[المائدة : 2] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
2 - (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله) جمع شعيرة ، أي معالم دينه بالصيد في الإحرام (ولا الشهر الحرام) بالقتال فيه (ولا الهدي) ما أهدي إلى الحرم من النعم بالتعرض له (ولا القلائد) جمع قلادة وهي ما كان يقلد به من شجر الحرم ليأمن أي فلا تتعرضوا لها ولا لأصحابها (ولا) تحلوا (آمين) قاصدين (البيت الحرام) بأن تقاتلوهم (يبتغون فضلا) رزقا (من ربهم) بالتجارة (ورضوانا) منه بقصده بزعمهم الفاسد ، وهذا منسوخ بآية براءة (وإذا حللتم) من الإحرام (فاصطادوا) أمر إباحة (ولا يجرمنكم) يكسبنكم (شنآن) بفتح النون وسكونها ، بغض (قوم) لأجل (أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا) عليهم بالقتل وغيره (وتعاونوا على البر) بفعل ما أُمرتم به (والتقوى) بترك ما نهيتم عنه (ولا تعاونوا) فيه حذف إحدى التاءين في الأصل (على الإثم) المعاصي (والعدوان) التعدي في حدود الله (واتقوا الله) خافوا عقابه بأن تطيعوه (إن الله شديد العقاب) لمن خالفه
قوله تعالى لا تحلوا شعائر الله أخرج ابن جرير عن عكرمة قال قدم الحطم بن هند البكري المدينة في عير له يحمل طعاما فباعه ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فبايعه وأسلم فلما ولى خارجا نظر إليه فقال لمن عنده لقد دخل علي بوجه فاجر وولى بقفا غادر فلما قدم اليمامة ارتد عن الإسلام وخرج في عير له يحمل الطعام في ذي القعدة يريد مكة فلما سمع به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تهيأ للخروج إليه نفر من المهاجرين والأنصار ليقتطعوه في عيره فأنزل الله يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله الآية فانتهى القوم وأخرج عن السدي نحوه
قوله تعالى ولا يجرمنكم الآية أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية واصحابه حين صدهم
المشركون عن البيت وقد اشتد ذلك عليهم فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نصد هؤلاء كما صدوا أصحابنا فأنزل الله ولا يجرمنكم الآية
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى قول الله : "لا تحلوا شعائر الله" فقال بعضهم معناه : لا تحلوا حرمات الله ، ولا تتعدوا حدوده ، كأنهم وجهوا الشعائر إلى المعالم ، وتأولوا "لا تحلوا شعائر الله"، معالم حدود الله ، وأمره ونهيه وفرائضه .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال ، حدثنا حبيب المعلم، عن عطاء: أنه سئل عن "شعائر الله"، فقال : حرمات الله ، اجتناب سخط الله ، واتباع طاعته ، فذلك "شعائر الله".
وقال آخرون : معنى ذلك : لا تحلوا حرم الله ، فكأنهم وجهوا معنى قوله : "شعائر الله"، أي: معالم حرم الله من البلاد.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله"، قال : أما "شعائر الله"، فحرم الله .
وقال آخرون : معنى ذلك : لا تحلوا مناسك الحج فتضيعوها، وكأنهم وجهوا تأويل ذلك إلى: لا تحلوا معالم حدود الله التي حدها لكم في حجكم.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، قال ابن عباس قوله : "لا تحلوا شعائر الله"، قال : مناسك الحج.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثنا معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله : "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله"، قال : كان المشركون يحجون البيت الحرام ، ويهدون الهدايا ، ويعظمون حرمة المشاعر، ويتجرون في حجهم ، فاراد المسلمون أن يغيروا عليهم ، فقال الله عز وجل : "لا تحلوا شعائر الله".
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "شعائر الله"، الصفا والمروة، والهدي ، والبدن ، كل هذا من "شعائر الله".
حدثني المثنى قال ، حدثني أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد، مثله .
وقال آخرون : معنى ذلك : لا تحلوا ما حرم الله عليكم في حال إحرامكم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "لا تحلوا شعائر الله"، قال : "شعائر الله"، ما نهى الله عنه أن تصيبه وأنت محرم.
وكأن الذين قالوا هذه المقالة، وجهوا تأويل ذلك إلى : لا تحلوا معالم حدود الله التي حرمها عليكم في إحرامكم .
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات بقوله : "لا تحلوا شعائر الله"، قول عطاء الذي ذكرناه ، من توجيهه معنى ذلك إلى : لا تحلوا حرمات الله ولا تضيعوا فرائضه.
لأن الشعائر جمع شعيرة ، والشعيرة فعيلة من قول القائل : قد شعر فلان بهذا الأمر، إذا علم به . ف الشعائر، المعالم ، من ذلك .
وإذا كان ذلك كذلك ، كان معنى الكلام : لا تستحلوا، أيها الذين آمنوا، معالم الله . فيدخل في ذلك معالم الله كلها في مناسك الحج : من تحريم ما حرم الله إصابته فيها على المحرم ، وتضييع ما نهى عن تضييعه فيها، وفيما حرم من استحلال حرمات حرمه ، وغير ذلك من حدوده وفرائضه ، وحلاله وحرامه ، لأن كل ذلك من معالمه وشعائره التي جعلها أمارات بين الحق والباطل ، يعلم بها حلال وحرامه ، وأمره ونهيه.
وإنما قلنا ذلك القول أولى بتأويل قوله تعالى : "لا تحلوا شعائر الله"، لأن الله نهى عن استحلال شعائره ومعالم حدوده وإحلالها نهياً عاماً، من غير اختصاص شيء من ذلك دون شيء ، فلم يخز لأحد أن يوجه معنى ذلك إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها، ولا حجة بذلك كذلك .
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله : "ولا الشهر الحرام"، ولا تستحلوا الشهر الحرام بقتالكم فيه أعداءكم من المشركين ، وهو كقوله : " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير " [البقرة : 217].
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن عباس وغيره.
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس قوله : "ولا الشهر الحرام"، يعني : لا تستحلوا قتالا فيه.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة قال : كان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت ، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت .
وأما الشهر الحرام الذي عناه الله بقوله : "ولا الشهر الحرام"، فرجب مضر، وهو شهر كانت مضر تحرم فيه القتال.
وقد قيل : هو في هذا الموضع ذو القعدة.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قال : هو ذو القعدة .
وقد بينا الدلالة على صحة ما قلنا في ذلك فيما مضى، وذلك في تأويل قوله : "يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه" [البقرة : 217].
قال أبو جعفر: أما الهدي، فهو ما أهداه المرء من بعير أو بقرة أو شاة أو غير ذلك ، إلى بيت الله ، تقرباً به إلى الله ، وطلب ثوابه.
يقول الله عز وجل : فلا تستحلوا ذلك ، فتغصبوه أهله غلبةً، ولا تحولوا بينهم وبين ما أهدوا من ذلك أن يبلغوا به المحل الذي جعله الله جل وعز محله من كعبته.
وقد روي عن ابن عباس أن "الهدي" إنما يكون هديا ما لم يقلد.
حدثني بذلك محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "ولا الهدي"، قال : الهدي ما لم يقلد، وقد جعل على نفسه أن يهديه ويقلده.
وأما قوله : "ولا القلائد"، فإنه يعني : ولا تحلوا أيضا القلائد.
ثم اختلف أهل التأويل في "القلائد" التي نهى الله عز وجل عن إحلالها. فقال بعضهم : عنى ب "القلائد"، قلائد الهدي . وقالوا : إنما أراد الله جل وعز بقوله : " ولا الهدي ولا القلائد "، ولا تحلوا الهدايا المقلدات منها وغير المقلدات. فقوله : "ولا الهدي"، ما لم يقلد من الهدايا، "ولا القلائد"، المقلد منها . قالوا : ودل بقوله : "ولا القلائد"، على معنى ما أراد من النهي عن استحلال الهدايا المقلدة.
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "ولا القلائد"، القلائد، مقلدات الهدي. وإذا قلد الرجل هديه فقد أحرم . فإن فعل ذلك وعليه قميصه ، فليخلعه.
وقال آخرون : يعني بذلك : القلائد التي كان المشركون يتقلدونها إذا أرادوا الحج مقبلين إلى مكة، من لحاء السمر، وإذا خرجوا منها إلى منازلهم منصرفين منها، من الشعر.
ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة: "لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام"، قال : كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج ، تقلد من السمر، فلم يعرض له أحد. فإذا رجع تقلد قلادة شعر، فلم يعرض له أحد.
وقال آخرون : بل كان الرجل منهم يتقلد- إذا أراد الخروج من الحرم ، أو خرج - من لحاء شجر الحرم ، فيأمن بذلك من سائر قبائل العرب أن يعرضوا له بسوء.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن مالك بن مغول ، عن عطاء: "ولا القلائد"، قال : كانوا يتقلدون من لحاء شجر الحرم ، يأمنون بذلك إذا خرجوا من الحرم ، فنزلت : "لا تحلوا شعائر الله"، الآية، "ولا الهدي ولا القلائد".
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "ولا القلائد"، قال : "القلائد"، اللحاء في رقاب الناس والبهائم ، أمن لهم.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : "ولا الهدي ولا القلائد"، قال : إن العرب كانوا يتقلدون من لحاء شجر مكة، فيقيم الرجل بمكانه ، حتى إذا انقضت الأشهر الحرم ، فأراد أن يرجع إلى أهله ، قلد نفسه وناقته من لحاء الشجر، فيأمن حتى يأتي أهله.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "ولا القلائد"، قال : "القلائد"، كان الرجل يأخذ لحاء شجرة من شجر الحرم ، فيتقلدها، ثم يذهب حيث شاء، فيأمن بذلك . فذلك "القلائد".
وقال آخرون : إنما نهى الله المؤمنين بقوله : "ولا القلائد"، أن ينزعوا شيئاً من شجر الحرم فيتقلدوه ، كما كان المشركون يفعلونه في جاهليتهم.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن عبد الملك ، عن عطاء في قوله : "ولا الهدي ولا القلائد"، كان المشركون يأخذون من شجر مكة، من لحاء السمر، فيتقلدونها، فيأمنون بها من الناس. فنهى الله أن ينزع شجرها فيتقلد.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس قال : جلسنا إلى مطرف بن الشخير، وعنده رجل فحدثهم في قوله : "ولا القلائد"، قال : كان المشركون يأخذون من شجر مكة، من لحاء السمر، فيتقلدون فيأمنون بها في الناس. فنهى الله عز ذكره أن ينزع شجرها فيتقلد.
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل قوله : "ولا القلائد"، إذ كانت معطوفة على أول الكلام ، ولم يكن في الكلام ما يدل على انقطاعها عن أوله ، ولا أنه عني بها النهي عن التقلد أو اتخاذ القلائد من شيء ، أن يكون معناه : ولا تحلوا القلائد.
فإذ كان ذلك بتأويله أولى، فمعلوم أنه نهي من الله جل ذكره عن استحلال حرمة المقلد، هدياً كان ذلك أو إنساناً، دون حرمة القلادة . وإن الله عز ذكره ، إنما دل بتحريمه حرمة القلادة، على ما ذكرنا من حرمة المقلد، فاجتزأ بذكره القلائد من ذكر المقلد، إذ كان مفهوماً عند المخاطبين بذلك معنى ما أريد به .
فمعنى الآية -إذ كان الأمر على ما وصفنا-: يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ، ولا الشهر الحرام ، ولا الهدي ، ولا المقلد نفسه بقلائد الحرم.
وقد ذكر بعض الشعراء في شعره ما ذكرنا عمن تأول "القلائد" أنها قلائد لحاء شجر الحرم الذي كان أهل الجاهلية يتقلدونه ، فقال وهو يعيب رجلين قتلا رجلين كانا تقلدا ذلك:
ألم تقتلا الحرجين إذ أعوراكما يمران بالأيدي اللحاء المضفرا
والحرجان ، المقتولان كذلك . ومعنى قوله : أعوراكما ، أمكناكما من عورتهما.
قال أبو جعفر: يعني بقوله عز ذكوه : "ولا آمين البيت الحرام"، ولا تحلوا قاصدي البيت الحرام العامديه.
تقول منه : أممت كذا ، إذا قصدته وعمدته ، وبعضهم يقول : يممته ، كما قال الشاعر:
إني كذاك إذا ما ساءني بلد يممت صدر بعيري غيره بلدا
و"البيت الحرام"، بيت الله الذي بمكة، وقد بينت فيما مضى لم قيل له الحرام .
"يبتغون فضلا من ربهم"، يعني : يلتمسون أرباحاً في تجاراتهم من الله "ورضوانا"، يقول : وأن يرضى الله عنهم بنسكهم.
وقد قيل : إن هذه الآية نزلت في رجل من بني ربيعة يقال له : الحطم .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : أقبل الحطم بن هند البكري ثم أحد بني قيس بن ثعلبة، حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم وحده ، وخنف خيله خارجة من المدينة . فدعاه ، فقال : إلام تدعو؟ فأخبره -وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة، يتكلم بلسان شيطان! - فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم قال : أنظر، ولعلي أسلم ، ولي من أشاوره. فخرج من عنده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقد دخل بوجه كافر، وخرج بعقب غادر! فمر بسرح من سرح المدينة فساقه ، فانطلق به وهو يرتجز:
قد لفها الليل بسواق حطم ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر الوضم باتوا نياماً وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم خدلج الساقين ممسوح القدم
ثم أقبل من عام قابل حاجاً قد قلد وأهدى، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه ، فنزلت هذه الآية، حتى بلغ : "ولا آمين البيت الحرام". قال له ناس من أصحابه : يا رسول الله ، خل بيننا وبينه ، فإنه صاحبنا! قال : إنه قد قلد! قالوا: إنما هو شيء كنا نصنعه في الجاهلية! فأبى عليهم ، فنزلت هذه الآية.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قال : قدم الحطم ، أخو بني ضبيعة بن ثعلبة البكري ، المدينة في عير له يحمل طعاماً، فباعه . ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فبايعه وأسلم . فلما ولى خارجاً، نظر إليه فقال لمن عنده : لقد دخل علي بوجه فاجر، وولى بقفا غادر! فلما قدم اليمامة ارتد عن الإسلام ، وخرج في عير له ف حمل الطعام في ذي القعدة يريد مكة. فلما سمع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تهيا للخروج إليه نفر من المهاجرين والأنصار ليقتطعوه في عيره ، فأنزل الله عز وجل : "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله"، الآية، فانتهى القوم.
قال ابن جريج قوله : "ولا آمين البيت الحرام"، قال : ينهى عن الحجاج أن تقطع سبلهم. قال : وذلك أن الحطم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم ليرتاد وينظر، فقال : إني داعية قوم ، فأعرض علي ما تقول! قال له : أدعوك إلى الله أن تعبده ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان ، وتحج البيت . قال الحطم : في أمرك هذا غلظة، أرجع إلى قومي فأذكر لهم ما ذكرت ، فإن قبلوه أقبلت معهم ، وإن أدبروا كنت معهم . قال له : ارجع . فلما خرج قال : لقد دخل علي بوجه كافر، وخرج من عندي بعقبي غادر، وما الرجل بمسلم! فمر على سرح لأهل المدينة فانطلق به ، فطلبه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففاتهم ، وقدم اليمامة، وحضر الحج ، فجهز خارجاً، وكان عظيم التجارة، فاستأذنوا أن يتلقوه ويأخذوا ما معه ، فأنزل الله عز وجل : "لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام".
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: "ولا آمين البيت الحرام" الآية، قال : هذا يوم الفتح ، جاء ناس يؤمون البيت من المشركين يهلون بعمرة، فقال المسلمون : يا رسول الله ، إنما هؤلاء مشركون كمثل هؤلاء، فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم. فنزل القرآن : "ولا آمين البيت الحرام".
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "ولا آمين البيت الحرام"، يقول : من توجه حاجاً.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن جويبر، عن الضحاك في قوله : "ولا آمين البيت الحرام"، يعني : الحاج.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال : جلسنا إلى مطرف بن الشخير وعنده رجل ، فحدثهم فقال : "ولا آمين البيت الحرام"، قال : الذين يريدون البيت.
ثم اختلف أهل العلم فيما نسخ من هذه الآية، بعد إجماعهم على أن منها منسوخاً.
فقال بعضهم : نسخ جميعها.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن بيان ، عن عامر قال : لم ينسخ من المائدة إلا هذه الآية : "لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد".
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد: "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله"، نسختها، "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" [التوبة :5].
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن بيان ، عن الشعبي قال ، لم ينسخ من سورة المائدة غير هذه الآية : "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله".
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله : "لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام" الآية، قال : منسوخ . قال : كان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت ، فأمروا أن لا يقاتلوا في الأشهر الحرم ، ولا عند البيت ، فنسخها قوله : "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" [التوبة:5].
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك : "لا تحلوا شعائر الله" إلى قوله : "ولا آمين البيت الحرام"، قال : نسختها براءة : "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" [التوبة :5].
حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن الضحاك، مثله.
حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا، حدثنا جرير، عن منصور، عن حبيب بن أبي ثابت : "لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد"، قال : هذا شيء نهي عنه ، فترك كما هو.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام"، قال : هذا كله منسوخ ، نسخ هذا أمره بجهادهم كافة.
وقال آخرون : الذي نسخ من هذه الآية قوله : "ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام ".
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبدة بن سليمان قال ، قرأت على ابن أبي عروبة فقال : هكذا سمعته من قتادة : نسخ من المائدة: "آمين البيت الحرام"، نسختها براءة قال الله : "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" [التوبة : 5]، وقال : "ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر" [التوبة : 17]، وقال : "إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا" [التوبة: 28]، وهو العام الذي حج فيه أبو بكر، فنادى فيه بالأذان.
حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة قوله : "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله" الآية، قال : فنسخ منها: "آمين البيت الحرام"، نسختها براءة فقال : "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" [التوبة : 5]، فذكر نحو حديث عبدة.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قال : نزل في شأن الحطم ، "ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام"، ثم نسخه الله فقال : "واقتلوهم حيث ثقفتموهم" [البقرة : 191].
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس قوله : "لا تحلوا شعائر الله" إلى قوله : "ولا آمين البيت"، فكان المؤمنون والمشركون يحجون إلى البيت جميعاً. فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحداً أن يحج البيت أو يعرضوا له ، من مؤمن أو كافر، ثم أنزل الله بعد هذا : "إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا" [التوبة : 28]، وقال : "ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله" [التوبة: 17]، وقال : "إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر" [التوبة : 18]، فنفى المشركين من المسجد الحرام .
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قول : "لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام" الآية، قال : منسوخ ، كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج ، تقلد من السمر فلم يعرض له أحد. وإذا رجع ، تقلد قلادة شعر فلم يعرض له أحد. وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت. وأمروا أن لا يقاتلوا في الأشهر الحرم ، ولا عند البيت ، فنسخها قول : "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" [التوبة :5].
وقال آخرون: لم ينسخ من ذلك شيء، إلا القلائد التي كانت في الجاهلية يتقلدونها من لحاء الشجر.
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام"، الآية، قال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : هذا كله من عمل الجاهلية فعله وإقامته ، فحرم الله ذلك كله بالإسلام ، إلا لحاء القلائد، فترك ذلك ، "ولا آمين البيت الحرام"، فحرم الله على كل أحد إخافتهم.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة، قول من قال : نسخ الله من هذه الآية قوله : "ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام"، لإجماع الجميع على أن الله قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها من شهور السنة كلها. وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قلد عنقه أو ذراعيه لحاء جميع أشجار الحرم ، لم يكن ذلك له أماناً من القتل ، إذا لم يكن تقدم له عقد ذمة من المسلمين أو أمان. وقد بينا فيما مضى معنى "القلائد" في غير هذا الموضع.
وأما قوله : "ولا آمين البيت الحرام"، فإنه محتمل ظاهره : ولا تحلوا حرمة آمين البيت الحرام من أهل الشرك والإسلام ، لعمومه جميع من أم البيت. وإذا احتمل ذلك ، فكان أهل الشرك داخلين في جملتهم ، فلا شك أن قوله : "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" [التوبة : 5]، ناسخ له. لأنه غير جائز اجتماع الأمر بقتلهم وترك قتلهم في حال واحدة ووقت واحد. وفي إجماع الجميع على أن حكم الله في أهل الحرب من المشركين قتلهم أموا البيت الحرام والبيت المقدس ، في أشهر الحرم وغيرها، ما يعلم أن المنع من قتلهم إذا أموا البيت الحرام منسوخ. ومحتمل أيضاً : ولا آمين البيت الحرام من أهل الشرك.
وأكثر أهل التأويل على ذلك.
وإن كان عني بذلك المشركون من أهل الحرب ، فهو أيضاً لا شك منسوخ.
وإذ كان ذلك كذلك ، وكان لا اختلاف في ذلك بينهم ظاهر، وكان ما كان مستفيضاً فيهم ظاهراً حجةً، فالواجب ، وإن احتمل ذلك معنى غير الذي قالوا، التسليم لما استفاض بصحته نقلهم.
قال أبو جعفر: يعني بقوله : يبتغون ، يطلبون ويلتمسون ، و الفضل الأرباح في التجارة، والرضوان ، رضى الله عنهم ، فلا يحل بهم من العقوبة في الدنيا ما أحل بغيرهم من الأمم في عاجل دنياهم ، بحجهم بيته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، حدثنا معمر، عن قتادة في قوله : "يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا"، قال : هم المشركون ، يلتمسون فضل الله ورضوانه فيما يصلح لهم دنياهم.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبدة بن سليمان قال ، قرأت على ابن أبي عروبة فقال : هكذا سمعته من قتادة في قوله: "يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا"، والفضل والرضوان اللذان يبتغون ؟ أن يصلح معايشهم في الدنيا، وأن لا يعجل لهم العقوبة فيها.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن ابن عباس : "يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا"، يعني : أنهم يترضون الله بحجهم.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس قال : جلسنا إلى مطرف بن الشخير، وعنده رجل فحدثهم في قوله : "يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا"، قال : التجارة في الحج ، والرضوان في الحج.
حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن أبي أميمة قال ، قال ابن عمر في الرجل يحج ويحمل معه متاعاً، قال : لا بأس به ، وتلا هذه الآية: " يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ".
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا"، قال : يبتغون الأجر والتجارة.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه : وإذا حللتم فاصطادوا الصيد الذي نهيتكم أن تحتوه وأنتم حرم . يقول : فلا حرج عليكم في اصطياده ، واصطادوا إن شئتم حينئذ، لأن المعنى الذي من أجله كنت حرمته عليكم في حال إحرامكم قد زال.
وبما قلنا في ذلك قال جميع أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، حدثنا حصين ، عن مجاهد أنه قال : هي رخصة، يعني قوله : "وإذا حللتم فاصطادوا".
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن حجاج ، عن القاسم ، عن مجاهد قال : خمس في كتاب الله رخصة، وليست بعزمة، فذكر: "وإذا حللتم فاصطادوا"، قال : من شاء فعل ، ومن شاء لم يفعل.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد، عن حجاج ، عن عطاء، مثله.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان، عن حصين ، عن مجاهد: "وإذا حللتم فاصطادوا"، قال : إذا حل ، فإن شاء صاد، وإن شاء لم يصطد.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن ابن جريج ، عن رجل ، عن مجاهد: أنه كان لا يرى الأكل من هدي المتعة واجباً، وكان يتأول هذه الآية:"وإذا حللتم فاصطادوا"، "فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض" [الجمعة: 10].
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله : "ولا يجرمنكم"، ولا يحملنكم ، كما:
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح، عن علي ، عن ابن عباس قوله : "ولا يجرمنكم شنآن قوم"، يقول : لا يحملنكم شنآن قوم.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "ولا يجرمنكم شنآن قوم"، أي : لا يحملنكم.
وأما أهل المعرفة باللغة فإنهم اختلفوا في تأويلها.
فقال بعض البصريين : معنى قوله : "ولا يجرمنكم"، لا يحقن لكم ، لأن قوله : "لا جرم أن لهم النار" [النحل: 62]، هو: حق أن لهم النار.
وقال بعض الكوفيين : معناه : لا يحملنكم . وقال : يقال : جرمني فلان على أن صنعت كذا وكذا، أي : حملني عليه. واحتج جميعهم ببيت الشاعر:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنةً جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
فتأول ذلك كل فريق منهم على المعنى الذي تأوله من القرآن . فقال الذين قالوا: "لا يجرمنكم"، لا يحقن لكم ، معنى قول الشاعر: جرمت فزارة، أحقت الطعنة لفزارة الغضب.
وقال الذين قالوا : معناه : لا يحملنكم ، معناه في البيت : جرمت فزارة أن يغضبوا، حملت فزارة على أن يغضبوا.
وقال آخر من الكوفيين : معنى قوله : "لا يجرمنكم"، لا يكسبنكم شنآن قوم.
وتأويل قائل هذا القول قول الشاعر في البيت : جرمت فزارة، كسبت فزارة أن يغضبوا. قال : وسمعت العرب تقول : فلان جريمة أهله ، بمعنى : كاسبهم ، وخرج يجرمهم ، يكسبهم.
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي حكيناها عمن حكيناها عنه ، متقاربة المعنى. وذلك أن من حمل رجلاً على بغض رجل ، فقد أكسبه بغضه . ومن أكسبه بغضه ، فقد أحقه له.
فإذ كان ذلك كذلك ، فالذي هو أحسن في الإبانة عن معنى الحرف ، ما قاله ابن عباس وقتادة، وذلك توجيههما معنى قوله : "ولا يجرمنكم شنآن قوم"، ولا يحملنكم شنآن قوم على العدوان.
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الأمصار: "ولا يجرمنكم" بفتح الياء من : جرمته أجرمه.
وقرأ ذلك بعض قرأة الكوفيين ، وهو يحيى بن وثاب ، والأعمش: ما:
حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا، حدثنا جرير، عن الأعمش أنه قرأ: ولا يجرمنكم مرتفعة الياء ، من : أجرمته أجرمه ، وهو يجرمني .
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بالصواب من القراءتين ، قراءة من قرأ ذلك: "ولا يجرمنكم" بفتح الياء، لاستفاضة القراءة بذلك في قرأة الأمصار، وشذوذ ما خالفها، وأنها اللغة المعروفة السائرة في العرب، وإن كان مسموعاً من بعضها: أجرم يجرم على شذوذه . وقراءة القرآن بأفصح اللغات ، أولى وأحق منها بغير ذلك . ومن لغة من قال جرمت ، قول الشاعر:
يا أيها المشتكي عكلاً وما جرمت إلى القبائل من قتل، وإبآس
اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه بعضهم : " شنآن" بتحريك الشين والنون إلى الفتح ، بمعنى : بغض قوم ، توجيها منهم ذلك إلى المصدر الذي يأتي على فعلان ، نظير الطيران و النسلان و العسلان و الرملان .
وقرأ ذلك آخرون : شنآن قوم بتسكين النون وفتح الشين بمعنى : الاسم ، توجيهاً منهم معناه إلى: لا يحملنكم بغيض قوم ، فيخرج شنآن على تقدير فعلان، لأن فعل منه على فعل ، كما يقال : سكران من سكر، و عطشان من عطش ، وما أشبه ذلك من الأسماء.
قال أبو جعفر: والذي هو أولى القراءتين في ذلك بالصواب، قراءة من قرأ: "شنآن قوم" بفتح النون محركة، لشائع تأويل أهل التأويل على أن معناه : بغض قوم ، وتوجيههم ذلك إلى معنى المصدر دون معنى الاسم.
وإذ كان ذلك موجهاً إلى معنى المصدر، فالفصيح من كلام العرب فيما جاء من المصادر على الفعلان بفتح الفاء ، تحريك ثانيه دون تسكينه ، كما وصفت من قولهم : الدرجان و الرملان ، من درج و رمل ، فكذلك الشنآن من شنئته أشنؤه شنآناً ، ومن العرب من يقول : شنآن على تقدير فعال ، ولا أعلم قارئاً قرأ ذلك كذلك ، ومن ذلك قول الشاعر:
وما العيش إلا ما تلذ وتشتهي وإن لام فيه ذو الشنان وفندا
وهذا في لغة من ترك الهمز من الشنآن ، فصار على تقدير فعال وهو في الأصل فعلان .
ذكر من قال من أهل التأويل : "شنآن قوم"، بغض قوم.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس قوله : "ولا يجرمنكم شنآن قوم"، لا يحملنكم بغض قوم.
وحدثني به المثنى مرة أخرى بإسناده ، عن ابن عباس فقال : لا يحملنكم عداوة قوم أن تعتدوا.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة : "ولا يجرمنكم شنآن قوم"، لا يجرمنكم بغض قوم.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "ولا يجرمنكم شنآن قوم"، قال : بغضاؤهم ، أن تعتدوا.
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه بعض أهل المدينة وعامة قرأة الكوفيين: "أن صدوكم" بفتح الألف من أن، بمعنى : لا يجرمنكم بغض قوم بصدهم إياكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا.
وكان بعض قرأة الحجاز والبصرة يقرأ ذلك : ولا يجرمنكم شنآن قوم إن صدوكم، بكسر الألف من إن ، بمعنى : ولا يجرمنكم شنآن قوم إن هم أحدثوا لكم صدا عن المسجد الحرام أن تعتدوا، فزعموا أنها في قراءة ابن مسعود : إن يصدوكم، فقرأوا ذلك كذلك اعتبارا بقراءته.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي ، أنهما قراءتان معروفتان مشهورتان في قرأة الأمصار، صحيح معنى كل واحدة منهما.
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت هو وأصحابه يوم الحديبية، وأنزلت عليه سورة المائدة بعد ذلك ، فمن قرأ "أن صدوكم" بفتح الألف من أن ، فمعناه : لا يحملنكم بغض قوم ، أيها الناس ، من أجل أن صدوكم يوم الحديبية عن المسجد الحرام ، أن تعتدوا عليهم.
ومن قرأ : "أن صدوكم " بكسر الألف ، فمعناه : لا يجرمنكم شنآن قوم إن صدوكم عن المسجد الحرام إذا أردتم دخوله. لأن الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قريش يوم فتح مكة، قد حاولوا صدهم عن المسجد الحرام. فتقدم الله إلى المؤمنين - في قول من قرأ ذلك بكسر إن - بالنهي عن الاعتداء عليهم ، إن هم صدوهم عن المسجد الحرام ، قبل أن يكون ذلك من الصادين.
غير أن الأمر، وإن كان كما وصفت ، فإن قراءة ذلك بفتح الألف ، أبين معنى. لأن هذه السورة لا تدافع بين أهل العلم في أنها نزلت بعد يوم الحديبية. وإذ كان ذلك كذلك ، فالصد قد كان تقدم من المشركين ، فنهى الله المؤمنين عن الاعتداء على الصادين من أجل صدهم إياهم عن المسجد الحرام.
وأما قوله: "أن تعتدوا"، فإنه يعني : أن تجاوزوا الحد الذي حده الله لكم في أمرهم.
فتأويل الآية إذاً: ولا يحملنكم بغض قوم ، لأن صدوكم عن المسجد الحرام ، أيها المؤمنون ، أن تعتدوا حكم الله فيهم ، فتجاوزوه إلى ما نهاكم عنه ، ولكن الزموا طاعة الله فيما أحببتم وكرهتم.
وذكر أنها نزلت في النهي عن الطلب بذحول الجاهلية.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "أن تعتدوا"، رجل مؤمن من حلفاء محمد، قتل حليفاً لأبي سفيان من هذيل يوم الفتح بعرفة، لأنه كان يقتل حلفاء محمد، فقال محمد صلى الله عليه وسلم : "لعن الله من قتل بذحل الجاهلية".
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد، مثله.
وقال آخرون : هذا منسوخ.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: " ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم "، قال : بغضاؤهم ، حتى تأتوا ما لا يحل لكم. وقرأ: "أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا"، وقال: هذا كله قد نسخ ، نسخه الجهاد.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول مجاهد أنه غير منسوخ ، لاحتماله : أن تعتدوا الحق فيما أمرتكم به. وإذا احتمل ذلك ، لم يجز أن يقال : هو منسوخ ، إلا بحجة يجب التسليم لها.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله : "وتعاونوا على البر والتقوى"، وليعن بعضكم ، أيها المؤمنون ، بعضاً، "على البر"، وهو العمل بما أمر الله بالعمل به ، "والتقوى"، هو اتقاء ما أمر الله باتقائه واجتنابه من معاصيه.
وقوله : "ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"، يعني : ولا يعن بعضكم بعضاً، "على الإثم"، يعني : على ترك ما أمركم الله بفعله ، "والعدوان"، يقول : ولا على أن تتجاوزوا ما حد الله لكم في دينكم ، وفرض لكم في أنفسكم وفي غيركم.
وإنما معنى الكلام : ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، ولكن ليعن بعضكم بعضاً بالأمر بالانتهاء إلى ما حده الله لكم في القوم الذين صدوكم عن المسجد الحرام وفي غيرهم ، والانتهاء عما نهاكم الله أن تأتوا فيهم وفي غيرهم ، وفي سائر ما نهاكم عنه ، ولا يعن بعضكم بعضاً على خلاف ذلك.
وبما قلنا في "البر والتقوى" قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس قوله : "وتعاونوا على البر والتقوى"، البر ما أمرت به ، و التقوى ما نهيت عنه.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: "وتعاونوا على البر والتقوى" قال : البر ما أمرت به ، و التقوى ما نهيت عنه.
قال أبو جعفر: وهذا وعيد من الله جل ثناؤه وتهدد لمن اعتدى حده وتجاوز أمره. يقول عز ذكره : "واتقوا الله"، يعني : واحذروا الله ، أيها المؤمنون ، أن تلقوه في معادكم وقد اعتديتم حده فيما حد لكم ، وخالفتم أمره فيما أمركم به ، أو نهيه فيما نهاكم عنه ، فتستوجبوا عقابه ، وتستحقوا أليم عذابه . ثم وصف عقابه بالشدة فقال عز ذكره : إن الله شديد عقابه لمن عاقبه من خلقه ، لأنها نار لا يطفأ حرها، ولا يخمد جمرها، ولا يسكن لهبها، نعوذ بالله منها ومن عمل يقربنا منها.
فيه ثلاثة عشرة مسألة:
الأولى - قوله تعالى :" لا تحلوا شعائر الله" خطاب للمؤمنين حقاً أي لا تتعدوا حدود الله في أمر من الأمور، والشعائر جمع شعيرة على وزن فعليه وقال ابن فارس: ويقال للواحدة شعارة وهو أحسن والشعيرة البدنة تهدى، وإشعارها أن يجز سنامها حتى يسيل منه الدم فيعلم أنها هدي والإشعار الإعلام من طريق الإحساس يقال: أشعر هدي أي جعل له علامة ليعرف أنه هدي ومنه المشاعر المعالم، واحدها مشعر وهي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات ومنه الشعر لأنه يكون بحيث يقع الشعور ومنه الشاعر لأنه يشعر بفطنته لما لا يفطن له غيره ومنه الشعير لشعرته التي في رأسه فالشعائر على قول ما أشعر من الحيوانات لتهدى إلى بيت الله، وعلى قول جميع مناسك الحج قاله ابن عباس: وقال مجاهد: الصفا والمروة والهدي والبدن كل ذلك من الشعائر وقال الشاعر:
نقتلهم جيلاً فجيلاً تراهم شعائر قربان بها يتقرب
وكان المشركون يحجون ويعتمرون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فأنزل الله تعالى :" لا تحلوا شعائر الله " وقال عطاء بن أبي رباح: شعائر الله جميع ما أمر الله به ونهى عنه وقال الحسن: دين الله كله كقوله : " ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب " [ الحج:32] أي دين الله .
قلت: وهذا القول هو الراجح الذي يقدم على يغره لعمومه وقد اختلف العلماء في أشعار الهدي وهي :
الثانية - فأجازه الجمهور ثم اختلفوا في أي جهة يشعر، فقال الشافعي وأحمد وأبو ثور: يكون في الجانب الأيمن وروي عن ابن عمر. وثبت عن ابن عباس.
"أن النبي صلى الله عليه وسلم أشعر ناقته في صفحة سنامها الأيمن"، أخرجه مسلم وغيره وهو الصحيح وروي أنه أشعر بدنه من الجانب الأيسر قال أبو عمر بن عبد البر: هذا عندي حديث منكر من حديث ابن عباس، والصحيح حديث مسلم عن ابن عباس قال ولا يصح عنه غيره وصفحة السنام جانبه، والسنام أعلى اظهر وقالت طائفة : يكون في الجانب الأيسر وهو قول مالك، وقال : لا بأس به في الجانب الأيمن، وقال مجاهد: من الجانبين شاء، وبه قال أحمد في أحد قوليه، ومنع من هذه كله أبو حنيفة وقال : إنه تعذيب للحيوان، والحديث يرد عليه وأيضاً فذلك يجري مجرى الوسم الذي يعرف به الملك كما تقدم وقد أوغل ابن العربي على أبي حنيفة في الرد والإنكار حين لم ير الإشعار فقال : كأنه لم يسمع بهذه الشعيرة في الشريعة لهي أشهر منه في العلماء .
قلت: والذي رأيته منصوصاً في كتب علماء الحنفية الإشعار مكروه من قول أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد ليس بمكروه ولا سنة بل هو مباح لأن الإشعار لما كان إعلاماً كان سنة بمنزلة التقليد، ومن حيث أنه جرح ومثله كان حراماً، فكان مشتملاً على السنة والبدعة فجعل مباحاً ولأبي حنيفة أن الإشعار مثله وأنه حرام من حيث إنه تعذيب الحيوان فكان مكروهاً وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان في أول الابتداء حين كانت العرب تنتهب كل مال إلا ما جعل هدياً وكانوا لا يعرفون الهدي إلا بالإشعار ثم زال لزوال العدو، هكذا وروي عن ابن عباس، وحكي عن الشيخ الإمام أبي منصور الماتريدي رحمه الله تعالى أنه قال : يحتمل أن أبا حنيفة كره إشعار أهل زمانه وهو بالمبالغة في البضع على وجه يخاف منه السراية، أما ما لم يجاوز الحد فعل كما كان يفعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وحسن، وهكذا ذكر أبو جعفر الطحاوي:فهذا اعتذار علماء الحنفية لأبي حنيفة عن الحديث الذي ورد في الإشعار فقد سمعوه ووصل إليهم وعلموه، قالوا: وعلى القول بأنه مكروه لا يصر به أحد محرما لأن مباشرة المكروه لا تعد من المناسك.
الثالثة- قوله تعالى :" ولا الشهر الحرام " اسم مفرد يدل على الجنس في جميع الأشهر الحرم وهي أربعة: واحد فرد وثلاثة سرد يأتي بيانها في براءة والمعنى: لا تستحلوها للقتال ولا للغارة ولا تبدلوها فإن استبدالها استحلال، وذلك ما كانوا يفعلونه من النسيء وكذلك قوله :" ولا الهدي ولا القلائد " أي لا تستحلوه وهو على حذف مضاف أي ولا ذوات القلائد جمع قلادة فنهى سبحانه عن استحلال الهجي جملة ثم ذكر المقلد منه تأكيداً ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد .
الرابعة- قوله تعالى :" ولا الهدي ولا القلائد " الهدي ما أهدي إلى بيت الله تعالى من ناقة أو بقرة أو شاة، الواحدة هدية وهدية وهدي ، فمن قال : أراد بالشعائر المناسك قال : ذكر الهدي تنبيهاً على تخصيصها ومن قال : الشعائر الهدي قال : إن الشعائر ما كان مشعراً أي معلماً بإسالة الدم من سنامه، والهدي ما لم يشعر، اكتفى فيه بالتقليد وقيل: الفرق أن الشعائر هي البدن من الأنعام، والهدي البقر والغنم والثياب وكل ما يهدى وقال الجمهور: الهدي عام في جميع ما يتقرب به من الذبائح والصدقات ومنه "قوله عليه السلام :
المبكر إلى الجمعة كالمهدي بدنة" إلى أن قال : "كالمهدي بيضة " فسماها هدياً وتسمية البيضة هدياً لا محل له إلا أنه أراد به الصدقة وكذلك قال العلماء: إذا قال جعلت ثوبي هدياً فعليه أن يتصدق به إلا أن الإطلاق إنما ينصرف إلى أحد الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم وسوقها إلى الحرم وذبحها فيه وهذا إنما تلقي من عرف الشرع في قوله تعالى :" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي " [ البقرة : 196] وأراد به الشاة وقال تعالى : " يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة " [ المائدة: 95] وقال تعالى : " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي " [ البقرة : 196] وأقله شاة عند الفقهاء وقال مالك: إذا قال ثوبي هدي يجعل ثمنه في هدي والقلائد ما كان الناس يتقلدونه أمنةً لهم فهو على حذف مضاف أي ولا أصحاب القلائد ثم نسخ قال ابن عباس: آيتان نسختا من المائدة آية القلائد وقوله "فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " [ المائدة : 42] فأما القلائد فنسخها الأمر بقتل المشركين حيث كانوا وفي أي شهر كانوا وأما الأخرى فنسخها قوله تعالى : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " [ المائدة : 49] على ما يأتي وقيل: أراد بالقلائد نفس القلائد فهو نهي عن أخذ لحاء شجر الحرم حتى يتقلد به طلباً للأمن، قاله مجاهد وعطاء ومطرف بن الشخير، والله أعلم وحقيقة الهدي كل معطى لم يذكر معه عوض واتفق الفقهاء على أن من قال : لله علي هدي أنه يبعث بثمنه إلى مكة وأما القلائد فهي كل ما علق على أسنمة الهدايا وأعناقها علامة أنه لله سبحانه من نعل أو غيره وهي سنة إبراهيمية بقيت في الجاهلية وأقرها الإسلام، وهي سنة البقر والغنم "قالت عائشة رضي الله عنها:
أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة إلى البيت غنماً فقلدها"، أخرجه البخاري ومسلم ، وإلى هذه صار جماعة من العلماء: الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن حبيب، وأنكره مالك وأصحاب الرأي وكأنهم لم يبلغهم هذا الحديث في تقليد الغنم أو بلغ لكنهم ردوه لانفراد الأسود به عن عائشة رضي الله عنها فالقول به أولى والله أعلم وأما البقر فإن كانت لها أسنمة أشعرت كالبدن قاله ابن عمر: وبه قال مالك: وقال الشافعي : تقليد وتشعر مطلقاً ولم يفرقوا وقال سعيد بن جبير: تقلد ولا تشعر وهذا القول أصح إذا ليس لها نسام وهي أشبه بالغنم منها بالإبل والله أعلم .
الخامسة - واتفقوا فيمن قلد بدنة على نية الإحرام وساقها أنه يصير محرما قال الله تعالى :" لا تحلوا شعائر الله " إلى أن قال : " فاصطادوا" ولم يذكر الإحرام لكن لما ذكر التقليد عرف أنه بمنزلة الإحرام.
السادسة - فإن بعث بالهدي ولم يسق بنفسه لم يكن محرماً "لحديث عائشة قالت: .
أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم قلدها بيديه، ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله له حتى نحر الهدي "أخرجه البخاري وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور العلماء وروي عن ابن عباس أنه قال : يصير محرما قال ابن عباس :
من أهدى هدياً حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي رواه البخاري وهذا مذهب ابن عمر وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وحكاه الخطابي عن أصحاب الرأي، واحتجوا "بحديث جابر بن عبد الله قال :
كنت عند النبي صل الله عليه وسلم جالساً فقد قميصه من جيبه ثم أخرجه من رجليه فنظر القوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد وتشعر على مكان كذا وكذا فلبست قميصي ونسيت فلم أكن لأخرج قميصين من رأسي " وكان بعث ببدنه وأقام بالمدينة في إسناده عبد الرحمن بن عطاء بن أبي ليبية وهو ضعيف فإن قلد شاة وتوجه معها فقال الكوفيون: لا يصير محرماً لأن تقليد الشاة ليس بمسنون ولا من الشعائر لأنه يخاف عليها الذئب فلا تصل إلى الحرم بخلاف البدن فإنها تترك حتى ترد الماء وترعى الشجر وتصل إلى الحرم وفي صحيح البخاري عن عائشة أم المؤمنين قالت :
فتلت قلائدها من عهن كان عندي العهن الصوف المصبوغ ومنه قوله تعالى " وتكون الجبال كالعهن المنفوش "[ القارعة :5].
السابعة- ولا يجوز بيع الهدي ولا هبته إذا قلد أو أشعرن لأهن قد وجب وإن مات موجبه لم يورث عنه ونفذ لوجهه، بخلاف الأضحية فإنها لا تجب إلا بالذبح خاصة عند مالك إلا أن يوجبها بالقول فإن أوجبها بالقول قبل الذبح فقال : جعلت هذه الشاة أضحية تعينت وعلية إن تلفت ثم وجدها أيام الذبح أو بعدها ذبحا ولم يجز له بيعها فإن كان اشترى أضحية غيرها ذبحهما جميعاً في قول أحمد وإسحاق وقال الشافعي : لا بدل عليه إذا ضلت أو سرقت إنما الإبدال في الواجب، وروى عن ابن عباس أنه قال : إذا ضلت فقد أجزأت ومن مات يوم النحر قبل أن يضحي كانت ضحيته موروثة عنه كسائر ماله بخلاف الهدي وقال أحمد وأبو ثور: تذبح بكل حال وقال الأوزاعي: تذبح إلا أن يكون عليه دين لا وفاء له إلا من تلك الأضحية فتباع في دينه ولو مات بعد ذبحها لم يرثها عنه ورثته، وصنعوا بها من الأكل والصدقة ما كان له أن يصنع بها ولا يقتسمون لحمها على سبيل الميراث وما أصاب الأضحية قبل الذبح من العيوب كان على صاحبها بدلها بخلاف الهدى هذا تحصيل مذهب مالك وقد قيل في الهدي على صاحبه البدل والأول أصوب والله أعلم .
الثامنة- قوله تعالى :" ولا آمين البيت الحرام "يعني القاصدين له من قولهم أممت كذا أي قصدته وقرأ الأعمش ولا آمي البيت الحرام بالإضافة كقوله :" غير محلي الصيد " والمعنى لا تمنعوا الكفار القاصدين البيت الحرم على جهة التعبد والقربة وعليه فقيل: ما في هذه الآيات من نهي عن مشرك أو مراعاة حرمة له بقلادة أو أم البيت فهو كله منسوخ بآية السيف في قوله : " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " [ التوبة : 5] وقوله : " فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا"[ التوبة : 28] فلا يمكن المشرك فمن الحج، ولا يؤمن في الأشهر الحرم وإن أهدى وقلد وحج، روي عن ابن عباس وقاله ابن زيد على ما يأتي ذكره وقال قوم : الآية محكمة لم تنسخ وهي في المسلمين، وقد نهى الله عن إخافة من يقصد بيته من المسلمين والنهي عام في الشهر الحرام وغيره ولكنه خص الشهر الحرام بالذكر تعظيماً وتفضيلاً وهذا يتمشى على قول عطاء، فإن المعنى لا تحلوا معالم الله ، وهي أمره ونهيه وما أعلمه الناس فلا تحلوه ولذلك قال أبو ميسرة: هي محكمة وقال مجاهد: لم ينسخ منها لا القلائد وكان الرجل يتقلد بشيء من لحاء الحرام فلا يقرب فنسخ ذلك وقال ابن جريج: هذه الآية نهي عن الحجاج أن تقطع سلبهم وقال ابن زيد: نزلت الآية عام الفتح ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، جاء أناس من المشركين يحجون ويعتمرون فقال المسلمون : يا رسول الله إنما هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم، فنزل القرآن " ولا آمين البيت الحرام " وقيل: كان هذا لأمر شريح بن ضبيعة البكري - ويلقب بالحطم -أخذته جند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في عمرته فنزلت هذه الآية ثم نسخ هذا الحكم كما كرنا وأدرك الحطم هذا رده اليمامة فقتل مرتداً وقد "روي من خبره أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وخلف خيله خارج المدينة فقال :
إلام تدعو الناس فقال: إلى شهادة أن لا إله إلا لله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فقال :حسن إلا أن لي أمراء لا أقطع أمراً دونهم ولعلي أسلم وآتي بهم وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان الشيطان ثم خرج من عنده فقال عليه الصلاة والسلام : لقد دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر وما الرجل بمسلم " فمر بسرح المدينة فاستاقه فطلبوه فعجزوا عنه فانطلق وهو يقول :
قد لفها الليل بسواق حطم ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم باتوا نياماً وابن هند لم ينم
بات يقاسها غلام كالزلم خدلج الساقين خفاق القدم
فلما "خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام القضية سمع تلبية حجاج اليمامة فقال: هذا الحطم وأصحابه " وكان قد قلد ما نهب من سرح المدينة أهداه إلى مكة، فتوجهوا في طلبه فنزلت الآية أي لا تحل وما أشعر لله وإن كانوا مشركين ذكره ابن عباس.
التاسعة- وعلى أن الآية محكمة قوله تعالى :" لا تحلوا شعائر الله" يوجب إتمام أمور المناسك، ولهذا قال العلماء: إن الرجل إذا دخل في الحج ثم أفسده فعليه أن يأتي بجميع أفعال الحج ولا يجوز أن يترك شيئاً منها وإن فسد حجة ثم عليه القضاء في السنة قال أبو الليث السمرقندي: وقوله تعالى :" ولا الشهر الحرام " منسوخ بقوله : " وقاتلوا المشركين كافة " [التوبة :36] وقوله : " ولا الهدي ولا القلائد " محكم لم ينسخ، فكل من قلد الهدي ونوى الإحرام صار محرماً لا يجوز له أن يحل بدليل هذه الآية فهذه الأحكام معطوف بعضها على بعض، بعضها منسوخ وبعضها غير منسوخ .
العاشرة- قوله تعالى :" يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا" قال فيه جمهور المفسرين : معناه يبتغون الفضل والأرباح في التجارة ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم وطمعهم وقيل: كان منهم من يبتغي التجارة، ومنهم من يطلب بالحج رضوان الله وإن كان لا يناله ، وكان من العرب من يعتقد جزاء بعد الموت، وأنه يبعث ولا يبعد أن يحصل له نوع تخفيف في النار، قال ابن عطية: هذه الآية استئلاف من الله تعالى للعرب ولطف بهم لتنبسط النفوس وتتداخل الناس ويردون الموسم فيستمعون القرآن، ويدخل الإيمان في قلوبهم وتقوم عندهم الحجة كالذي كان وهذه الآية نزلت عام الفتح فنسخ الله ذلك كله بعد عام سنة تسع إذ حج أبو بكر ونودي الناس بسورة براءة .
الحادية عشرة- قوله تعالى :" وإذا حللتم فاصطادوا" أمر إباحة - بإجماع الناس- رفع ما كان محظوراً بالإحرام، حكاه كثير من العلماء وليس بصحيح بل صيغة افعل الواردة بعد الحظر على أصلها من الوجوب، وهو مذهب القاضي أبي الطيب وغيره، ولأن المقتضي للوجوب قائم وتقدم الحضر لا يصلح مانعاً دليله قوله تعالى :" فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين " [ التوبة:5] فهذه افعل على الوجوب لأن المراد بها الجهاد وإنما فهمت الإباحة هناك وما كان مثله من قوله :" فإذا قضيت الصلاة فانتشروا " [ الجمعة : 10] " فإذا تطهرن فاتوهن " [ البقرة: 222] من النظر إلى المعنى والإجماع لا من صيغة الأمر والله أعلم .
الثانية عشرة- قوله تعالى :" ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام " أي لا يحملنكم، عن ابن عباس وقتادة وهو قول الكسائي وأبي العباس، وهو يتعدى إلى مفعولين يقال: جرمني كذا على بغضك أي حملي عليه قال الشاعر:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنةً جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
وقال الأخفش: أي لا يحقنكم، وقال أبو عبيدة والفراء: معنى "لا يجرمنكم " أي لا تكسبنكم بغض قوم أن تعتدوا لحق إلى الباطل، والعدل إلى الظلم ، "قال عليه السلام : أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك " وقد مضى القول في هذا ونظير هذه الآية :" فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " [البقرة: 194] وقد تقدم مستوفى ويقال : فلان جريمة أهله أي كاسبهم فالجريمة والجارم بمعنى الكاسب وأجرم فلان أي اكتسب الإثم ومنه قول الشاعر:
جريمة ناهض في أرس نيق ترى العظام ما جمعت صليباً
معناه كاسب قوت، والصليب الودك، وهذا هو الأصل في بناء ج ر م، قال ابن فارس: يقال جرام وأجرم، ولا جرم بمنزلة قولك، لا بد ولا محالة وأصله من جرم أي اكتسب قال:
جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
وقال آخر :
يا أيها المشتكي عكلا وما جرمت إلى القبائل من قتل وإبآس
ويقال : جرم يجرم جرماً إذا قطع قال الرماني علي بن عيسى: وهو الأصل فجرم بمعنى حمل على الشيء لقطعه من غيره، وجرم بمعنى كسب لانقطاعه إلى الكسب وجرم بمعنى حق لأن الحق يقطع عليه وقال الخليل: " لا جرم أن لهم النار"[النحل : 62] لقد حق لهم العذاب وقال السكائي: جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد، أي اكتسب، وقرأ ابن مسعود يجرمنكم بضم الياء والمعنى أيضاً لا يكسبنكم ولا يعرف البصريون الضم، وإنما يقولون: جرم لا غير، والشنآن البغض وقرئ بفتح النون وإسكانها يقال: شنئت الرجل أشنؤه شنأ وشنأه وشنآنا وشنآنا بجزم النون كل ذلك إذا أبغضته، أي لا يكسبنكم بغض قوم بصدهم إياكم أن تعتدوا والمراد بغضكم قوماً فأضاف المصدر إلى المفعول قال ابن زيد: لما صد المسلمون عن البيت عام الحديبية مر بهم ناس من المشركين يريدون العمرة فقال المسلمون : نصدهم كما صدنا أصحابهم، فنزلت هذه الآية، أي لا تعتدوا على هؤلاء، ولا تصدوهم " أن صدوكم " أصحابهم، بفتح الهمزة مفعول من أجله، أي لأن صدوكم وقرأ أبو عمر وابن كثير بكسر الهمزة إن صدوكم وهو اختيار أبي عبيد وروى عن الأعمش إن يصدوكم قال ابن عطية: فإن للجزاء أي إن وقع مثل هذا الفعل في المستقبل والقراءة الأولى أمكن في المعنى وقال النحاس: وأما إن صدوركم بكسر إن فالعلماء الجلة بالنحو والحديث والنظر يمنعون القراءة بها لأشياء، منها أن الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان وكان المشركون صدوا المسلمين عام الحديبية سنن ست فالصد كان قبل الآية وإذا قرئ بالكسر لم يجز أن يكون إلا بعده كما تقول: لا تعط فلاناً شيئاً إن قاتلك فهذا لا يكون إلا للمستقبل وإن فتحت كان للماضي، فوجب على هذا ألا يجوز إلا أن صدوكم وأيضاً فلو لم يصح هذا الحديث لكان الفتح واجباً لأن قوله: لا تحلوا شعائر الله إلى آخر الآية يدل على أن مكة كانت في أيديهم، وأنهم لا ينهون عن هذا إلا وهم قادرون على الصد عن البيت الحرام فوجب من هذا فتح أن لأنه لما مضى " أن تعتدوا" في موضع نصب لأنه مفعول به أي لا يجرمنكم شنآن قوم الاعتداء وأنكر أبو حاتم وأبو عبيد شنآن بإسكان النون لأن المصادر إنما يأتي في مثل هذه متحركة وخالفهما غيرها وقال: ليس هذا مصدراً ولكنه اسم الفاعل على وزن كسلان وغضبان .
الثالثة عشرة - قوله تعالى :" وتعاونوا على البر والتقوى " قال الأخفش: هو مقطوع من أول الكلام وهو أمر لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى أي ليعن بعضكم بعضاً وتحاثوا على ما أمر الله تعالى واعلموا به ، وانتهوا عما نهى الله عنه وامتنعوا منه وهذا موافق لما "روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الدال على الخير كفاعله " وقد قيل: الدال على الشر كصانعه ثم قيل: البر والتقوى لفظان بمعنى واحد وكرر باختلاف اللفظ تأكيداً ومبالغة ، إذ كل بر تقوي وكل تقوى بر قال ابن عطية: وفي هذا تسامح ما، والعرف في دلالة هذين اللفظين أن البر يتناول الواجب والمندوب إليه والتقوى رعاية الواجب، فإن جعل أحدهما بدل الآخر فبتجوز، وقال المارودي: ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبر وقرنه بالتقوى له لأن في التقوى رضا الله تعالى وفي البر رضا الناس ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته وقال ابن خويز منداد في أحكامه: والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه فواجب على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم ويعينهم الغني بماله والشجاع بشجاعته في سبيل الله وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة
"المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم " ويجب الإعراض عن المتعدي وترك النصر له ورده عما هو عليه، ثم نهى فقال: " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " وهو الحكم اللاحق عن الجرائم وعن العدوان وهو ظلم الناس ثم أم بالتقوى وتوعد توعداً مجملاً فقال: " واتقوا الله إن الله شديد العقاب".

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا مسعر، حدثني معن وعوف، أو أحدهما، أن رجلاً أتى عبد الله بن مسعود، فقال: اعهد إلي، فقال: إذا سمعت الله يقول "يا أيها الذين آمنوا" فارعها سمعك، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه. وقال: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم، حدثنا الوليد، حدثنا الأوزاعي عن الزهري، قال: إذا قال الله "يا أيها الذين آمنوا" افعلوا، فالنبي صلى الله عليه وسلم منهم، وحدثنا أحمد بن سنان، حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا الأعمش عن خيثمة قال: كل شيء في القرآن "يا أيها الذين آمنوا" فهو في التوراة يا أيها المساكين. فأما ما رواه عن زيد بن إسماعيل الصائغ البغدادي، حدثنا معاوية يعني ابن هشام، عن عيسى بن راشد، عن علي بن بذيمة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما في القرآن آية "يا أيها الذين آمنوا" إلا أن علياً سيدها وشريفها وأميرها، وما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد إلا قد عوتب في القرآن إلا علي بن أبي طالب، فإنه لم يعاتب في شيء منه، فهو أثر غريب، ولفظه فيه نكارة، وفي إسناده نظر .
وقال البخاري: عيسى بن راشد هذا مجهول، وخبره منكر، قلت: وعلي بن بذيمة وإن كان ثقة إلا أنه شيعي غال، وخبره في مثل هذا فيه تهمة فلا يقبل، وقوله: فلم يبق أحد من الصحابة إلا عوتب في القرآن إلا علياً، إنما يشير به إلى الآية الآمرة بالصدقة بين يدي النجوى، فإنه قد ذكر غير واحد أنه لم يعمل بها أحد إلا علي، ونزل قوله "أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم" الاية، وفي كون هذا عتاباً نظر، فإنه قد قيل: إن الأمر كان ندباً لا إيجاباً، ثم قد نسخ ذلك عنهم قبل الفعل، فلم يصدر من أحد منهم خلافه، وقوله: عن علي أنه لم يعاتب في شيء من القرآن فيه نظر أيضاً، فإن الاية التي في الأنفال التي فيها المعاتبة على أخذ الفداء، عمت جميع من أشار بأخذه ولم يسلم منها إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فعلم بهذا وبما تقدم ضعف هذا الأثر، والله أعلم، وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث، حدثني يونس قال: قال محمد بن مسلم: قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران، وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم فيه "هذا بيان من الله ورسوله "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود" فكتب الايات منها حتى بلغ "إن الله سريع الحساب"".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد، حدثنا يونس بن بكير، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه، قال: هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا الذي كتبه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن يفقه أهلها ويعلمهم السنة، ويأخذ صدقاتهم، فكتب له كتاباً وعهداً، وأمره فيه بأمره، فكتب "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله ورسوله "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود" عهد من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى الله في أمره كله، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" .
قوله تعالى: "أوفوا بالعقود" قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: يعني بالعقود العهود، وحكى ابن جرير الإجماع على ذلك، قال: والعهود ما كانوا يتعاقدون عليه من الحلف وغيره. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود" يعني العهود، يعني ما أحل الله وما حرم وما فرض وما حد في القرآن كله، ولا تغدروا ولا تنكثوا، ثم شدد في ذلك فقال تعالى: "والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل" إلى قوله "سوء الدار" وقال الضحاك: "أوفوا بالعقود" قال: ما أحل الله وحرم، وما أخذ الله من الميثاق على من أقر بالإيمان بالنبي والكتاب أن يوفوا بما أخذ الله عليهم من الفرائض من الحلال والحرام. وقال زيد بن أسلم "أوفوا بالعقود" قال: هي ستة: عهد الله، وعقد الحلف، وعقد الشركة، وعقد البيع، وعقد النكاح وعقد اليمين. وقال محمد بن كعب: هي خمسة منها حلف الجاهلية، وشركة المفاوضة. وقد استدل بعض من ذهب إلى أنه لا خيار في مجلس البيع بهذه الاية "أوفوا بالعقود" قال: فهذه تدل على لزوم العقد وثبوته فيقتضي نفي خيار المجلس، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، وخالفهما في ذلك الشافعي وأحمد والجمهور، والحجة في ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "البيعان بالخيار مالم يتفرقا" وفي لفظ آخر للبخاري "إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار مالم يتفرقا" وهذا صريح في إثبات خيار المجلس المتعقب لعقد البيع، وليس هذا منافياً للزوم العقد، بل هو من مقتضياته شرعاً، فالتزامه من تمام الوفاء بالعقود .
وقوله تعالى: "أحلت لكم بهيمة الأنعام" هي الإبل والبقر والغنم، قاله أبو الحسن وقتادة وغير واحد، قال ابن جرير: وكذلك هو عند العرب، وقد استدل ابن عمر وابن عباس وغير واحد بهذه الآية على إباحة الجنين إذا وجد ميتاً في بطن أمه إذا ذبحت، وقد ورد في ذلك حديث في السنن رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من طريق مجالد عن أبي الوداك جبير بن نوفل، عن أبي سعيد قال: قلنا: يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة أو الشاة في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله ؟ فقال "كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه" وقال الترمذي: حديث حسن، قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عتاب بن بشير، حدثنا عبيد الله بن أبي زياد القداح المكي عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال "ذكاة الجنين ذكاة أمه" تفرد به أبو داود .
وقوله "إلا ما يتلى عليكم" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني بذلك الميتة والدم ولحم الخنزير، وقال قتادة: يعني بذلك الميتة ومالم يذكر اسم الله عليه والظاهر ـ والله أعلم ـ أن المراد بذلك قوله "حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع" فإن هذه وإن كانت من الأنعام إلا أنها تحرم بهذه العوارض، ولهذا قال "إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب" يعني منها فإنه حرام لا يمكن استدراكه وتلاحقه، ولهذا قال تعالى: "أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم" أي إلا ما سيتلى عليكم من تحريم بعضها في بعض الأحوال .
وقوله تعالى: "غير محلي الصيد وأنتم حرم" قال بعضهم: هذا منصوب على الحال والمراد بالأنعام ما يعم الإنسي من الإبل والبقر والغنم، ويعم الوحشي كالظباء والبقر والحمر، فاستثنى من الإنسي ما تقدم، واستثنى من الوحشي الصيد في حال الإحرام، وقيل: المراد أحللنا لكم الأنعام، إلا ما استثني منها لمن التزم تحريم الصيد، وهو حرام لقوله "فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم" أي أبحنا تناول الميتة للمضطر بشرط أن يكون غير باغ ولا متعد، وهكذا هنا أي كما أحللنا الأنعام في جميع الأحوال فحرموا الصيد في حال الإحرام، فإن الله قد حكم بهذا، وهو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه، ولهذا قال الله تعالى: "إن الله يحكم ما يريد" ثم قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله" قال ابن عباس: يعني بذلك مناسك الحج . وقال مجاهد: الصفا والمروة، والهدي والبدن من شعائر الله، وقيل: شعائر الله محارمه، أي لا تحلوا محارم الله التي حرمها تعالى، ولهذا قال تعالى: "ولا الشهر الحرام" يعني بذلك تحريمه والاعتراف بتعظيمه، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه من الابتداء بالقتال وتأكيد اجتناب المحارم، كما قال تعالى: "يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير" وقال تعالى: "إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً" الاية، وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو العقدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت، كما هو مذهب طائفة من السلف .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: "ولا الشهر الحرام" يعني لا تستحلوا القتال فيه، وكذا قال مقاتل بن حيان وعبد الكريم بن مالك الجزري، واختاره ابن جرير أيضاً، وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم، واحتجوا بقوله تعالى: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" والمراد أشهر التسيير الأربعة، قالوا: فلم يستثن شهراً حراماً من غيره، وقد حكى الإمام أبو جعفر الإجماع على أن الله قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها من شهور السنة، قال: وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قلد عنقه أو ذراعيه بلحاء جميع أشجار الحرم لم يكن ذلك له أماناً من القتل إذا لم يكن تقدم له عقد ذمة من المسلمين أو أمان، ولهذه المسألة بحث آخر له موضع أبسط من هذا .
وقوله تعالى: "ولا الهدي ولا القلائد" يعني لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام، فإن فيه تعظيم شعائر الله، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام، وليعلم أنها هدي إلى الكعبة فيجتنبها من يريدها بسوء، وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها، فإن من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ولهذا لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم، بات بذي الحليفة وهو وادي العقيق، فلما أصبح طاف على نسائه وكن تسعاً، ثم اغتسل وتطيب وصلى ركعتين، ثم أشعر هديه وقلده، وأهل للحج والعمرة، وكان هديه إبلاً كثيرة تنيف على الستين من أحسن الأشكال والألوان، كما قال تعالى: "ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب" وقال بعض السلف إعظامها استحسانها واستسمانها، قال علي بن أبي طالب : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن، رواه أهل السنن .
وقال مقاتل بن حيان: وقوله "ولا القلائد" فلا تستحلوها وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم، قلدوا أنفسهم بالشعر والوبر وتقلد مشركو الحرم من لحاء شجره فيأمنون به، رواه ابن أبي حاتم ثم قال: حدثنا محمد بن عمار، حدثنا سعيد بن سليمان، قال: حدثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: نسخ من هذه السورة آيتان آية القلائد وقوله " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " وحدثنا المنذر بن شاذان حدثنا زكريا بن عدي حدثنا محمد بن أبي عدي عن ابن عوف قال : قلت للحسن: نسخ من المائدة شيء ؟ قال لا، وقال عطاء: كانوا يتقلدون من شجر الحرم فيأمنون فنهى الله عن قطع شجره وكذا قال مطرف بن عبد الله .
وقوله تعالى: "ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضوانا" أي ولا تستحلوا قتال القاصدين إلى بيت الله الحرام الذي من دخله كان آمناً وكذا من قصده طالباً فضل الله وراغباً في رضوانه فلا تصدوه ولا تمنعوه ولا تهيجوه . قال مجاهد وعطاء وأبو العالية ومطرف بن عبد الله وعبد الله بن عبيد بن عمير والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وقتادة وغير واحد في قوله "يبتغون فضلاً من ربهم" يعني بذلك التجارة، وهذا كما تقدم في قوله "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم". وقوله "ورضواناً" قال ابن عباس: يترضون الله بحجهم وقد ذكر عكرمة والسدي وابن جرير أن هذه الاية نزلت في الحطم بن هند البكري كان قد أغار على سرح المدينة فلما كان من العام المقبل اعتمر إلى البيت فأراد بعض الصحابة أن يعترضوا عليه في طريقه إلى البيت فأنزل الله عز وجل "ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً" .
وقد حكى ابن جرير الإجماع على أن المشرك يجوز قتله إذا لم يكن له أمان وإن أم البيت الحرام أو بيت المقدس وأن هذا الحكم منسوخ في حقهم، والله أعلم ـ فأما من قصده بالإلحاد فيه والشرك عنده والكفر به فهذا يمنع، قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا" ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تسع لما أمر الصديق على الحجيج علياً وأمره أن ينادي على سبيل النيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وقال ابن أبي طلحة: عن ابن عباس قوله " ولا آمين البيت الحرام " يعني من توجه قبل البيت الحرام فكان المؤمنون والمشركون يحجون فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحداً من مؤمن أو كافر ثم أنزل الله بعدها "إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا" الاية، وقال تعالى: "ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله" وقال " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر " فنفى المشركين من المسجد الحرام . وقال عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة في قوله "ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام" قال: منسوخ، كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من الشجر فلم يعرض له أحد، فإذا رجع تقلد قلادة من شعر فلم يعرض له أحد، وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت فنسخها قوله "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله "ولا القلائد" يعني إن تقلدوا قلادة من الحرم فأمنوهم، قال ولم تزل العرب تعير من أخفر ذلك، قال الشاعر:
ألم تقتلا الحرجين إذ أعورا لكم يمران بالأيدي اللحاء المضفرا
وقوله تعالى: "وإذا حللتم فاصطادوا" أي إذا فرغتم من إحرامكم وأحللتم منه فقد أبحنا لكم ما كان محرماً عليكم في حال الإحرام من الصيد وهذا أمر بعد الحظر والصحيح الذي يثبت على السير، أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي، فإن كان واجباً رده واجباً وإن كان مستحباً فمستحب أو مباحاً فمباح، ومن قال إنه على الوجوب ينتقض عليه بآيات كثيرة، ومن قال إنه للإباحة يرد عليه آيات أخرى، والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه، كما اختاره بعض علماء الأصول، والله أعلم . وقوله " ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا " من القراء من قرأ أن صدوكم بفتح الألف من أن، ومعناها ظاهر أي لا يحملنكم بغض قوم قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام وذلك عام الحديبية على أن تعتدوا حكم الله فيهم فتقتصوا منهم ظلماً وعدواناً بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد، وهذه الاية كما سيأتي من قوله " ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى " أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فإن العدل واجب على كل أحد في كل أحد في كل حال، وقال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه . والعدل به قامت السموات والأرض وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سهل بن عفان، حدثنا عبد الله بن جعفر، عن زيد بن أسلم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت وقد اشتد ذلك عليهم فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم فأنزل الله هذه الاية، والشنآن هو البغض قاله ابن عباس وغيره وهو مصدر من شنأته أشنؤه شنآناً بالتحريك، مثل قولهم جمزان ودرجان ورقلان من جمز ودرج ورقل، وقال ابن جرير: من العرب من يسقط التحريك في شنآن فيقول شنان ولم أعلم أحداً قرأ بها . ومنه قول الشاعر:
وما العيش إلا ما تحب وتشتهي وإن لام فيه ذو الشنان وفندا
وقوله تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات وهو البر، وترك المنكرات وهو التقوى وينهاهم عن التناصر على الباطل والتعاون على المآثم والمحارم، قال ابن جرير: الإثم ترك ما أمر الله بفعله والعدوان مجاوزة ما حد الله في دينكم ومجاوزة ما فرض الله عليكم في أنفسكم وفي غيركم، وقد قال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا عبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن جده أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" قيل: يا رسول الله هذا نصرته مظلوماً فكيف أنصره إذا كان ظالماً ؟ قال "تحجزه وتمنعه من الظلم فذاك نصره" انفرد به البخاري من حديث هشيم به نحوه، وأخرجاه من طريق ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" قيل: يا رسول الله هذا نصرته مظلوماً، فكيف أنصره ظالماً ؟ قال "تمنعه من الظلم فذاك نصرك إياه" وقال أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا سفيان بن سعيد، عن الأعمش، عن يحيى بن وثاب، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" وقد رواه أحمد أيضاً في مسند عبد الله بن عمر، حدثنا حجاج، حدثنا شعبة عن الأعمش، عن يحيى بن وثاب، عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم" وهكذا رواه الترمذي من حديث شعبة وابن ماجه من طريق إسحاق بن يوسف كلاهما عن الأعمش به . وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن محمد أبو شيبة الكوفي، حدثنا بكر بن عبد الرحمن، حدثنا عيسى بن المختار عن ابن أبي ليلى، عن فضيل بن عمرو، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الدال على الخير كفاعله" ثم قال: لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد، قلت: وله شاهد في الصحيح "من دعا إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً" وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن زريق الحمصي، حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن الحارث عن عبد الله بن سالم عن الزبيدي قال عباس بن يونس: إن أبا الحسن نمران بن صخر، حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام" .
قوله: 2- "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله" الشعائر: جمع شعيرة على وزن فعيلة. قال ابن فارس: ويقال للواحدة: شعار وهو أحسن، ومنه الإشعار للهدي. والمشاعر: المعالم، واحدها مشعر، وهي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات، قيل المراد بها هنا جميع مناسك الحج: وقيل الصفا والمروة، والهدي والبنيان. والمعنى على هذين القولين: لا تحلوا هذه الأمور بأن يقع منكم الإخلال بشيء منها أو بأن تحولوا بينها وبين من أراد فعلها. ذكر سبحانه النهي عن أن يحلوا شعائر الله عقب ذكره تحريم صيد المحرم، وقيل المراد بالشعائر هنا فرائض الله، ومنه "ومن يعظم شعائر الله"، وقيل هي حرمات الله، ولا مانع من حمل ذلك على الجميع اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولا بما يدل عليه السياق. قوله: "ولا الشهر الحرام" المراد به الجنس، فيدخل في ذلك جميع الأشهر الحرم وهي أربعة: ذو القعدة، وذو الحجة ومحرم، ورجب: أي لا تحلوها بالقتال فيها، وقيل المراد به هنا شهر الحج فقط. قوله: "ولا الهدي" هو ما يهدى إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة، الواحدة هدية. نهاهم سبحانه عن أن يحلوا حرمة الهدي بأن يأخذوه على صاحبه أو يحولوا بينه وبين المكان الذي يهدى إليه، وعطف الهدي على الشعائر مع دخوله تحتها لقصد التنبيه على مزيد خصوصيته والتشديد في شأنه. قوله: "ولا القلائد" جمع قلادة، وهي ما يقلد به الهدي من نعل أو نحوه. وإحلالها بأن تؤخذ غصباً، وفي النهي عن إحلال القلائد تأكيد للنهي عن إحلال الهدي، وقيل المراد بالقلائد المقلدات بها، ويكون عطفه على الهدي لزيادة التوصية بالهدي، والأول أولى، وقيل المراد بالقلائد ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم، فهو على حذف مضاف: أي ولأصحاب القلائد. قوله: "ولا آمين البيت الحرام" أي قاصديه من قولهم أممت كذا: أي قصدته. وقرأ الأعمش: ولا آمي البيت الحرام بالإضافة. والمعنى: لا تمنعوا من قصد البيت الحرام لحج أو عمرة أو ليسكن فيه، وقيل إن سبب نزول هذه الآية أن المشركين كانوا يحجون ويعتمرون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فنزل: "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله" إلى آخر الآية فيكون ذلك منسوخاً بقوله: "اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم"، وقوله: "فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحجن بعد العام مشرك". وقال قوم: الآية محكمة وهي في المسلمين. قوله: "يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً" جملة حالية من الضمير المستتر في "آمين" قال جمهور المفسرين: معناه يبتغون الفضل والأرباح في التجارة، ويبتغون مع ذلك رضوان الله، وقيل كان منهم من يطلب التجارة، ومنهم من يبتغي بالحج رضوان الله، ويكون هذا الابتغاء للرضوان بحسب اعتقادهم وفي ظنهم عند من جعل الآية في المشركين، وقيل المراد بالفضل هنا الثواب لا الأرباح في التجارة. قوله: "وإذا حللتم فاصطادوا" هذا تصريح بما أفاده مفهوم "وأنتم حرم" أباح لهم الصيد بعد أن حظره عليهم لزوال السبب الذي حرم لأجله، وهو الإحرام. قوله: " ولا يجرمنكم شنآن قوم " قال ابن فارس: جرم وأجرم ولا جرم بمعنى قولك لا بد ولا محالة، وأصلها من جرم أي كسب، وقيل المعنى: لا يحملنكم قاله الكسائي وثعلب وهو يتعدى إلى مفعولين يقال: جرمني كذا على بغضك: أي حملني عليه ومنه قول الشاعر:
ولقد طعنــــت أبا عيينة طعنــــة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
أي حملتهم على الغضب. وقال أبو عبيدة والفراء: معنى "لا يجرمنكم" لا يكسبنكم بغض قوم أن تعتدوا الحق إلى الباطل، والعدل إلى الجور والجريمة والجارم بمعنى الكاسب، ومنه قول الشاعر:
جريمة ناهــــــض في رأس نيــــق يرى لعظام ما جمعت صليبـــا
معناه كاسب قوت. والصليب: الودك، ومنه قول الآخر:
يا أيها المشتكي عكلاً وما جرمت إلى القبائــل من قتــل وإيئاس
أي كسبت، والمعنى في الآية: لا يحملنكم بغض قوم على الاعتداء عليهم أو لا يكسبنكم بغضهم اعتداءكم للحق إلى الباطل، ويقال: جرم يجرم جرماً: إذا قطع. قال علي بن عيسى الرماني: وهو الأصل، فجرم بمعنى حمل على الشيء لقطعه من غيره، وجرم بمعنى كسب لانقطاعه إلى الكسب، ولا جرم بمعنى حق لأن الحق يقطع عليه. قال الخليل: معنى "لا جرم أن لهم النار" لقد حق أن لهم النار. وقال الكسائي: جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد: أي اكتسب. وقرأ ابن مسعود: "لا يجرمنكم" بضم الياء، والمعنى: لا يكسبنكم ولا يعرف البصريون أجرم، وإنما يقولون جرم لا غير. والشنآن: البغض. وقرئ بفتح النون وإسكانها، يقال: شنيت الرجل أشنوه شناء ومشنأة وشنآناً كل ذلك: إذا أبغضته، وشنآن هنا مضاف إلى المفعول: أي بغض قوم منكم لا بغض قوم لكم. قوله: "أن صدوكم" بفتح الهمزة مفعول لأجله: أي لأن صدوكم. وقرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر الهمزة على الشرطية، وهو اختيار أبي عبيد، وقرأ الأعمش: " أن يصدكم " والمعنى على قراءة الشرطية: لا يحملنكم بغضهم إن وقع منهم الصد لكم عن المسجد الحرام على الاعتداء عليهم. قال النحاس: وأما إن صدوكم بكسر إن، فالعلماء الجلة بالنحو والحديث والنظر يمنعون القراءة بها لأشياء: منها أن الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان، وكان المشركون صدوا المؤمنين عام الحديبية سنة ست، فالصد كان قبل الآية، وإذا قرئ بالكسر لم يجز أن يكون إلا بعده كما تقول: لا تعط فلاناً شيئاً إن قاتلك، فهذا لا يكون إلا للمستقبل وإن فتحت كان للماضي، وما أحسن هذا الكلام. وقد أنكر أبو حاتم وأبو عبيدة شنآن بسكون النون. لأن المصادر إنما تأتي في مثل هذا متحركة وخالفهما غيرهما فقال: ليس هذا مصدراً، ولكنه اسم فاعل على وزن كسلان وغضبان. ولما نهاهم عن الاعتداء أمرهم بالتعاون على البر والتقوى كائناً ما كان، قيل: إن البر والتقوى لفظان لمعنى واحد، وكرر للتأكد. وقال ابن عطية: إن البر يتناول الواجب والمندوب، والتقوى تختص بالواجب، وقال الماوردي: إن في البر رضا الناس وفي التقوى رضا الله، فمن جمع بينهما فقد تمت سعادته ثم نهاهم سبحانه عن التعاون على الإثم والعدوان، فالإثم: كل فعل أو قول يوجب إثم فاعله أو قائله، والعدوان: التعدي على الناس بما فيه ظلم، فلا يبقى نوع من أنواع الموجبات للإثم ولا نوع من أنواع الظلم للناس الذين من جملتهم النفس إلا وهو داخل تحت هذا النهي لصدق هذين النوعين على كل ما يوجد فيه معناهما، ثم أمر عباده بالتقوى وتوعد من خالف ما أمر به فتركه أو خالف ما نهى عنه ففعله بقوله: "إن الله شديد العقاب".
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله: "أوفوا بالعقود" قال: ما أحل الله وما حرم وما فرض وما حد في القرآن كله لا تغدروا ولا تنكثوا. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال: هي عقود الجاهلية الحلف. وروى عنه ابن جرير أنه قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "وأوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقداً في الإسلام". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الحسن في قوله: "أحلت لكم بهيمة الأنعام" قال: الإبل والبقر والغنم. وأخرج ابن جرير عن ابن عمر في قوله: "أحلت لكم بهيمة الأنعام" قال: ما في بطونها، قلت: إن خرج ميتاً آكله؟ قال: نعم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله: "إلا ما يتلى عليكم" قال: الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به إلى آخر الآية، فهذا ما حرم الله من بهيمة الأنعام. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لا تحلوا شعائر الله" قال: كان المشركون يحجون البيت الحرام ويهدون الهدايا ويعظمون حرمة المشاعر وينحرون في حجهم، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فقال الله: "لا تحلوا شعائر الله" وفي قوله: "ولا الشهر الحرام" يعني: لا تستحلوا قتالاً فيه "ولا آمين البيت الحرام" يعني: من توجه قبل البيت الحرام، فكان المؤمنون والمشركون يحجون جميعاً، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحداً حج البيت أو يتعرضوا له من مؤمن أو كافر، ثم أنزل الله بعد هذه الآية: "إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا" وفي قوله: "يبتغون فضلاً" يعني أنهم يرضون الله بحجهم "ولا يجرمنكم" يقول: لا يحملنكم " شنآن قوم " يقول: عداوة قوم "وتعاونوا على البر والتقوى" قال: البر ما أمرت به، والتقوى ما نهيت عنه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: شعائر الله ما نهى الله عنه أن تصيبه وأنت محرم، والهدي: ما لم يقلد والقلائد مقلدات الهدي "ولا آمين البيت الحرام" يقول: من توجه حاجاً. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "لا تحلوا شعائر الله" قال: مناسك الحج. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليهم، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصد هؤلاء كما صدنا أصحابنا، فأنزل الله: "ولا يجرمنكم"" الآية. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه عن وابصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك". وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في الأدب ومسلم والترمذي والحاكم والبيهقي عن النواس بن سمعان قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم، فقال: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس". وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي أمامة "أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإثم، فقال: ما حاك في نفسك فدعه. قال فما الإيمان؟ قال: من ساءته سيئته وسرته حسنته فهو مؤمن".
2. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله "، نزلت في الحطم واسمه شريح بن ضبيعة البكري ، أتى المدينة،وخلف خيله خارج المدينة ، ودخل وحده على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إلى ما تدعو الناس ؟ فقال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، [ وأن محمداً رسول الله ] ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، فقال : [ حسن ] ، إلا أن لي أمراء لا أقطع أمراً دونهم ، ولعلي أسلم وآتي بهم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم [ بلسان ] شيطان ، ثم خرج شريح من عنده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر وما الرجل بمسلم فمر بسرح المدينة فاستاقه وانطلق ، فاتبعوه فلم يدركوه ، فلما كان العام القابل خرج حاجا في حجاج بكر بن وائل من اليمامة و معه تجارة عظيمة ، وقد قلد الهدي ، فقال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم : هذا الحطم قد خرج حاجاً فخل بيننا وبينه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنه قد قلد الهدي ، فقالوا : يا رسول الله هذا شيء كنا نفعله في الجاهليه ، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله "
قال ابن عباس و مجاهد : هي مناسك الحج ، وكان المشركون يحجون ويهدون ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنهاهم الله عن ذلك.
وقال أبو عبيدة : شعائر الله هي الهدايا المشعرة ، والإشعار من الشعار ، وهي العلامة ، وإشعارها : إعلامها بما يعرف أنها هدي ، والإشعار ها هنا : أن يطعن في صفحة سنام البعير بحديدة حتى يسيل الدم ، فيكون بذلك علامة أنها هدي ، وهي سنة في الهدايا إذا كانت من الأبل ، لما أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن أسماعيل ثنا أبو نعيم أنا أفلح عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : "فتلت قلائد بدن النبي صلى الله عليه وسلم بيدي ، ثم قلدها وأشعرها وأهداها ، فما حرم عليه شيء كان أحل له "
وقاس الشافعي البقر على الإبل في الإشعار ، وأما الغنم فلا تشعر بالجرح، فإنها لا تحتمل الجرح لضعفها ، وعند أبي حنيفة : لا يشعر الهدي .
وقال عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما : لا تحلوا شعائر الله هي أن تصيد وأنت محرم ، بدليل قوله تعالى : " وإذا حللتم فاصطادوا " وقال السدي : أراد حرم الله ، وقيل : المراد منه النهي عن القتل في الحرم ، وقال عطاء : شعائر الله حرمات الله واجتناب سخطه واتباع طاعته.
قوله : " ولا الشهر الحرام " أي : القتال فيه ، وقال ابن زيد : هو النسيء ، وذلك أنهم كانوا يحلونه في الجاهليه عاما ويحرمونه عاماً ، " ولا الهدي " وهو كل ما يهدى إلى بيت الله من بعير أو بقرة أو شاة ، " ولا القلائد " أي الهدايا المقلدة ، يريد ذوات القلائد ، وقال عطاء : أراد أصحاب القلائد ، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا أرادوا الخروج من الحرم قلدوا أنفسهم ,إبلهم بشيء من لحاء شجر الحرم كيلا يتعرض لهم ، فنهى الشرع عن استحلال شيء منها . وقال مطرف بن الشخير : هي القلائد نفسها وذلك أن المشركين كانوا يأخذون من لحاء شجر مكة ويتقلدونها فنهوا عن نزع شجرها .
قوله تعالى : " ولا آمين البيت الحرام " ، أي : قاصدين البيت الحرام ، يعني الكعبة فلا تتعرضوا لهم ، " يبتغون " يطلبون " فضلاً من ربهم " يعني الرزق بالتجارة ، " ورضواناً "أي : على زعمهم ، لأن الكافرين لا نصيب لهم في الرضوان ، وقال قتادة : هو أن يصلح معاشهم في الدنيا ولا يعجل لهم العقوبة فيها ، وقيل : ابتغاء الفضل للمؤمنين والمشركين عامة ، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة ، لأن المسلمين والمشركين كانوا يحجون ، وهذه الآية إلى ها هنا منسوخة بقوله : " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " ( سورة التوبة ، 5 ) وبقوله : " فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا " ( سورة التوبة ، 28) ، فلا يجوز أن يحج مشرك ولا أن يأمن كافر بالهدي والقلائد.
قوله عز وجل : " وإذا حللتم " من إحرامكم ، " فاصطادوا " ، أمر إباحة ، أباح للحلال أخذ الصيد، كقوله تعالى : " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض " ( الجمعة ، 10 ) .
" ولا يجرمنكم " ، قال ابن عباس و قتادة : لا يحملنكم ، يقال : جرمني فلان على أن صنعت كذا ، أي حملني ، وقال الفراء : لا يكسبنكم ، يقال : جرم أي : كسب ، وفلان جريمة أهله ، أي كاسبهم ، وقيل : لا يدعونكم ، " شنآن قوم "اي بغضهم وعداوتهم ، وهو مصدر شنئت ، قرأ ابن عامر و أبو بكر شنآن قوم بسكون النون الأولى ، وقرأ الآخرون بفتحها ، وهما لغتان ، والفتح أجود ، لأن المصادر أكثرها فعلان ، بفتح العين مثل الضربان والسيلان والنسلان ونحوها ، " أن صدوكم عن المسجد الحرام " ، قرأ ابن كثير وأبوعمرو بكسر الألف على الإستئناف ، وقرأ الآخرون بفتح الألف ، أي : لأن صدوكم ، ومعنى الآية : ولايحملنكم عداوة قوم على الإعتداء لأنهم صدوكم . وقال محمد بن جرير : لأن السورة نزلت بعد قضية الحديبية ، وكان الصد قد تقدم ، " أن تعتدوا " ، عليهم بالقتل وأخذا لأموال ، " وتعاونوا " ، أي : ليعن بعضكم بعضاً ، " على البر والتقوى " ، قيل البر متابعة الأمر ، والتقوى مجانبة النهي ، وقيل البر : الإسلام ، والتقوى: السنة ، " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ، قيل :الإثم : الكفر ، والعدوان : الظلم ، وقيل الإثم : المعصية ، والعدوان : البدعة .


2" يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله " يعني مناسك الحج، جمع شعيرة وهي اسم كل ما أشعر أي جعل شعاراً سمى به أعمال الحج وموافقة لأنها علامات الحج وأعلام انسك. وقيل دين الله لقوله سبحانه وتعالى: " ومن يعظم شعائر الله " أي دينه. وقيل فرائضه التي حدها لعباده. " ولا الشهر الحرام " بالقتال فيه أو بالنسيء. " ولا الهدي " ما أهدي إلى الكعبة، جمع هدية كجدي في جميع جدية السرح. " ولا القلائد " أي ذوات القلائد من الهدي، وعطفها على الهدي للاختصاص فإنها أشرف الهدي، أو القلائد أنفسها والنهي عن إحلالها مبالغة في النهي عن التعرض للهدي، ونظيره قوله تعالى: " ولا يبدين زينتهن ". والقلائد جمع قلادة وهو ما قلد به الهدي من نعل أو لحاء شجر أو غيرهما ليعلم به أنه هدي فلا يتعرض له. " ولا آمين البيت الحرام " قاصدين لزيارته. " يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا " أن يثيبهم ويرض عنهم، والجملة في موضع الحال من المستكن في آمين وليست صفة له، لأنه عامل والمختار أن اسم الفاعل الموصوف لا يعمل، وفائدته استنكار تعرض من هذا شأنه التنبيه على المانع له. وقيل معناه يبتغون من الله رزقاً بالتجارة ورضواناً بزعمهم إذ روي أن الآية نزلت في عام القضية في حجاج اليمامة لما هم المسلمون أن يتعرضوا لهم بسبب أنه كان فيهم الحطيم بن شريح بن ضبيعة، وكان قد استاق سرح المدينة وعلى هذا فالآية منسوخة. وقرئ تبتغون على خطاب المؤمنين " وإذا حللتم فاصطادوا " إذن في الاصطياد بعد زوال الإحرام ولا يلزم من إرادة الإباحة ههنا من الأمر دلالة الأمر الآتي بعد الحظر على الإباحة مطلقاً. وقرئ بكسر الفاء على إلقاء حركة الوصل عليها وهو ضعيف جداً. وقرئ " حللتم " يقال حل المحرم وأحل " ولا يجرمنكم " لا يحملنكم أو لا يكسبنكم. " شنآن قوم " شدة بغضهم وعداوتهم وهو مصدر أضيف إلى المفعول أو الفاعل. وقرأ ابن عامر و إسماعيل عن نافع و ابن عياش عن عاصم بسكون النون وهو أيضاً مصدر كليان أو نعت بمعنى: بغيض قوم وفعلان في النعت أكثر كعطشان وسكران. " أن صدوكم عن المسجد الحرام " لأن صدوكم عنه عام الحديبية،. وقرأ ابن كثير و أبو عمرو بكسر الهمزة على أنه شرط معترض أغنى عن جوابه لا يجرمنكم. " أن تعتدوا " بالانتقام، وهو ثاني مفعولي يجرمنكم فإنه يعدى إلى واحد وإلى اثنين ككسب. ومن قرأ " يجرمنكم " بضم الياء جعله منقولاً من التعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين. " وتعاونوا على البر والتقوى " على العفو والإغضاء ومتابعة الأمر ومجانبة الهوى. " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " للتشفي والانتقام. " واتقوا الله إن الله شديد العقاب " فانتقامه أشد.
2. O ye who believe! Profane not Allah's monuments nor the Sacred Month nor the offerings nor the garlands, nor those repairing to the Sacred House, seeking the grace and pleasure of Allah. But when ye have left the sacred territory, then go hunting (if ye will). And let not your hatred of a folk who (once) stopped your going to the Inviolable Place of Worship seduce you to transgress; but help ye one another unto righteousness and pious duty. Help not one another unto sin and transgression, but keep your duty to Allah. Lo! Allah is severe in punishment.
2 - O ye who believe violate not the sanctity of the symbols of God, nor of the sacred month, nor of the animals brought for sacrifice, nor the garlands that mark out such animals, nor the people resorting to the sacred house, seeking of the bounty and good pleasure of their lord. but when ye are clear of the sacred precincts and of pilgrim garb, ye may hunt and let not the hatred of some people on (once) shutting you out of the sacred mosque lead you to transgression (and hostility on your part). help ye one another in righteousness and piety, but help ye not one another in sin and rancour: fear God: for God is strict in punishment.