيامة، وجملة "إني أخاف الله رب العالمين" تعليل لبراءته من الإنسان بعد كفره، وقيل المراد بالإنسان هنا أو جهل، والأول أولى. قال مجاهد: المراد بالإنسان هنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم، قيل وليس قول الشيطان "إني أخاف الله" على حقيقته، إنما هو على وجه التبري من الإنسان فهو تأكيد لقوله: "إني بريء منك" قرأ الجمهو "إني" بإسكان الياء. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتحها.
ثم ضرب / مثلاً للمنافقين واليهود جميعاً في تخاذلهم فقال:
16- "كمثل الشيطان"، أي مثل المنافقين في غرورهم بني النضير وخذلانهم كمثل الشيطان، "إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك".
وذلك ما روى عطاء وغيره عن ابن عباس قال: كان راهب في الفترة يقال له برصيصا تعبد في صومعة له سبعين سنة، لم يعص الله فيها طرفة عين، وإن إبليس أعياه في أمره الحيل، فجمع ذات يوم مردة الشياطين فقال: ألا أجد أحداً منكم يكفيني أمر برصيصا؟ فقال الأبيض -وهو صاحب الأنبياء وهو الذي تصدى للنبي صلى الله عليه وسلم، وجاءه في صورة جبرائيل ليوسوس إليه على وجه الوحي فدفعه جبرائيل إلى أقصى أرض الهند- فقال الأبيض لإبليس: أنا أكفيك أمره، فانطلق فتزين بزينة الرهبان وحلق وسط رأسه وأتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام ولا يفطر إلا في عشرة أيام مرة.
فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته، فلما انفتل برصيصا اطلع من صومعته فرأى الأبيض قائماً يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان، فلما رأى ذلك من حاله ندم في نفسه حين لم يجبه، فقال له: إنك ناديتني وكنت مشتغلاً عنك، فما حاجتك؟ قال: حاجتي أني أحببت أن أكون معك، فأتأدب بك وأقتبس من عملك وعلمك، ونجتمع على العبادة فتدعو لي وأدعو لك، فقال برصيصا: إني لفي شغل عنك فإن كنت مؤمناً فإن الله سيجعل لك فيما أدعو للمؤمنين نصيباً إن استجاب لي، ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض، وأقبل الأبيض يصلي فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يوماً بعدها، فلما انفتل رآه قائماً يصلي فلما رأى برصيصا شدة اجتهاده قال له: ما حاجتك؟ قال: حاجتي أن تأذن لي فأرتفع إليك فأذن له فارتفع إليه في صومعته، فأقام معه حولاً يتعبد لا يفطر إلا في كل أربعين يوماً ولا ينفتل عن صلاته إلا في كل أربعين يوماً مرة، وربما مد إلى الثمانين، فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه وأعجبه شأن الأبيض.
فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا: إني منطلق فإن لي صاحباً غيرك ظننت أنك أشد اجتهاداً مما أرى، وكان يبلغنا عنك غير الذي رأيت، فدخل من ذلك على برصيصا أمر شديد وكره مفارقته للذي رأى من شدة اجتهاده، فلما ودعه قال له الأبيض: إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهن خير مما أنت فيه يشفي الله بها السقيم ويعافي بها المبتلي والمجنون، قال برصيصا: إني أكره هذه المنزلة لأن لي في نفسي شغلاً وإني أخاف إن علم به الناس شغلوني عن العبادة، فلم يزل به الأبيض حتى علمه.
ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال: قد والله أهلكت الرجل.
قال: فانطلق الأبيض فتعرض لرجل فخنقه ثم جاء في صورة رجل متطبب فقال لأهله إن بصاحبكم جنوناً أفأعالجه؟ قالوا: نعم، فقال لهم: إني لا أقوى على جنته ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله فيعافيه، انطلقوا إلى برصيصا فإن عنده الاسم الذي إذا دعا به أجيب، فانطلقوا إليه فسألوه ذلك فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه الشيطان، فكان الأبيض يفعل مثل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا، فيدعو فيعافون، فانطلق الأبيض فتعرض لجارية من بنات ملوك بني إسرائيل بين ثلاثة إخوة وكان أبوهم ملكهم، فمات واستخلف أخاه فكان عمها ملك بني إسرائيل، فعذبها وخنقها ثم جاء إليهم في صورة متطبب فقال لهم: أتريدون أن أعالجها؟ قالوا: نعم، قال: إن الذي عرض لها مارد لا يطاق، ولكن سأرشدكم إلى رجل تثقون به تدعونها عنده إذا جاء شيطانها دعا لها حتى تعلموا أنها قد عوفيت وتردونها صحيحة، قالوا: ومن هو؟ قال برصيصا، قالوا: وكيف لنا أن يجيبنا إلى هذا وهو أعظم شأناً من ذلك؟ قال: فانطلقوا فابنوا صومعة إلى جانب صومعته حتى تشرفوا عليه، فإن قبلها وإلا فضعوها في صومعتها، ثم قولوا له هي أمانة عندك، فاحتسب فيها.
قال: فانطلقوا إليه فسألوه فأبى عليهم، فبنوا صومعة على ما أمرهم الأبيض ووضعوا الجارية في صومعته، وقالوا: هذه أختنا أمانة فاحتسب فيها، ثم انصرفوا فلما انفتل برصيصا عن صلاته عاين الجارية وما بها من الحسن والجمال، فوقعت في قلبه ودخل عليه أمر عظيم، ثم أقبل في صلاته فجاءها الشيطان فخنقها فدعا برصيصا بتلك الدعوات فذهب عنها الشيطان، ثم أقبل على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها فدعا برصيصا بتلك الدعوات، ثم أقبل على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها، وكانت تكشف عن نفسها، فجاءه الشيطان وقال واقعها فستتوب بعد فتدرك ما تريد من الأمر، فلم يزل به حتى واقعها فلم يزل على ذلك يأتيها حتى حملت وظهر حملها، فقال له الشيطان: ويحك يا برصيصا قد افتضحت فهل لك أن تقتلها وتتوب؟ فإن سألوك فقل: ذهب بها شيطانها، فلم أقدر عليه. فدخل فقتلها، ثم انطلق بها فدفنها إلى جانب الجبل، فجاء الشيطان، وهو يدفنها ليلاً، فأخذ بطرف إزارها، فبقي طرف خارجاً من التراب، ثم رجع برصيصا إلى صومعته فأقبل على صلاته، إذ جاء إخوتها يتعاهدون أختهم، وكانوا يجيئون في طرف الأيام يسألون عنها ويوصونه بها، فقالوا: يا برصيصا ما فعلت أختنا؟ قال: قد جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه، فصدقوه وانصرفوا، فلما أمسوا وهم مكروبون جاء الشيطان إلى أكبرهم في منامه فقال: ويحك إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا وإنه دفنها في موضع كذا وكذا، فقال الأخ في نفسه: هذا حلم، وهو من عمل الشيطان، فإن برصيصا خير من ذلك. قال: فتتابع عليه ثلاث ليال فلم يكترث. فانطلق إلى الأوسط بمثل ذلك فقال الأوسط مثل ما قاله الأكبر، فلم يخبر أحداً، فانطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك، فقال أصغرهم لأخويه: والله لقد رأيت كذا وكذا، وقال الأوسط: وأنا والله قد رأيت مثله / وقال الأكبر: وأنا رأيت مثله، فانطلقوا إلى برصيصا وقالوا: يا برصيصا ما فعلت أختنا؟ قال: أليس قد أعلمتكم بحالها؟ فكأنكم اتهمتموني؟ فقالوا: والله لا نتهمك، واستحيوا منه فانصرفوا، فجاءهم الشيطان فقال: ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا، وإن طرف إزارها خارج من التراب. فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوا في النوم، فمشوا في مواليهم وغلمانهم، ومعهم الفؤوس والمساحي، فهدموا صومعته وأنزلوه، ثم كتفوه فانطلقوا به إلى الملك فأقر على نفسه، وذلك أن الشيطان أتاه فقال: تقتلها ثم تكابر، يجتمع عليك أمران: قتل ومكابرة، اعترف. فلما اعترف أمر الملك بقتله وصلبه على خشبة، فلما صلب أتاه الأبيض فقال: يا برصيصا أتعرفني؟ قال: لا، قال: أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات فاستجيب لك، ويحك ما اتقيت الله في أمانتك! خنت أهلها وإنك زعمت أنك أعبد بني إسرائيل، أما استحييت؟، فلم يزل يعيره، ثم قال في آخر ذلك: ألم يكفك ما صنعت حتى أقررت على نفسك وفضحت نفسك وفضحت أشباهك من الناس؟ فإن مت على هذه الحالة لم يفلح أحد من نظرائك، قال: فكيف أصنع قال: تطيعني في خصلة واحدة حتى أنجيك مما أنت فيه فآخذ بأعينهم فأخرجك من مكانك! قال: وما هي قال تسجد لي، قال: ما أستطيع. قال: افعل، فسجد له، فقال: يا برصيصا هذا الذي كنت أردت منك، صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك، إني بريء منك "إني أخاف الله رب العالمين".
16-" كمثل الشيطان " أي مثل المنافقين في إغراء اليهود على القتال كمثل الشيطان . " إذ قال للإنسان اكفر " أغراه على الكفر إغراء الآمر المأمور ." فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين " تبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب ولم ينفعه ذلك كما قال :
16. (And the hypocrites are) on the likeness of the devil when he telleth man to disbelieve, then, when be disbelieveth saith: Lo! I am quit of thee. Lo! I fear Allah, the Lord of the Worlds.
16 - (Their allies deceived them), like the Evil One, when he says to man, Deny God: but when (man) denies God, (the Evil One) says, I am free of thee: I do fear God, the Lord of the Worlds!