[الحجرات : 11] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
11 - (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر) الآية نزلت في وفد تميم حين سخروا من فقراء المسلمين كعمار وصهيب والسخرية والازدراء والاحتقار (قوم) أي رجال منكم (من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم) عند الله (ولا نساء) منكم (من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم) لا تعيبوا أي لا يعب بعضكم بعضا (ولا تنابزوا بالألقاب) لا يدع بعضكم بعضا بلقب يكرهه ومنه يا فاسق ويا كافر (بئس الاسم) المذكور من السخرية واللمز والتنابز (الفسوق بعد الإيمان) بدل من الاسم لافادته أنه فسق لتكرره عادة (ومن لم يتب) من ذلك (فأولئك هم الظالمون)
قوله تعالى ولا تنابزوا بالألقاب الآية أخرج أصحاب السنن الأربعة عن أبي جبير بن الضحاك قال كان الرجل منا يكون له الاسمان والثلاثة فيدعى ببعضها فعسى أن يكرهه فنزلت ولا تنابزوا بالألقاب قال الترمذي حسن
وأخرج الحاكم وغيره من حديثه أيضا قال كانت الأبقاب في الجاهلية فدعا النبي صلى الله عليه وسلم رجلا منهم بلقبه فقيل له يا رسول الله إنه يكرهه فأنزل الله ولا تنابزوا بالألقاب ولفظ أحمد عنه قال فينا نزلت في بني سلمة ولا تنابزوا بالألقاب قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة فكان إذا دعا أحدا منهم باسم من تلك الأسماء قالوا يا رسول الله إنه يغضب من هذا فنزلت
يقول : تعالى ذكره : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، لا يهزأ قوم مؤمنون من قوم مؤمنين " عسى أن يكونوا خيرا منهم " يقول : المهزوء منهم خير من الهازئين " ولا نساء من نساء " يقول : ولا يهزأ نساء مؤمنات من نساء مؤمنات ، عسى المهزوء منهن أن يكن خيرا من الهازئات .
واختلف أهل التأويل في السخرية التي نهى الله عنها المؤمنين في هذه الآية ، فقال بعضهم : هي سخرية الغني من الفقير ، نهي أن يسخر من الفقير لفقره .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني ابن الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد " لا يسخر قوم من قوم " قال : لا يهزأ قوم بقوم أن يسأل رجل فقير غنيا ، أو فقيرا ، وإن تفضل رجل عليه لشيء فلا عليه بشيء فلا يستهزئ به .
وقال آخرون : بل ذلك نهي من الله من ستر عليه من أهل الإيمان أن يسخر ممن كشف في الدنيا ستره منهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله " يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن " قال : ربما عثر على المرء عند خطيئته عسى أن يكون خيرا منهم ، وإن كان ظهر على عثرته هذه ، وسترت أنت على عثرتك ، لعل هذه التي ظهرت خير له في الآخرة عند الله ، وهذه التي سترت أنت عليها شر لك ، ما يدريك لعله ما يغفر لك ، قال : فنهي الرجل عن ذلك ، فقال : " لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم " وقال في النساء مثل ذلك .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله عم بنهيه المؤمنين عن أن يسخر بعضهم من بعض جميع معاني السخرية ، فلا يحل لمؤمن أن يسخر من مؤمن لا لفقره ، ولا لذنب ركبه ، ولا لغير ذلك .
وقوله " ولا تلمزوا أنفسكم " يقول تعالى ذكره : ولا يغتب بعضكم بعضا أيها المؤمنون ، ولا يطعن بعضكم على بعض . وقال : " لا تلمزوا أنفسكم " فجعل اللامز أخاه لامزا نفسه ، لأن المؤمنين كرجل واحد فيما يلزم بعضهم لبعض من تحسين أمره ، وطلب صلاحه ، ومحبته الخير . . ولذلك روي الخبر عن رسول الله صلى الله عيه وسلم أنه قال : " المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالحمى والسهر " . وهذا نظير قوله ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم ) بمعنى : ولا يقتل بعضكم بعضا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله " ولا تلمزوا أنفسكم " قال : لا تطعنوا .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله " ولا تلمزوا أنفسكم " يقول : ولا يطعن بعضكم على بعض .
حدثنا ابن عبد الاعلى قال : ثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة مثله .
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله " ولا تلمزوا أنفسكم " يقول : لا يطعن بعضكم على بعض .
وقوله " ولا تنابزوا بالألقاب " يقول : ولا تداعوا بالألقاب . والنبز واللقب بمعنى واحد ، يجمع النبز : أنبازا ، واللقب : ألقابا .
واختلف أهل التأويل في الألقاب التي نهى الله عن التنابز بها في هذه الآية ، فقال بعضهم : عني بها الألقاب التي يكره النبز بها الملقب ، وقالوا : إنما نزلت هذه الآية في قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية ، فلما أسملوا نهوا أن يدعوا بعضهم بعضا بما يكره من أسمائه التي كان يدعى بها في الجاهلية .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا حميد بن مسعدة قال : ثنا بشر بن المفضل قال : ثنا داود عن عامر قال : قال أبو جبيرة بن الضحاك : "فينا نزلت هذه الآية في بني سلمة ، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما منا رجل إلا وله أسمان أو ثلاثة ، فكان إذا دعا الرجل الرجل بالإسم ، قلنا : يا رسول الله إنه يغضب من هذا ، فنزلت هذه الآية " ولا تنابزوا بالألقاب " ...الآية كلها ".
حدثني محمد بن المثنى قال : ثنا عبد الوهاب قال : ثنا داود عن عامر عن أبي جبيرة بن الضحاك قال : " كان أهل الجاهلية يسمون الرجل بالأسماء ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم رجلا باسم تلك الأسماء فقالوا : يا رسول الله إنه يغضب من هذا ، فأنزل الله " ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان " "
حدثنا ابن المثنى قال : ثنا ابن عبد الاعلى قال : ثنا داود عن عامر قال : ثني أبو جبيرة بن الضحاك فذكر عن الني صلى الله عليه وسلم ، نحوه .
حدثني يعقوب قال : ثنا ابن علية قال : أخبرنا داود عن الشعبي قال : ثني أبو جبيرة بن الضحاك قال : نزلت في بني سلمة " ولا تنابزوا بالألقاب " قال :" قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة ، فكان يدعو الرجل ، فتقول أمه : إنه يغضب من هذا ، قال : فنزلت " ولا تنابزوا بالألقاب " . وقال مرة : كان إذا دعا باسم من هذا قيل : يا رسول الله إنه يغضب من هذا ، فنزلت الآية" .
وقال آخرون : بل ذلك قول الرجل المسلم للرجل المسلم : يا فاسق ، يا زاني
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن السري قال : ثنا أبو الأحوص عن حصين قال : سألت عكرمة ، عن قول الله " ولا تنابزوا بالألقاب " قال : هو قول الرجل للرجل : يا منافق ، يا كافر .
حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال : ثنا هشيم قال : أخبرنا حصين عن عكرمة في قوله " ولا تنابزوا بالألقاب " قال : هو قول الرجل للرجل : يا فاسق يا منافق .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران عن سفيان عن حصين عن عكرمة " ولا تنابزوا بالألقاب " قال : يا فاسق ، يا كافر .
قال : ثنا مهران عن سفيان عن خصيف عن مجاهد أو عكرمة " ولا تنابزوا بالألقاب " قال : يقول الرجل للرجل : يا فاسق ، يا كافر .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله " ولا تنابزوا بالألقاب " قال : دعي رجل بالكفر وهو مسلم .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله " ولا تنابزوا بالألقاب " يقول للرجل : لا تقتل لأخيك المسلم : ذاك فاسق ، ذاك منافق ، نهى الله المسلم عن ذلك وقدم فيه .
حدثنا ابن عبد الاعلى قال : ثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة " ولا تنابزوا بالألقاب " يقول : لا يقولن لأخيه المسلم : يا فاسق يا منافق .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله " ولا تنابزوا بالألقاب " قال : تسميته بالأعمال السيئة بعد الإسلام زان فاسق .
وقال آخرون : بل ذلك تسمية الرجل الرجل بالكفر بعد الإسلام ، وبالفسوق والأعمال القبيحة بعد التوبة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،عن ابن عباس " ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان "...الآية ، قال : التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب منها ، وراجع الحق ، فنهى الله أن يعير بما سلف من عمله .
حدثنا ابن عبد الاعلى قال : ثنا ابن ثور عن معمر قال : قال الحسن كان اليهودي والنصراني يسلم ، فيلقب ، فيقال له : يا يهودي يا نصراني ، فنهوا عن ذلك .
والذي هو أولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين أن يتنابزوا بالألقاب ، والتنابز بالألقاب : هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة ، وعم الله بنهيه ذلك ، ولم يخصص به بعض الألقاب دون بعض ، فغير جائز لأحد من المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه أو صفة يكرهها . وأذا كان ذلك كذلك صحت الأقوال التي قالها أهل التأويل في ذلك التي ذكرناها كلها ، ولم يكن بعض ذلك أولى بالصواب من بعض ، لأن ذلك مما نهى الله المسلمين أن ينبز بعضهم بعضا .
وقوله " بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان " يقول تعالى ذكره : ومن فعل ما نهينا عنه ، وتقدم على معصيتنا بعد إيمانه ، فسخر من المؤمنين ، ولمز أخاه المؤمن ، ونبزه بالألقاب ، فهو فاسق " بئس الاسم الفسوق "يقول : فلا تفعلوا فتستحقوا إن فعلتموه أن تسموا فساقا ، بئس الاسم الفسوق.
وترك ذكر ما وصفنا من الكلام ، اكتفاء بدلالة "بئس الاسم الفسوق " عليه.
وكان ابن زيد يقولفي ذلك ما.
حدثنا به يونس بن عبد الأعلى ، قال: أخبرنا ابن وهب قال : ابن زيد ، وقرأ " بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان"قال بئس الاسم الفسوق حين تسميه بالفسق بعد الأسلام ، وهو على الأسلام . قال : وأهل هذا الرأي هم المعتزلة ، قالوا : لا نكفره كما كفره أهل الأهواء ، ولا نقول له مؤمن ، كما قالت الجماعة ، ولكنا نسميه باسمه إن كان سارقا فهو سارق ، وإن كان خائنا سموه خائنا ، وإن كان زانيا سموه زانيا ، قال : فاعتزلوا الفريقين أهل الأهواء وأهل الجماعة ، فلا بقول هؤلاء هؤلاء قالوا ، ولا بقول هؤلاء ، فسموا بذلك المعتزلة .
فوجه ابن زيد تأويل قوله " بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان " إلى من دعي فاسقا وهو تائب من فسقه ، فبئس الاسم ذلك له من أسمائه . وغير ذلك من التأويل أولى بالكلام ، وذلك أن الله تقدم بالنهي عما تقدم بالنهي عنه في أول هذه الآية ، فالذي هو أولى أن يختمها بالوعيد لمن تقدم على بغيه ، أو بقبيح ركوبه ما ركب مما نهي عنه ، لا أن يخبر عن قبح ما كان التاءب أتاه قبل توبته ، إذ كانت الآية لم تفتتح بالخبر عن ركوبه ما كان ركب قبل التوبة من القبيح ، فيختم آخرها بالوعيد عليه أو بالقبيح .
وقوله " ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون " يقول تعالى ذكره : ومن لم يتب من نبزه أخاه بما نهى الله عن نبزه به من الألقاب ، أو لمزه إياه ، أو سخريته منه ، فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم ، فأكسبوها عقاب الله بركوبهم ما نهاهم عنه .
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما :
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله " ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون " قال : ومن لم يتب من ذلك الفسوق فأولئك هم الظالمون .
قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن " فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم "
قيل عند الله وقيل ( خيراً منهم ) أي معتقداً وأسلم باطناً ، والسخرية الاستهزاء ، سخرت منه أسخر سخراً ( بالتحريك ) ومسخراً وسخراً ( بالضم ) ، وحكى أبو زيد سخرت به ، وهو أردأ اللغتين ، وقال الأخفش : سخرت منه وسخرت به ، وضحكت منه وضحكت به ، وهزئت منه وهزئت به ، كل يقال : والاسم السخرية والسخري ، وقرئ بهما قوله تعالى " ليتخذ بعضهم بعضا سخريا "[ الزخرف : 32 ] ، وقد تقدم وفلان سخرة ، يتسخر في العمل ، يقال : خادم سخرة ، ورجل سخرة أيضاً يسخر منه ، وسخرة ( بفتح الخاء ) يسخر من الناس .
الثانية : واختلف في سبب نزولها ، فقال ابن عباس : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس كان في أذنه وقر ، فإذا سبقوه إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أوسعوا له إذا أتى حتى يجلس إلى جنبه ليسمع ما يقول ، فأقبل ذات يوم وقد فاتته من صلاة الفجر ركعة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم أخذ أصحابه مجالسهم منه ، فربض كل رجل منهم بمجلسه ، وعضوا فيه فلا يكاد يوسع أحد حتى يظل الرجل لا يجد مجلساً فيظل قائماً ، فلما انصرف ثابت من الصلاة تخطى رقاب الناس ويقول : تفسحوا تفسحوا ففسحوا له حتى انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبينه وبينه رجل فقال له : تفسح ، فقال له الرجل : قد وجدت مجلساً فاجلس ! فجلس ثابت من خلفه مغضباً ، ثم قال : من هذا ؟ قالوا فلان ، فقال ثابت : ابن فلانه ! يعيره بها ، يعني أما له في الجاهلية ، فاستحيا الرجل ، فنزلت ، وقال الضحاك : نزلت في وفد بني تميم الذي تقدم ذكرهم في أول السورة ، استهزءوا بفقراء الصحابة ، مثل عمار وخباب وابن فهيرة وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم ، لما رأوا من رثاثة حالهم ، فنزلت في الذين آمنوا منهم وقال مجاهد : هو سخرية الغني من الفقير ، وقال ابن زيد : لا يسخر من ستر الله عليه ذنوبه ممن كشفه الله ، فلعل إظهار ذنوبه في الدنيا خير له في الآخرة ، وقيل : نزلت في عكرمة بن أبي جهل ، حين قدم المدينة مسلماً ، وكان المسلمون إذا رأوه قالوا ابن فرعون هذه الأمة ، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت وبالجملة فينبغي ألا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن يقتحمه بعينه إذا رآه رث الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبيق في محادثته ، فلعله أخلص ضميراً وأنقى قلباً ممن هو ضد صفته ، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله ، والاستهزاء بمن عظمه الله ، ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمرو بن شرحبيل : لو رأيت رجلاً يرضع عنزاً فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع ، وعن عبد الله بن مسعود : البلاء موكل بالقول ، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلباً و( قول ) في اللغة للمذكورين خاصة ، قال زهير :
وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء
وسموا قوماً لأنهم يقومون مع داعيهم في الشدائد ، وقيل : إنه جمع قائم ، ثم استعمل في كل جماعة وإن لم يكونوا قائمين ، وقد يدخل في القوم النساء مجازاً ، وقد مضى في البقرة بيانه .
الثالثة : قوله تعالى : " ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن " أفرد النساء بالذكر لأن السخرية منهن أكثر ، وقد قال الله تعالى : " إنا أرسلنا نوحا إلى قومه " [ نوح : سورة البقرة الآية مائتان ] ، فشمل الجميع ، قال المفسرون : نزلت في امرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سخرتا من أم سلمة ، وذلك أنها ربطت خصريها بسبيبة وهو ثوب أبيض ، ومثلها السب ، وسدلت طرفيها خلفها فكانت تجرها ، فقالت عائشة لحفصة رضي الله عنهما ، انظري ! ما تجر خلفها كأنه لسان كلب ، فهذه كانت سخريتهما ، وقال أنس وابن زيد : نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، عيرن أم سلمة بالقصر ، وقيل : نزلت في عائشة ، أشارت بيدها إلى أم سلمة ، يا نبي الله إنها لقصيرة ، وقال عكرمة عن ابن عباس : إن صفية بنت حيي بن أخطب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن النساء يعيرنني ، ويقلن لي يا يهودية بنت يهوديين ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هلا قلت إن أبي هارون وإن عمي موسى وإن زوجي محمد ، فأنزل الله هذه الآية .
الرابعة : في صحيح الترمذي " عن عائشة قالت : حكيت للنبي صلى الله عليه وسلم رجلاً ، فقال : ما يسرني أني حكيت رجلاً وأن لي كذا وكذا ، فقلت : يا رسول الله ، إن صفية امرأة ، وقالت بيدها هكذا ، يعني أنها قصيرة ، فقال : لقد مزجت بكلمة لو مزج بها البحر لمزج " ، وفي البخاري " عن عبد الله بن زمعة قال : نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يضحك الرجل مما يخرج من الأنفس ، وقال : لم يضرب أحدكم امرأته ضرب الفحل ثم لعله يعانقها " ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " وهذا حديث عظيم يترتب عليه ألا يقطع بعيب أحد لما يرى عليه من صور أعمال الطاعة أو المخالفة ، فلعل من يحافظ على الأعمال الظاهرة يعلم الله من قلبه وصفاً مذموماً لا تصح معه تلك الأعمال ، ولعل من رأينا عليه تفريطاً أو معصية يعلم الله من قلبه وصفاً محموداً يغفر له بسببه ، فالأعمال أمارات ظنية لا أدلة قطعية ، ويترتب عليها عدم الغلو في تعظيم من رأينا عليه أفعالاً صالحة ، وعدم الاحتقار لمسلم رأينا عليه أفعالاً سيئة بل تحتقر وتذم تلك الحالة السيئة ، لا تلك الذات المسيئة فتدبر هذا ، فإنه نظر دقيق ، وبالله التوفيق .
قوله تعالى : " ولا تلمزوا أنفسكم " فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : " ولا تلمزوا أنفسكم " اللمز : العيب ، وقد مضى في براءة عند قوله تعالى : " ومنهم من يلمزك في الصدقات " [ التوبة : 58 ] ، وقال الطبري : اللمز باليد والعين واللسان والإشارة ، والهمز لا يكون إلا باللسان ، وهذه الآية مثل قوله تعالى : " ولا تقتلوا أنفسكم " [ النساء : 29 ] ، أي لا يقتل بعضكم بعضاً ، لأن المؤمنين كنفس واحدة ، فكأنه بقتل أخيه قاتل نفسه ، وكقوله تعالى : " فسلموا على أنفسكم " [ النور : 61 ] ، يعني يسلم بعضكم على بعض ، والمعنى : لا يعب بعضكم بعضاً ، وقال ابن عباس و مجاهد و قتادة و سعيد بن جبير : لا يطعن بعضكم على بعض ،وقال الضحاك : لا يلعن بعضكم بعضاً ، وقرئ : ( ولا تلمزوا ) بالضم ، وفي قوله : ( أنفسكم ) تنبيه على أن العاقل لا يعيب نفسه ، فلا ينبغي أن يعيب غيره لأنه كنفسه ، " قال صلى الله عليه وسلم : المؤمنون كجسد واحد أن اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " ، وقال بكر بن عبد الله المزني : إذا أردت أن تنظر العيوب جمة فتأمل عياباً ، فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب ، و" قال صلى الله عليه وسلم يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه ويدع الجذع في عينه " ، وقيل : من سعادة المرء أن يشتغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره ، قال الشاعر :
المرء إن كان عاقلاً ورعاً أشغله عن عيوبه ورعه
كما السقيم المريض يشغله عن وجع الناس كلهم وجعه
وقال آخر :
لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا فيهتك الله ستراً عن مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ولا تعب أحداً منهم بما فيكا
الثانية : قوله تعالى : " ولا تنابزوا بالألقاب " النبز ( بالتحريك ) اللقب ، والجمع الأنباز ، النبز ( بالتسكين ) المصدر ، تقول ، نبزه ينبزه نبزاً ، أي لقبه ، وفلان ينبز بالصبيان أي يلقبهم ، شدد للكثرة ، ويقال النبز والنزب لقب السوء ، وتنابزوا بالألقاب : أي لقب بعضهم بعضاً ، وفي الترمذي عن أبي جبيرة بن الضحاك قال : كان الرجل منا يكون له الاسمين والثلاثة فيدعى ببعضها فعسى أن يكره فنزلت هذه الآية : ( ولا تنابزوا بالألقاب ) قال : هذا حديث حسن ، و أبو جبيرة هذا هو أخو ثابت بن الضحاك بن خليفة الأنصاري و أبو زيد بن الربيع صاحب الهروي ثقة وفي مصنف أبي داود عنه قال : فينا نزلت هذه الآية ، في بني سملة " ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان " قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يا فلان فيقولون مه يا رسول الله ، إنه يغضب من هذا الاسم ، فنزلت الآية : " ولا تنابزوا بالألقاب " فهذا قول ، وقول ثان ، قال الحسن و مجاهد : كان الرجل يعير بعد إسلامه بكفره يا يهودي يا نصراني ، فنزلت ، وروي عن قتادة و أبي العالية و عكرمة ، وقال قتادة : هو قول الرجل للرجل يا فاسق يا منافق ، وقاله مجاهد و الحسن أيضاً ، " بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان " أي بئس أن يسمى الرجل كافراً أو زانياً بعد إسلامه وتوبته ، قاله ابن زيد ، وقيل : المعنى أن من لقب أخاه أو سخر منه فهو فاسق ، وفي الصحيح : " من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه "، فمن فعل ما نهى الله عنه من السخرية والهمز والنبز فذلك فسوق وذلك لا يجوز ، وقد " روي أن أبا ذر رضي الله عنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فنازعه رجل فقال له أبو ذر يابن اليهودية فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما ترى هاهنا أحمر وأسود ما أنت بأفضل منه " ، يعني بالتقوى ، ونزلت : " ولا تنابزوا بالألقاب " وقال ابن عباس : التنابز بالألقاب أن يكون الرجل قد عمل السيئات ثم تاب ، فنهى الله أن يعير بما سلف ، يدل عليه ما روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من عير مؤمناً بذنب تاب منه كان حقاً على الله أن يبتليه به ويفضحه فيه في الدنيا والآخرة " .
الثالثة : وقع من ذلك مستثنى من غلب عليه الاستعمال كالأعرج والأحدب ولم يكن له فيه كسب يجد في نفسه منه عليه ، فجوزته الأمة واتفق على قوله أهل الملة قال ابن العربي : وقد ورد لعمر الله من ذلك في كتبهم ما لا أرضاه في صالح جزرة ، لأنه صحف خرزة فلقب بها ، وكذلك قولهم في محمد بن سليمان الحضرمي : مطين ، لأنه وقع في طين ونحو ذلك مما غلب على المتأخرين ، ولا أراه سائغاً في الدين ، وقد كان موسى بن علي بن رباح المصري يقول : لا أجعل أحداً صغر اسم أبي في حل ، وكان الغالب على اسمه التصغير بضم العين ، والذي يضبط هذا كله : أن كل ما يكرهه الإنسان إذا نودي به فلا يجوز لأجل الأذية ، والله أعلم .
قلت : وعلى هذا المعنى ترجم البخاري رحمه الله في كتاب الأدب من الجامع الصحيح في باب ما يجوز من ذكر الناس نحو قولهم الطويل والقصير لا يراد به شين الرجل ، قال : وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما يقول ذو اليدين ، قال أبو عبد الله بن خويز منداد : تضمنت الآية المنع من تلقيب الإنسان بما يكره ، ويجوز تلقيبه بما يحب ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لقب عمر بالفاروق ، وأبا بكر الصديق ، وعثمان بذي النورين ، وخزيمة بذي الشهادتين ، وأبا هريرة بذي الشمالين وبذي اليدين ، في أشباه ذلك ، الزمخشري : روي " عن النبي صلى الله عليه وسلم : من حق المؤمن على المؤمن أن يسميه بأحب أسمائه إليه " ، ولهذا كانت التكنية من السنة والأدب الحسن ، قال عمر رضي الله عنه : أشيعوا الكنى فإنها منبهة ولقد لقب أبو بكر بالعتيق والصديق ، وعمر الفاروق ، وحمزة أسد الله ، وخالد بسيف الله ، وقال من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب ، ولم تزل هذه الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير ، قال الماوردي : فأما مستحب الألقاب ومستحسنها فلا يكره ، وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم عدداً من أصحابه بأوصاف صارت لهم من أجل الألقاب .
قلت : فأما ما يكون ظاهرها الكراهة إذا أريد بها الصفة لا العيب فذلك كثير ، وقد سئل عبد الله بن المبارك عن الرجل يقول : حميد الطويل ، وسليمان الأعمش ، وحميد الأعرج ، ومروان الأصغر ، فقال : إذا أردت صفته ولم ترد عيبه فلا بأس به ، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن سرجس قال : رأيت الأصلع يعني عمر يقبل الحجر ، وفي رواية الأصيلع .
قوله تعالى : " ومن لم يتب " أي عن هذه الألقاب الذي يتأذى بها السامعون ، " فأولئك هم الظالمون " لأنفسهم بارتكاب هذه المناهي .
ينهى تعالى عن السخرية بالناس وهو احتقارهم والاستهزاء بهم, كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الكبر بطر الحق وغمص الناس ـ ويروى ـ وغمط الناس" والمراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم, وهذا حرام فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدراً عند الله تعالى, وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له, ولهذا قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن " فنص على نهي الرجال, وعطف نهي النساء. وقوله تبارك وتعالى: "ولا تلمزوا أنفسكم" أي لا تلمزوا الناس. والهماز اللماز من الرجال مذموم ملعون كما قال تعالى: "ويل لكل همزة لمزة" والهمز بالفعل واللمز بالقول, كما قال عز وجل: "هماز مشاء بنميم" أي يحتقر الناس ويهمزهم طاغياً عليهم ويمشي بينهم بالنميمة وهي اللمز بالمقال, ولهذا قال ههنا: "ولا تلمزوا أنفسكم" كما قال: "ولا تقتلوا أنفسكم" أي لا يقتل بعضكم بعضاً.
قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة ومقاتل بن حيان "ولا تلمزوا أنفسكم" أي لا يطعن بعضكم على بعض, وقوله تعالى: "ولا تنابزوا بالألقاب" أي لا تداعوا بالألقاب, وهي التي يسوء الشخص سماعها. قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل, حدثنا داود بن أبي هند عن الشعبي قال: حدثني أبو جبيرة بن الضحاك, قال فينا نزلت في بني سلمة "ولا تنابزوا بالألقاب" قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة, وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة, فكان إذا دعا واحداً منهم باسم من تلك الأسماء, قالوا: يا رسول الله إنه يغضب من هذا, فنزلت "ولا تنابزوا بالألقاب" ورواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل عن وهيب عن داود به. وقوله جل وعلا: "بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان" أي بئس الصفة والاسم الفسوق. وهو التنابز بالألقاب كما كان أهل الجاهلية يتناعتون بعد ما دخلتم في الإسلام وعقلتموه "ومن لم يتب" أي من هذا "فأولئك هم الظالمون".
11- "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم" السخرية: الاستهزاء: وحكى أبو زيد: سخرت به وضحكت به وهزأت به. وقال الأخفش: سخرت منه وسخرت به، وضحكت منه وضحكت به، وهزأت منه وهزأت به، كل ذلك يقال، والاسم السخرية والسخرى، وقرئ بهما في "ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً"، ومعنى الآية: النهي للمؤمنين عن أن يستهزئ بعضهم ببعض، وعلل هذا النهي بقوله: "عسى أن يكونوا خيراً منهم" أي أن يكون المسخور بهم عند الله خيراً من الساخرين بهم، ولما كان لفظ قوم مختصاً بالرجال، لأنهم القوم على النساء أفرد النساء بالذكر فقال: "ولا نساء من نساء" أي ولا يسخر نساء من نساء "عسى أن يكن" المسخور بهن "خيراً منهن" يعني خيراً من الساخرات منهن، وقيل أفرد النساء بالذكر لأن السخرية منهن أكثر "ولا تلمزوا أنفسكم" اللمز العيب، وقد مضى تحقيقه في سورة براءة عند قوله: "ومنهم من يلمزك في الصدقات" قال ابن جرير: اللمز باليد والعين واللسان والإشارة، والهمز لا يكون إلا باللسان، ومعنى "لا تلمزوا أنفسكم" لا يلمز بعضكم بعضاً كما في قوله: "ولا تقتلوا أنفسكم" وقوله : " فسلموا على أنفسكم " قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير
: لا يطعن بعضكم على بعض . وقال الضحاك : لا يلعن بعضكم بعضا " ولا تنابزوا بالألقاب " التنابز: التفاعل من النبز بالتسكين وهو المصدر، والنبز بالتحريك اللقب، والجمع أنباز، والألقاب جمع لقب، وهو اسم غير الذي سمي به الإنسان، والمراد هنا لقب السوء، والتنابز بالألقاب أن يلقب بعضهم بعضاً. قال الواحدي: قال المفسرون: هو أن يقول لأخيه المسلم يا فاسق يا منافق، أو يقول لمن أسلم يا يهودي يا نصراني، قال عطاء: هو كل شيء أخرجت به أخاك من الإسلام، كقولك يا كلب يا حمار يا خنزير. قال الحسن ومجاهد: كان الرجل يعير بكفره، فيقال له يا يهودي يا نصراني فنزلت، وبه قال قتادة وأبو العالية وعكرمة "بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان" أي بئس الاسم الذي يذكروا بالفسق بعد دخولهم في الإيمان، والاسم هنا بمعنى الذكر. قال ابن زيد: أي بئس أن يسمى الرجل كافراً أو زانياً بعد إسلامه وتوبته. وقيل المعنى: أن من فعل ما نهي عنه من السخرية واللمز والنبذ فهو فاسق. قال القرطبي: إنه يستثنى من هذا من غلب عليه الاستعمال كالأعرج والأحدب ولم يكن له سبب يجد في نفسه منه عليه، فجوزته الأئمة واتفق على قوله أهل اللغة اهـ، "ومن لم يتب" عما نهى الله عنه " فأولئك هم الظالمون " لارتكابهم ما نهى الله عنه وامتناعهم من التوبة، فظلموا من لقبوه، وظلمهم أنفسهم بما لزمهم من الإثم.
11. وقوله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم " الآية، قال ابن عباس نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أنه كان في أذنه وقر، فكان إذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبقوه بالمجلس أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه، فيسمع ما يقول، فأقبل ذات يوم وقد فاتته [ركعة من صلاة الفجر]، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة أخذ أصحابه مجالسهم، فضن كل رجل بمجلسه فلا يكاد يوسع أحد لأحد، فكان الرجل إذا جاء فلم يجد مجلساً يجلس فيه قام قائماً كما هو، فلما فرغ ثابت من الصلاة أقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه وبينه رجل، فقال له: تفسح، فقال الرجل: قد اصبت مجلساً فاجلس، فجلس ثابت خلفه مغضباً، فلما انجلت الظلمة غمز ثابت الرجل، فقال: من هذا؟ قال: أنا فلان، فقال ثابت: ابن فلانة، وذكر أماً له كان يعير بها في الجاهلية، فنكس الرجل رأسه واستحيا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الضحاك : نزلت في وفد بني تميم الذين ذكرناهم، كانوا يستهزؤون بفقراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مثل عمار وخباب وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة، لما رأوا من رثاثة حالهم، فأنزل الله تعالى في الذين آمنوا منهم: " يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم " أي رجال من رجال. و (( القوم )): اسم يجمع الرجال والنساء، وقد يختص بجمع الرجال، " عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ".
روي عن أنس أنها نزلت في نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عيرن أم سلمة بالقصر.
وعن عكرمة عن ابن عباس: أنها نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب، قال لها النساء: يهودية بنت يهوديين. " ولا تلمزوا أنفسكم "، أي لا يعب بعضكم بعضاً، ولا يطعن بعضكم على بعض، " ولا تنابزوا بالألقاب "، التنابز: التفاعل من النبز، وهو اللقب، وهو أن يدعى الإنسان بغير ماسمي به.
قال عكرمة : هو قول الرجل للرجل: يا فاسق يا منافق يا كافر.
وقال الحسن : كان اليهودي والنصراني يسلم، فيقال له بعد إسلامه يا يهودي يا نصراني، فنهوا عن ذلك.
قال عطاء : هو أن تقول لأخيك: يا كلب يا حمار يا خنزير.
وروي عن ابن عباس قال: (( التنابز بالألقاب )): أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب عنها فنهي أن يعير بما سلف من عمله.
" بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان "، أي بئس الاسم أن يقول: يا يهودي أو يا فاسق بعد ما آمن وتاب، وقيل معناه: إن من فعل ما نهي عنه من السخرية واللمز والنبز فهو فاسق، وبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان، فلا تفعلوا ذلك فتستحقوا اسم الفسوق، " ومن لم يتب "، من ذلك، " فأولئك هم الظالمون ".
11-" يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن " أي لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض إذ قد يكون المسخور منه خيراً عند الله من الساخر ، والقوم مختص بالرجال لأنه إما مصدر نعت به فشاع في الجمع لقائم كزائر و زور ، والقيام بالأمور وظيفة الرجال كما قال تعال " الرجال قوامون على النساء " وحيث فسر بالقبيلين كقوم عاد وفرعون ، فإما على التغليب أو الاكتفاء بذكر الرجال على ذكرهن لأنهن توابع ، واختيار الجمع لأن السخرية تغلب في المجامع و" عسى " باسمها استئناف بالعلة الموجبة للنهي ولا خبر لها لإغناء الاسم عنه .وقرئ عسوا أن يكونا و عسين أن يكن فهي على هذا ذات خبر." ولا تلمزوا أنفسكم " أي ولا يغتب بعضكم بعضاً فإن المؤمنين كنفس واحدة ، أو لا تفعلوا ما تلمزون به فإن من فعل ما يستحق به اللمز فقد لمز نفسه . واللمز الطعن باللسان . وقرأ يعقوب بالضم . " ولا تنابزوا بالألقاب " ولا يدع بعضكم بعضاً بلقب السوء ، فإن النبز مختص بلقب السوء عرفاً . " بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان " أي بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسوق بعد دخولهم الإيمان واشتهارهم به ، والمراد به إما تهجين نسبة الكفر والفسق إلى المؤمنين خصوصاً إذ روي أن الآية" نزلت في صفية بنت حيي رضي لله عنها ، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن النساء يقلن لي يا يهودية بنت يهوديين ، فقال لها هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى و زوجي محمد عليهم السلام " أو للدلالة على أن التنابز فسق والجمع بينه وبين الإيمان مستقبح . " ومن لم يتب " عما نهى عنه . " فأولئك هم الظالمون " بوضع العصيان موضع الطاعة وتعريض النفس للعذاب .
11. O ye who believe! Let not a folk deride a folk who may be better than they (are), nor let women (deride) women who may be better than they are; neither defame one another, nor insult one another by nicknames. Bad is the name of lewdness after faith. And whoso turneth not in repentance, such are evil doers.
11 - O ye who believe! Let not some men among you laugh at others: it may be that the (latter) are better than the (former): nor let some women laugh at others: it may be that the (latter) are better than the (former): nor defame nor be sarcastic to each other, nor call each other by (offensive) nicknames: ill seeming is a name connoting wickedness, (to be used of one) after he has believed: and those who do not desist are (indeed) doing wrong.