[المائدة : 63] لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
63 - (لولا) هلا (ينهاهم الربانيون والأحبار) منهم (عن قولهم الإثم) الكذب (وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعونـ) ـه ترك نهيهم
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هلا ينهى هؤلاء الذين يسارعون في الإثم والعدوان وأكل الرشى في الحكم، من اليهود من بني إسرائيل ، ربانيوهم -وهم أئمتهم المؤمنون ، وساستهم العلماء بسياستهم- وأحبارهم ، وهم علماؤهم وقوادهم ، "عن قولهم الإثم" يعني : عن قول الكذب والزور، وذلك أنهم كانوا يحكمون فيهم بغير حكم الله ، ويكتبون كتباً بأيديهم ثم يقولون : هذا من حكم الله ، وهذا من كتبه. يقول الله: "فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون" [البقرة: 79].
وأما قوله: "وأكلهم السحت"، فإنه يعني به الرشوة التي كانوا يأخذونها على حكمهم بغير كتاب الله لمن حكموا له به.
وقد بينا معنى (الربانيين) و (الأحبار) ومعنى "السحت"، بشواهد ذلك فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
"لبئس ما كانوا يصنعون"، وهذا قسم من الله أقسم به ، يقول تعالى ذكره : أقسم : لبئس الصنيع كان يصنع هؤلاء الربانيون والأحبار، في تركهم نهي الذين يسارعون منهم في الإثم والعدوان وأكل السحت ، عما كانوا يفعلون من ذلك.
وكان العلماء يقولون : ما في القرآن آية أشد توبيخاً للعلماء من هذه الآية، ولا أخوف عليهم منها.
حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الله بن داود قال ، حدثنا سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم في قوله: "لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم"، قال: ما في القرآن آية، أخوف عندي منها: أنا لا ننهى.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن عطية قال ، حدثنا قيس، عن العلاء بن المسيب، عن خالد بن دينار، عن ابن عباس قال : ما في القرآن آية أشد توبيخاً من هذه الآية: " لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون "، قال: كذا قرأ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك: "لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت"، قال: "الربانيون والأحبار"، فقهاؤهم وقراؤهم وعلماؤهم . قال : ثم يقول الضحاك: وما أخوفني من هذه الآية.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: "لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون"، يعني: الربانيين ، أنهم : لبئس ما كانوا يصنعون.
قوله تعالى :" لولا ينهاهم الربانيون والأحبار " ولولا بمعنى أفلا ينهاهم يزجرهم الربانيون علماء النصارى الأحبار علماء اليهود قاله الحسن وقيل: الكل في اليهود لأن هذه الآيات فيهم ثم وبخ علماءهم في تركهم نهيهم فقال :" لبئس ما كانوا يصنعون " كما وبخ من يسارع في الإثم بقوله :" لبئس ما كانوا يعملون " ودلت الآية على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر، فالآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد مضى القول في هذا المعنى في البقرة و آل عمران وروى سفيان بن عيينة قال: حدثني سفيان بن سعيد عن مسعر قال بلغني أن ملكاً أمر أن يخسف بقربة فقال: يا رب فيها فلان العابد فأوحى الله تعالى إليه : أن به فابدأ لم يتمعر وجهه في ساعة قط وفي صحيح الترمذي:
"إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده " وسيأتي والصنع بمعنى العمل إلا أنه يقتضي الجودة يقال: سيف صنيع إذا جود عمله .
يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من أهل الكتاب: "هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل" أي هل لكم علينا مطعن أو عيب إلا هذا ؟ وهذا ليس بعيب ولا مذمة, فيكون الاستثناء منقطعاً, كما في قوله تعالى: "وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد", وكقوله: "وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله" وفي الحديث المتفق عليه "ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله", وقوله "وأن أكثركم فاسقون" معطوف على "أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل" أي وآمنا بأن أكثركم فاسقون, أي خارجون عن الطريق المستقيم .
ثم قال "قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله" أي هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا ؟ وهم أنتم الذين هم متصفون بهذه الصفات المفسرة بقوله "من لعنه الله" أي أبعده من رحمته "وغضب عليه" أي غضباً لا يرضى بعده أبداً "وجعل منهم القردة والخنازير" كما تقدم بيانه في سورة البقرة, وكما سيأتي إيضاحه في سورة الأعراف, وقد قال سفيان الثوري, عن علقمة بن مرثد, عن المغيرة بن عبد الله, عن المعرور بن سويد, عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير: أهي مما مسخ الله ؟ فقال "إن الله لم يهلك قوماً, أو لم يمسخ قوماً فيجعل لهم نسلاً ولا عقباً, وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك" وقد رواه مسلم من حديث سفيان الثوري ومسعر, كلاهما عن مغيرة بن عبد الله اليشكري به, وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا داود بن أبي الفرات, عن محمد بن زيد, عن أبي الأعين العبدي, عن أبي الأحوص, عن ابن مسعود قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير: أهي من نسل اليهود ؟ فقال "لا إن الله لم يلعن قوماً قط فيمسخهم, فكان لهم نسل ولكن هذا خلق كان, فلما غضب الله على اليهود فمسخهم جعلهم مثلهم", ورواه أحمد من حديث داود بن أبي الفرات به, وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي, حدثنا أحمد بن صالح, حدثنا الحسن بن محبوب, حدثنا عبد العزيز بن المختار عن داود بن أبي هند, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحيات مسخ الجن كما مسخت القردة والخنازير" هذا حديث غريب جداً .
وقوله تعالى: "وعبد الطاغوت" قرىء: وعبد الطاغوت على أنه فعل ماض, والطاغوت منصوب به, أي وجعل منهم من عبد الطاغوت, وقرىء: وعبد الطاغوت بالإضافة على أن المعنى وجعل منهم خدم الطاغوت, أي خدامه وعبيده, وقرىء: وعبد الطاغوت على أنه جمع الجمع عبد وعبيد, وعبد مثل ثمار وثمر, حكاها ابن جرير عن الأعمش, وحكى عن بريدة الأسلمي أنه كان يقرؤها وعابد الطاغوت, وعن أبي وابن مسعود: وعبدوا, وحكى ابن جرير عن أبي جعفر القارىء أنه كان يقرؤها: وعبد الطاغوت على أنه مفعول ما لم يسم فاعله, ثم استبعد معناها, والظاهر أنه لا بعد في ذلك, لأن هذا من باب التعريض بهم, أي وقد عبد الطاغوت فيكم وأنتم الذين فعلتموه, وكل هذه القراءات يرجع معناها إلى أنكم يا أهل الكتاب الطاعنين في ديننا والذي هو توحيد الله وإفراده بالعبادات دون ما سواه, كيف يصدر منكم هذا, وأنتم قد وجد منكم جميع ما ذكر ؟ ولهذا قال "أولئك شر مكاناً" أي مما تظنون بنا "وأضل عن سواء السبيل" وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر مشاركة, كقوله عز وجل: " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ".
وقوله تعالى: " وإذا جاؤوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به " وهذه صفة المنافقين منهم أنهم يصانعون المؤمنين في الظاهر وقلوبهم منطوية على الكفر, ولهذا قال "وقد دخلوا" أي عندك يا محمد "بالكفر" أي مستصحبين الكفر في قلوبهم, ثم خرجوا وهو كامن فيها لم ينتفعوا بما قد سمعوا منك من العلم, ولا نجعت فيهم المواعظ ولا الزواجر ولهذا قال "وهم قد خرجوا به" فخصهم به دون غيرهم, وقوله تعالى: "والله أعلم بما كانوا يكتمون" أي والله عالم بسرائرهم وما تنطوي عليه ضمائرهم, وإن أظهروا لخلقه خلاف ذلك, وتزينوا بما ليس فيهم, فإن الله عالم الغيب و الشهادة أعلم بهم منهم, وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء وقوله "وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت" أي يبادرون إلى ذلك من تعاطي المآثم والمحارم والاعتداء على الناس وأكلهم أموالهم بالباطل, "لبئس ما كانوا يعملون", أي لبئس العمل كان عملهم, وبئس الاعتداء اعتداؤهم .
وقوله تعالى: " لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون " يعني هلا كان ينهاهم الربانيون والأحبار عن تعاطي ذلك, والربانيون هم العلماء العمال أرباب الولايات عليهم, والأحبار هم العلماء فقط "لبئس ما كانوا يصنعون" يعني من تركهم ذلك, قاله علي بن أبي طلحة عن ابن عباس, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال لهؤلاء حين لم ينهوا ولهؤلاء حين علموا, قال: وذلك الأمر كان, قال: ويعملون ويصنعون واحد, رواه ابن أبي حاتم, وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا ابن عطية, حدثنا قيس عن العلاء بن المسيب, عن خالد بن دينار, عن ابن عباس, قال: ما في القرآن آية أشد توبيخاً من هذه الآية "لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون" قال: كذا قرأ وكذا قال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها, إنا لا ننهى, رواه ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم, ذكره يونس بن حبيب, حدثنا أبو داود, حدثنا محمد بن مسلم بن أبي الوضاح, حدثنا ثابت أبو سعيد الهمداني قال لقيته بالري فحدث عن يحيى بن يعمر قال: خطب علي بن أبي طالب فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال: أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار, فلما تمادوا في المعاصي أخذتهم العقوبات فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم, واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقاً ولا يقرب أجلاً, وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون, أنبأنا شريك عن أبي إسحاق عن المنذر بن جرير, عن أبيه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع, ولم يغيروا إلا أصابهم الله منه بعذاب" تفرد به أحمد من هذاالوجه, ورواه أبو داود عن مسدد, عن أبي الأحوص, عن أبي إسحاق, عن المنذر بن جرير, عن جرير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه, فلا يغيرون إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا" وقد رواه ابن ماجه عن علي بن محمد, عن وكيع عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن عبيد الله بن جرير, عن أبيه به, قال الحافظ المزي: وهكذا رواه شعبة عن أبي إسحاق به .
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: 63- "لولا ينهاهم الربانيون والأحبار" قال: فهل لا ينهاهم الربانيون والأحبار، وهم الفقهاء والعلماء. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: ما في القرآن آية أشد توبيخاً من هذه الآية "لولا ينهاهم الربانيون والأحبار". وأخرجه ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الضحاك بن مزاحم نحوه، وقد وردت أحاديث كثيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا حاجة لنا في بسطها هنا.
63-" لولا " ، هلا ، " ينهاهم الربانيون والأحبار "، يعني : العلماء ، قيل : الربانيون علماء النصارى والأحبار علماء اليهود ، " عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ".
63" لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت " تحضيض لعلمائهم على النهي عن ذلك فإن لولا إذا دخل على الماضي أفاد التوبيخ وإذا دخل على المستقبل أفاد التحضيض. "لبئس ما كانوا يصنعون" أبلغ من قوله لبئس ما كانوا يعملون من حيث إن الصنع عمل الإنسان بعد تدرب فيه وترو وتحري إجادة، ولذلك ذم به خواصهم ولأن ترك الحسنة أقبح من مواقعه المعصية، لأن النفس تلتذ بها وتميل إليها ولا كذلك ترك الإنكار عليها فكان جديراً بأبلغ الذم.
63. Why do not the rabbis and the priests forbid their evil speaking and their devouring of illicit gain? Verily evil is their handiwork.
63 - Why do not the rabbis and the doctors of law forbid them from their (habit of) uttering sinful words and eating things forbidden? evil indeed are their works.