[المائدة : 66] وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ
66 - (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل) بالعمل بما فيهما ومنه الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم (وما أنزل إليهم) من الكتب (من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) بأن يوسع عليهم الرزق ويفيض من كل جهة (منهم أمة) جماعة (مقتصدة) تعمل به وهم من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه (وكثير منهم ساء) بئس (ما) شيئا (يعملونـ) ـه
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل"، ولو أنهم عملوا بما في التوراة والإنجيل ، "وما أنزل إليهم من ربهم"، يقول : وعملوا بما أنزل إليهم من ربهم من الفرقان الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم.
فإن قال قائل : وكيف يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، مع اختلاف هذه الكتب ، ونسخ بعضها بعضاً؟.
قيل: إنها وإن كانت كذلك في بعض أحكامها وشرائعها، فهي متفقة في الأمر بالإيمان برسل الله ، والتصديق بما جاءت به من عند الله، فمعنى إقامتهم التوراة والإنجيل وما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم: تصديقهم بما فيها، والعمل بما هي متفقة فيه ، وبكل واحد منها في الحين الذي فرض العمل به.
وأما معنى قوله: "لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم"، فإنه يعني : لأنزل الله عليهم من السماء قطرها، فأنبتت لهم به الأرض حبها ونباتها، فأخرج ثمارها.
وأما قوله: "ومن تحت أرجلهم"، فإنه يعني تعالى ذكره: لأكلوا من بركة ما تحت أقدامهم من الأرض ، وذلك ما تخرجه الأرض من حبها ونباتها وثمارها وسائر ما يؤكل مما تخرجه الأرض.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم"، يعني : لأرسل السماء عليهم مدراراً، "ومن تحت أرجلهم"، تخرج الأرض بركتها.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم"، يقول: إذاً لأعطتهم السماء بركتها ، والأرض نباتها.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي: "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم"، يقول : لو عملوا بما أنزل إليهم مما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم، لأنزلنا عليهم المطر، فلأنبت الثمر.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم"، أما إقامتهم التوراة، فالعمل بها، وأما "ما أنزل إليهم من ربهم"، فمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه . يقول: "لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم"، أما "من فوقهم"، فأرسلت عليهم مطراً، وأما "من تحت أرجلهم"، يقول: لأنبت لهم من الأرض من رزقي ما يغنيهم.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: "لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم"، قال : بركات السماء والأرض ، قال ابن جريج: "لأكلوا من فوقهم"، المطر، "ومن تحت أرجلهم"، من نبات الأرض.
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "من فوقهم ومن تحت أرجلهم"، يقول : لأكلوا من الرزق الذي ينزل من السماء، "ومن تحت أرجلهم"، يقول : من الأرض.
وكان بعضهم يقول : إنما أريد بقوله: "لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم"، التوسعة، كما يقول القائل : هو في خير من قرنه إلى قدمه.
وتأويل أهل التأويل بخلاف ما ذكرنا من هذا القول، وكفى بذلك شهيداً على فساده.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "منهم أمة"، منهم جماعة، "مقتصدة"، يقول : مقتصدة في القول في عيسى ابن مريم ، قائلة فيه الحق أنه رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، لا غالية قائلة: إنه ابن الله ، تعالى الله عما قالوا من ذلك ، ولا مقصرة قائلة: هو لغير رشدة، "وكثير منهم"، يعني : من بني إسرائيل من أهل الكتاب اليهود والنصارى، "ساء ما يعملون"، يقول : كثير منهم سيئ عملهم ، وذلك أنهم يكفرون بالله، فتكذب النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتزعم أن المسيح ابن الله ، وتكذب ، اليهود بعيسى وبمحمد صلى الله عليهما. فقال الله تعالى فيهم ذاماً لهم: "ساء ما يعملون"، في ذلك من فعلهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "منهم أمة مقتصدة"، وهم مسلمة أهل الكتاب ، "وكثير منهم ساء ما يعملون".
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل قال ، حدثنا عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهداً يقول : تفرقت بنو إسرائيل فرقاً، فقالت فرقة : عيسى هو ابن الله، وقالت فرقة : هو الله، وقالت فرقة : هو عبد الله وروحه، وهي المقتصدة، وهي مسلمة أهل الكتاب.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال الله : "منهم أمة مقتصدة"، يقول : على كتابه وأمره . ثم ذم أكثر القوم فقال : "وكثير منهم ساء ما يعملون".
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: "منهم أمة مقتصدة"، يقول: مؤمنة.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: "منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون"، قال: المقتصدة، أهل طاعة الله . قال : وهؤلاء أهل الكتاب.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله: "منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون"، قال : فهذه الأمة المقتصدة، الذين لا هم جفوا في الدين ولا هم غلوا. قال : والغلو، الرغبة عنه ، والفسق، التقصير عنه.
وإقامة التوراة والإنجيل العمل بمقتضاهما وعدم تحريفها وقد تقدم هذا المعنى في البقرة مستوفى " وما أنزل إليهم من ربهم " أي القرآن وقيل: كتب أنبيائهم " لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " قال ابن عباس وغيره : يعني المطر والنبات وهذا يدل على أنهم كانوا في جدب وقيل : المعنى لوسعنا عليهم في أرزاقهم وأكلوا أكلا متواصلاً وذكر فوق وتحت للمبالغة فيما يفتح عليهم من الدنيا ونظير هذه الآية " ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب " [ الطلاق : 302] " وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا " [ الجن: 16] " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض " [ الأعراف: 96]فجعل تعالى الثقى من أسباب الرزق كما في هذه الآيات ووعد بالمزيد لمن شكر فقال : " لئن شكرتم لأزيدنكم "[إبراهيم: 7] ثم أخبر أن منهم مقتصداً وهم المؤمنون كالنجاشي وسلمان وعبد لله بن سلام - اقتصدوا فلم يقولوا في عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام إلا ما يليق بهما وقيل: أراد بالاقتصاد قوماً لم يؤمنوا ولكنهم لم يكونوا من المؤذنين المستهزئين والله أعلم، والاقتصاد الاعتدال في العمل ، وهو من القصد والقصد إتيان الشيء تقول : قصدته وقصدت له وقصدت إليه بمعنى: " ساء ما يعملون " أي بئس شيء عملوه كذبوا الرسل وحرفوا الكتاب وأكلوا السحت.
يخبر تعالى عن اليهود ـ عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ـ بأنهم وصفوا الله عز وجل وتعالى عن قولهم علواً كبيراً بأنه بخيل, كما وصفوه بأنه فقير وهم أغنياء وعبروا عن البخل بأن قالوا "يد الله مغلولة". قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبد الله الطهراني, حدثنا حفص بن عمر العدني, حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة قال: قال ابن عباس "مغلولة" أي بخيلة, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله "وقالت اليهود يد الله مغلولة" قال: لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة, ولكن يقولون: بخيل يعني أمسك ما عنده تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً, وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي والضحاك, وقرأ "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً" يعني أنه ينهى عن البخل وعن التبذير, وهو زيادة الإنفاق في غير محله, وعبر عن البخل بقوله "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك" وهذا هو الذي أراد هؤلاء اليهود عليهم لعائن الله, وقد قال عكرمة: إنها نزلت في فنحاص اليهودي, عليه لعنة الله, وقد تقدم أنه الذي قال "إن الله فقير ونحن أغنياء" فضربه أبو بكر الصديق رضي الله عنه, وقال محمد بن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة, عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس إن ربك بخيل لا ينفق, فأنزل الله "وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء" وقد رد الله عز وجل عليهم ما قالوه وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه وائتفكوه, فقال "غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا" وهكذا وقع لهم, فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة أمر عظيم, كما قال تعالى: " أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا * أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله " الآية, وقال تعالى: "ضربت عليهم الذلة" الآية .
ثم قال تعالى: "بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء" أي بل هو الواسع الفضل, الجزيل العطاء, الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه, وهو الذي ما بخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له, الذي خلق لنا كل شيء مما نحتاج إليه, في ليلنا ونهارنا, وحضرنا وسفرنا, وفي جميع أحوالنا, كما قال "وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار" والآيات في هذا كثيرة, وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار, أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض, فإنه لم يغض ما في يمينه ـ قال ـ: وعرشه على الماء وفي يده الأخرى الفيض يرفع ويخفض. وقال : يقول الله تعالى: أنفق, أنفق عليك" أخرجاه في الصحيحين, البخاري في التوحيد عن علي بن المديني, ومسلم فيه عن محمد بن رافع, كلاهما عن عبد الرزاق به .
وقوله تعالى: "وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً" أي يكون ما آتاك الله يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم, فكما يزداد به المؤمنون تصديقاً وعملاً صالحاً وعلماً نافعاً, يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولأمتك طغياناً, وهو المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء, وكفراً أي تكذيباً, كما قال تعالى: "قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد" وقال تعالى: "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً", وقوله تعالى: "وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة" يعني أنه لا تجتمع قلوبهم بل العداوة واقعة بين فرقهم بعضهم في بعض دائماً, لأنهم لا يجتمعون على حق, وقد خالفوك وكذبوك, وقال إبراهيم النخعي: "وألقينا بينهم العداوة والبغضاء", قال: الخصومات والجدال في الدين, رواه ابن أبي حاتم .
وقوله "كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله" أي كلما عقدوا أسباباً يكيدونك بها, وكلما أبرموا أموراً يحاربونك بها, أبطلها الله ورد كيدهم عليهم, وحاق مكرهم السيء بهم "ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين" أي من سجيتهم أنهم دائماً يسعون في الإفساد في الأرض, والله لا يحب من هذه صفته, ثم قال جلا وعلا: "ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا" أي لو أنهم آمنوا بالله ورسوله واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المآثم والمحارم "لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم" أي لأزلنا عنهم المحذور وأنلناهم المقصود, "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم" قال ابن عباس وغيره: هو القرآن, "لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" أي لو أنهم عملوا بما في الكتب التي بأيديهم عن الأنبياء على ما هي عليه من غير تحريف ولا تبديل ولا تغيير, لقادهم ذلك إلى اتباع الحق والعمل بمقتضى ما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم, فإن كتبهم ناطقة بتصديقه والأمر باتباعه حتماً لا محالة .
وقوله تعالى: "لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" يعني بذلك كثرة الرزق النازل عليهم من السماء والنابت لهم من الأرض, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "لأكلوا من فوقهم" يعني لأرسل السماء عليهم مدراراً, "ومن تحت أرجلهم" يعني يخرج من الأرض بركاتها, وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والسدي, كما قال تعالى: "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض" الآية .
وقال تعالى: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس" الآية, وقال بعضهم معناه "لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" يعني من غير كد ولا تعب ولا شقاء ولا عناء. وقال ابن جرير: قال بعضهم: معناه لكانوا في الخير كما يقول القائل: هو في الخير من فرقه إلى قدمه, ثم رد هذا القول لمخالفته أقوال السلف .
وقد ذكر ابن أبي حاتم عند قوله "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل" حديث علقمة عن صفوان بن عمرو, عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير, عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يوشك أن يرفع العلم" فقال زياد بن لبيد: يا رسول الله, وكيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا ؟ فقال "ثكلتك أمك يا ابن لبيد إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة, أو ليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى, فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله" ثم قرأ "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل" هكذا أورده ابن أبي حاتم معلقاً من أول إسناده مرسلاً في آخره. وقد رواه الإمام أحمد بن حنبل متصلاً موصولاً, فقال: حدثنا وكيع, حدثنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد, عن زياد بن لبيد أنه قال ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً, فقال "وذاك عند ذهاب العلم" قال: قلنا: يا رسول الله, وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن, ونقرئه أبناءنا, وأبناؤنا يقرؤونه أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ فقال "ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد, إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة, أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء" هكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة, عن وكيع بإسناده نحوه, هذا إسناد صحيح .
وقوله تعالى: "منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون" كقوله "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون" وكقوله عن أتباع عيسى "فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم" الآية, فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد وهو أوسط مقامات هذه الأمة وفوق ذلك رتبة السابقين, كما في قوله عز وجل: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير * جنات عدن يدخلونها " الآية, والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة كلهم يدخلون الجنة, وقد قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر, حدثنا أحمد بن يونس الضبي, حدثنا عاصم بن عدي حدثنا أبو معشر, عن يعقوب بن يزيد بن طلحة, عن زيد بن أسلم, عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال "تفرقت أمة موسى على إحدى وسبعين ملة: سبعون منها في النار, وواحدة في الجنة, وتفرقت أمة عيسى على ثنتين وسبعين ملة: واحدة في الجنة, وإحدى وسبعون منها في النار, وتعلو أمتي على الفرقتين جميعاً واحدة في الجنة, وثنتان وسبعون في النار" قالوا: من هم يا رسول الله ؟ قال "الجماعات الجماعات". قال يعقوب بن زيد: كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا فيه قرآناً, قال "ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم" إلى قوله تعالى: "منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون" وتلا أيضاً قوله تعالى: "وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون" يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهذا حديث غريب جداً من هذا الوجه وبهذا السياق, وحديث افتراق الأمم إلى بضع وسبعين مروي من طرق عديدة, وقد ذكرناه في موضع آخر ولله الحمد والمنة .
66- "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل" أي أقاموا ما فيهما من الأحكام التي من جملتها الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: "وما أنزل إليهم من ربهم"من سائر كتب الله التي من جملتها القرآن فإنها كلها وإن نزلت على غيرهم فهي في حكم المنزلة عليهم لكونهم متعبدين بما فيها "لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" ذكر فوق وتحت للمبالغة في تيسر أسباب الرزق لهم وكثرتها وتعدد أنواعها. قوله: "منهم أمة مقتصدة" جواب سؤال مقدر، كأنه قيل هل جميعهم متصفون بالأوصاف السابقة، أو البعض دون البعض، والمقتصدون منهم هم المؤمنون كعبد الله بن سلام ومن تبعه وطائفة من النصارى "وكثير منهم ساء ما يعملون" وهم المصرون على الكفر المتمردون عن إجابة محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان بما جاء به.
وقد أخرج ابن إسحاق والطبراني في الكبير وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود يقال له النباش بن قيس: إن ربك بخيل لا ينفق، فأنزل الله: "وقالت اليهود يد الله مغلولة" الآية. وأخرج أبو الشيخ عنه أنها نزلت في فنحاص اليهودي. وأخرج مثله ابن جرير عن عكرمة. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وقالت اليهود يد الله مغلولة" أي بخيلة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً" قال: حملهم حسد محمد والعرب على أن تركوا القرآن وكفروا بمحمد ودينه وهم يجدونه مكتوباً عندهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "كلما أوقدوا ناراً للحرب" قال: حرب محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في الآية: كلما أجمعوا أمرهم على شيء فرقه الله وأطفأ حدهم ونارهم وقذف في قلوبهم الرعب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا" قال: آمنوا بما أنزل على محمد واتقوا ما حرم الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل" قال: العمل بهما، وأما ما أنزل إليهم فمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه، وأما "لأكلوا من فوقهم" فأرسلت عليهم مطراً، وأما "من تحت أرجلهم" يقول أنبت لهم من الأرض من رزقي ما يغنيهم، "منهم أمة مقتصدة" وهم مسلمة أهل الكتاب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "لأكلوا من فوقهم" يعني لأرسل عليهم السماء مدراراً "ومن تحت أرجلهم" قال: تخرج الأرض من بركتها. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس قال: الأمة المقتصدة: الذين لا هم فسقوا في الدين ولا هم غلوا. قال: والعلو الرغبة، والفسق التقصير عنه. وأخرج أبو الشيخ عن السدي "أمة مقتصدة" يقول مؤمنة. وأخرج ابن مردويه قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا أحمد بن يونس الضبي، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا أبو معشر عن يعقوب بن زيد بن طلحة عن زيد بن أسلم عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر حديثاً، قال: ثم حدثهم النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تفرقت أمة موسى على اثنتين وسبعين ملة، واحدة منها في الجنة وإحدى وسبعون منها في النار، وتفرقت أمة عيسى على اثنتين وسبعين ملة، واحدة منها في الجنة وإحدى وسبعون منها في النار، تعلو أمتي على الفريقين جميعاً ملة واحدة في الجنة وثنتان وسبعون منها في النار، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: الجماعات الجماعات". قال يعقوب بن زيد: كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا فيه قرآناً، قال: "ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم" إلى قوله: "منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون" وتلا أيضاً: "وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون" يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكره لهذا الحديث ما لفظه: وحديث افتراق الأمم إلى بضع وسبعين مروي من طرق عديدة قد ذكرناها في موضع آخر انتهى. قلت: أما زيادة كونها في النار إلا واحدة، فقد ضعفها جماعة من المحدثين، بل قال ابن حزم إنها موضوعة.
66- " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل "، يعني : أقاموا أحكامهما وحدودهما وعملوا بما فيهما ، " وما أنزل إليهم من ربهم " ، يعني : القرآن ، وقيل : كتب أنبياء بني إسرائيل ، " لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " ، قيل : من فوقهم هو المطر ، ومن تحت أرجلهم نبات الأرض .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : لأنزلت عليهم القطر وأخرجت لهم من نبات الأرض .
وقال الفراء أراد به التوسعة في الرزق كما يقال فلان في الخير من قرنه إلى قدمه ، ونظيره قوله تعالى : " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض " ( الأعراف ،96 ) .
" منهم أمة مقتصدة " ، يعني : مؤمني أهل الكتاب ، عبد الله بن سلام وأصحابه ، مقتصدة أي عادلة غير غالية ، ولا مقصرة جافيه ، ومعنى الاقتصاد في اللغة : الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير .
" وكثير منهم " ، كعب بن الأشرف وأصحابه ، " ساء ما يعملون "، بئس شيئاً عملهم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما :عملوا القبيح مع التكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم .
66"ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل" بإذاعة ما فيهما من نعت محمد صلى الله عليه وسلم والقيام بأحكامها. " وما أنزل إليهم من ربهم " يعني سائر الكتب المنزلة فإنها من حيث أنهم مكلفون بالإيمان بها كالمنزل إليهم، أو القرآن "لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" لوسع عليهم أرزاقهم بأن يفيض عليهم بركات من السماء والأرض، أو يكثر ثمرة الأشجار وغلة الزروع، أو يرزقهم الجنان اليانعة الثمار. فيجتنونها من رأس الشجر ويلتقطون ما تساقط على الأرض بين ذلك أن ما كف عنهم بشؤم كفرهم ومعاصيهم لا لقصور الفيض، ولو أنهم آمنوا وأقاموا ما أمروا به لوسع عليهم وجعل لهم خير الدارين. " منهم أمة مقتصدة " عادلة غير غالية ولا مقصرة، وهم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل مقتصدة متوسطة في عداوته. "وكثير منهم ساء ما يعملون" أي بئس ما يعملونه، وفيه معنى التعجب أي ما أسوأ عملهم وهو المعاندة وتحريف الحق والإعراض عنه والإفراط في العداوة.
66. If they had observed the Torah and the Gospel and that which was revealed unto them from their Lord, they would surely have been nourished from above them and from beneath their feet. Among them there are people who are moderate, but many of them are of evil conduct.
66 - If only they have stood fast by the law, the gospel, and all the revelation that was sent to them from their lord, they would have enjoyed happiness from every side. there is from among them a party on the right course: but many of them follow a course that is evil.