[المائدة : 36] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
36 - (إن الذين كفروا لو) ثبت (أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم)
قال أبو جعفر: يقول عز ذكره : إن الذين جحدوا ربوبية ربهم وعبدوا غيره ، من بني إسرائيل الذين عبدوا العجل ، ومن غيرهم الذين عبدوا الأوثان والأصنام ، وهلكوا على ذلك قبل التوبة، لو أن لهم ملك ما في الأرض كلها وضعفه معه ، ليفتدوا به من عقاب الله إياهم على تركهم أمره ، وعبادتهم غيره يوم القيامة، فافتدوا بذلك كله ، ما تقبل الله منهم ذلك فداءً وعوضاً من عذابهم وعقابهم ، بل هو معذبهم في حميم يوم القيامة عذابأ موجعا لهم.
وإنما هذا إعلام من الله جل ثناؤه لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنهم وغيرهم من سائر المشركين به ، سواء عنده فيما لهم من العذاب الأليم والعقاب العظيم . وذلك أنهم كانوا يقولون : "لن تمسنا النار إلا أياما معدودة" [آل عمران : 24]، اغتراراً بالله جل وعز وكذباً عليه . فكذبهم تعالى ذكره بهذه الآية وبالتي بعدها، وحسم طمعهم ، فقال لهم ولجميع الكفرة به وبرسوله : "إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم * يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم"، يقول لهم جل ثناؤه : فلا تطمعوا أيها الكفرة في قبول الفدية منكم ، ولا في خروجكم من النار بوسائل آبائكم عندي بعد دخولكموها، إن أنتم متم على كفركم الذي أنتم عليه ، ولكن توبوا إلى الله توبة نصوحاً.
" إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم " .
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بتقواه, وهي إذا قرنت بطاعته كان المراد بها الانكفاف عن المحارم وترك المنهيات, وقد قال بعدها "وابتغوا إليه الوسيلة" قال سفيان الثوري, عن طلحة عن عطاء, عن ابن عباس: أي القربة, وكذا قال مجاهد وأبو وائل والحسن وقتادة وعبد الله بن كثير والسدي وابن زيد وغير واحد. وقال قتادة: أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه, وقرأ ابن زيد "أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة" وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه. وأنشد عليه ابن جرير قول الشاعر:
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل
والوسيلة هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود, والوسيلة أيضاً علم على أعلى منزلة في الجنة وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وداره في الجنة, وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش, وقد ثبت في صحيح البخاري من طريق محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة, والصلاة القائمة, آت محمداً الوسيلة والفضيلة, وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته, إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة" .
[حديث آخر] ـ في صحيح مسلم من حديث كعب بن علقمة, عن عبد الرحمن بن جبير, عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول, ثم صلوا علي, فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشراً, ثم سلوا لي الوسيلة, فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله, وأرجو أن أكون أنا هو, فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة".
[حديث آخر] ـ قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا سفيان عن ليث, عن كعب, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال"إذا صليتم علي فسلوا لي الوسيلة". قيل: يا رسول الله, وما الوسيلة ؟ قال "أعلى درجة في الجنة, لا ينالها إلا رجل واحد, وأرجو أن أكون أنا هو". ورواه الترمذي عن بندار, عن أبي عاصم, عن سفيان الثوري, عن ليث بن أبي سليم, عن كعب قال: حدثني أبو هريرة, ثم قال: غريب, وكعب ليس بمعروف, لا نعرف أحداً روى عنه غير ليث بن أبي سليم.
[حديث آخر] ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه, قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الباقي بن قانع, حدثنا محمد بن نصر الترمذي, حدثنا عبد الحميد بن صالح, حدثنا ابن شهاب عن ليث, عن المعلى, عن محمد بن كعب, عن أبي هريرة رفعه, قال "صلوا علي صلاتكم وسلوا الله لي الوسيلة" فسألوه, أو أخبرهم أن الوسيلة درجة في الجنة ليس ينالها إلا رجل واحد, وأرجو أن أكون أنا .
[حديث آخر] ـ قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: أخبرنا أحمد بن علي الأبار, حدثنا الوليد بن عبد الملك الحراني, حدثنا موسى بن أعين عن ابن أبي ذئب, عن محمد بن عمرو بن عطاء, عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سلوا الله لي الوسيلة, فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيدا أو شفيعاً يوم القيامة", ثم قال الطبراني لم يروه عن ابن أبي ذئب إلا موسى بن أعين, كذا قال . وقد رواه ابن مردويه: حدثنا محمد بن علي بن دحيم, حدثنا أحمد بن حازم, حدثنا عبيد الله بن موسى, حدثنا موسى بن عبيدة عن محمد بن عمرو بن عطاء, فذكر بإسناده نحوه .
[حديث آخر] ـ روى ابن مردويه بإسناده عن عمارة بن غزية, عن موسى بن وردان أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة, فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة على خلقه".
[حديث آخر] ـ روى ابن مردويه أيضاً من طريقين عن عبد الحميد بن بحر, حدثنا شريك, عن أبي إسحاق, عن الحارث عن علي, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "في الجنة درجة تدعى الوسيلة, فإذا سألتم الله فسلوا لي الوسيلة" قالوا: يا رسول الله, من يسكن معك ؟ قال: "علي وفاطمة والحسن والحسين" هذا حديث غريب منكر من هذا الوجه, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا الحسن الدشتكي, حدثنا أبو زهير, حدثنا سعيد بن طريف عن علي بن الحسين الأزدي مولى سالم بن ثوبان, قال: سمعت علي بن أبي طالب ينادي على منبر الكوفة: يا أيها الناس إن في الجنة لؤلؤتين: إحداهما بيضاء, والأخرى صفراء , أما البيضاء فإنها إلى بطنان العرش, والمقام المحمود من اللؤلؤة البيضاء سبعون ألف غرفة, كل بيت منها ثلاثة أميال, وغرفها وأبوابها وأسرتها وسكانها من عرق واحد, واسمها الوسيلة, هي لمحمد صلى الله عليه وسلم وأهل بيته, والصفراء فيها مثل ذلك هي لإبراهيم عليه السلام وأهل بيته, وهذا أثر غريب أيضاً .
وقوله "وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون" لما أمرهم بترك المحارم وفعل الطاعات, أمرهم بقتال الأعداء من الكفار والمشركين الخارجين عن الطريق المستقيم, والتاركين للدين القويم, ورغبهم في ذلك بالذي أعده للمجاهدين في سبيله يوم القيامة من الفلاح, والسعادة العظيمة الخالدة المستمرة التي لا تبيد ولا تحول ولا تزول في الغرف العالية الرفيعة, الآمنة الحسنة مناظرها, الطيبة مساكنها, التي من سكنها ينعم لا يبأس, ويحيى لا يموت, لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه ,
ثم أخبر تعالى بما أعد لأعدائه الكفار من العذاب والنكال يوم القيامة فقال "إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم" أي لو أن أحدهم جاء يوم القيامة بملء الأرض ذهباً وبمثله ليفتدي بذلك من عذاب الله الذي قد أحاط به, وتيقن وصوله إليه ما تقبل ذلك منه, بل لا مندوحة عنه ولا محيص ولا مناص, ولهذا قال "ولهم عذاب أليم" أي موجع "يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم" كما قال تعالى: "كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها" الآية, فلا يزالون يريدون الخروج مما هم فيه من شدته وأليم مسه ولا سبيل لهم إلى ذلك, وكلما رفعهم اللهب فصاروا في أعلى جهنم ضربتهم الزبانية بالمقامع الحديد فيردوهم إلى أسفلها "ولهم عذاب مقيم" أي دائم مستمر لا خروج لهم منها, ولا محيد لهم عنها, وقد قال حماد بن سلمة, عن ثابت, عن أنس بن مالك, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يؤتى بالرجل من أهل النار فيقال له:يا ابن آدم, كيف وجدت مضجعك ؟ فيقول: شر مضجع, فيقال: هل تفتدي بقراب الأرض ذهباً ؟ قال: فيقول: نعم يارب, فيقول الله: كذبت, قد سألتك أقل من ذلك فلم تفعل, فيؤمر به إلى النار", رواه مسلم والنسائي من طريق حماد بن سلمة بنحوه, وكذا رواه البخاري ومسلم من طريق معاذ بن هشام الدستوائي عن أبيه عن قتادة عن أنس به, وكذا أخرجاه من طريق أبي عمران الجوني واسمه عبد الملك بن حبيب عن أنس بن مالك به, ورواه مطر الوراق عن أنس بن مالك, ورواه ابن مردويه من طريقه عنه .
ثم روى ابن مردويه من طريق المسعودي عن يزيد بن صهيب الفقير عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة" قال: فقلت لجابر بن عبد الله: يقول الله "يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها" قال: اتل أول الآية "إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به" الآية, ألا إنهم الذين كفروا. وقد روى الإمام أحمد ومسلم هذا الحديث: من وجه آخر عن يزيد الفقير, عن جابر, وهذا أبسط سياقاً, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن أبي شيبة الواسطي, حدثنا يزيد بن هارون, أخبرنا مبارك بن فضالة, حدثني يزيد الفقير قال: جلست إلى جابر بن عبد الله وهو يحدث, فحدث أن ناساً يخرجون من النار, قال: وأنا يومئذ أنكر ذلك, فغضبت وقلت: ما أعجب من الناس, ولكن أعجب منكم يا أصحاب محمد تزعمون أن الله يخرج ناساً من النار, والله يقول "يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها" الآية, فانتهرني أصحابه, وكان أحلمهم, فقال: دعوا الرجل إنما ذلك للكفار, فقرأ "إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة" حتى بلغ "ولهم عذاب مقيم" أما تقرأ القرآن ؟ قلت: بلى قد جمعته, قال, أليس الله يقول "ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً" فهو ذلك المقام, فإن الله تعالى يحتبس أقواماً بخطاياهم في النار ما شاء,لا يكلمهم فإذا أراد أن يخرجهم أخرجهم, قال: فلم أعد بعد ذلك إلى أن أكذب به.
ثم قال ابن مردويه: حدثنا دعلج بن أحمد, حدثنا عمرو بن حفص السدوسي, حدثنا عاصم بن علي, أخبرنا العباس بن الفضل, حدثنا سعيد بن المهلب, حدثني طلق بن حبيب قال: كنت من أشد الناس تكذيباً بالشفاعة حتى لقيت جابر بن عبد الله, فقرأت عليه كل آية أقدر عليها, يذكر الله فيها خلود أهل النار, فقال: يا طلق, أتراك أقرأ لكتاب الله وأعلم بسنة رسول الله مني ؟ إن الذين قرأت هم أهلها هم المشركون, ولكن هؤلاء قوم أصابوا ذنوباً فعذبوا, ثم أخرجوا منها, ثم أهوى بيديه إلى أذنيه فقال: صمتاً إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "يخرجون من النار بعدما دخلوا" ونحن نقرأ كما قرأت .
قوله: "إن الذين كفروا" كلام مبتدأ مسوق لزجر الكفار وترغيب المسلمين في امتثال أوامر الله سبحانه "لو أن لهم ما في الأرض" من أموالها ومنافعها، وقيل المراد لكل واحد منهم ليكون أشد تهويلاً، وإن كان الظاهر من ضمير الجمع خلاف ذلك، و "جميعاً" تأكيد. وقوله: "ومثله" عطف على ما في الأرض، و "معه" في محل نصب على الحال "ليفتدوا به" ليجعلوه فدية لأنفسهم، وأفرد الضمير إما لكونه راجعاً إلى المذكور أو لكونه بمنزلة اسم الإشارة: أي ليفتدوا بذلك، و "من عذاب يوم القيامة" متعلق بالفعل المذكور "ما تقبل منهم" ذلك، وهذا هو جواب لو.
36-" إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم " ، أخبر أن الكافر لو ملك الدنيا كلها ومثلها معها ثم فدى بذلك نفسه من العذاب لم يقبل منه ذلك الفداء، " ولهم عذاب أليم ".
36" إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض " من صنوف الأموال. " جميعا ومثله معه ليفتدوا به " ليجعلوه فدية لأنفسهم. " من عذاب يوم القيامة " واللام متعلقة بمحذوف تستدعيه لو، إذ التقدير لو ثبت أن لهم ما في الأرض، وتوحيد الضمير في به والمذكور شيئان إما لإجرائه مجرى اسم الإشارة في نحو قوله تعالى: " عوان بين ذلك ". أو لأن الواو ومثله بمعنى مع. " ما تقبل منهم " جواب، ولو بما في حيزه خبر إن والجملة تمثيل للزوم العذاب لهم وأنه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه. " ولهم عذاب أليم " تصريح بالمقصود منه، وكذلك قوله:
36. As for those who disbelieve, lo! if all that is in the were theirs, and as much again therewith, to ransom them from the doom on the day of Resurrection, it would not be accepted from them. Theirs will be a painful doom.
36 - As to those who reject faith, if they had everything on earth, and twice repeated, to give as ransom for the penalty of the day of judgment, it would never be accepted of them. their would be a grievous penalty.