[المائدة : 33] إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
33 - ونزل في العُرَنِيِّين لما قدموا المدينة وهم مرضى فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى الإبل ويشربوا من أبوالها وألبانها فلما صحُوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا الإبل (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) بمحاربة المسلمين (ويسعون في الأرض فسادا) بقطع الطرق (أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف) أي أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى (أو ينفوا من الأرض) أو لترتيب الأحوال فالقتل لمن قتل فقط والصلب لمن قتل وأخذ المال والقطع لمن أخذ المال ولم يقتل والنفي لمن أخاف فقط قاله ابن عباس وعليه الشافعي وأصح قوليه أن الصلب ثلاثا بعد القتل وقيل قبله قليلا ويلحق بالنفي ما أشبهه في التنكيل من الحبس وغيره (ذلك) الجزاء المذكور (لهم خزي) ذل (في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) هو عذاب النار
قوله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الآية أخرج ابن جرير عن يزيد ابن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الآية إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في العرنيين ارتدوا عن الإسلام وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل الحديث ثم أخرج عن جرير مثله وأخرج عبد الرزاق نحوه عن أبي هريرة
قال أبو جعفر: وهذا بيان من الله عز ذكره عن حكم الفساد في الأرض، الذي ذكره في قوله: "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض"، أعلم عباده : ما الذي يستحق المفسد في الأرض من العقوبة والنكال ، فقال تبارك وتعالى: لا جزاء له في الدنيا إلا القتل ، والصلب ، وقطع اليد والرجل من خلافي ، أو النفي من الأرض ، خزياً لهم . وأما في الآخرة إن لم يتب في الدنيا، فعذاب عظيم.
ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية.
فقال بعضهم : نزلت في قوم من أهل الكتاب كانوا أهل موادعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقضوا العهد، وأفسدوا في الأرض ، فعرف الله نبيه صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس قوله : "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا"، قال : كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق ، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض ، فخير الله رسوله : إن شاء أن يقتل ، وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن جويبر، عن الضحاك قال : كان قوم بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ميثاق ، فنقضوا العهد وقطعوا السبيل ، وأفسدوا في الأرض ، فخير الله جل وعز نبيه في فيهم ، فإن شاء قتل ، وإن شاء صلب ، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثني عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول ، فذكر نحوه.
وقال آخرون : نزلت في قوم من المشركين.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصري قالا، قال : "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" إلى "إن الله غفور رحيم"، نزلت هذه الآية في المشركين ، فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه ، لم يكن عليه سبيل . وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد. إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله ، ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه ، لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصاب.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن سعيد، عن أشعث ، عن الحسن : "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"، قال : نزلت في أهل الشرك.
وقال آخرون : بل نزلت في قوم من عرينة وعكل ، ارتدوا عن الإسلام وحاربوا الله ورسوله.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا روح بن عبادة قال ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس : أن رهطاً من عكل وعرينة، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ، إنا أهل ضرع ، ولم نكن أهل ريف ، وإنا استوخمنا المدينة . فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذود وراع ، وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها. فقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم.
فأتى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، وتركهم في الحرة حتى ماتوا، فذكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم : "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله".
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا روح قال ، حدثنا هشام بن أبي عبد الله ، عن قتادة، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثل هذه القصة.
حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال ، سمعت أبي يقول : أخبرنا أبو حمزة، عن عبد الكريم ، وسئل عن أبوال الإبل ، فقال : حدثني سعيد بن جبير عن المحاربين فقال : كان ناس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : نبايعك على الإسلام! فبايعوه ، وهم كذبة، وليس الإسلام يريدون. ثم قالوا : إنا نجتوي المدينة! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذه اللقاح تغدو عليكم وتروح ، فاشربوا من أبوالها وألبانها. قال : فبينا هم كذلك ، إذ جاء الصريخ ، فصرخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : قتلوا الراعي ، وساقوا النعم ! فأمر نبي الله فنودي في الناس : أن يا خيل الله اركبي! قال : فركبوا، لا ينتظر فارس فارساً. قال : فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثرهم ، فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنهم ، فرجع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسروا منهم ، فأتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" الآية. قال : فكان نفيهم : أن نفوهم حتى أدخلوهم مأمنهم وأرضهم ، ونفوهم من أرض المسلمين . وقتل نبي الله منهم ، وصلب ، وقطع ، وسمل الأعين . قال : فما مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولا بعد. قال : ونهى عن المثلة، وقال : لا تمثلوا بشيء . قال : فكان أنس بن مالك يقول ذلك ، غير أنه قال : أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم.
قال : وبعضهم يقول : هم ناس هن بني سليم ، ومنهم من عرينة، وناس من بجيلة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن خلف قال ، حدثنا الحسن بن حماد، عن عمرو بن هاشم ، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن إبراهيم ، عن جرير قال : قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة، حفاة مضرورين ، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما صحوا واشتدوا، قتلوا رعاء اللقاح ، ثم خرجوا باللقاح عامدين بها إلى أرض قومهم. قال جرير: فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم بعد ما أشرفوا على بلاد قومهم ، فقدمنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وسمل أعينهم ، وجعلوا يقولون : الماء! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : النار! حتى هلكوا . قال : وكره الله عز وجل سمل الأعين ، فانزل هذه الآية : "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" إلى آخر الآية.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني ابن لهيعة، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن، عن عروة بن الزبير، ح ، وحدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم ، وسعيد بن عبد الرحمن وابن سمعان ، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال : أغار ناس من عرينة على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستاقوها وقتلوا غلاماً له فيها، فبعث في آثارهم ، فأخذوا، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي، هلال ، عن أبي الزناد، عن عبد الله بن عبيد الله، عن عبد الله بن عمر -أو: عمرو، شك يونس - ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، ونزلت فيهم آية المحاربة.
حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، حدثنا الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أنس قال : قدم ثمانية نفر من عكل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلموا، ثم اجتووا المدينة، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها. ففعلوا، فقتلوا رعاتها، واستاقوا الإبل. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم قافة، فأتي بهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم ، وتركهم فلم يحسمهم حتى ماتوا.
حدثنا علي قال ، حدثنا الوليد قال ، حدثني سعيد، عن قتادة، عن أنس قال: كانوا أربعة نفر من عرينة، وثلاثةً من عكل. فلما أتي بهم ، قطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، ولم يحسمهم ، وتركهم يتلقمون الحجارة بالحرة، فأنزل الله جل وعز في ذلك: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"، الآية.
حدثني علي قال ، حدثنا الوليد، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين ، وهم من بجيلة . قال أنس: فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي ، واستاقوا الإبل، وأخافوا السبيل ، وأصابوا الفرج الحرام.
حدثني موسى بن هرون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا"، قال: أنزلت في سودان عرينة. قال : أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهم الماء الأصفر، فشكوا ذلك إليه ، فأمرهم فخرجوا إلى إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقة، فقال: اشربوا من ألبانها وأبوالها! فشربوا من ألبانها وأبوالها، حتى إذا صحوا وبرأوا ، قتلوا الرعاة واستاقوا الإبل.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي أن يقال: أنزل الله هذه الآية على نبيه صلى الله عليه وسلم، معرفه حكمه على من حارب الله ورسوله ، وسعى في الأرض فساداً، بعد الذي كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين ما فعل.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك ، لأن القصص التي قصها الله جل وعز قبل هذه الآية وبعدها، من قصص بني إسرائيل وأنبائهم ، فأن يكون ذلك متوسطاً، من تعريف الحكم فيهم وفي نظرائهم ، أولى وأحق.
وقلنا : كان نزول ذلك بعد الذي كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين ما فعل، لتظاهر الأخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
وإذ كان ذلك أولى بالآية لما وصفنا، فتأويلها: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل ، أنه من قتل نفساً بغير نفس ، أو سعي بفساد في الأرض ، فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعاً، ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون -يقول: لساعون في الأرض بالفساد، وقاتلوا النفوس بغير نفس ، وغير سعي في الأرض بالفساد حرباً لله ولرسوله ، فمن فعل ذلك منهم ، يا محمد، فإنما جزاؤه: أن يقتلوا ، أو يصلبوا، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، أو ينفوا من الأرض.
فإن قال لنا قائل : وكيف يجوز أن تكون الآية نزلت في الحال التي ذكرت: من حال نقض كافر من بني إسرائيل عهده ، ومن قولك إن حكم هذه الآية حكم من الله في أهل الإسلام، دون أهل الحرب من المشركين؟
قيل: جاز أن يكون ذلك كذلك ، لأن حكم من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً من أهل ذمتنا وملتا واحد. والذين عنوا بالآية، كانوا أهل عهد وذمة، وإن كان داخلاً في حكمها كل ذمي وملي. وليس يبطل بدخول من دخل في حكم الآية من الناس، أن يكون صحيحاً نزولها فيمن نزلت فيه.
وقد اختلف أهل العلم في نسخ حكم النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين.
فقال بعضهم: ذلك حكم منسوخ ، نسخه نهيه عن المثلة بهذه الآية، أعني بقوله: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا" الآية . وقالوا: أنزلت هذه الآية عتاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعل بالعرنيين.
وقال بعضهم : بل فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالعرنيين، حكم ثابت في نظرائهم أبداً، لم ينسخ ولم يبدل. وقوله : "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" الآية، حكم من الله فيمن حارب وسعى في الأرض فساداً بالحرابة. قالوا: والعرنيون ارتدوا، وقتلوا، وسرقوا، وحاربوا الله ورسوله، فحكمهم غير حكم المحارب الساعي في الأرض بالفساد من أهل الإسلام أو الذمة.
وقال آخرون: لم يسمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين العرنيين، ولكنه كان أراد أن يسمل ، فأنزل الله جل وعز هذه الآية على نبيه، يعرفه الحكم فيهم ، ونهاه عن سمل أعينهم.
ذكر القائلين ما وصفنا:
حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال: ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعينهم، وتركه حسمهم حتى ماتوا، فقال: سمعت محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبةً في ذلك، وعلمه عقوبة مثلهم : من القطع والقتل والنفي ، ولم يسمل بعدهم غيرهم. قال: وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو، فأنكر أن تكون نزلت معاتبة، وقال: بلى، كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم، ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم ، فرفع عنهم السمل.
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثني أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتي بهم -يعني العرنيين- فأراد أن يسمل أعينهم، فنهاه الله عن ذلك ، وأمره أن يقيم فيهم الحدود، كما أنزلها الله عليه.
واختلف أهل العلم في المستحق اسم المحارب لله ورسوله، الذي يلزمه حكم هذه.
فقال بعضهم: هو اللص الذي يقطع الطريق.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة وعطاء الخراساني في قوله: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا " الآية، قالا هذا، اللص الذي يقطع الطريق ، فهو محارب.
وقال آخرون: هو اللص المجاهر بلصوصيته ، المكابر في المصر وغيره.
وممن قال ذلك الأوزاعي.
حدثنا بذلك العباس ، عن أبيه ، عنه.
وعنه ، وعن مالك، والليث بن سعد، وابن لهيعة.
حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك بن أنس: تكون محاربة في المصر؟ قال: نعم ، والمحارب عندنا من حمل السلاح على المسلمين في مصر أو خلاء، فكان ذلك منه على غير نائرة كانت بينهم ولا ذحل ولا عداوة، قاطعاً للسبيل والطريق والديار، مخيفاً لهم بسلاحه ، فقتل أحداً منهم ، قتله الإمام كقتلة المحارب، ليس لولي المقتول فيه عفو ولا قود.
حدثني علي قال ، حدثنا الوليد قال: وسألت عن ذلك الليث بن سعد وابن لهيعة، قلت تكون المحاربة في دور المصر والمدائن والقرى؟ فقالا: نعم ، إذا هم دخلوا عليهم بالسيوف علانيةً، أو ليلاً بالنيران. قلت: فقتلوا، أو أخذوا المال ولم يقتلوا؟ فقال: نعم ، هم المحاربون ، فإن قتلوا قتلوا، وإن لم يقتلوا وأخذوا المال، قطعوا من خلاف إذا هم خرجوا به من الدار. ليس من حارب المسلمين في الخلاء والسبيل، بأعظم محاربةً ممن حاربهم في حريمهم ودورهم!
حدثني علي قال ، حدثنا الوليد قال ، قال أبو عمرو: وتكون المحاربة في المصر، شهر على أهله بسلاحه ليلاً أو نهاراً. قال علي، قال الوليد: وأخبرني مالك: أن قتل الغيلة عنده بمنزلة المحاربة. قلت : وما قتل الغيلة؟ قال : هو الرجل يخدع الرجل والصبي فيدخله بيتاً أو يخلو به ، فيقتله ، ويأخذ ماله. فالإمام ولي قتل هذا، وليس لولي الدم والجرح قود ولا قصاص.
وهو قول الشافعي.
حدثنا بذلك عنه الربيع.
وقال آخرون: المحارب، هو قاطع الطريق. فأما المكابر في الأمصار، فليس بالمحارب الذي له حكم المحاربين. وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا بشر بن المفضل، عن داود بن أبي هند قال : تذاكرنا المحارب ونحن عند ابن هبيرة، في أناس من أهل البصرة، فاجتمع رأيهم : أن المحارب ما كان خارجاً من المصر.
وقال مجاهد بما:
حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا"، قال: الزنا ، والسرقة ، وقتل الناس ، وإهلاك الحرث والنسل.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد : "ويسعون في الأرض فسادا"، قال : "الفساد"، القتل ، والزنا، والسرقة.
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب ، قول من قال : المحارب لله ورسوله ) من حارب في سابلة المسلمين وذمتهم ، والمغير عليهم في أمصارهم وقزاهم حرابة.
وإنما قلنا: ذلك أولى الآقول بالصواب ، لأنه لا خلاف بين الحجة أن من نصب حرباً للمسلمين على الظلم منه لهم ، أنه لهم محارب ، ولا خلاف فيه. فالذي وصفنا صفته ، لا شك فيه أنه لهم ناصب حرباً ظلماً. وإذ كان ذلك كذلك ، فسواء كان نصبه الحرب لهم في مصرهم وقراهم ، أو في سبلهم وطرقهم : في أنه لله ولرسوله محارب ، بحربه من نهاه الله ورسوله عن حربه.
وأما قوله : "ويسعون في الأرض فسادا"، فإنه يعني : ويعملون في أرض الله بالمعاصي : من إخافة سبل عباده المؤمنين به ، أو سبل ذمتهم ، وقطع طرقهم ، وأخذ أموالهم ظلماً وعدواناً، والتوثب على حرمهم فجوراً وفسوقاً.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره : ما للذي حارب الله ورسوله ، وسعى في الأرض فساداً، من أهل ملة الإسلام أو ذمتهم - إلا بعض هذه الخلال التي ذكرها جل ثناؤه.
ثم اختلف أهل التأويل في هذه الخلال ، أتلزم المحارب باستحقاقه اسم (المحاربة،، أم يلزمه ما لزمه من ذلك على قدر جرمه ، مختلفاً باختلاف أجرامه؟
فقال بعضهم : تجب على المحارب العقوبة على قدر استحقاقه ، ويلزمه ما لزمه من ذلك على قدر جرمه ، مختلفاً باختلاف أجرامه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" إلى قوله : "أو ينفوا من الأرض"، قال : إذا حارب فقتل ، فعليه القتل إذا ظهر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخذ المال وقتل ، فعليه الصلب إن ظهر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخذ ولم يقتل ، فعليه قطع اليد والرجل من خلافي إن ظهر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخاف السبيل ، فإنما عليه النفي.
حدثنا ابن وكيع وأبو السائب قالا، حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن حماد، عن إبراهيم : "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"، قال : إذا خرج فأخاف السبيل وأخذ المال ، قطعت يده ورجله من خلاف. وإذا أخاف السبيل ، ولم يأخذ المال وقتل ، صلب.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم - فيما أرى - في الرجل يخرج محارباً، قال : إن قطع الطريق وأخذ المال ، قطعت يده ورجله. وإن أخذ المال وقتل ، قتل. وإن أخذ المال وقتل ومثل ، صلب.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" الآية، قال : إذا قتل وأخذ المال وأخاف السبيل ، صلب.
وإذا قتل لم يعد ذلك ، قتل. وإذا أخذ المال لم يعد ذلك ، قطع. لماذا كان يفسد، نفي.
حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن سماك ، عن الحسن : "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" إلى قوله : "أو ينفوا من الأرض"، قال : إذا أخاف الطريق ولم يقتل ولم يأخذ المال ، نفي.
حدثنا المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن حصين قال : كان يقال : من حارب فأخاف السبيل وأخذ المال ولم يقتل ، قطعت يده ورجله من خلاف. وإذا أخذ المال وقتل ،صلب.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة : أنه كان يقول في قوله : "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" إلى قوله : "أو ينفوا من الأرض"، حدود أربعة أنزلها الله : فأما من أصاب الدم والمال جميعاً، صلب. وأما من أصاب الدم وكف عن المال ، قتل.
ومن أصاب المال وكف عن الدم ، قطع. ومن لم يصب شيئاً من هذا، نفي.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : نهى الله نبيه عليه السلام عن أن يسمل أعين العرنيين الذين أغاروا على لقاحه ، وأمره أن يقيم فيهم الحدود كما أنزلها الله عليه. فنظر إلى من أخذ المال ولم يقتل ، فقطع يده ورجله من خلاف ، يده اليمنى ورجله اليسرى. ونظر إلى من قتل ولم يأخذ مالاً، فقتله. ونظر إلى من أخذ المال وقتل ، فصلبه. وكذلك ينبغي لكل من أخاف طريق المسلمين وقطع ، أن يصنع به إن أخذ وقد أخذ مالاً، قطعت يده بأخذه المال ، ورجله بإخافة الطريق. وإن قتل ولم يأخذ مالاً، قتل. وإن قتل وأخذ المال ، صلب.
حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا فضيل بن مرزوق قال : سمعت السدي يسأل عطية العوفي عن رجل محارب ، خرج فأخذ ولم يصب مالاً، ولم يهرق دماً. قال : النفي بالسيف. وإن أخذ مالاً، فيده بالمال ، ورجله بما أخاف المسلمين.وإن هو قتل ولم يأخذ مالاً، قتل. وإن هو قتل وأخذ المال ، صلب. وأكبر ظني أنه قال : تقطع يده ورجله.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن عطاء الخراساني وقتادة فى قوله : "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" الآية، قال : هذا، اللص الذي يقطع الطريق فهو محارب. فإن قتل وأخذ مالاً صلب. وإن قتل ولم يأخذ مالاً، قتل.
وإن أخذ مالاً ولم يقتل ، قطعت يده ورجله. وإن أخذ قبل أن يفعل شيئاً من ذلك ، نفي.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن قيس بن سعد، عن سعيد بن جبير قال : من خرج في الإسلام محارباً لله ورسوله فقتل وأصاب مالا، فإنه يقتل ويصلب. ومن قتل ولم يصب مالاً، فإنه يقتل كما قتل. ومن أصاب مالاً ولم يقتل ، فإنه يقطع من خلاف. وإن أخاف سبيل المسلمين ، نفي من بلده إلى غيره ، لقول الله جل وعز: "أو ينفوا من الأرض".
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"، قال : كان ناس يسعون في الأرض فساداً، وقتلوا وقطعوا السبيل ، فصلب أولئك. وكان آخرون حاربوا واستحلوا المال ولم يعدوا ذلك ، فقطعت أيديهم وأرجلهم. وآخرون حاربوا واعتزلوا ولم يعدوا ذلك ، فأولئك أخرجوا من الأرض.
حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو أسامة، عن أبي هلاك قال ، حدثنا قتادة، عن مورق العجلي في المحارب قال : إن كان خرج فقتل وأخذ المال ، صلب. وإن كان قتل ولم يأخذ المال ، قتل. وإن كان أخذ المال ولم يقتل ، قطع. وإن كان خرج مشاقاً للمسلمين ، نفي.
حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو معاوية، عن حجاج ، عن عطية العوفي ، عن ابن عباس قال : إذا خرج المحارب وأخاف الطريق وأخذ المال ، قطعت يده ورجله من خلاف. فإن هو خرج فقتل وأخذ المال ، قطعت يده ورجله من خلاف ثم صلب. وإن خرج فقتل ولم يأخذ المال ، قتل. وإن أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ المال ، نفي.
حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا ابن أبي مريم قال ، أخبرنا نافع بن يزيد قال ، حدثني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي ، وعن أبي معاوية، عن سعيد بن جبير في هذه الآية: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا"، قالا: إن أخاف المسلمين فقطع المال ولم يسفك ، قطع. وإذا سفك دماً، قتل وصلب.وإن جمعهما فاقتطع مالاً وسفك دماً، قطع ثم قتل ثم صلب ، كان الصلب مثلة. وكأن القطع : "السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما"، وكان القتل: "النفس بالنفس". وإن امتنع ، فإن من الحق على الإمام وعلى المسلمين أن يطلبوه حتى يأخذوه ، فيقيموا عليه حكم كتاب الله : "أو ينفوا من الأرض"، من أرض الإسلام إلى أرض الكفر.
قال أبو جعفر: واعتل قائلو هذه المقالة لقولهم هذا، بأن قالوا : إن الله أوجب على القاتل القود، وعلى السارق القطع. وقالوا:" قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث خلال: رجل قتل فقتل ، ورجل زنى بعد إحصان فرجم ، ورجل كفر بعد إسلام. قالوا: فحظر النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجل مسلم إلا بإحدى هذه الخلال الثلاث". فأما أن يقتل من أجل إخافته السبيل من غير أن يقتل أو يأخذ مالاً، فذلك تقدم على الله ورسوله بالخلاف عليهما في الحكم. قالوا: ومعنى قول من قال : الإمام فيه بالخيار، إذا قتل وأخاف السبيل وأخذ المال، فهنالك خيار الإمام في قولهم بين القتل ، أو القتل والصلب ، أو قطع اليد والرجل من خلاف . وأما صلبه باسم المحاربة، من غير أن يفعل شيئاً من قتل أو أخذ مال ، فذلك ما لم يقله عالم.
وقال آخرون : الإمام فيه بالخيار: أن يفعل أفي هذه الأشياء التي ذكرها الله في كتابه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا جويبر، عن عطاء وعن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في المحارب : أن الإمام مخير فيه ، أي ذلك شاء فعل.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن عبيدة، عن إبراهيم : الإمام مخير في المحارب ، أي ذلك شاء فعل. إن شاء قتل ، وإن شاء قطع ، وإن شاء نفى، وإن شاء صلب.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن عاصم ، عن الحسن في قوله: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"، إلى قوله : "أو ينفوا من الأرض"، قال : يأخذ الإمام بأيها أحب.
حدثنا سفيان قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن الحسن : "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"، قال : الإمام مخير فيها.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء، مثله.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن قيس بن سعد قال ، قال عطاء: يصنع الإمام في ذلك ما شاء. إن شاء قتل ، أو قطع ، أو نفى، لقول الله : "أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض"، فذلك إلى الإمام الحاكم ، يصنع فيه ما شاء.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"، الآية، قال : من شهر السلاح في قبة الإسلام ، وأخاف السبيل ، ثم ظفر به وقدر عليه ، فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله ، وإن شاء صلبه ، وإن شاء قطع يده ورجله.
حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو أسامة قال ، أخبرنا أبو هلال قال ، أخبرنا قتادة، عن سعيد بن المسيب : أنه قال في المحارب: ذلك إلى الإمام ، إذا أخذه يصنع به ما شاء.
حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو أسامة، عن أبي هلال قال ، حدثنا هارون ، عن الحسن في المحارب قال : ذاك إلى الإمام ، يصنع به ما شاء.
حدثنا هناد قال ، حدثنا حفص بن غياث ، عن عاصم ، عن الحسن : "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"، قال : ذلك إلى الإمام.
قال أبو جعفر: واعتل قائلو هذه المقالة بأن قالوا : وجدنا العطوف التي ب (أو، في القرآن بمعنى التخيير، في كل ما أوجب الله به فرضاً منها، وذلك كقوله في كفارة اليمين : "فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة" [المائدة : 89]، وكقوله : "فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" [البقرة : 96] ، وكقوله : "فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما" [المائدة :95]. قالوا : فإذا كانت العطوف التي ب أو في القرآن ، في كل ما أوجب الله به فرضاً منها في سائر القرآن ، بمعنى التخيير، فكذلك ذلك في آية المحاربين، الإمام مخير فيما رأى الحكم به على المحارب إذا قدر عليه قبل التوبة.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك عندنا، تأويل من أوجب على المحارب من العقوبة على قدر استحقاقه ، وجعل الحكم على المحاربين مختلفاً باختلاف أفعالهم. فأوجب على مخيف السبيل منهم -إذا قدر عليه قبل التوبة، وقبل أخذ مال أو قتل - النفي من الأرض. وإذا قدر عليه بعد أخذ المال وقتل النفس المحرم قتلها، الصلب ، لما ذكرت من العلة قبل لقائلي هذه المقالة.
فأما ما اعتل به القائلون : إن الإمام فيه بالخيار، من أن أو في العطف تأتي بمعنى التخيير في الفرض ، فقول لا معنى له ، لأن أو في كلام العرب قد تأتي بضروب من المعاني ، لولا كراهة إطالة الكتاب بذكرها لذكرتها، وقد بينت كثيرا من معانيها فيما مضى، وسنأتي على باقيها فيما يستقبل في أماكنها إن شاء الله.
فأما في هذا الموضع ، فإن معناها التعقيب ، وذلك نظير قول القائل : إن جزاء المؤمنين عند الله يوم القيامة أن يدخلهم الجنة، أو يرفع منازلهم في عليين ، أو يسكنهم مع الأنبياء والصديقين، فمعلوم أن قائل ذلك غير قاصد بقيله إلى أن جزاء كل مؤمن آمن بالله ورسوله فهو في مرتبة واحدة من هذه المراتب ، ومنزلة واحدة من هذه المنازل ، بإيمانه ، بل المعقول عنه أن معناه : أن جزاء المؤمن لن يخلو عند الله عز ذكره من بعض هذه المنازل. فالمقتصد منزلته دون منزلة السابق بالخيرات ، والسابق بالخيرات أعلى منه منزلة، والظالم لنفسه دونهما، وكل في الجنة كما قال جل ثناؤه "جنات عدن يدخلونها" [فاطر: 33]. فكذلك معنى المعطوف ب أو في قوله : "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"، الآية، إنما هو التعقيب.
فتأويله : إن الذي يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فساداً، لن يخلو من أن يستحق الجزاء بإحدى هذه الخلال الأربع التي ذكرها الله عز ذكره -لا أن الإمام محكم فيه ومخير في أمره - كائنة ما كانت حالته ، عظمت جريرته أو خفت ، لأن ذلك لو كان كذلك ، لكان للإمام قتل من شهر السلاح مخيفاً السبيل وصلبه ، وإن لم يأخذ مالاً ولا قتل أحداً، وكان له نفي من قتل وأخذ المال وأخاف السبيل. وذلك قول إن قاله قائل ، خلاف ما صحت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل قتل رجلاً فقتل به ، أو زنى بعد إحصان فرجم ، أو ارتد عن دينه ، وخلاف قوله: القطع في ربع دينار فصاعداً، وغير المعروف من أحكامه.
فإن قال قائل : فإن هذه الأحكام التي ذكرت ، كانت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير المحارب ، وللمحارب حكم غير ذلك منفرد به.
قيل له : فما الحكم الذي انفرد به المحارب في سننه؟
فإن ادعى عنه صلى الله عليه وسلم حكماً خلاف الذي ذكرنا، أكذبه جميع أهل العلم ، لأن ذلك غير موجود بنقل واحد ولا جماعة.
وإن زعم أن ذلك ا! هو ما في ظاهر الكتاب ، قيل له : فإن أحسن حالاتك إن سلم لك ، أن ظاهر الآية قد يحتمل ما قلت وما قاله من خالفك ، فما برهانك على أن تأويلك أولى بتأويل الآية من تأويله؟.
وبعد، فإذ كان الإمام مخيراً في الحكم على المحارب ، من أجل أن أو بمعنى التخيير في هذا الموضع عندك ، أفله أن يصلبه حياً، ويتركه على الخشبة مصلوباً حتى يموت من غير قتله.
فإن قال : ذلك له، خالف في ذلك الأمة.
وإن زعم أن ذلك ليس له ، وإنما له قتله ثم صلبه ، أو صلبه ثم قتله ، ترك علته من أن الإمام إنما كان له الخيار في الحكم على المحارب من أجل أن أو تأتي بمعنى التخيير.
وقيل له : فكيف كان له الخيار في القتل أو النفي أو القطع ، ولم يكن له الخيار في الصلب وحده ، حتى تجمع إليه عقوبة أخرى؟.
وقيل له : هل بينك وبين من جعل الخيار حيث أبيت ، وأبى ذلك حيث جعلته له ، فرق من أصل أو قياس؟ فلن يقول في أحدهما قولاً إلا ألزم في الآخر مثله.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيح ما قلنا في ذلك ، بما في إسناده نظر، وذلك ما:
حدثنا به علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب : أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين ، وهم من بجيلة. قال أنس : فارتدوا عن الإسلام ، وقتلوا الراعي ، وساقوا الإبل ، وأخافوا السبيل ، وأصابوا الفرج الحرام. قال أنس : فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن القضاء فيمن حارب ، فقال : من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته ، ورجله بإخافته. ومن قتل فاقتله. ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام ، فاصلبه.
وأما قوله : "أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف"، فإنه يعني به جل ثناؤه : أنه تقطع أيديهم مخالفاً في قطعها قطع أرجلهم. وذلك أن تقطع أيمن أيديهم ، وأشمل أرجلهم. فذلك الخلاف بينهما في القطع.
ولو كان مكان "من" * في هذا الموضع على أو الباء، فقيل : " أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف " - أو: بخلاف، لأديا عما أدت عنه "من" من المعنى.
واختلف أهل التأويل في معنى النفي الذي ذكر الله في هذا الموضع.
فقال بعضهم : هو أن يطلب حتى يقدر عليه ، أو يهرب من دار الإسلام.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : "أو ينفوا من الأرض"، قال : يطلبهم الإمام بالخيل والرجال حتى يأخذهم فيقيم فيهم الحكم ، أو ينفوا من أرض المسلمين.
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : نفيه ، أن يطلب.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس : "أو ينفوا من الأرض"؟، يقول. أو يهربوا حتى يخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب.
حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، أخبرني عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن كتاب أنس بن مالك إلى عبد الملك بن مروان : أنه كتب إليه: ونفيه، أن يطلبه الإمام حتى يأخذه ، فإذا أخذه أقام عليه إحدى هذه المنازل التي ذكر الله جل وعز بما استحل.
حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد قال : فذكرت ذلك لليث بن سعد فقال : نفيه ، طلبه من بلد إلى بلد حتى يؤخذ، أو يخرجه طلبه من دار الإسلام إلى دار الشرك والحرب ، إذا كان محارباً مرتداً عن الإسلام. قال الوليد: وسألت مالك بن أنس ، فقال مثله.
حدثني علي قال ، حدثنا الوليد قال : قلت لمالك بن أنس والليث بن سعد: وكذلك يطلب المحارب المقيم على إسلامه ، يضطره بطلبه من بلد إلى بلد حتى يصير إلى ثغر من ثغور المسلمين أو أقصى حوز المسلمين ، فإن هم طلبوه دخل دار الشرك ؟ قالا: لا يضطر مسلم إلى ذلك.
حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا هشيم ، عن جويبر، عن الضحاك : "أو ينفوا من الأرض"، قال : أن يطلبوه حتى يعجزوا.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول : حدثني عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول ، فذكر نحوه.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حفص بن غياث ، عن عاصم ، عن الحسن: "أو ينفوا من الأرض"، قال : ينفى حتى لا يقدر عليه.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا عبد الله ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : "أو ينفوا من الأرض"، قال : أخرجوا من الأرض.
أينما أدركوا أخرجوا حتى يلحقوا بأرض العدو.
حدثنا الحسن قال ، حدثنا عبد الرزاق قال ، حدثنا معمر، عن الزهري في قوله : "أو ينفوا من الأرض"، قال : نفيه ، أن يطلب فلا يقدر عليه ، كلما سمع به في أرض طلب.
حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، أخبرني سعيد، عن قتادة : "أو ينفوا من الأرض"، قال : إذا لم يقتل ولم يأخذ مالاً، طلب حتى يعجز.
حدثني ابن البرقي قال ، حدثنا ابن أبي مريم قال ، أخبرني نافع بن يزيد قال ، حدثني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي ، وعن إبي معاوية، عن سعيد بن جبير: "أو ينفوا من الأرض"، من أرض الإسلام إلى أرض الكفر.
وقال آخرون : معنى النفي في هذا الموضع : أن الإمام إذا قدر عليه نفاه من بلدته إلى بلدة أخرى غيرها.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن قيس بن سعد، عن سعيد بن جبير: "أو ينفوا من الأرض"، قال : من أخاف سبيل المسلمين ، نفي من بلده إلى غيره ، لقول الله جل وعز: "أو ينفوا من الأرض " .
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني يزيد بن أبي حبيب وغيره ، عن حيان بن سريج : أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز في اللصوص ، ووصف له لصوصيتهم ، وحبسهم في السجون ، قال : قال الله في كتابه: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف"، وترك : "أو ينفوا من الأرض". فكتب إليه عمر بن عبد العزيز، أما بعد، فإنك كتبت إلي تذكر قول الله جل وعز: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف"، وتركت قول الله : "أو ينفوا من الأرض"، فنبي! أنت ، يا حيان! لا تحرك الأشياء عن مواضعها. تجردت للقتل والصلب كأنك عبد بني عقيل ، من غير ما أشبهك به ؟ إذا أتاك كتابي هذا، فانفهم إلى شغب.
حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني الليث ، عن يزيد وغيره ، بنحو هذا الحديث ، غير أن يونس قال في حديثه : كأنك عبد بني أبي عقال ، من غير أن أشبهك به.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب : أن الصلت ، كاتب حيان بن شريج ، أخبرهم : أن حيان كتب إلى عمر بن عبد العزيز: أن ناساً من القبط قامت عليهم البينة بأنهم حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فساداً، وأن الله يقول : "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا"، فقرأ حتى بلغ ، "وأرجلهم من خلاف"، وسكت عن النفي. وكتب إليه : فإن رأى أمير المؤمنين أن يمضي قضاء الله فيهم ، فليكتب بذلك. فلما قرأ عمر بن عبد العزيز كتابه قال : لقد اجتزأ حيان ! ثم كتب إليه : إنه قد بلغني كتابك وفهمته ، ولقد اجتزأت ، كأنما كتبت بكتاب يزيد بن أبي مسلم ، أو علج صاحب العراق ، من غير أن أشبهك بهما، فكتبت بأول الآية، ثم سكت عن آخرها، وإن الله يقول : "أو ينفوا من الأرض"، فإن كانت قامت عليهم البينة بما كتبت به ، فاعقد في أعناقهم حديداً، ثم غيبهم إلى شغب وبداً.
قال أبو جعفر: شغب و بدا ، موضعان.
وقال آخرون : معنى : النفي من الأرض ، في هذا الموضع : الحبس.
ذكر من روي ذلك عنه: وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : معنى النفي من الأرض ، في هذا الموضع ، هو نفيه من بلد إلى بلد غيره ، وحبسه في السجن في البلد الذي نفي إليه ، حتى تظهر توبته من فسوقه ، ونزوعه عن معصيته ربه.
وإنما قلت ذلك أولى الأقوال بالصحة، لأن أهل التأويل اختلفوا في معنى ذلك على أحد الأوجه الثلاثة التي ذكرت. وإذ كان ذلك كذلك ، وكان معلوماً أن الله جل ثناؤه إنما جعل جزاء المحارب : القتل أو الصلب أو قطع اليد والرجل من خلاف ، بعد القدرة عليه ، لا في حال امتناعه ، كان معلوماً أن النفي أيضاً إنما هو جزاؤه بعد القدرة عليه ، لا قبلها. ولو كان هربه من الطلب نفياً له من الأرض ، كان قطع يده ورجله من خلاف في حال امتناعه وحربه على وجه القتال ، بمعنى إقامة الحد عليه بعد القدرة عليه. وفي إجماع الجميع أن ذلك لا يقوم مقام نفيه الذي جعله الله عز وجل حداً له بعد القدرة عليه ، بطل أن يكون نفيه من الأرض ، هربه من الطلب.
وإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أنه لم يبق إلا الوجهان الآخران ، وهو النفي من بلدة إلى أخرى غيرها، أو السجن. فإذ كان ذلك كذلك ، فلا شك أنه إذا نفي من بلدة إلى أخرى غيرها، فلم ينف من الأرض ، بل إنما نفي من أرض دون أرض. وإذ كان ذلك كذلك -وكان الله جل ثناؤه إنما أمر بنفيه من الأرض - كان معلوماً أنه لا سبيل إلى نفيه من الأرض إلا بحبسه في بقعة منها عن سائرها، فيكون منفياً حينئذ عن جميعها، إلا مما لا سبيل إلى نفيه منه.
وأما معنى النفي، في كلام العرب ، فهو الطرد، ومن ذلك قول أوس بن حجر:
‌ينفون عن طرق الكرام كما تنفي المطارق ما يلي القرد
ومنه قيل للدراهم الرديئة وغيرها من كل شيء : النفاية. وأما المصدر من نفيت ، فإنه النفي ! والنفاية، ويقال : الدلو ينفي الماء، ويقال لما تطاير من الماء من الدلو: النفي ، ومنه قول الراجز: كان متنيه من النفي مواقع الطير على الصفي ومنه قيل : نفي شعره ، إذا سقط ، يقال : حال لونك ، ونفي شعرك.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله : "ذلك"، هذا الجزاء الذي جازيت به الذين حاربوا الله ورسوله ، وسعوا في الأرض فساداً في الدنيا، من قتل أو صلب أو قطع يد ورجل من خلاف ، "لهم"، يعني : لهؤلاء المحاربين ، "خزي في الدنيا"، يقول : هو لهم شر وعار وذلة ونكال وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة.
يقال منه : أخزيت فلاناً، فخزي هو خزياً. وقوله : "ولهم في الآخرة عذاب عظيم"، يقول عز ذكره ؟ لهؤلاء الذين حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فساداً، فلم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا، في الآخرة، مع الخزي الذي جازيتهم به في الدنيا، والعقوبة التي عاقبتهم بها فيها، "عذاب عظيم"، يعني : عذاب جهنم.
فيه خمس عشرة مسئلة :
الأولى _ اختلف الناس في سبب نزول هذه الآية فالذي عليه الجمهور أنها نزلت في العرنيين روى الأئمة والفظ لأبي داود عن أنس بن مالك :
"أن قوماً من عكل -أو قال من عرينه - قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتبووا المدينة فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم من أول النهار فأرسل في آثارهم فما ارتفع النهار حتى جيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمر أعنيهم وألقوا في الحرة يستقون فلا يسقون" قال أبو قلابة : فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفرو بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله وفي رواية : "فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم وقطع أيديهم وأرجلهم وما حسمهم" وفي رواية : "فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم قافة فأتي" بهم قال : فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا" الآية وفي رواية قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشاً حتى ماتوا، وفي البخاري "قال جرير بن عبد الله في حديث :
فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم وقد أشرفوا على بلادهم فجئنا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جرير: فكانوا يقولون الماء ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : النار" وقد حكى أهل التواريخ والسير : أنهم قطعوا يدي الراعي ورجليه وغرزوا الشوك في عينيه حتى مات وأدخل المدينة ميتاً وكان اسمه يسار وكان نوبياً وكان هذا الفعل من المرتدين سنة ست من الهجرة وفي بعض الروايات عن أنس:
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم" وروي عن ابن عباس والضحك: أنها نزلت بسبب قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض وفي مصنف أبي داود عن ابن عباس قال: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " إلى قوله " غفور رحيم " نزلت هذه الآية في المشركين فمن أخذ منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصبه وممن قال : إن الآية نزلت في المشركين عكرمة والحسن ، وهذا ضعيف يرده قوله تعالى :" قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " [ الأنفال: 38] و"قوله عليه الصلاة والسلام:
الإسلام يهدم ما قبله " أخرجه مسلم والصحيح الأول لنصوص الأحاديث الثابتة في ذلك وقال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي : الآية نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل ويسعى في الأرض بالفساد قال ابن المنذر:قول مالك صحيح، وقال أبو ثور محتجاً لهذا القول: وفي الآية دليل على أنها نزلت في غير أهل الشرك وهو قوله جل ثناؤه :" إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم " وقد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فأسلموا أن دماءهم تحرم فدل ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام وحكي الطبري عن بعض أهل العلم : أن هذه الآية نسخت فعل النبي صلى الله عليه وسلم في العرنين فوقف الأمر على هذه الحدود وروي محمد بن سيرين قال : كان هذا قبل أن تنزل الحدود يعني حديث أنس ذكره أبو داود وقال قوم منهم الليث بن سعد: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بوفد عرينة نسخ إذ لا يجوز التمثيل بالمرتد قال أبو الزناد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم قطعه الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار عاتبه الله عز وجل في ذلك فأنزل الله تعالى في ذلك " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا " الآية أخرجه أبو داود قال أبو الزناد: فلما وعظ ونهي عن المثلة لم يعد وحكي عن جماعة أن هذه الآية ليست بناسخة لذلك الفعل لأن ذلك وقع في متردين لا سيما وقد ثبت في صحيح مسلم وكتاب النسائي وغيرهما قال : إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة فكان هذا قصاصاً وهذه الآية في المحارب المؤمن .
قلت: وهذا قول حسن وهو معنى ما ذهب إليه مالك والشافعي ولذلك قال الله تعالى :" إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم " ومعلوم أن الكفار لا تختلف أحكامهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقط قبل القدرة والمرتد يستحق القتل بنفس الردة -دون المحاربة - ولا ينفى ولا تقطع يده ولا رجله ولا يخلى سبيله بل يقتل إن لم يسلم ولا يصلب أيضاً فدل أن ما اشتملت عليه الآية ما عنى به المرتد وقال تعالى في حق الكفار : " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " وقال في المحاربين : "إلا الذين تابوا " الآية وهذا بين وعلى ما قررناه في أول الباب لا إشكال ولا لوم ولا عتاب إذ هو مقتضى الكتاب قال الله تعالى : " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " [ البقرة : 194] فمثلوا فمثل بهم إلا أنه يحتمل أن يكون العتاب إن صح على الزيادة في القتل وذلك تكحيلهم بمسامير محماة وتركهم عطاشى حتى ماتوا والله أعلم وحكى الطبري عن السدي: "أن النبي صلى لله عليه وسلم لم يسمل أعين العرنيين "وإنما أراد ذلك فنزلت الآية الناهية عن ذلك وهذا ضعيف جداً فإن الأخبار الثابتة وردت بالسمل، في صحيح البخاري : فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام وإن كانت نزلت في المرتدين أو اليهود وفي قوله تعالى:" إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " استعارة ومجاز إذ الله سبحانه وتعالى لا يحارب ولا يغالب لما هو عليه من صفات الكمال ولما وجب له من التنزيه عن الأضداد والأنداد والمعنى : يحاربون أولياء الله فعبر بنفسه العزيزة عن أوليائه إكباراً لإذايتهم كما عبر بنفسه عن الفقراء الضعفاء في قوله : "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " [البقرة : 245] حثاً على الاستعطاف عليهم ومثله في صحيح سنة:
"استطعمتك فلم تطعمني " الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدم في البقرة .
الثانية -واختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة فقال: مالك: المحارب عندنا من حمل على الناس في مصر أو في برية وكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون نائرة لا ذحل ولا عداوة قال ابن المنذر: اختلف عن مالك في هذه المسئلة، فأثبت المحاربة في المصر مرة ونفى ذلك مرة، وقالت طائفة: حكم ذلك في المصر أو في المنازل والطرق وديار أهل البادية والقرى سواء وحدودهم واحدة، وهذا قول الشافعي وأبي ثور، قال ابن المنذر: كذلك هو لأن كلا يقع عليه اسم المحاربة والكتاب على العموم وليس لأحد أن يخرج من جملة الآية قوماً بغير حجة، وقالت طائفة: لا تكون المحاربة في المصر إنما تكون خارجاً عن المصر هذا القول سفيان الثوري وإسحاق والنعمان والمغتال كالمحارب وهو الذي يحتال في قتل إنسان على أخذ ماله وإن لم يشهر السلاح لمن دخل عليه بيته أو صحبه في سفر فأطعمه سما فقتله فيقتل حداً لا قوداً.
الثالثة -واختلفوا في حكم المحارب فقالت طائفة : يقام عليه بقدر عليه فمن أخاف السبيل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف، وإن أخذ المال وقتل قطعت يده ورجله ثم صلب فإذا قتل ولم يأخذ المال قتل، وإن هو لم يأخذ المال ولم يقتل نفي قاله ابن عباس: وروي عن أبي مجلز والنخعي وعطاء الخراساني وغيرهم: وقال أبو يوسف: إذا أخذ المال وقتل صلب وقتل على الخشبة ، قال الليث: بالحرية مصلوباً وقال أبو حنيفة: إذا قتل قتل، وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف وإذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخير فيه وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه، قال أبو يوسف: القتل يأتي على كل شيء ونحو قول الأوزاعي وقال الشافعي: إذا أخذ المال قطعت يده اليمنى وحسمت ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت وخلي لأن هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة وإذا قتل قتل، وإذا أخذ المال وقتل قتل وصلب، وروي عنه أنه قال: يصلب ثلاثة أيام قال: وإن حضر وكثر وهيب وكان درءاً للعدو حبس، وقال أحمد: إن قتل قتل، وإن أخذ المال قطعت يده ورجله كقول الشافعي. وقال قوم: لا ينبغي أن يصلب قبل القتل فيحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب وحكي عن الشافعي: أكره أن يقتل مصلوباً لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة وقال أبو ثور: الإمام مخير على ظاهر الآية وكذلك قال مالك وهو مروي عن ابن عباس وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومجاهد والضحاك والنخعي كلهم قال: الإمام مخير في الحكم على المحاربين يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها الله تعالى من القتل والصلب أو القطع أو النفي بظاهر الآية قال ابن عباس ما كان في القرآن أو فصاحبه بالخيار وهذا القول أشعر بظاهر الآية فإن أهل القول الأول الذين قالوا إن أو للترتيب - وإن اختلفوا - فإنك تجد أقوالهم أنهم يجمعون عليه حدين فيقولون: يقتل ويصلب ويقول بعضهم : يصلب ويقتل ويقول بعضهم : تقطع يده ورجله وينفى وليس كذلك الآية ولا معنى أو في اللغة قاله النحاس: واحتج الأول، بما ذكره الطبري "عن انس بن مالك أنه قال :
سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن الحكم في المحارب فقال: من أخاف السبيل وأخذ المال فاقطع يده للأخذ ورجله للإخافة ومن قتل فاقتله ومن جمع ذلك فاصلبه " قال ابن عطية: وبقي النفي للمخيف فقط والمخيف في حكم القاتل، ومع ذلك فمالك يرى فيه الأخذ بأيسر العذاب والعقاب استحساناً.
الرابعة -قوله تعالى : " أو ينفوا من الأرض " اختلف في معناه فقال السدي:هو أن يطلب أبدا بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حد الله، أو يخرج من دار الإسلام هرباً ممن يطلبه عن ابن عباس وانس بن مالك ومالك بن أنس والحسن والسدي والضحاك وقتادة وسعيد بن جبير والربيع بن أنس والزهري حكاه الرماني في كتبه وحكى عن الشافعي أنهم يخرجون من بلد إلى بلد، ويطلبون لتقام عليهم الحدود، وقاله الليث بن سعد والزهري أيضاً قال مالك أيضاً والكوفيون نفيهم سجنهم فينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها فصار كأنه إذا سجن فقد نفي من الأرض إلا من موضع استقراره واحتجوا بقول بعض أهل السجون في ذلك :
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا السجان يوماً لحاجة عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
حكى مكحول أن عمر بن لخطاب رضي الله عنه أول من حبس في السجون وقال أحبسه حتى أعلم منه التوبة ولا أنفيه من بلد إلى بلد فيؤذيهم والظاهر أن الأرض في الآية هي أرض النازلة وقد تجنب الناس قديماً الأرض التي أصابوا فيها الذنوب ومنه الحديث
"الذين ناء بصدره نحن الأرض والمقدسة" وينبغي للإمام إن كان هذا المحارب مخوف الجانب يظن أنه يعود إلى حرابة أو إفساد أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه وإن كان غير مخوف الجانب فظن أنه لا يعود إلى جناية سرح قال ابن عطية وهذا صريح مذهب مالك أن يغرب ويسجن حين يغرب وهذا على الأغلب في أنه مخوف ورجحه الطبري وهو الواضح لأن نفيه من الأرض النازلة هو نص الآية وسجنه بعد بسحب الخوف منه فإن تاب وفهمت حالة سرح .
الخامسة - قوله تعالى :" أو ينفوا من الأرض " النفي أصله الإهلاك ومنه الإثبات والنفي فالنفي الإهلاك بالإعدام ومنه النفاية لردي المتاع ومنه النفي لما تطاير من الماء عن الدلو.
قال الزاجر:
كأن متنيه من النفي مواقع الطير على الصفي
السادسة- قال ابن خويز منداد: ولا يراعى المال يأخذه المحارب نصاباً كما يراعي في السارق وقد قيل: يراعى في ذلك النصاب ربع دينار قال ابن العربي قال الشافعي وأصحاب الرأي : لا يقطع من قطاع الطريق إلا من أخذ قدر ما تقطع فيه يد السارق وقال مالك يحكم عليه بحكم المحارب وهو الصحيح فإن الله تعالى وقت على لسان نبيه عليه الصلاة السلام القطع في السرقة ربع دينار ولم يوقت في الحرابة شيئاً بل ذكر جزاء المحارب فاقتضى توفية الجزاء لهم على المحاربة عن حبة ثم إن هذا القياس أصل على اصل وهو مختلف فيه وقياس الأعلى بالأدنى والأدنى بالأسفل وذلك عكس القياس وكيف يصح أن يقاس المحارب على الساق وهو يطلب خطف المال فإن شعر به فر حتى إن السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال فإن منع منه أو صيح عليه وحارب عليه فهو محارب يحكم عليه بحكم المحارب قال القاضي ابن العربي: كنت في أيام حكمي بين الناس إذا جاءني أحد بسارق وقد دخل الدار بسكين يحبسه على قلب صاحب الدار وهو نائم وأصحابه يأخذون مال الرجل، حكمت فيهم بحكم المحاربين فافهموا هذا من أصل الدين، وارتفعوا إلى يفاع العلم عن حضيض الحفرة في أسفل الوادي كذا قال أهل اللغة .
السابعة -ولا خلاف في أن الحرابة يقتل فيها من قتل وإن لم يكن المقتول مكافئاً للقاتل وللشافعي قولان، أحدهما - أنها تعتبر المكأفاة لأنه قتل فاعتبر فيه المكأفاة كالقصاص وهذا ضعيف لأن القتل هنا ليس على مجرد القتل وإنما هو على الفساد العام من التخويف وسلب المال ، قال الله تعالى :" إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا " فأمر تعالى بإقامة الحدود على المحارب إذا جمع شيئين محاربة وسعياً في الأرض بالفساد ولم يخص شريفاً من وضيع، ولا رفيعاً من دنيء .
الثامنة - وإذا خرج المحاربون فاقتتلوا مع القافلة فقتل بعض المحاربين ولم يقتل بعض قتل الجميع وقال الشافعي: لا يقتل إلا من قتل وهذا أيضا ضعيف فإن من حضر الوقيعة شركاء في الغنيمة وإن لم يقتل جميعهم ، وقد اتفق معنا على قتل الردء وهو الطليعة فالمحارب أولى .
التاسعة - وإذا أخاف المحاربون السبيل وقطعوا الطريق وجب على الإمام قتالهم من غير أن يدعوهم، ووجب على المسلمين التعاون على قتلهم وكفهم عن أذى المسلمين فإن انهزموا لم يتبع منهم مدبراً إلا أن يكون قد قتل وأخذ مالاً، فإن كان كذلك اتبع ليؤخذ ويقام عليه ما وجب لجنايته ولا يدفف منهم على جريح إلا أن يكون قد قتل فإن أخذوا ووجد في أيديهم مال لأحد بعينه رد إليه أو إلى ورثته، وإن لم يوجد له صاحب جعل في بيت المال وما أتلفوه من مال لأحد غرموه ولا دية لمن قتلوا إذا قدر عليهم قبل التوبة فإن تابوا وجاءوا تائبين وهي :
العاشرة-لم يكن للإمام عليهم سبيل، وسقط عنهم ما كان حداً لله وأخذوا بحقوق الآدميين فاقتص منهم من النفس والجراح وكان عليهم ما أتلفوه من مال ودم لأوليائه في ذلك ويجوز لهم العفو والهبة كسائر الجناة من غير المحاربين هذا مذهب مالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي وإنما أخذ ما بأيديهم من الأموال وضمنوا قيمة ما استهلكوا لأن ذلك غصب فلا يجوز ملكه لهم ويصرف إلى أربابه أو يوقفه الإمام عنده حتى يعلم صاحبه وقال قوم من الصحابة والتابعين : لا يطلب من المال إلا بما وجد عنده وأما ما استهلكه فلا يطلب به وذكر الطبري ذلك عن مالك من رواية الوليد بن مسلم عنه وهو الظاهر من فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بحارثة بن بدر الغداني فإنه كان محارباً ثم تاب قبل القدرة عليه فكتب له بسقوط الأموال والدم عنه كتاباً منشوراً قال ابن خويز منداد: واختلف الرواية عن مالك في المحارب إذا أقيم عليه الحد ولم يوجد له مال هل يبتع ديناً بما أخذ أو يسقط عنه كما يسقط عن السارق والمسلم والذمي في ذلك سواء .
الحادية عشرة - وأجمع أهل العلم على أن السلطان ولي من حرب فإن قيل محارب أخا امرئ أو أباه في حال المحاربة، فليس في طالب الدم من أمر المحارب شيء ولا يجوز عفو ولي الدم والقائم بذلك الإمام، جعلوا ذلك بمنزلة حد من حدود الله تعالى :
قلت: فهذه جملة من أحكام المحاربين جميعنا غررها واجتلبنا دررها ومن أغرب ما قيل في تفسيرها وهي :
الثانية عشرة - تفسير مجاهد لها قال مجاهد: المراد المحاربة في هذه الآية الزنى والسرقة وليس بصحيح فإن الله سبحانه بين في كتابه وعلى لسان نبيه أن السارق تقطع يده وأن الزاني يجلد ويغرب إن كان بكراً ويرجم إن كان ثيباً محصناً وأحكام المحارب في هذه الآية مخالف لذلك اللهم إلا أن يريد إخافة الطريق بإظهار السلاح قصداً للغلبة على الفروج فهذا أفحش المحاربة وأقبح من أخذ الأموال وقد دخل هذه في معنى قوله تعالى " ويسعون في الأرض فسادا"
الثالثة عشرة - قال علمائنا، ويناشد اللص بالله تعالى فإن كف ترك وإن أبى قوتل فإن أنت قتلته فشر قتيل ودم وهدر روى النسائي "عن أبي هريرة أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله أرأيت إن عدي علي مالي؟ قال: فانشد بالله قال: فإن أبو علي قال : فانشد بالله قال : فإن أبوا علي قال: فانشد الله قال : فإن أبوا علي قال : فقاتل إن قتلت ففي الجنة وإن قتلت ففي النار " وأخرجه البخاري ومسلم وليس فيه ذكر المناشدة "عن أبي هريرة قال :
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي ؟ قال : فلا تعطه مالك قال : أرأيت إن قاتلني ؟ قال : فقاتله قال : أرأيت إن قتلني؟ قال : فأنت شهيد قال : فإن قتلته ؟هو في النار "قال ابن المنذر وروينا عن جماعة من أهل العلم أنهم رأوا قتال اللصوص ودفعهم عن أنفسهم وأموالهم هذا مذهب ابن عمر والحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادةو مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والنعمان وبهذا يقول عوام أهل العلم إن للرجل أن يقاتل عن نفسه وأهله وماله إذا أريد ظلماً للأخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص وقتاً دون وقت ولا حالاً دون حال إلا السلطان فإن جماعة أهل الحديث كالمجتمعين على أن من لم يمكنه أن يمنع عن نفسه وماله إلا بخروج على السلطان ومحاربته أنه لا يحاربه ولا يخرج عليه للأخبار الدالة عن سول الله صلى الله عليه وسلم التي فيها الأمر بالصبر على ما يكون منهم ، من الجور والظلم وترك قتالهم والخروج عليهم ما أقاموا الصلاة .
قلت: وقد اختلف مذهبنا إذا طلب الشيء الخفيف كالثوب والطعام هل يعطونه أو يقاتلون؟ وهذا الخلاف مبني على الأصل وهو هل الأمر بقتالهم لأنه تغيير منكر أو هو من باب دفع الضرر؟ وعلى هذا أيضاً يبني الخلاف في دعوتهم قبل القتال والله أعلم .
الرابعة عشرة- قوله تعالى:" ذلك لهم خزي في الدنيا " لشناعة المحاربة وعظم ضررها وإنما كانت المحاربة عظيمة الضرر، لأن فيها سد سبيل الكسب على الناس لأن أكثر المكاسب وأعظمها التجارات، وركنها عمادها الضرب في الأرض كما قال عز وجل " وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله " [ المزمل: 20] فإذا أخيف الطريق انقطع الناس عن السفر واحتاجوا إلى لزوم البيوت، فانسد باب التجارة عليهم وانقطعت أكسابهم فشرع الله على قطاع الطريق الحدود المغلظة وذلك الخزي في الدنيا ردعاً لهم عن سوءا فعلهم وفتحا لباب التجارة التي أباحها لعباده لمن أراد منهم ووعد فيها العذاب بالعظيم في الآخر وتكون هذه المعصية خارجة عن المعاصي ومستثناة من حديث عبادة في "قول النبي صلى الله عليه وسلم :
فمن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة " والله أعلم ويحتمل أن يكون الخزي لمن عوقب وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا، ويجري هذا الذنب مجرى غيره ولا خلود لمؤمن في النار على ما تقدم ولكن يعظم عقابه لعظم الذنب ثم يخرج إما بالشفاعة وإما بالقبضة ثم إن هذا الوعيد مشروط الإنقاذ بالمشيئة كقوله تعالى :" ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " [النساء: 48] أما إن الخوف يغلب عليهم بحسب الوعيد وكبر المعصية .
الخامسة عشرة- قوله تعالى :" إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم " استثنى جل وعز التائبين قبل أن يقدر عليهم وأخبر بسقوط حقه عنهم بقوله: " فاعلموا أن الله غفور رحيم " أما القصاص وحقوق الآدميين فلا تسقط ومن تاب بعد القدرة فظاهر الآية أن التوبة لا تنفع وتقام الحدود عليه كما تقدم وللشافعي قول أنه يسقط كل حد بالتوبة والصحيح من مذهبه أن ما تعلق به حق الآدمي قصاصاً كان أو غيره فإنه يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه وقيل: أراد بالاستثناء المشرك إذا تاب وآمن قبل القدرة عليه فإنه تسقط عنه الحدود وهذا ضعيف لأنه إن آمن بعد القدرة عليه لم يقتل أيضاً بالإجماع وقيل: إنما لا يسقط الحد عن المحاربين بعد القدرة عليهم - والله أعلم - لأنه متهمون بالكذب في توبتهم والتصنع فيها إذا نالتهم يد الإمام أو لأنه لما قدر عليهم صاروا بمعرض أن ينكل بهم فلم تقبل توبتهم كالمتلبس بالعذاب من الأمم قبلنا أو من صار إلى حال الغرغرة فتاب فأما إذا تقدمت توبتهم القدرة عليهم فلا تهمة وهي نافعة على ما يأتي بيانه في سورة يونس فأما الشراب والزناة والسراق إذا تابوا وأصلحوا وعرف ذلك منهم ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم وإن رفعوا إليه فقالوا تبنا لم يتركوا وهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا والله أعلم .

يقول تعالى: من أجل قتل ابن آدم أخاه ظلماً وعدواناً "كتبنا على بني إسرائيل" أي شرعنا لهم وأعلمناهم "أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً" أي من قتل نفساً بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض, واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية, فكأنما قتل الناس جميعاً, لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس, ومن أحياها, أي حرم قتلها واعتقد ذلك, فقد سلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار, ولهذا قال "فكأنما أحيا الناس جميعاً" وقال الأعمش وغيره, عن أبي صالح, عن أبي هريرة, قال: دخلت على عثمان يوم الدار فقلت: جئت لأنصرك, وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين, فقال: يا أباهريرة, أيسرك أن تقتل الناس جميعاً وإياي معهم ؟ قلت: لا, قال: فإنك إن قتلت رجلاً واحداً فكأنما قتلت الناس جميعاً فانصرف مأذوناً لك مأجوراً غير مأزور, قال: فانصرفت ولم أقاتل, وقال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: هو كما قال الله تعالى: "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً" وإحياؤها ألا يقتل نفسا حرمها الله, فذلك الذي أحيا الناس جميعاً يعني أنه من حرم قتلها إلا بحق حيي الناس منه, وهكذا قال مجاهد: ومن أحياها, أي كف عن قتلها .
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: "فكأنما قتل الناس جميعاً", يقول: من قتل نفساً واحدة حرمها الله, فهو مثل من قتل الناس جميعاً, وقال سعيد بن جبير: من استحل دم مسلم فكأنما استحل دماء الناس جميعاً, ومن حرم دم مسلم فكأنما حرم دماء الناس جميعاً, هذا قول وهو الأظهر, وقال عكرمة والعوفي عن ابن عباس: من قتل نبياً أو إمام عدل, فكأنما قتل الناس جميعاً, ومن شد على عضد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعاً, رواه بان جرير. وقال مجاهد في رواية أخرى عنه: من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً, وذلك لأن من قتل النفس فله النار فهو كما لو قتل الناس كلهم, قال ابن جريج, عن الأعرج, عن مجاهد في قوله: "فكأنما قتل الناس جميعاً" من قتل النفس المؤمنة متعمداً, جعل الله جزاءه جهنم, وغضب عليه ولعنه, وأعد له عذاباً عظيماً, يقول: لو قتل الناس جميعاً لم يزد على مثل ذلك العذاب, قال ابن جريج: قال مجاهد: "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً" قال: من لم يقتل أحداً فقد حيي الناس منه,
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: من قتل نفسا فكأنما قتل الناس, يعني فقد وجب عليه القصاص, فلا فرق بين الواحد والجماعة, ومن أحياها أي عفا عن قاتل وليه فكأنما أحيا الناس جميعاً, وحكى ذلك عن أبيه, رواه ابن جرير, وقال مجاهد في رواية: ومن أحياها, أي أنجاها من غرق أو حرق أو هلكة, وقال الحسن وقتادة في قوله: "أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً", هذا تعظيم لتعاطي القتل, قال قتادة: عظيم والله وزرها, وعظيم والله أجرها: وقال ابن المبارك, عن سلام بن مسكي, عن سليمان بن على الربعي, قال: قلت للحسن: هذه الآية لنا يا أبا سعيد كما كانت لبني إسرائيل , فقال: إي والذي لا إله غيره, كما كانت لبني إسرائيل وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا, وقال الحسن البصري: "فكأنما قتل الناس جميعاً", قال: وزراً, "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً", قال: أجراً. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي, عن عبد الله بن عمرو قال: جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله, اجعلني على شيء أعيش به, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا حمزة نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها ؟" قال: بل نفس أحييها. قال "عليك بنفسك" .
قوله تعالى: "ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات" أي بالحجج والبراهين والدلائل الواضحة, "ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون" وهذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها, كما كانت بنو قريظة والنضير وغيرهم من بني قينقاع ممن حول المدينة من اليهود الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج, إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية, ثم إذا وضعت الحروب أوزارها . فدوا من أسروه وودوا من قتلوه, وقد أنكر الله عليهم ذلك في سورة البقرة حيث يقول " وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون * ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ".
وقوله "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض" الآية, المحاربة هي المضادة والمخالفة, وهي صادقة على الكفر وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل, وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر, حتى قال كثير من السلف, منهم سعيد بن المسيب: إن قبض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض . وقد قال تعالى: "وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد" ثم قال بعضهم: نزلت هذه الآية الكريمة في المشركين, كما قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا يحيى بن واضح, حدثنا الحسين بن واقد عن يزيد عن عكرمة والحسن البصري, قالا " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم * إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم " نزلت هذه الآية في المشركين, فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه, لم يكن عليه سبيل, وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل, أو أفسد في الأرض, أو حارب الله ورسوله, ثم لحق بالكفار قبل أن يقدروا عليه, لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصاب, ورواه أبو داود والنسائي من طريق عكرمة, عن ابن عباس: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً", نزلت في المشركين من تاب منهم قبل أن يقدر عليه, لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً" الآية, قال: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق, فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض, فخير الله رسوله إن شاء أن يقتل وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف, رواه ابن جرير .
وروى شعبة عن منصور عن هلال بن يساف, عن مصعب بن سعد, عن أبيه قال: نزلت في الحرورية "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً" رواه ابن مردويه, والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات، كما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي قلابة واسمه عبد الله بن زيد الجرمي البصري عن أنس بن مالك أن نفراً من عكل ثمانية, قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام, فاستوخموا المدينة, وسقمت أجسامهم فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك, فقال "ألا تخرجون مع راعينا في إبله, فتصيبوا من أبوالها وألبانها" فقالوا: بلى, فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها فصحوا, فقتلوا الراعي, وطردوا الإبل, فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهم فأدركوا فجيء بهم, فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم, وسمرت أعينهم, ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا, لفظ مسلم, وفي لفظ لهما: من عكل أو عرينة, وفي لفظ: وألقوا في الحرة فجعلوا يستسقون, فلا يسقون .
وفي لفظ لمسلم: ولم يحسمهم, وعند البخاري قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم, وحاربوا الله ورسوله, ورواه مسلم من طريق هشيم عن عبد العزيز بن صهيب, وحميد عن أنس, فذكر نحوه وعنده فارتدوا, وقد أخرجاه من رواية قتادة عن أنس بنحوه, وقال سعيد عن قتادة: من عكل وعرينة, وراه مسلم من طريق سليمان التيمي, عن أنس قال: إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك, لأنهم سملوا أعين الرعاء, ورواه مسلم من حديث معاوية بن قرة عن أنس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من عرينة فأسلموا وبايعوه, وقد وقع بالمدينة الدم وهو البرسام, ثم ذكر نحو حديثهم وزاد: عنده شباب من الأنصار قريب من عشرين, فارساً فأرسلهم وبعث معم قائفاً يقفو أثرهم وهذه كلها ألفاظ مسلم رحمه الله .
وقال حماد بن سلمة: حدثنا قتادة وثابت البناني وحميد الطويل عن أنس بن مالك أن ناساً من عرينة قدموا المدينة فاجتووها, فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة, وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها, ففعلوا فصحوا, فارتدوا عن الإسلام, وقتلوا الراعي, وساقوا الإبل, فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم فجيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف, وسمر أعينهم وألقاهم في الحرة قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشاً حتى ماتوا, ونزلت "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" الآية, وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه وهذا لفظه, وقال الترمذي: حسن صحيح .
وقد رواه ابن مردويه من طرق كثيرة عن أنس بن مالك, منها ما رواه من طريقين عن سلام بن أبي الصهباء, عن ثابت, عن أنس بن مالك, قال: ما ندمت على حديث, ما ندمت على حديث سألني عنه الحجاج, قال: أخبرني عن أشد عقوبة عاقب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال: قلت قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة من البحرين, فشكوا إلى رسول الله ما لقوا من بطونهم, وقد اصفرت ألوانهم, وضمرت بطونهم, فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها, حتى إذا رجعت إليهم ألوانهم وانخمصت بطونهم, عمدوا إلى الراعي فقتلوه, واستاقوا الإبل, فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم, ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا. فكان الحجاج إذا صعد المنبر يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قطع أيدي قوم وأرجلهم, ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا بحال ذود من الإبل, فكان الحجاج يحتج بهذا الحديث على الناس .
وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل, حدثنا الوليد يعني ابن مسلم, حدثني سعيد, عن قتادة, عن أنس, قال كانوا أربعة نفر من عرينة, وثلاثة نفر من عكل, فلما أتي بهم قطع أيديهم وأرجلهم, وسمر أعينهم, ولم يحسمهم وتركهم يلتقمون الحجارة بالحرة, فأنزل الله في ذلك "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" الآية .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن حرب الموصلي, حدثنا أبو مسعود يعني عبد الرحمن بن الحسن الزجاج, حدثنا أبو سعيد يعني البقال, عن أنس بن مالك قال: كان رهط من عرينة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهم جهد, مصفرة ألوانهم, عظيمة بطونهم, فأمرهم أن يلحقوا بالإبل فيشربوا من أبوالها وألبانها, ففعلوا فصفت ألوانهم, وخمصت بطونهم, وسمنوا, فقتلوا الراعي, واستاقوا الإبل, فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم, فأتي بهم, فقتل بعضهم, وسمر أعين بعضهم, وقطع أيدي بعضهم وأرجلهم, ونزلت "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" إلى آخر الآية وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا أبو علي بن سهل, حدثنا الوليد بن مسلم, حدثنا يزيد بن لهيعة عن ابن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الآية, فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين وهم من بجيلة, قال أنس: فارتدوا عن الإسلام, وقتلوا الراعي, واستاقوا الإبل, وأخافوا السبيل, وأصابوا الفرج الحرام, وقال حدثني يونس, أخبرنا ابن وهب, أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال, عن أبي الزناد, عن عبد الله بن عبيد الله, عن عبد الله بن عمر أو عمرو ـ شك يونس ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك, يعني بقصة العرنيين, ونزلت فيهم آية المحاربة, ورواه أبو داود والنسائي من طريق أبي الزناد, وفيه عن ابن عمر من غير شك .
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن خلف, حدثنا الحسن بن حماد عن عمرو بن هاشم, عن موسى بن عبيدة, عن محمد بن إبراهيم, عن جرير, قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة حفاة مضرورين, فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صحوا واشتدوا, قتلوا رعاء اللقاح, ثم خرجوا باللقاح عامدين بها إلى أرض قومهم, قال جرير فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم بعدما أشرفوا على بلاد قومهم, فقدمنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف, وسمل أعينهم, فجعلوا يقولون: الماء, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: النار حتى هلكوا, قال: وكره الله عز وجل سمل الأعين, فأنزل الله هذه الآية "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" إلى آخر الآية, هذا حديث غريب, وفي إسناده الربذي وهو ضعيف, وفي إسناده فائدة, وهو ذكر أمير هذه السرية, وهو جرير بن عبد الله البجلي, وتقدم في صحيح مسلم أن هذه السرية كانوا عشرين فارساً من الأنصار, وأما قوله: فكره الله سمل الأعين, فأنزل الله هذه الآية, فإنه منكر, وقد تقدم في صحيح مسلم أنهم سملوا أعين الرعاء, فكان ما فعل بهم قصاصاً, والله أعلم .
وقال عبد الزراق عن إبراهيم بن محمد الأسلمي, عن صالح مولى التوأمة, عن أبي هريرة, قال قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من بني فزارة قد ماتوا هزلاً, فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى لقاحه, فشربوا منها حتى صحوا, ثم عمدوا إلى لقاحه فسرقوها, فطلبوا فأتي بهم النبي صلى الله عليه وسلم فقطع أيديهم وأرجلهم, وسمر أعينهم. قال أبو هريرة ففيهم نزلت هذه الآية "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله", فترك النبي صلى الله عليه وسلم سمر الأعين بعد, وروي من وجه آخر عن أبي هريرة .
وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا الحسين بن إسحاق التستري, حدثنا أبو القاسم محمد بن الوليد عن عمرو بن محمد المديني, حدثنا محمد بن طلحة عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي, عن أبيه, عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن سلمة بن الأكوع قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم غلام يقال له يسار, فنظر إليه يحسن الصلاة فأعتقه, وبعثه في لقاح له بالحرة فكان بها, قال: فأظهر قوم الإسلام من عرينة, وجاؤوا وهم مرضى موعوكون قد عظمت بطونهم قال: فبعث بهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى يسار, فكانوا يشربون من ألبان الإبل حتى انطوت بطونهم, ثم عدوا على يسار فذبحوه, وجعلوا الشوك في عينيه, ثم أطردوا الإبل, فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم خيلاً من المسلمين, كبيرهم كرز بن جابر الفهري, فلحقهم فجاء بهم إليه فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم, غريب جداً, وقد روى قصة العرنيين من حديث جماعة من الصحابة منهم جابر وعائشة وغير واحد, وقد اعتنى الحافظ الجليل أبو بكر بن مردويه بتطريق هذا الحديث من وجوه كثيرة جداً فرحمه الله وأثابه .
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق, سمعت أبي يقول: سمعت أبا حمزة عن عبد الكريم وسئل عن أبوال الإبل فقال: حدثني سعيد بن جبير عن المحاربين فقال: كان أناس أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: نبايعك على الإسلام, فبايعوه وهم كذبة, وليس الإسلام يريدون, ثم قالوا: إنا نجتوي المدينة, فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذه اللقاح تغدوا عليكم وتروح, فاشربوا من أبوالها وألبانها, قال: فبينما هم كذلك إذ جاءهم الصريخ, فصرخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قتلوا الراعي, واستاقوا النعم, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فنودي في الناس "أن يا خيل الله اركبي" قال: فركبوا لا ينتظر فارس فارساً, قال: وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثرهم, فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنهم, فرجع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسروا منهم, فأتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" الآية, قال فكان نفيهم أن نفوهم حتى أدخلوهم مأمنهم وأرضهم, ونفوهم من أرض المسلمين, وقتل نبي الله صلى الله عليه وسلم منهم وصلب, وقطع وسمر الأعين, قال: فما مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولا بعد, قال: ونهى عن المثلة, وقال "ولا تمثلوا بشيء" قال: وكان أنس يقول ذلك, غير أنه قال: أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم, قال: وبعضهم يقول: هم ناس من بني سليم, ومنهم من عرينة, وناس من بجيلة .
وقد اختلف الأئمة في حكم هؤلاء العرنيين: هل هو منسوخ, أو محكم ؟ فقال بعضهم: هو منسوخ بهذه الآية, وزعموا أن فيها عتاباً للنبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله "عفا الله عنك لم أذنت لهم" ومنهم من قال: هو منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة, وهذا القول فيه نظر, ثم قائله مطالب ببيان تأخر الناسخ الذي ادعاه عن المنسوخ, وقال بعضهم: كان هذا قبل أن تنزل الحدود, قاله محمد بن سيرين, وفيه نظر, فإن قصته متأخرة, وفي رواية جرير بن عبد الله لقصتهم ما يدل على تأخرها, فإنه أسلم بعد نزول المائدة, ومنهم من قال لم يسمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم, وإنما عزم على ذلك حتى نزل القرآن فبين حكم المحاربين, وهذا القول أيضاً فيه نظر, فإنه قد تقدم في الحديث المتفق عليه أنه سمل, وفي رواية سمر أعينهم .
وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل, حدثنا الوليد بن مسلم قال: ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم, وتركه حسمهم حتى ماتوا, فقال: سمعت محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في ذلك, وعلمه عقوبة مثلهم من القتل والقطع والنفي, ولم يسمل بعدهم غيرهم قال: وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو يعني الأوزاعي, فأنكر أن يكون نزلت معاتبة, وقال: بل كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم, ورفع عنهم السمل, ثم قد احتج بعموم هذه الآية جمهور من العلماء في ذهابهم إلى أن حكم المحاربة في الأمصار وفي السبلان على السواء لقوله "ويسعون في الأرض فساداً" وهذا مذهب مالك والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد بن حنبل, حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتاً فيقتله, ويأخذ ما معه: إن هذه محاربة, ودمه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول, ولا اعتبار بعفوه عنه في إسقاط القتل. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تكون المحاربة إلا في الطرقات, فأما في الأمصار فلا, لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث, بخلاف الطريق لبعده ممن يغيثه ويعينه .
وقوله تعالى " أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض " قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية: من شهر السلاح في فئة الإسلام, وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه فإمام المسلمين فيه بالخيار إن شاء قتله وإن شاء صلبه, وإن شاء قطع يده ورجله وكذا قال سعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك وروى ذلك كله أبو جعفر بن جرير وحكى مثله عن مالك بن أنس رحمه الله ومستند هذا القول أن ظاهر أو للتخيير كما في نظائر ذلك من القرآن كقوله في جزاء الصيد "فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً" وكقوله في كفارة الفدية "فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" وكقوله في كفارة اليمين " فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة " هذه كلها على التخيير فكذلك فلتكن هذه الآية .
وقال الجمهور: هذه الآية منزلة على أحوال, كما قال أبو عبد الله الشافعي: أنبأنا إبراهيم بن أبي يحيى عن صالح مولى التوأمة, عن ابن عباس في قطاع الطريق, إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا, وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا, وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف, وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض, وقد رواه ابن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان, عن حجاج, عن عطية عن ابن عباس بنحوه, وعن أبي مخلد وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والسدي وعطاء الخراساني نحو ذلك, وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة, واختلفوا: هل يصلب حياً ويترك حتى يموت بمنعه من الطعام والشراب, أو بقتله برمح أو نحوه, أو يقتل أولاً ثم يصلب تنكيلا وتشديداً لغيره من المفسدين, وهل يصلب ثلاثة أيام ثم ينزل أو يترك حتى يسيل صديده ؟ في ذلك كله خلاف محرر في موضعه, وبالله الثقة وعليه التكلان .
ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسيره إن صح سنده فقال: حدثنا علي بن سهل, حدثنا الوليد بن مسلم عن يزيد بن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان, كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية, فكتب إليه يخبره أنها نزلت في أولئك النفر العرنيين وهم من بجيلة, قال أنس: فارتدوا عن الإسلام, وقتلوا الراعي, واستاقوا الإبل, وأخافوا السبيل, وأصابوا الفرج الحرام, قال أنس: فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرائيل عليه السلام عن القضاء فيمن حارب فقال: من سرق مالاً وأخاف السبيل, فاقطع يده بسرقته ورجله بإخافته, ومن قتل فاقتله, ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه .
وأما قوله تعالى: "أو ينفوا من الأرض" قال بعضهم: هو أن يطلب حتى يقدر عليه فيقام عليه الحد أو يهرب من دار الإسلام, رواه ابن جرير عن ابن عباس, وأنس بن مالك وسعيد بن جبير والضحاك والربيع بن أنس والزهري والليث بن سعد ومالك بن أنس وقال آخرون: هو أن ينفى من بلده إلى بلد آخر أو يخرجه السلطان أو نائبه من معاملته بالكلية وقال الشعبي: ينفيه ـ كما قال ابن هبيرة ـ من عمله كله. وقال عطاء الخراساني ينفى من جند إلى جند سنين, ولا يخرج من دار الإسلام, وكذا قال سعيد بن جبير وأبو الشعثاء والحسن والزهري والضحاك ومقاتل بن حيان إنه ينفى ولا يخرج من أرض الإسلام, وقال آخرون: المراد بالنفي ههنا السجن, وهو قول أبي حنيفة وأصحابه, واختار ابن جرير أن المراد بالنفي ههنا أن يخرج من بلده إلى بلد آخر فيسجن فيه .
وقوله تعالى: "ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم" أي هذا الذي ذكرته من قتلهم ومن صلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ونفيهم, خزي لهم بين الناس في هذه الحياة الدنيا مع ما ادخر الله لهم من العذاب العظيم يوم القيامة, وهذا يؤيد قول من قال: إنها نزلت في المشركين فأما أهل الإسلام ففي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء ألا نشرك بالله شيئا, ولا نسرق ولا نزني, ولا نقتل أولادنا, ولا يعضه بعضنا بعضا, فمن وفى منكم فأجره على الله تعالى, ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب فهو كفارة له, ومن ستره الله فأمره إلى الله: إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه, وعن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أذنب ذنباً في الدنيا فعوقب به, فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده, ومن أذنب ذنبا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه, فالله أكرم من أن يعود عليه في شيء قد عفا عنه". رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه, وقال الترمذي: حسن غريب. وقد سئل الحافظ الدارقطني عن هذا الحديث, فقال: روي مرفوعاً وموقوفاً, قال ورفعه صحيح .
وقال ابن جرير في قوله: "ذلك لهم خزي في الدنيا" يعني شر وعار ونكال وذلة وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة. "ولهم في الآخرة عذاب عظيم" أي إذا لم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا لهم في الآخرة مع الجزاء الذي جازيتهم به في الدنيا, والعقوبة التي عاقبتهم بها فيها "عذاب عظيم", يعني عذاب جهنم, وقوله تعالى: "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم" أما على قول من قال: إنها في أهل الشرك فظاهر, وأما المحاربون المسلمون فإذا تابوا قبل القدرة عليهم, فإنه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب وقطع الرجل, وهل يسقط قطع اليد أم لا ؟ فيه قولان للعلماء, وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع, وعليه عمل الصحابة, كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو أسامة, عن مجالد, عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة, وكان قد أفسد في الأرض وحارب, فكلم رجالاً من قريش منهم الحسن بن علي وابن عباس وعبد الله بن جعفر, فكلموا علياً فيه فلم يؤمنه, فأتى سعيد بن قيس الهمداني فخلفه في داره, ثم أتى علياً, فقال: يا أمير المؤمنين, أرأيت من حارب الله ورسوله, وسعى في الأرض فساداً, فقرأ حتى بلغ "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم" قال: فكتب له أماناً, قال سعيد بن قيس: فإنه حارثة بن بدر, وكذا رواه ابن جرير من غير وجه عن مجالد عن الشعبي به, وزاد فقال حارثة بن بدر:
ألا بلغن همدان أما لقيتها على النأي لا يسلم عدو يعيبها
لعمر أبيها إن همدان تتقي الإ له ويقضي بالكتاب خطيبها
وروى ابن جرير من طريق سفيان الثوري عن السدي, ومن طريق أشعث, كلاهما عن عامر الشعبي قال: جاء رجل من مراد إلى أبي موسى وهو على الكوفة في إمارة عثمان رضي الله عنه بعدما صلى المكتوبة, فقال: يا أبا موسى هذا مقام العائذ بك, أنا فلان بن فلان المرادي, وإني كنت حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض فسادا, وإني تبت من قبل أن تقدروا علي, فقال أبو موسى فقال: إن هذا فلان بن فلان, وإنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً, وإنه تاب من قبل أن نقدر عليه فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير, فإن يك صادقاً فسبيل من صدق, وإن يك كاذباً تدركه ذنوبه, فأقام الرجل ما شاء الله, ثم إنه خرج فأدركه الله تعالى بذنوبه فقتله, ثم قال ابن جرير: حدثني علي, حدثنا الوليد بن مسلم قال: قال الليث: وكذلك حدثني موسى بن إسحاق المدني, وهو الأمير عندنا, أن علياً الأسدي حارب وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال فطلبه الأئمة والعامة, فامتنع ولم يقدروا عليه حتى جاء تائباً, وذلك أنه سمع رجلاً يقرأ هذه الآية "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم" فوقف عليه فقال: يا عبد الله أعد قراءتها فأعادها عليه, فغمد سيفه, ثم جاء تائباً حتى قدم المدينة من السحر, فاغتسل ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح ثم قعد إلى أبي هريرة في أغمار أصحابه, فلما أسفروا عرفه الناس فقاموا إليه فقال: لا سبيل لكم علي جئت تائباً من قبل أن تقدورا علي, فقال أبو هريرة: صدق, وأخذ بيده حتى أتى مروان بن الحكم وهو أمير على المدينة في زمن معاوية فقال: هذا علي جاء تائباً ولا سبيل لكم عليه ولا قتل, فترك من ذلك كله, قال وخرج علي تائباً مجاهداً في سبيل الله في البحر, فلقوا الروم فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم فاقتحم على الروم في سفينتهم فهربوا منه إلى شقها الآخر, فمالت به وبهم فغرقوا جميعاً .
قوله: 33- "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" قد اختلف في الناس في سبب نزول هذه الآية، فذهب الجمهور إلى أنها نزلت في العرنيين. وقال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: لأنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع الطريق ويسعى في الأرض بالفساد. قال ابن المنذر: قول مالك صحيح.
33- " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادً " ، الآية.قال الضحاك : نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ، فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض .
وقال الكلبي : نزلت في قوم هلال بن عويمر ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر وهو أبو بردة الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه ، ومن مر بهلال بن عويمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو آمن لا يهاج، فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بناس من أسلم من قوم هلال بن عويمر ، ولم يكن هلال شاهداً [ فشدوا ] عليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فنزل جبريل عليه السلام بالقضية فيهم، وقال سعيد بن جبير : نزلت في ناس من عرينة و عكل أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وهم كذبة فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة، فارتدوا وقتلوا الراعي/ واستاقوا الإبل.
[ أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا علي بن عبد الله ثنا الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي حدثني أبو قلابة الجرمي ] عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قدم علي النبي صلى الله عليه وسلم نفر من عكل فأسلموا واجتووا المدينة فأمرهم [ النبي صلى الله عليه وسلم ] أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها ، ففعلوا فصحوا فارتدوا وقتلوا رعاتها واستاقوا الإبل ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فأتى بهم فقطع أيديهم أرجلهم وسمل أعينهم ثم لم يحسمهم حتى ماتوا.
ورواه أيوب عن قلابة عن أنس رضي الله عنه قال: فقطع أيديهم وأرجلهم ثم أمر بمسامير فكحلهم بها وطرحهم بالحرة يستسقون فما يسقون حتى ماتوا ، قال أبو قلابة : قتلوا وسرقوا وحاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فساداً [ وهو المراد من قوله تعالى: " ويسعون في الأرض فساداً " ].
واختلفوا في حكم هؤلاء العرنيين، فقال بعضهم: هي منسوخة لأن المثلة لا تجوز، وقال بعضهم:حكمه ثابت إلا السمل [ والمثلة ] ، و روى قتادة عن ابن سيرين أن ذلك كان قبل أن [ ينزل الحد ] وقال أبو الزناد : فلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بهم أنزل الله الحدود ونهاه عن المثلة فلم يعد.
وعن قتادة قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعد ذلك يحث على الصدقة وينهى عن المثلة.
وقال سليمان التيمي عن أنس : إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سلموا أعين الرعاة.و قال الليث بن سعد : نزلت هذه الآية معاتبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليماً منه إياه عقوبتهم، وقال : إنما جزاؤهم هذا لا المثلة، ولذلك ما قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً إلا نهى عن المثلة.
واختلفوا في المحاربين الذين يستحقون هذا الحد، فقال قوم: هم الذين يقطعون الطريق ويحملون السلاح ، والمكابرون في الأمصار، وهو قول الأوزاعي و مالك و الليث بن سعد و الشافعي رحمهم الله.
وقال قوم: المكابرون في الأمصار ليس لهم حكم المحاربين في استحقاق هذه الحدود وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه .
وعقوبة المحاربين ما ذكر الله سبحانه وتعالى: " أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض "، فذهب قوم إلى أن الإمام بالخيار في أمر المحاربين بين القتل والقطع والصلب ، [ والنفي ] كما هو ظاهر الآية، وهو قول سعيد بن المسيب و الحسن و النخعي و مجاهد .
وذهب الأكثر إلى أن هذه العقوبات على ترتيب الجرائم لا على التخيير، [ لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا إبراهيم بن محمد عن صالح مولى التوأمة ] عن ابن عباس رضي الله عنهما في قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا ، و إذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا ، و إذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، فإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً نفوا من الأرض.
وهو قول قتادة و الأوزاعي و الشافعي وأصحاب الرأي رحمهم الله تعالى .
[ وإذا قتل قاطع الطريق يقتل ] حتماً حتى لا يسقط بعفو ولي الدم ، وإذا أخذ من المال نصاباً وهو ربع دينار تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، وإذا قتل و أخذ المال يقتل ويصلب.
واختلفوا في كيفيته : فظاهر مذهب الشافعي رضي الله عنه أن يقتل ثم يصلب وقيل: يصلب حياً ثم يطعن حتى يموت مصلوباً ، وهو قول الليث بن سعد ، و قيل : يصلب ثلاثة أيام حياً ثم ينزل فيقتل ، وإذا أخاف السبيل ينفى.
واختلفوا في النفي : فذهب قوم إلى أن الإمام يطلبه ففي كل بلدة يوجد ينفى عنه ، وهو قول سعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز ، وقيل: يطلب لتقام الحدود عليه ، وهو قول ابن عباس و الليث بن سعد ، وبه قال الشافعي ، وقال أهل الكوفة: النفي هو الحبس، وهو نفي من الأرض، وقال محمد بن جرير : ينفي من بلده إلى غيره ويحبس في السجن [ في البلد الذي نفي إليه حتى تظهر توبته . كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من حبس في السجون ] ، وقال : أحبسه حتى أعلم منه التوبة، ولا أنفيه إلى بلد فيؤذيهم، " ذلك "، الذي ذكرت من الحد ، " لهم خزي " عذاب وهوان وفضيحة، " في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب عظيم ".
33" إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " أي يحاربون أولياءهما وهم المسلمون، جعل محاربتهم محاربتهما تعظيماً. وأصل الحرب السلب والمراد به ههنا قطع الطريق. وقيل المكابرة في باللصوصية وإن كانت في مصر. " ويسعون في الأرض فسادا " أي مفسدين، ويجوز نصبه على العلة أو المصدر لأن سعيهم كان فساداً فكأنه قيل: ويفسدون في الأرض فساداً. " أن يقتلوا " أي قصاصاً من غير صلب إن أفردوا القتل. " أو يصلبوا " أي يصلبوا مع القتل إن قتلوا وأخذوا المال، وللفقهاء خلاف في أنه يقتل ويصلب أو يصلب حياً ويترك أو يطعن حتى يموت. " أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف " تقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى إن أخذوا المال ولم يقتلوا. " أو ينفوا من الأرض " ينفوا من بلد إلى بلد بحيث لا يتمكنون من القرار في موضع إن اقتصروا على الإخافة. وفسر أبو حنيفة النفي بالحبس، وأو في الآية على التفصيل، وقيل: إنه للتخيير والإمام مخير بين هذه العقوبات في كل قاطع طريق. " ذلك لهم خزي في الدنيا " ذل وفضيحة. " ولهم في الآخرة عذاب عظيم " لعظم ذنوبهم.
33. The only reward of those who make war upon Allah and His messenger and strive after corruption in the land will be that they will be killed or crucified, or have their hands and feet on alternate sides cut off, or will be expelled out of the land. Such will be their degradation in the world, and in the Hereafter theirs will be an awful doom;
33 - The punishment of those who wage war against God and his apostle, and strive with might and main for mischief through the land is: execution, or crucifixion, or the cutting off of hands and feet from opposite sides, or exile from the land: that is their disgrace in this world, and a heavy punishment is theirs in the hereafter;