[الذاريات : 56] وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
56 - (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) ولا ينافي ذلك عدم عبادة الكافرين لأن الغاية لا يلزم وجودها كما في قولك بريت هذا القلم لاكتب به فإنك قد لا تكتب به
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " فقال بعضهم : معنى ذلك : وما خلقت السعداء من الجن والإنس إلا لعبادتي والأشقياء منهم لمعصيتي .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران عن سفيان عن ابن جريج عن زيد بن أسلم " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " قال : ما جبلوا عليه من الشقاء والسعادة .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا مؤمل قال : ثنا سفيان عن ابن جريج عن زيد بن أسلم بنحوه .
حدثني عبد الأعلى بن واصل قال : ثنا عبيد الله بن موسى قال : أخبرنا سفيان عن ابن جريج عن زيد بن أسلم بمثله .
حدثنا حميد بن الربيع الخراز قال : ثنا ابن يمان قال : ثنا ابن جريج عن زيد بن أسلم في قوله " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " قال : جبلهم على الشقاء والسعادة
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران عن سفيان " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " قال : من خلق للبعادة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما خلقت الجن والإنس إلا ليذعنوا لي بالعبودة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " : إلا ليقروا بالعبودة طوعاً وكرهاً .
وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الذي ذكرنا عن ابن عباس وهو ك ما خلقت الجن والإنس إلا لعبادتنا والتذلل لأمرنا .
فإن قال قائل : فكيف كفروا وقد خلقهم للتذلل لأمره إنهم قد تذللوا لقضائه الذي قضاه عليهم لأن قضاءه جار عليهم لا يقدرون من الامتناع منه إذا نزل بهم وإنما خالفه من كفر به في العمل بما أمره به فأما التذلل لقضائه فإنه غير ممتنع منه .
قوله تعالى " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " قيل إن هذا خاص فيمن سبق في علم الله أنه يعبده فجاء بلفظ العموم ومعناه الخصوص والمعنى وما خلقت أهل السعادة من الجن والإنس إلا ليوحدون . قال القشيري والآية دخلها التخصيص على القطع ، لأن المجانين والصبيان ما أمروا بالعبادة حتى يقال أراد منهم العبادة وقد قال الله تعالى " ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس" ومن خلق لجهنم لا يكون من خلق للعبادة فالآية محمولة على المؤمنين منهم ، وهو كقوله تعالى " قالت الأعراب آمنا" وإنما قال فريق منهم ذكره الضحاك والكلبي والفراء والقتبي وفي قراءة عبد الله " وما خلقت الجن والإنس" من المؤمنين "إلا ليعبدون " وقال علي رضي الله عنه : أي وما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بالعبادة . واعتمد الزجاج على هذا القول ويدل عليه قوله تعالى " وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا " فإن قيل كيف كفروا وقد خلقهم للإقرار بربوبيته والتذلل لأمره ومشيئته ؟ قيل قد تذللوا لقضائه عليهم ، لأن قضاءه جار عليهم لا يقدرون على الامتناع منه وإنما خالفهم من كفر في العمل بما أمره به ، فأما التذلل لقضائه فإنه غير ممتنع منه . وقيل " إلا ليعبدوا " أي إلا ليقروا لي بالعبادة طوعا أو كرها رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . فالكره ما يرى فيهم من أثر الصنعة مجاهد إلا ليعرفوني . الثعلبي : وهذا قول حسن ، لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده ودليل هذا التأويل قوله تعالى " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " " ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم " وما أشبه هذا من الآيات وعن مجاهد أيضا إلا لآمرهم وأنهاهم زيد بن أسلم هو ما جبلوا عليه من الشقوة والسعادة فخلق السعداء من الجن والإنس للعبادة وخلق الأشقياء منهم للمعصية وعن الكلبي أيضا : إلا ليوحدون فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء يدل عليه قوله تعالى " وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين " الآية وقال عكرمة إلا ليعبدون ويطيعون فأثيب العابد وأعاقب الجاحد . وقيل المعنى إلا لأستعبدهم والمعنى متقارب تقول عبد بين العبودة والعبودية وأصل العبودية الخضوع والذل والتعبيد التذليل يقال : طريق معبد قال:
وظيفا وظيفا فوق مور معبد
والتعبيد الاستعباد وهو أن يتخذه عبدا وكذلك الاعتباد والعبادة : الطاعة والتعبد التنسك فمعنى "ليعبدون" ليذلوا ويخضعوا ويعبدوا .
يقول تعالى مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم وكما قال لك هؤلاء المشركون قال المكذبون الأولون لرسلهم: "كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون" قال الله عز وجل: "أتواصوا به ؟" أي أوصى بعضهم بعضاً بهذه المقالة "بل هم قوم طاغون" أي لكن هم قوم طغاة تشابهت قلوبهم, فقال متأخرهم كما قال متقدمهم. قال الله تعالى: "فتول عنهم" أي فأعرض عنهم يامحمد "فما أنت بملوم" يعني فما نلومك على ذلك "وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين" أي إنما تنتفع بها القلوب المؤمنة, ثم قال جل جلاله: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" أي إنما خلقتهم لامرهم بعبادتي لا لا حتياجي إليهم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "إلا ليعبدون" أي إلا ليقروا بعبادتي طوعاً أو كرهاً. وهذا اختيار ابن جرير وقال ابن جريج: إلا ليعرفون, وقال الربيع بن أنس "إلا ليعبدون" أي إلا للعبادة, وقال السدي: من العبادة ما ينفع ومنها ما لا ينفع "ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله" هذا منهم عبادة وليس ينفعهم مع الشرك, وقال الضحاك: المراد بذلك المؤمنون.
وقوله تعالى: "ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين" قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم وأبو سعيد قالا: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد, عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين " ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث إسرائيل, وقال الترمذي: حسن صحيح. ومعنى الاية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء, ومن عصاه عذبه أشد العذاب. وأخبر أنه غير محتاج إليهم بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم. فهو خالقهم ورازقهم. قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبد الله, حدثنا عمران ـ يعني ابن زائدة بن نشيط عن أبيه عن أبي خالد ـ هو الوالبي ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى ـ "ياابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك, وإلا تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك" ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث عمران بن زائدة, وقال الترمذي: حسن غريب.
وقد روى الإمام أحمد عن وكيع وأبي معاوية عن الأعمش عن سلام بن شرحبيل: سمعت حبة وسواء ابني خالد يقولان: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعمل عملاً أو يبني بناء, قال أبو معاوية: يصلح شيئاً, فأعناه عليه فلما فرغ دعا لنا وقال: "لا تيأسا من الرزق ما تهزهزت رؤوسكما فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشرة ثم يعطيه الله ويرزقه". وقد ورد في بعض الكتب الإلهية: يقول الله تعالى: ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب, وتكفلت برزقك فلا تتعب فاطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء, وأنا أحب إليك من كل شيء. وقوله تعالى: "فإن للذين ظلموا ذنوباً" أي نصيباً من العذاب "مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون" أي فلا يستعجلون ذلك فإنه واقع لا محالة "فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون" يعني يوم القيامة. آخر تفسير سورة الذاريات ولله الحمد والمنة .
وجملة 56- "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" مستأنفة مقررة لما قبلها، لأن كون خلقهم لمجرد العبادة مما ينشط رسول الله صلى الله عليه وسلم للتذكير وينشطهم للإجابة. قيل هذا خاص في من سبق من علم الله سبحانه أنه يعبده، فهو عموم مراد به الخصوص. قال الواحدي: قال المفسرون: هذا خاص لأهل طاعته، يعني من أهل من الفريقين. قال: وهذا قول الكلبي والضحاك واختيار الفراء وابن قتيبة. قال القشيري: والآية دخلها التخصيص بالقطع، لأن المجانين لم يؤمروا بالعبادة ولا أراجها منهم، وقد قال: "ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس" ومن خلق لجهنم لا يكون ممن خلق للعبادة. فالآية محمولة على المؤمنين منهم، ويدل عليه قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب "وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون". وقال مجاهد: إن المعنى: إلا ليعرفوني. قال الثعلبي: وهذا قول حسن، لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده. وروي عن مجاهد أنه قال: المعنى إلا لآمرهم وأنهاهم، ويدل عليه قوله: "وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون" واختار هذا الزجاج. وقال زيد بن أسلم: هو ما جبلوا عليه من السعادة والشقاوة، فخلق السعداء من الجن والإنس للعبادة، وخلق الأشقياء للمعصية. وقال الكلبي: المعنى إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة دون النعمة كما في قوله: "وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين" وقال جماعة: إلا ليخضعوا لي ويتذللوا، ومعنى العبادة في اللغة: الذل والخضوع والانقياد، وكل مخلوق من الإنس والجن خاضع لقضاء الله متذلل لمشيئته منقاد لما قدره عليه. خلقهم على ما أراد، ورزقهم كما قضى، لا يملك أحد منهم لنفسه نفعاً ولا ضرراً. ووجه تقديم الجن على الإنس هاهنا تقدم وجودهم.
56. " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون "، قال الكلبي و الضحاك و سفيان : هذا خاص لأهل طاعته من الفريقين، يدل عليه قراءة ابن عباس: (( وما خلقت الجن والإنس - من المؤمنين - إلا ليعبدون ))، ثم قال في أخرى: " ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس " (الأعراف-79).
وقال بعضهم: ومت خلقت السعداء من الجن والإنس إلا لعبادتي والأشقياء منهم إلا لمعصيتي، وهذا معنى قول زيد بن أسلم ، قال: هو على ما جبلوا عليه من الشقاوة والسعادة.
وقال علي بن أبي طالب ((إلا ليعبدون)) أي إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي، يؤيده قوله عز وجل: " وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً " (التوبة-31).
وقال مجاهد : إلا ليعرفوني. وهذا أحسن لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده، دليله: قوله تعالى: " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " (الزخرف-87).
وقيل: معناه إلا ليخضعوا إلي ويتذللوا، ومعنى العبادة في اللغة: التذلل والانقياد، فكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله، متذلل لمشيئته لا يملك أحد لنفسه خروجاً عما خلق عليه.
وقيل: (( إلا ليعبدوني )) إلا ليوحدوني، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء، بيانه قوله عز وجل: " فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ". (العنكبوت-65).
56-" وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " لما خلقهم على صورة متوجهة إلى العبادة مغلبة لها ، جعل خلقهم مغيا بها مبالغة في ذلك ، ولو حمل على ظاهره مع أن الدليل يمنعه لنا في ظاهر قوله : " ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس " وقيل معناه إلا لأمرهم بالعبادة أو ليكونوا عباداً لي .
56. I created the jinn and humankind only that they might worship Me.
56 - I have only created Jinns and men, that they may serve Me.