[المائدة : 38] وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
38 - (والسارق والسارقة) أل فيهما موصولة مبتدأ ولشبهه بالشرط دخلت الفاء في خبره وهو (فاقطعوا أيديَهما) أي يمين كل منهما من الكوع وبينت السنة أن الذي يقطع فيه ربع دينار فصاعدا وأنه إذا عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم ثم اليد اليسرى ثم الرجل اليمنى وبعد ذلك يعزر (جزاء) نصب على المصدر (بما كسبا نكالا) عقوبة لهما (من الله والله عزيز) غالب على أمره (حكيم) في خلقه
قوله تعالى والسارق والسارقة الآية ك أخرج أحمد وغيره عن عبد الله بن عمرو أن إمراة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطعت يدها اليمنى فقالت هل لي من توبة يا رسول الله فأنزل الله في سورة المائدة فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح الآية
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه : ومن سوق من رجك أو امرأة، فاقطعوا، أيها الناس ، يده ، ولذلك رفع (السارق والسارقة) ، لأنهما غير معينين . ولو أريد بذلك سارق وسارقة بأعيانهما، لكان وجه الكلام النصب.
وقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ ذلك : (والسارقون والسارقات).
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن ابن عون ، عن إبراهيم قال : في قراءتنا - قال : وربما قال : في قراءة عبد الله - (والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما).
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية، عن ابن عون ، عن إبراهيم : في قراءتنا: (والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما) .
وفي ذلك دليل على صحة ما قلنا من معناه ، وصحة الرفع فيه ، وأن (السارق والسارقة) مرفوعان بفعلهما على ما وصفت ، للعلل التي وصفت.
وقال تعالى ذكره : "فاقطعوا أيديهما"، والمعنى : أيديهما اليمنى ، كما :
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "فاقطعوا أيديهما"، اليمنى.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر، عن عامر قال : في قراءة عبد الله : (والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما).
ثم اختلفوا في (السارق) الذي عناه الله عز ذكره.
فقال بعضهم : عنى بذلك سارق ثلاثة دراهم فصاعداً. وذلك قول جماعة من أهل المدينة، منهم مالك بن أنس ومن قال بقوله. واحتجوا لقولهم ذلك ، بأن :
"رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم".
وقال آخرون : بل عنى بذلك سارق ربع دينار أو قيمته . وممن قال ذلك ، الأوزاعي ومن قال بقوله. واحتجوا لقولهم ذلك بالخبر الذي روي عن عائشة أنها قالت :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القطع في ربع دينار فصاعداً.
وقال آخرون : بل عنى بذلك سارق عشرة دراهم فصاعداً. وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه . واحتجوا في ذلك بالخبر الذي روي عن عبد الله بن عمرو، وابن عباس :
"أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته عشرة دراهم".
وقال آخرون : بل عنى بذلك سارق القليل والكثير. واحتجوا في ذلك بأن الآية على الظاهر، وأن ليس لأحد أن يخص منها شيئاً، إلا بحجة يجب التسليم لها. وقالوا: لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر بأن ذلك في خاص من السراق . قالوا : والأخبار فيما قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطربة مختلفة، ولم يرو عنه أحد أنه أتي بسارق درهم فخلى عنه ، وإنما رووا عنه أنه قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم . قالوا: وممكن أن يكون لو أتي بسارق ما قيمته دانق أن يقطع . قالوا: وقد قطع ابن الزبير في درهم .
وروي عن ابن عباس أنه قال : الآية على العموم.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا عبد المؤمن ، عن نجدة الحنفي قال : سألت ابن عباس عن قوله : "والسارق والسارقة"، أخاص أم عام ؟ فقال : بل عام.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، قول من قال : (الآية معني بها خاص من السراق ، وهم سراق ربع دينار فصاعداً أو قيمته)، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : القطع في ربع دينار فصاعداً. وقد استقصيت ذكر أقوال المختلفين في ذلك مع عللهم التي اعتلوا بها لأقوالهم ، والبيان عن أولاها بالصواب ، بشواهده ، في كتابنا (كتاب السرقة)، فكرهنا إطالة الكتاب بإعادة ذلك في هذا الموضع .
وقوله : "جزاء بما كسبا نكالا من الله"، يقول : مكافأة لهما على سرقتهما وعملهما في التلصص بمعصية الله، "نكالا من الله"، يقول : عقوبة من الله على لصوصيتهما.
وكان قتادة يقول في ذلك ما:
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم"، لا ترثوا لهم أن تقيموا فيهم الحدود، فإنه والله ما أمر الله بأمر قط إلا وهو صلاح ، ولا نهي عن أمر قط إلا وهو فساد.
وكان عمر بن الخطاب يقول : اشتدوا على السراق ، فاقطعوهم يداً يداً، ورجلاً رجلاً.
وقوله : "والله عزيز حكيم"، يقول جل ثناؤه : "والله عزيز"، في انتقامه من هذا السارق والسارقة وغيرهما من أهل معاصيه ، "حكيم"، في حكمه فيهم وقضائه عليهم .
يقول : فلا تفرطوا أيها المؤمنون ، في إقامة حكمي على السراق وغيرهم من أهل الجرائم الذين أوجبت عليهم حدودا في الدنيا عقوبةً لهم ، فإني بحكمتي قضيت ذلك عليهم ، وعلمي بصلاح ذلك لهم ولكم .
فيه سبع وعشرون مسئلة:
الأولى- قوله تعالى :" والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " الآية لما ذكر تعالى أخذ الأموال بطريق السعي في الأرض والفساد ذكر حكم السارق من غير حراب على ما يأتي بيانه أثناء الباب، وبدأ سبحانه بالسارق قبل السارقة عكس الزنى على نبينه آخر الباب وقد قطع السارق في الجاهلية وأول من حكم بقطعه في الجاهلية الوليد بن المغيرة فأمر الله بقطعه في الإسلام فكان أول سارق قطعه رسول الله صل لله عليه وسلم في الإسلام من الرجال الخيار بن عدي بن نوفل بن مناف ومن النساء مرة بنت سفيان بن عبد الأسد بن بني مخزوم وقطع أبو بكر يد اليمني الذي سرق العقد ، وقطع عمر يد ابن سمرة أخي عبد الرحمن بن سمرة ولا خلاف فيه وظاهر الآية العموم في كل سارق وليس كذلك "لقول عليه السلام :
لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً" فبين أنه إنما أرد بقوله " والسارق والسارقة " بعض السراق دون بعض فلا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار أو فيما قيمته ربع دينار، وهذا قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي رضي الله عنهم، وبه قال عمر بن عبد العزيز والليث والشافعي وأبو ثور، وقال مالك: تقطع اليد في ربع دينار أو في ثلاثة دراهم، فإن سرق درهمين وهو ربع دينار لانحطاط الصرف لم تقطع يده فيهما، والعروض لا تقطع فيها إلا أن تبلغ ثلاثة دراهم قل الصرف أو كثر فجعل مالك الذهب والورق كل واحد منهما أصلاً بنفسه، وجعل تقويم العروض بالدراهم في المشهور وقال أحمد وإسحاق : إن سرق ذهباً فربع دينار، وإن سرق غير الذهب والفضة فكانت قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم من الورق، وهذا نحو ما صار إليه مالك في القول الآخر، والحجة للأول حديث ابن عمر:
أن رجلاً سرق حجفة فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بها فقومت بثلاثة دراهم وجعل الشافعي حديث عائشة رضي الله عنهما في الربع دينار أصلاً رد إليه تقويم العروض لا بالثلاثة دراهم على غلاء الذهب ورخصة وترك حديث ابن عمر لما رآه -والله أعلم - من اختلاف الصحابة في المجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فابن عمر يقول: ثلاثة دراهم وابن عباس يقول: عشرة دراهم وأنس يقول: خمسة دراهم وحديث عائشة في الربع دينار حديث صحيح ثابت لم يختلف فيه عن عائشة إلا أن بعضهم وقفه ورفعه من يجب العمل بقوله لحفظه وعدالته قاله أبو عمر وغيره وعلى هذا فإن بلغ العرض المسروق ربع دينار بالتقويم قطع سارقه وهو قول إسحاق فقف على هذه الأصلين فهما عمدة الباب وهما أصح ما قيل فيه وقال أبو حنيفة وصاحباه والثوري: لا تقطع يد السارق إلا في عشرة دراهم كيلا أو دينار ذهباً عيناً أو وزناً ولا يقطع حتى يخرج بالمتاع من ملك الرجل ، وحجتهم حديث ابن عباس قال : "قوم المجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة دراهم" ورواه عمرو بن شعيب عن أبيه جده قال: كان ثمن المجن يومئذ عشرة دراهم أخرجهما الدارقطني وغيره وفي المسألة قول رابع ، وهو ما رواه الدارقطني عن عمر قال : لا تقطع الخمس إلا في خمس وبه قال سليمان بن يسار وابن أبي ليلى وابن شبرمة وقال انس بن مالك : قطع أبو بكر- رحمه الله - في مجن قيمته خمسة دراهم وقول خامس: وهو أن اليد تقطع في أربعة دراهم فصاعداً روي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري: وقول سادس: وهو أن اليد تقطع في درهم فما فوقه قاله عثمان البتي وذكر الطبري أن عبد الله بن الزبير قطع في درهم وقول سابع: وهو أن اليد تقطع في كل ما له قيمة على ظاهر هذا قول الخوارج وروي عن الحسن البصري، وهي إحدى الروايات الثلاث عنه، والثانية كما روي عن عمر والثالثة حكاها قتادة عنه أنه قال: تذاكرنا القطع في كم يكون على عهد زيادة ؟ فاتفق رأينا على درهمين وهذه أقوال متكافئة والصحيح منها ما قدمناه لك فإن قيل: قد روي البخاري ومسلم وغيرهما "عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعن الله السارق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده " وهذا موافق لظاهر الآية في القطع في القليل والكثير فالجواب أن هذا خرج مخرج التحذير بالقليل عن الكثير، كما جاء في معرض الترغيب بالقلي مجرى الكثير في "قوله عليه السلام:
من بني لله مسجداً ولو مثل مفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة ".
وقيل: إن ذلك مجاز من وجه آخر وذلك أنه إذا ضري بسرقة القليل سرق الكثير فقطعت يده وأحسن من هذا ما قاله الأعمش وذكره البخاري في آخر الحديث كالتفسير قال : كانوا يرون أنه بيض الحديد، والحبل كانوا يرون أنه منها ما يساوي دراهم
قلت : كحبال السفينة وشبه ذلك والله أعلم .
الثانية- اتفق جمهور الناس على أن القطع لا يكون إلى على من أخرج من حزر ما يحب فيه القطع وقال الحسن بن أبي الحسن: إذا جمع الثياب في البيت قطع وقال السحن بن أبي السحن أيضاً في قول آخر مثل قول سائر أهل العلم فصار اتفاقاً صحيحاً والحمد لله .
الثالثة- الحرز هو ما نصب عادة لحفظ أموال الناس، وهو يختلف في كل شيء بحسب حالة على ما يأتي بيانه قال ابن المنذر: ليس في هذا الباب خير ثابت لا مقال فيه لأهل العلم وإنما ذلك كالإجماع من أهل العلم، وحكي عن الحسن وأهل الظاهر أنهم لا يشترطوا الحرز وفي الموطأ "عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا آواه المراح أو الجرين فاقطع فيما بلغ ثمن المجن " قال أبو عمر: هذا حديث يتصل معناه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره وعبد الله هذا ثقة عند الجميع وكان أحمد يثني عليه و"عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الثمر المعلق فقال:
من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ومن خرج بشيء منه فعليه القطع ومن سرق دون فعليه غرامة مثلية والعقوبة" وفي رواية "وجلدات نكال " بدل "والعقوبة " قال العلماء: ثم نسخ الجلد وجعل مكانه القطع قال أبو عمر: قوله "غرامة مثلية " منسوخ لا أعلم أحداً من الفقهاء قال به إلا ما جاء عن عمر في دقيق حاطب بن أبي بلتعة خرجه مالك ورواية عن أحمد بن حنبل. والذي عليه الناس من الغرم بالمثل لقوله تعالى :" فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " [ البقرة : 194] وروي أبو داود "عن صفوان بن أمية قال : كنت نائماً في المسجد على خميصة لي ثمن ثلاثين درهما فجاء رجل فاختلسها مني، فأخذ الرجل فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به ليقطع قال:
فأتيته فقلت أتقطعه من أجل ثلاثين درهماً؟ أنا أبيعه وأنسئه ثمنها قال فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به " ومن جهة النظر أن الأموال خلقت مهيأة للانتفاع بها للخلق أجمعين ثم الحكمة الأولية حكمت فيها بالاختصاص الذي هو الملك شرعاً وبقيت الأطماع متعلقة بها ، والآمال محومة عليها، فتكفها المروءة والديانة في أقل الخلق ويكفها الصون والحرز عن أكثرهم فإذا أحرزها مالكها فقد اجتمع فيها الصون والحرز الذي هو غاية الإمكان للإنسان فإذا هتكا فحشت الجريمة فعظمت العقوبة، وإذا هتك أحد الصونين وهو الملك وجب الضمان والأدب.
الرابعة- فإذا اجتمع جماعة فاشتركوا في إخراج نصاب من حرزه فلا يخلو، إما أن يكون بعضهم ممن يقدر على إخراجه، أو لا إلا بتعاونهم فإذا كان الأول فاختلف فيه علمائنا: على قولين: أحدهما يقطع فيه والثاني لا يقطع فيه وبه قال أبو حنيفة والشافعي قالا: لا يقطع في السرقة المشتركون إلا بشرط أن يجب لكل واحد من حصته نصاب "لقوله صلى الله عليه وسلم:
لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً" وكل واحد من هؤلاء لم يسرق نصاباً فلا قطع عليهم ووجه القطع في إحدى الروايتين أن الاشتراك في الجناية لا يسقط عقوبتها كالإشتراك في القتل، قال ابن العربي: وما أقرب ما بينهما فإنا إنما قتلنا الجماعة بالواحد صيانة للدماء، لئلا يتعاون على سفكها الأعداء فكذلك في الأموال مثله لاسيما وقد ساعدنا الشافعي على أن الجماعة إذا اشتركوا في قطع يد رجل قطعوا ولا فرق بينهم وإن كان الثاني وهو مما لا يمكن إخراجه إلا بالتعاون فإنه يقطع جميعهم بالاتفاق من العلماء ذكره ابن العربي.
الخامسة -فإن اشتركوا في السرقة بأن نقب واحد الحرز وأخرج آخر، فإن كانا متعاونين قطعا ، وإن انفرد كل منهما بفعلة دون اتفاق بينهما، بأن يجيء آخر فيخرج فلا قطع على واحد منهما وإن تعاونا في النقب وانفرد أحدهما بالإخراج فالقطع عليه خاصة وقال الشافعي: لا قطع لأن هذا نقب ولم يسرق والآخر سرق من حرز مهتوك الحرمة وقال أبو حنيفة: إن شارك في النقب ودخل وأخذ قطع ولا يشترط في الاشتراك في النقب التحامل على آلة واحدة بل التعاقب في الضرب تحصل به الشركة .
السادسة - ولو دخل أحدهما فأخرج المتاع إلى باب الحرز فأدخل يده فأخذه فعليه القطع ويعاقب الأول، وقال أشهب: يقطعان وإن وضعه خارج الحرز فعليه القطع لا على الآخذ وإن وضعه في وسط النقب فأخذه الآخر والتقت أيديهما في النقب قطعا جميعاً .
السابعة - والقبر والمسجد حرز فيقطع النباش عند الأكثر، وقال أبو حنيفة: لا قطع عليه لأنه سرق من غير حرز مالاً معرضاً للتلف لا مالك له: لأن الميت لا يملك ومنهم من ينكر السرقة لأنه ليس فيه ساكن، وإنما تكون السرقة بحيث تتقى الأعين ويتحفظ من الناس، وعلى نفي السرقة عول أهل ما وراء النهر وقال الجمهور: هو سارق لأنه تدرع الليل لباساً واتقى الأعين، وقصد وقتاً لا ناظر فيه ولا مار عليه ، فكان بمنزلة ما لو سرق في وقت بروز الناس للعيد، وخلو البلد من جميعهم وأما وقولهم: إن القبر غير حرز فباطل لأن حرز كل شيء بحسب حالة الممكنة فيه وأما قولهم: إن الميت لا يملك فباطل أيضاً لأنه لا يجوز ترك الميت عارياً فصارت هذه الحاجة قاضية بأن القبر حرز ، وقد نبه الله تعالى عليه بقوله: " ألم نجعل الأرض كفاتا * أحياء وأمواتا" [ المراسلات: 25] ليسكن فيها حياً ويدفن فيها ميتاً وأما قولهم : إنه عرضة للتلف فكل ما يلبسه الحي أيضاً معرض للتلف والأخلاق بلباسه ، إلا أن أحد الأمرين أعجل من الثاني، وقد روى أبو داود "عن أبي ذر قال : دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف يعني القبر، قلت: الله ورسوله أعلم قال : عليك بالصبر " قال حماد: فبهذا قال من قال تقطع يد السارق لأنه دخل على الميت بيته وأما المسجد فمن سرق حصره قطع رواه عيسى عن ابن القاسم وإن لم يكن للمسجد باب ورآها محرزة، وإن سرق الأبواب قطع أيضاً وروى عن ابن القاسم أيضاً إن كان سرقته للحصر نهاراً لم يقطع، وإن كان تسور عليها ليلاً قطع ، وذكر عن سحنون إن كان حصره خيط بعضها إلى بعض قطع وإلا لم يقطع، قال أصبغ: يقطع سارق حصر المسجد وقناديله وبلاطه كما لو سرق بابه مستسراً أو خشبة من سقفه أو جوائزه وقال أشهب في كتاب محمد: لا قطع في شيء من حصر المسجد وقناديله وبلاطه .
الثامنة - واختلف العلماء هل يكون غرم مع القطع أم لا ؟ فقال أبو حنيفة: لا يجتمع الغرم مع القطع بحال، لأن الله سبحانه قال :" والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله " ولم يذكر غرما وقال الشافعي: يغرم قيمة السرقة موسراً كان أو معسراً وتكون دينا عليه إذا أيسر أداه وهو قول أحمد وإسحاق وأما علماؤنا مالك وأصحابه فقالوا: إن كان العين قائمة ردها وإن تلفت فإن كان موسراً غرم وإن كان معسراً لم يتبع به ديناً ولم يكن عليه شيء وروي مالك مثل ذلك عن الزهري، قال الشيخ أبو إسحاق: وقد قيل إنه يتبع بها ديناً مع القطع موسراً كان أو معسراً قال: وهو قول غير واحد من علمائنا من أهل المدينة، واستدل على صحته بأنهما حقان لمستحقين فلا يسقط أحدهما الآخر كالدية والكفارة ، ثم قال : وبهذا أقول واستدل القاضي أبو الحسن للمشهور بقوله صلى الله عليه وسلم :
" إذا أقيم على السارق الحد فلا ضمان عليه " وأسنده في كتابه وقال بعضهم : إن الإتباع بالغرم عقوبة ، والقطع عقوبة ولا يجتمع عقوبتان، وعليه عول القاضي عبد الوهاب والصحيح قول الشافعي ومن وافقه، قال الشافعي : يغرم السارق ما سرق موسراً كان أو معسراً قطع أو لم يقطع ، وكذلك إذا قطع الطريق قال : ولا يسقط الحد لله ما أتلف للعباد وأما ما احتج به علماؤنا من الحديث إذا كان معسراً فبه احتج الكوفيون وهو قول الطبري ولا حجة فيه رواه النسائي والدارقطني عن عبد الرحمن بن عوف. قال أبو عمر : هذا حديث ليس بالقول ولا تقوم به حجة وقال ابن العربي: وهذا حديث باطل وقال الطبري: القياس أن عليه عزم ما استهلك ولكن تركنا ذلك اتباعا للأثر في ذلك قال أبو عمر: ترك القياس لضعيف الأثر غير جائز، لأن الضعيف لا يوجب حكماً .
التاسعة - واختلف في قطع يد من سرق المال من الذي سرقه، فقال علمائنا: يقطع وقال الشافعي: لا يقطع لأنه سرق من غير مالك ومن غير حرز. وقال علمائنا: حرمة المالك عليه باقية لم تنقطع عنه ويد السارق كلايد، كالغاصب لو سرق منه المال المغصوب قطع فإن قيل: اجعلوا حرزه كلا حرز، قلنا: الحرز قائم والملك قائم ولم يبطل الملك فيه فيقولوا لنا أبطلوا الحرز .
العاشرة - واختلفوا إذا كرر السرقة بعد القطع في العين المسروقة، فقال الأكثر يقطع وقال أبو حنيفة: لا قطع عليه وعموم القرآن يوجب عليه القطع وهو يرد قوله وقال أبو حنيفة أيضا في السارق يملك الشيء المسروق بشراء أو هبة قبل القطع: فإنه لا يقطع والله تعالى يقول: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " فإذا وجب القطع حقاً لله تعالى لم يسقطه شيء .
الحادية عشرة - قرأ الجمهور والسارق بالرفع قال سيبويه: المعنى وفيما فرض عليكم السارق والسارقة وقيل : الرفع فيهما على الابتداء والخبر "فاقطعوا أيديهما" وليس القصد إلى معين إذ لو قصد معيناً لوجب النصب تقول : زيداً اضربه بل هول كقولك : من سرق فاقطع يده قال الزجاج: وهذا القول هو المختار وقرئ السارق بالنصب فهما على تقدير اقطعوا السارق والسارقة وهو اختيار سيبويه لأن الفعل بالأمر أولى قال سيبويه رحمه الله تعالى : الوجه في كلام العرب النصب كما تقول: زيداً أضربه ولكن العامة أبت إلا الرفع يعني عامة الفراء وجلهم فأنزل سيبويه النوع السارق منزلة الشخص المعين ، وقرأ ابن مسعود والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم وهو يقوي قراء الجماعة والسرق والسرقة بكسر الراء فيهما هو اسم الشيء المسروق والمصدر من سرق يسرق بفتح الراء قاله الجوهري وأصل هذا اللفظ إنما هو أخذ الشيء في خفيه من الأعين، ومنه استرق السمع وسارقه النظر قال ابن عرفة: السارق عند العرب هو من جاء مستتراً إلى حرز فأخذ منه ما ليس له ، فإن أخذ من ظاهر فهو مختلس ومستلب ومنتهب ومحترس فإن تمنع بما في يده فهو غاضب .
قلت: وفي الخبر "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
وأسوأ السرقة الذي يسرق صلاته قالوا: وكيف يسرق صلاته ؟ قال : لا يتم ركوعها ولا سجودها "خرجه الموطأ وغيره فسماه سارقاً وإن كان ليس سارقاً من حيث هو موضع الاشتقاق فإنه ليس فيه مسارقة الأعين غالباً.
الثانية عشرة -قوله تعالى :" فاقطعوا " القطع معناه الإبانة والأزالة، ولا يجب إلا بجمع أوصاف تعتبر في السارق وفي الشيء المسروق، وفي الموضع المسروق منه وفي صفته، فأما ما يعتبر في السارق فخمسة أوصاف، وهي البلوغ والعقل وأن يكون غير مالك للمسروق منه وألا يكون له عليه ولاية فلا يقطع العبد إن سرق من مال سيده وكذلك السيد إن أخذ مال عبده لا قطع بحال، لأن العبد وماله لسيده ولم يقطع أحد بأخذ مال عبده لأنه آخذ لماله، وسقط قطع العبد بإجماع الصحابة وبقول الخليفة غلامكم سرق متاعكم وذكر الدارقطني عن ابن عباس قال "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس على العبد الآبق إذا سرق قطع ولا على الذمي قال": لا لم يرفعه غير فهد بن سليمان والصواب أنه موقوف وذكر ابن ماجة "عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إذا سرق العبد فبيعوه ولو بنش " أخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال ابن ماجة: وحدثن جبارة بن المغلس حدثنا حجاج بن تميم "عن ميمون بن معران عن ابن عباس .
أن عبد اً من رقيق الخمس سرق من الخمس، فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقطع وقال : مال الله سرق بعضه بعضاً " وجبارة بن المغلس متروك وقاله أبو زرعة الرازي ولا قطع على صبي ولا مجنون ويجب على الذمية والمعاهد والحربي إذا دخل بأمان وأما ما يعتبر في الشيء المسروق فأربعة أوصاف، وهي النصاب وقد مضى القول فيه وأن يكون ما يتمول ويتملك ويحل بيعه، وإن كان مما لا يتمول ولا يحل بيعه كالخمر والخنزير فلا يقطع فيه باتفاق حاشاً الحر الصغير عند مالك وابن القاسم وقيل: لا قطع عليه وبه قال الشافعي وأبو حنيفة، لأنه ليس بمال وقال علماؤنا، وهو من أعظم المال، ولم يقع السارق في المال لعينه وإنما قطع لتعلق النفوس به وتعلقها بالحر أكثر من تعلقها بالعبد وإن كان مما يجوز تملكه ولا يجوز بيعه كالكلب المأذون في اتخاذه ولحوم الضحايا ففي ذلك اختلاف بين ابن القاسم وأشهب قال ابن القاسم ولا يقطع سارق الكلب وقال أشهب: ذلك في المنهي عن اتخاذه فأما المأذون في اتخاذه فيقطع سارقه قال : ومن سرق لحم أضحية أو جلدها قطع إذا كان قيمة ذلك ثلاثة دراهم وقال ابن حبيب قال أصبغ : إن سرق الأضحية قبل الذبح قطع وأما إن سرقها بعد الذبح فلا يقطع وإن كان مما يجوز إتخاذ أصله وبيعه فصنع منه ما لا يجوز استعماله كالطنبور والملاهي من المزمار والعود وشبهه من آلات اللهو فينظر، فإن كان يبقى منها بعد فساد صورها وإذهاب المنفعة المقصودة بها ربع دينار فأكثر قطع، وكذلك الحكم في أواني الذهب والفضة التي لا يجوز استعمالها ويؤمر بكسرها فإنما يقوم ما فيها من ذهب أو فضة دون صنعه وكذلك الصليب من ذهب أو فضة، والزيت النجس إن كانت قيمته على نجاسته نصاباً قطع فيه والوصف الثالث: ألا يكون للسارق فيه ملك كمن سرق ما رهنه أو ما استأجره ولا شبهة ملك ،على اختلاف بين علماؤنا وغيره في مراعاة شبهة ملك كالذي يسرق من المغنم أو من بيت المال لأن له فيه نصيباً وروى عن علي رضي الله عنه أنه أتى برجل سرق مغفراً من الخمس فلم ير عليه قطعاً وقال له فيه نصيب، وعلى هذه مذهب الجماعة في بيت المال وقيل: يجب عليه القطع تعلقاً بعموم لفظ آية السرقة ، وأن يكون مما تصح سرقته كالعبد الصغير والأعجمي الكبير، لأن ما لا تصح سرقته كالعبد الفصيح فإنه لا يقطع فيه وأما ما يعتبر في الموضع المسروق منه فوصف واحد وهو الحرز لمثل ذلك الشي المسروق، وجملة القول فيه أن كل شي له مكان معروف فمكانه حرزه، وكل شيء معه حافظ فحافظه حرزه، فالدور والمنازل والحوانيت حرز لا فيها غاب عنها أهلها أو حضروا، وكذلك بيت المال حرز لجماعة المسلمين والسارق لا يستحق فيه شيئاً وإن كان قبل السرقة ممن يجوز أن يعطيه الإمام، وإنما يتعين حق كل مسلم بالعطية ألا ترى أن الإمام قد يجوز أن يصرف جميع المال إلى وجه من وجوه المصالح ولا يفرقه في الناس أو يفرقه في بلد دون بلد آخر ويمنع منه قوماً دون قوم، ففي التقدير أن هذا السارق ممن لا حق له فيه، وكذلك المغانم لا تخلو: أن تعين بالقسمة فهو ما ذكرناه في بيت المال، أو تتعين بنفس التناول لم شهد الوقعة فيجب أن يراعى قدر ما سرق، فإن كان فوق حقه قطع وإلا لم يقطع .
الرابعة عشرة- وظهور الدواب حرز لما حملت، وأفنية الحوانيت حرز لما وضع فيها في موقف البيع وإن لم يكن هناك حانوت، كان مه أهله أم لا ، سرقت بليل أو نهار وكذلك موقف في الشاة في السوق مربوطة أو غير مربوطة والدواب على مرابطها محرزة كان معها أهلها أم لا ، فإن كانت الدابة بباب المسجد أو في السوق لم تكن محرزة إلا أن يكون معها حافظ ومن ربطها بفنائه أو اتخذ موضعاً مربطاً لدوابه فإنه حرز لها والسفينة حرز لما فيها وسواء كانت سائبة أو مربوطة، فإن سرقت الفينة نفسها فهي كالدابة إن كانت سائبة فليست بمحرزة وإن كان صاحبها ربطها في موضع وأرساها فيه فربطها حرز وهكذا إن كان معها أحد حيثما كانت فهي محرزة كالدابة بباب المسجد معها حافظ إلا أن ينزلوا بالسفينة منزلاً فيربطوها فهو حرز لها كان صاحبها معها أم لا .
الخامسة عشرة- ولا خلاف أن الساكنين في دار واحدة كالفنادق التي يسكن كل رجل بيته على حده، يقطع من سرق منهم من بيت صاحبه إذا أخذ وقد خرج بسرقته إلى قاعة الدار وإن لم يدخل بها بيته ولا خرج بها من الدار، ولا خلاف في أنه لا يقطع من سرق منهم من قاعة الدار شيئاً وإن أدخله بيته أو أخرجه من الدار، لأن قاعتها مباحة للجميع للبيع والشراء إلا أن تكون دابة في مربطها أو ما يشبهها من المتاع
السادسة عشرة- ولا يقطع الأبوان بسرقة مال ابنهما "لقوله عليه السلام :
أنت ومالك لأبيك" وقطع في سرقة مالهما لأنه لا شبهة له فيه وقيل : لا يقطع وهو قول ابن وهب وأشهب لأن الابن ينبسط في مال أبيه في العادة ألا ترى أن العبد لا يقطع في مال سيده فلأن لا يقطع ابنه في ماله أولى، واختلوا في الجد فقال مالك وابن القاسم: لا يقطع وقال أشهب :يقطع وقول مالك أصلح لأنه أب قال مالك: أحب أن ألا يقطع الأجداد من قبل الأب والأم وإن لم تجب لهم نفقة قال ابن القاسم وأشهب: ويقطع من سواهما من القرابات قال ابن القاسم: ولا يقطع من سرق من جوع أصابه وقال أبو حنيفة: لا قطع على أحد من ذوب المحارم مثل العمة والخالة والأخت وغيرهم، وهو قول الثوري وقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق يقطع من سرق من هؤلاء. وقال أبو ثور: يقطع كل سارق ما تقطع فيه اليد إلا أن يجمعوا على شيء فيسلم للإجماع والله أعلم
السابعة عشرة- واختلفوا في سارق المصحف، فقال الشافعي وأبو يوسف وأبو ثور: يقطع إما كانت قيمته ما تقطع فيه اليد، وبه قال ابن القاسم. وقال النعمان: لا يقطع من سرق مصحفاً قال ابن المنذر: يقطع سارق المصحف واختلفوا في الطرار يطر النفقة من الكم فقالت طائفة: يقطع من طر من داخل الكم أو خارج وهو قول مالك والأوزاعي وأبي ثور ويعقوب وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن وإسحاق: إن كانت الدراهم مصرورة في ظاهر كمه فطرها فسرقها لم يقطع قال ابن المنذر: يقطع على أي جهة طر .
الثامنة عشرة- واختلفوا في قطع اليد في السفر، وإقامة الحدود في الأرض الحرب فقال مالك والليث بن سعد: تقام الحدود في أرض الحرب ولا فرق بين دار الحرب والإسلام. وقال الأوزاعي: يقيم من غزا على جيش وإن لم يكن أمير مصر من الأمصار الحدود في عسكره غير القطع وقال أبو حنيفة: إذا غزا الجند أرض الحرب وعليهم أمير فإنه لا يقيم الحدود في عسكره إلا أن يكون إمام مصر أو الشام أو العراق أو ما أشبهه فيقيم الحدود في عسكره استدل الأوزاعي ومن قال بقوله بحديث "جنادة بن أبي أمية قال :
كنا مع بسر بن أرطأة في البحر، فأتي بسارق يقال له مصدر قد سرق بخيتة فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تقطع الأيدي في الغزو " ولولا ذلك لقطعته بسر هذا يقال ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان له أخبار سوء في الجانب علي وأصحابه وهو الذي ذبح طفلين لعبيد الله بن العباس ففقدت أمهما عقلها فهامت على وجهها فدعا عليه علي رضي الله عنه أن يطيل الله عمرو ويذهب عقله ، فكان كذلك قال يحيى بن معين كان بسر بن أرطاة رجل سوء استدل من قال بالقطع بعموم القرآن وهو الصحيح إن شاء الله تعالى . وأولى ما يحتج به لمن منع القطع في الأرض الحرب والحدود: مخافة أن يلحق ذلك بالشرك والله أعلم .
التاسعة عشرة- فإذا قطعت اليد أو الرجل فإلى أين تقطع ؟فقال الكافة : تقطع من الرسغ والرجل من المفصل ويحسم السارق إذا قطع وقال بعضهم : يقطع إلى المرفق وقيل: إلى المنكب لأن اسم اليد يتناول ذلك وقال عليه رضي الله عنه : تقطع الرجل من شطر القدم ويترك له العقب، وبه قال أحمد وأبو ثور، قال ابن المنذر: وقد "روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقطع يد رجل فقال :
احسموها " وفي إسناده مقال واستحب ذلك جماعة منهم الشافعي وأبو ثور وغيرهما وهذا أحسن وهو أقرب إلى البرء وأبعد من التلف .
الموفية عشرين- لا خلاف أن اليمنى هي التي تقطع أولا، ثم اختلفوا إن سرق ثانية فقال مالك وأهل المدينة والشافعي وأبو ثور، وغيرهم: تقطع رجله اليسرى ثم في الثالثة يده اليسرى ثم في الرابعة رجله اليمنى ثم إن سرق خامسة يعزر ويحبس ، وقال أبو مصعب من علماءنا : يقتل بعد الرابعة، واحتج بحديث خرجه النسائي "عن الحارث بن حاطب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلص فقال :
اقتلوه فقالوا: يا رسول الله إنما سوق قال: اقتلوه قالوا: يا رسول إنما سرق قال : اقطعوا يده قال : ثم سرق فقطعت رجله، ثم سرق على عهد أبي بكر رضي الله عنه حتى قطعت قوائمه كلها ثم سرق أيضاً الخامسة فقال أبو بكر رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بهذا حين قال : اقتلوه ثم دفعه إلى فتية من قريش ليقتلوه " منهم عبد الله ابن الزبير وكان يحب الإمامة فقال: أمروني عليكم فأمروه عليهم فكان إذا ضرب ضربوه حتى قتلوه، وبحديث جبار "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بسارق في الخامسة فقال :
اقتلوه" قال جابر: فانطلقنا به فقتلناه ثم اجتررناه فرميناه في بئر ورمينا عليه الحجارة رواه أبو داود وخرجه النسائي وقال : هذا حديث منكر وأحد رواته ليس القوي ولا أعلم في هذا الباب حديثاً صحيحاً قال ابن المنذر: ثبت عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما قطعا اليد بعد اليد والرجل بعد الرجل: وقيل: تقطع في الثانية رجله اليسرى ثم لا قطع في غيرها ثم إذا عاد عزر وحبس، وروي عن علي بن طالب وبه قال الزهري وحماد بن أبي سليمان وأحمد بن حنبل، قال الزهري: لم يبلغنا في السنة إلا قطع اليد والرجل وقال عطاء: تقطع يده اليمنى خاصة ولا يعود عليه القطع : ذكره ابن العربي وقال أما قول عطاء فإن الصحابة قالوا قبله خلافة.
الحادية والعشرون -واختلفوا في الحاكم يأمر بقطع يد السارق اليمنى فتقطع يساره فقال قتادة: قد أقيم عليه الحد لا يزاد عليه وبه قال مالك : إذا أخطأ القاطع القطع فقد شماله ، وبه قال أصحاب الرأي استحساناً. وقال أبو ثور: على الحزاز الدية لأنه أخطأ وتقطع يمينه إلا أن يمنع بإجماع قال ابن المنذر: ليس يخلوا قطع يسار الساق من أحد معنيين إما أن يكون القطع عمد ذلك فعليه القود، أو يكون أخطأ فديته على عاقلة القاطع وقطع يمين السارق يجب ولا يجوز إزالة ما أوجب الله سبحانه بتعدي معتد أو خطأ مخطئ وقال الثوري في الذي يقتص منه في يمينه فيقدم شماله فتطع قال: تقطع يمينه أيضاً قال ابن المنذر: وهذا صحيح وقالت طائفة: تقطع يمينه إذا برئ وذلك أنه هو أتلف يساره ولا شيء على القاطع في قول أصحاب الرأي وقياس قول الشافعي، وتقطع يمينه إذا برئت وقال قتادة والشعبي: لا شيء على القطع وحسبه ما قطع منه.
الثانية والعشرون- وتعلق يد السارق في عنقه قال عبد الله بن محيريز سأتل فضالة عن تعليق يد السارق في عنقه أمن السنة هو ؟ فقال :
"جيء رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعت يده ثم أمر بها فعلت في عنقه " أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وأبو داودو النسائي.
الثالثة والعشرون- إذا وجب حد السرقة فقتل السارق رجلاً فقال مالك: يقتل ويدخل القطع فيه وقال الشافعي: يقطع ويقتل لأنهما حقان لمستحقين فوجب أن يوفى لكل واحد منهما حقه، وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى، وهو اختيار ابن العربي .
الرابعة والعشرون - قوله تعالى :" أيديهما " لما قال أيديهما ولم يقل يديهما تكلم علماء اللسان في ذك قال ابن العربي: وتابعهم الفقهاء على ما ذكروه حسن ظن لهم - فقال الخليل بن أحمد والفراء: كل شيء يوجد من خلق الإنسان إذا أضيف إلى اثنين جمع تقول: هشمت رؤوسهما وأشبعت بطونهما و" إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما " [ التحريم : 4] ولهذا قال فاقطعوا أيديهما ولم يقل يديهما والمراد فاقطعوا يميناً من هذا ويميناً من هذا ويجوز في اللغة فاقطعوا يديهما وهو الأصل وقد قال الشاعر فجمع بين اللغتين :
ومهمهين قذفين مرتين ظهراهما مثل ظهور الترسين
وقيل: فعل هذا لأنه لا يشكل وقال سيبويه: إذا كان مفرداً قد يمنع إذا أرادت به التثنية وحكى عن العرب: وضعا رحالهما ويريد به رحلي راحلتيهما قال ابن العربي: وهذا بناء على أن اليمين وحدها هي التي تقطع وليس كذلك بل تقطع الأيدي والأرجل فيعود قوله أيديهما إلى أربعة وهي جمع في الاثنين وهما تثنية فيأتي الكلام على فصاحته، ولو قال : فاقطعوا أيديهم لكان وجهاً لأن السارق والسارقة لم يرد بهما شخصين خاصة وإنما هما اسما جنس يعمان ما لا يحصى.
الخامسة والعشرون- قوله تعالى :" جزاء بما كسبا " مفعول به من أجله وإن شئت كان مصدراً وكذا "نكالا من الله " يقال: نكلت به إذا فعلت به ما يوجب أن ينكل به عن ذلك فعل " والله عزيز" لا يغالب " حكيم" فيما يفعله وقد تقدم .

يقول تعالى حاكماً وآمراً بقطع يد السارق والسارقة, وروى الثوري عن جابر بن يزيد الجعفي, عن عامر بن شراحيل الشعبي أن ابن مسعود كان يقرؤها " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " وهذه قراءة شاذة, وإن كان الحكم عند جميع العلماء موافقاً لها لا بها, بل هو مستفاد من دليل آخر, وقد كان القطع معمولاً به في الجاهلية, فقرر في الإسلام, وزيدت شروط أخر كما سنذكره إن شاء الله تعالى, كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه وزيادات هي من تمام المصالح ويقال: إن أول من قطع الأيدي في الجاهلية قريش, قطعوا رجلاً يقال له: دويك مولى لبني مليح بن عمرو من خزاعة, كان قد سرق كنز الكعبة, ويقال: سرقه قوم فوضعوه عنده, وقد ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئاً قطعت يده به, سواء كان قليلاً أو كثيراً لعموم هذه الآية "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" فلم يعتبروا نصاباً ولا حرزاً, بل أخذوا بمجرد السرقة .
وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبد المؤمن عن نجدة الحنفي, قال: سألت ابن عباس عن قوله "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" أخاص أم عام ؟ فقال: بل عام, وهذا يحتمل أن يكون موافقة من ابن عباس لما ذهب إليه هؤلاء, ويحتمل غير ذلك, فالله أعلم. وتمسكوا بما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده, ويسرق الحبل فتقطع يده" وأما الجمهور, فاعتبروا النصاب في السرقة وإن كان قد وقع بينهم الخلاف في قدره, فذهب كل من الأئمة الأربعة إلى قول على حدة, فعند الإمام مالك بن أنس رحمه الله النصاب ثلاثة دراهم مضروبة خالصة, فمتى سرقها أو ما يبلغ ثمنها فما فوقه, وجب القطع, واحتج في ذلك بما رواه عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم, أخرجاه في الصحيحين, قال مالك رحمه الله: وقطع عثمان رضي الله عنه في أترجة قومت بثلاثة دراهم, وهو أحب ما سمعت في ذلك, وهذا الأثر عن عثمان رضي الله عنه قد رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه, عن عمرة بنت عبد الرحمن أن سارقاً سرق في زمن عثمان أترجة, فأمر بها عثمان أن تقوم فقومت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهماً, فقطع عثمان يده. قال أصحاب مالك: ومثل هذا الصنيع يشتهر, ولم ينكر, فمن مثله يحكى الإجماع السكوتي, وفيه دلالة على القطع في الثمار خلافاً للحنفية, وعلى اعتبار ثلاثة دراهم خلافاً لهم في أنه لا بد من عشرة دراهم, وللشافعية في اعتبار ربع دينار, والله أعلم .
وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن الاعتبار في قطع يد السارق بربع دينار أو ما يساويه من الأثمان أو العروض فصاعداً, والحجة في ذلك ما أخرجه الشيخان البخاري ومسلم من طريق الزهري عن عمرة, عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً" ولمسلم من طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم, عن عمرة, عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً" قال أصحابنا: فهذا الحديث فاصل في المسألة, ونص في اعتبار ربع الدينار لا ما ساواه. قالوا: وحديث ثمن المجن, وأنه كان ثلاثة دراهم لا ينافي هذا لأنه إذ ذاك كان الدينار باثني عشر درهماً, فهي ثمن ربع دينار, فأمكن الجمع بهذا الطريق, ويروى هذا المذهب عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم, وبه يقول عمر بن عبد العزيز والليث بن سعد والأوزاعي والشافعي وأصحابه, وإسحاق بن راهويه في رواية عنه, وأبو ثور وداود بن علي الظاهري, رحمهم الله .
وذهب الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه في رواية عنه, إلى أن كل واحد من ربع الدينار والثلاثة دراهم مرد شرعي, فمن سرق واحداً منهما أو ما يساويه, قطع عملاً بحديث ابن عمر وبحديث عائشة رضي الله عنها, ووقع في لفظ عند الإمام أحمد عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "اقطعوا في ربع دينار, ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك" وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم, والدينار اثني عشر درهماً. وفي لفظ للنسائي "لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن". قيل لعائشة: ما ثمن المجن ؟ قالت: ربع دينار, فهذه كلها نصوص دالة على عدم اشتراط عشرة دراهم, والله أعلم .
وأما الإمام أبو حنيفة وأصحابه أبو يوسف ومحمد وزفر, وكذا سفيان الثوري, رحمهم الله, فإنهم ذهبوا إلى أن النصاب عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة, واحتجوا بأن ثمن المجن الذي قطع فيه السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ثمنه عشرة دراهم . وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا ابن نمير وعبد الأعلى, حدثنا محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى, عن عطاء, عن ابن عباس قال: كان ثمن المجن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم, ثم قال: حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق, عن عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تقطع يد السارق في دون ثمن المجن" وكان ثمن المجن عشرة دراهم, قالوا: فهذا ابن عباس وعبد الله بن عمرو قد خالفا ابن عمر في ثمن المجن, فالاحتياط الأخذ بالأكثر, لأن الحدود تدرأ بالشبهات.
وذهب بعض السلف إلى أنه تقطع يد السارق في عشرة دراهم أو دينار أو ما يبلغ قيمته واحداً منهما, يحكى هذا عن علي وابن مسعود وإبراهيم النخعي وأبي جعفر الباقر رحمهم الله تعالى. وقال بعض السلف: لا تقطع الخمس إلا في خمس, أي في خمسة دنانير أو خمسين درهماً, وينقل هذا عن سعيد بن جبير رحمه الله. وقد أجاب الجمهور عما تمسك به الظاهرية من حديث أبي هريرة "يسرق البيضة فتقطع يده, ويسرق الحبل فتقطع يده" بأجوبة [أحدها] أنه منسوخ بحديث عائشة, وفي هذا نظر, لأنه لا بد من بيان التاريخ. [والثاني] أنه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن, قاله الأعمش فيما حكاه البخاري وغيره عنه. [والثالث] أن هذه وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير الذي تقطع فيه يده, ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الإخبار عما كان الأمر عليه في الجاهلية حيث كانوا يقطعون في القليل والكثير, فلعن السارق الذي يبذل يده الثمينة في الأشياء المهينة, وقد ذكروا أن أبا العلاء المعري لما قدم بغداد, اشتهر عنه أنه أورد إشكالاً على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار, ونظم في ذلك شعراً دل على جهله وقلة عقله, فقال:
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض مالنا إلا السكوت له وأن نعوذ بمولانا من النار
ولما قال ذلك واشتهر عنه تطلبه الفقهاء فهرب منهم, وقد أجابه الناس في ذلك, فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله أن قال: لما كانت أمينة, كانت ثمينة, ولما خانت هانت. ومنهم من قال: هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة, فإن في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار لئلا يجنى عليها. وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار, لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال, فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب ولهذا قال: "جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم" أي مجازاة على صنيعهما السيء في أخذهما أموال الناس بأيديهم, فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك نكالا من الله, أي تنكيلاً من الله بهما على ارتكاب ذلك, "والله عزيز" أي في انتقامه, "حكيم" أي في أمره ونهيه وشرعه وقدره .
ثم قال تعالى, "فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم" أي من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله فإن الله يتوب عليه فما بينه وبينه, فأما أموال الناس فلا بد من ردها إليهم أو بدلها عند الجمهور, وقال أبو حنيفة: متى قطع وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها, وقد روى الحافظ أبو الحسن الدارقطني من حديث... عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسارق قد سرق شملة, فقال: ما إخاله سرق, فقال السارق: بلى يا رسول الله. قال "اذهبوا به فاقطعوه, ثم احسموه, ثم ائتوني به" فقطع فأتي به فقال "تب إلى الله" فقال: تبت إلى الله, فقال "تاب الله عليك". وقد روي من وجه آخر مرسلاً, ورجح إرساله علي بن المديني وابن خزيمة رحمهما الله .
وروى ابن ماجه من حديث ابن لهيعة, عن يزيد بن أبي حبيب, عن عبد الرحمن بن ثعلبة الأنصاري, عن أبيه أن عمر بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس, جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, إني سرقت جملاً لبني فلان, فطهرني فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا افتقدنا جملاً لنا, فأمر به فقطعت يده وهو يقول: الحمد لله الذي طهرني منك, أردت أن تدخلي جسدي النار. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا موسى بن داود, حدثنا ابن لهيعة عن يحيى بن عبد الله, عن أبي عبد الرحمن الحبلي, عن عبد الله بن عمرو قال: سرقت امرأة حلياً فجاء الذين سرقتهم, فقالوا: يا رسول الله, سرقتنا هذه المرأة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقطعوا يدها اليمنى" فقالت المرأة: هل من توبة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك", قال: فأنزل الله عز وجل "فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم".
وقد رواه الإمام أحمد بأبسط من هذا فقال: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة, حدثني يحيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي, عن عبد الله بن عمرو أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجاء بها إلى الذين سرقتهم, فقالوا: يا رسول الله, إن هذه المرأة سرقتنا. قال قومها: فنحن نفديها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقطعوا يدها", فقالوا: نحن نفديها بخمسمائة دينار, فقال "اقطعوا يدها" فقطعت يدها اليمنى, فقالت المرأة: هل لي من توبة يا رسول الله ؟ قال "نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك", فأنزل الله في سورة المائدة "فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم" وهذه المرأة هي المخزومية التي سرقت, وحديثها ثابت في الصحيحين من رواية الزهري عن عروة, عن عائشة أن قريشاً أهمهم شأن المرأة التي سرقت, في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح, فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا: ومن يجترىء عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكلمه فيها أسامة بن زيد, فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "أتشفع في حد من حدود الله عز وجل ؟" فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله, فلما كان العشي, قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله, ثم قال "أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه, وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد, وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت, لقطعت يدها", ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها. قالت عائشة: فحسنت توبتها بعد, وتزوجت وكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا لفظ مسلم. وفي لفظ له عن عائشة قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها .
وعن ابن عمر قال: كانت امرأة مخزومية تستعير متاعاً على ألسنة جاراتها وتجحده, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها, رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وهذا لفظه, وفي لفظ له أن امرأة كانت تستعير الحلي للناس ثم تمسكه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لتتب هذه المرأة إلى الله وإلى رسوله, وترد ما تأخذ على القوم", ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قم يا بلال فخذ بيدها فاقطعها". وقد ورد في أحكام السرقة أحاديث كثيرة مذكورة في كتاب الأحكام, ولله الحمد والمنة, ثم قال تعالى: "ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض" أي هو المالك لجميع ذلك, الحاكم فيه, الذي لا معقب لحكمه, وهو الفعال لما يريد "يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير"
لما ذكر سبحانه حكم من يأخذ المال جهاراً وهو المحارب، عقبه بذكر من يأخذ المال خفية وهو السارق، وذكر السارقة مع السارق لزيادة البيان لأن غالب القرآن الاقتصار على الرجال في تشريع الأحكام. وقد اختلف أئمة النحو في خبر السارق والسارقة هل هو مقدر أم هو فاقطعوا؟ فذهب إلى الأول سيبويه، وقال تقديره: فيما فرض عليكم أو فيما يتلى عليكم السارق والسارقة: أي حكمهما. وذهب المبرد والزجاج إلى الثاني، ودخول الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، إذ المعنى: الذي سرق والتي سرقت، وقرئ 38- "والسارق والسارقة" بالنصب على تقدير اقطعوا، ورجح هذه القراءة سيبويه، قال: الوجه في كلام العرب النصب كما تقول زيداً اضربه، ولكن العامة أبت إلا الرفع، يعني عامة القراء، والسرقة بكسر الراء اسم الشيء المسروق والمصدر من سرق يسرق سرقاً قاله الجوهري: وهو أخذ الشيء في خفية من الأعين، ومنه استرق السمع، وسارقه النظر. قوله: "فاقطعوا" القطع معناه الإبانة والإزالة، وجمع الأيدي لكراهة الجمع بين تثنيتين، وقد بينت السنة المطهرة أن موضع القطع الرسغ. وقال قوم: يقطع من المرفق. وقال الخوارج: من المنكب. والسرقة لا بد أن تكون ربع دينار فصاعداً، ولا بد أن تكون من حرز كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة. وقد ذهب إلى اعتبار الربع الدينار الجمهور. وذهب قوم إلى التقدير بعشرة دراهم. وذهب الجمهور إلى اعتبار الحرز. وقال الحسن البصري إذا جمع الثياب في البيت قطع. وقد أطال الكلام في بحث السرقة أئمة الفقه وشراح الحديث بما لا يأتي التطويل به هاهنا بكثير فائدة. قوله: "جزاء بما كسبا" مفعول له: أي فاقطعوا للجزاء أو مصدر مؤكد لفعل محذوف: أي فجاوزهما جزاء، والباء سببية، وما مصدرية: أي بسبب كسبهما، أو موصولة: أي جزاء بالذي كسباه من السرقة. وقوله: "نكالاً" بدل من جزاء، وقيل هو علة للجزاء: والجزاء علة للقطع، يقال نكلت به: إذا فعلت به ما يجب أن ينكل به عن ذلك الفعل.
38-" والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما "،أراد به أيمانهما ، وكذلك هو في مصحف عبد بن مسعود رضي الله عنه .
وحكمه أن من سرق [ نصاباً ]من المال من حرز لا شبهة له فيه تقطع يده اليمنى من الرسغ، ولا يجب القطع في سرقة ما دون النصاب عند عامة أهل العلم، حكي عن ابن الزبير أنه كان يقطع في الشيء القليل ، وعامة العلماء على خلافه.
واختلفوا في القدر الذي يقطع به: فذهب أكثرهم إلى أنه لا يقطع في أقل من ربع دينار ، فإن سرق ربع دينار أو متاعاً قمته ربع دينار يقطع، وهو قول أبي بكر و عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، وبه قال عمر بن عبد العزيز و الأوزاعي و الشافعي رحمهم الله ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي أنا عبد العزيز أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا ابن عيينة عن ابن شهاب عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " القطع في ربع دينار فصاعداً " .
أخبرنا أبو الحسن الشيرزي أخبرنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقاً في مجن [ ثمنه ] ثلاثة دراهم.
وروي عن عثمان أنه قطع سارقاً في أترجة قومت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهماً بدينار. وهذا قول مالك رحمه الله تعالى أنه يقطع في ثلاثة دراهم.
وذهب قوم إلى أنه لا تقطع في أقل من دينار أو عشرة دراهم، يروى ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه ، وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي.
وقال قوم لا يقطع إلا في خمسة دراهم يروى ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه وبه قال ابن أبي ليلى ، أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عمر بن حفص بن غياث أخبرني أبي أنا الأعمش قال: سمعت أبا صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده "، وقال الأعمش : كانوا يرون أنه بيض الحديد و الحبل . يرون أن منها ما يساوي دراهم.
ويحتج بهذا الحديث من يرى القطع في الشيء القليل ، وهو عند الأكثرين محمول على ما قاله الأعشى ]، / لحديث عائشة رضي الله عنها " وإذا سرق شيئاً من غير حرز كثمر في حائط لا حارس له أو حيوان في برية لا حافظ له ، أو متاع في بيت منقطع عن البيوت لا قطع عليه ".
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن ".
وروي عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع ".
و إذا سرق مالاً له فيه شبهة كالعبد يسرق من مال سيده أو الولد يسرق من مال والده أو الوالد يسرق من مال ولده أو أحد الشريكين يسرق من المال المشترك شيئاً : لا قطع عليه.
إذا سرق السارق أول مرة تقطع يده اليمنى من الكوع ، ثم إذا سرق ثانياً تقطع رجله اليسرى من مفصل القدم.
واختلفوا فيما إذا سرق ثالثاً : أكثرهم إلى أنه تقطع يده اليسرى، ثم إذا سرق رابعاً تقطع رجله اليمنى ، ثم إذا سرق بعده يعزر ويحبس حتى تظهر توبته ، وهو المروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو قول قتادة ، وبه قال مالك و الشافعي لما روي عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " في السارق يسرق إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده ، ثم إن سرق فاقطعوا رجله ".
وذهب قوم إلى أنه إن سرق ثالثاً بعدما قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى لا يقطع ، بل يحبس، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه ، وقال : " إني لأستحي أن لا أدع له يداً يستنجي بها ولا رجلاً يمشي بها " وهو قول الشعبي و النخعي ، وبه قال الأوزاعي و أحمد وأصحاب الرأي. قوله تعالى: " جزاءً بما كسبا " ، نصب على الحال والقطع ، ومثله: " نكالاً " ، أي عقوبة، " من الله والله عزيز حكيم ".
38" والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " جملتان عند سيبويه إذ التقدير فيما يتلى عليكم السارق والسارقة أي حكمهما، وجملة عند المبرد والفاء للسببية دخل الخبر لتضمنهما معنى الشرط إذ المعنى: والذي سرق والتي سرقت، وقرئ بالنصب وهو المختار في أمثاله لأن الإنشاء لا يقع خبراً إلا بإضمار وتأويل. والسرقة: أخذ مال الغير في خفية، وإنما توجب القطع إذا كانت من حرز والمأخوذ ربع دينار أو ما يساويه لقوله عليه الصلاة والسلام "القطع في ربع دينار فصاعداً" وللعلماء خلاف في ذلك لأحاديث وردت فيه وقد استقصيت الكلام فيه في شرح المصابيح، والمراد بالأيدي الإيمان ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله عنه أيمانهم، ولذلك ساغ وضع الجمع موضع المثنى كما في قوله تعالى: " فقد صغت قلوبكم " اكتفاء بتثنية المضاف إليه، واليد اسم لتمام العضو ولذلك ذهب الخوارج إلى أن المقطع هو المنكب، والجمهور على أنه الرسغ لأنه عليه الصلاة والسلام أتى بسارق فأمر بقطع يمينه منه. " جزاء بما كسبا نكالا من الله " منصوبان على المفعول له أو المصدر ودل على فعلهما فاقطعوا " والله عزيز حكيم ".
38. As for the thief, both male and female, cut off their hands. It is the reward of their own deeds, an exemplary punishment from Allah. Allah is Mighty, Wise.
38 - As to the thief. male or female, cut off his or her hands: a punishment by way of example, from God, for their crime: and God is exalted in power.