[الدخان : 29] فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ
29 - (فما بكت عليهم السماء والأرض) بخلاف المؤمنين يبكي عليهم بموتهم مصلاهم من الأرض ومصعد عملهم من السماء (وما كانوا منظرين) مؤخرين للتوبة
يقول تعالى ذكره : فما بكت على هؤلاء الذين غرقهم الله في البحر ، وهم فرعون وقومه ، السماء والأرض . وقيل : إن بكاء السماء حمرة أطرافها .
ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، عن الحكم بن ظهير ، عن السدي قال : لما قتل الحسين بن علي رضوان الله عليهما بكت السماء عليه ، وبكاؤها حمرتها .
حدثني علي بن سهل ، قال : ثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء في قوله : " فما بكت عليهم السماء والأرض " قال : بكاؤها حمرة أطرافها .
وقيل : إنما قيل : " فما بكت عليهم السماء والأرض " لأن المؤمن إذا مات ، بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً ، ولم تبكيا على فرعون وقومه ، لأنه لم يكن لهم عمل يصعد إلى الله صالح ، فتبكي عليهم السماء ، ولا مسجد في الأرض ، فتبكي عليهم الأرض .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك : حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا طلق بن غنام ، عن زائدة ، عن منصور ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، قال : أتى ابن عباس رجل ، فقال : يا أبا عباس أرأيت قول الله تبارك وتعالى " فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين " فهل تبكي السماء والأرض على أحد ؟ قال : نعم إنه ليس أحد من الخلائق إلا له باب في السماء منه ينزل رزقه ، وفيه يصعد عمله ، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله ، وينزل منه رزقه ، بكي عليه ، وإذا فقد مصلاه من الأرض التي كان يصلي فيها ، ويذكر الله فيها بكت عليه ، وإن قوم فرعون لم يكن لهم في الأرض آثار صالحة ، ولم يكن يصعد إلى السماء منهم خير ، قال : فلم تبك عليهم السماء والأرض .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن و يحيى قالا : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : كان يقال : تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحاً .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن ابن عباس مثله .
حدثني يحيى بن طلحة ، قال : ثنا فضيل بن عياض ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : حدثت أن المؤمن إذا مات بكت عليه الأرض أربعين صباحاً .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي ، قال : ثنا بكير بن أبي السميط ، قال : ثنا قتادة ، عن سعيد بن جبير أنه كان يقول : إن بقاع الأرض التي يصعد عمله منها إلى السماء تبكي عليه بعد موته ، يعني المؤمن .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن المنهال ،عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس " فما بكت عليهم السماء والأرض " قال : إنه ليس أحد إلا له باب في السماء ينزل فيه رزقه ويصعد فيه عمله ، فإذا فقد بكت عليه مواضعه التي كان يسجد عليها ، وإن قوم فرعون لم يكن لهم في الأرض عمل صالح يقبل منهم ، فيصعد إلى الله عز وجل ، فقال مجاهد : تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحاً .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : كان يقال : إن المؤمن إذا مات بكت عليه الأرض أربعين صباحاً .
حدثنا يحيى بن طلحة ، قال : ثنا عيسى بن يونس ، عن صفوان بن عمرو ، عن شريح بن عبيد الحضرمي ، قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً ، ألا لا غربة على المؤمن ، ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " فما بكت عليهم السماء والأرض " ، ثم قال : إنهما لا يبكيان على الكافر " .
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " فما بكت عليهم السماء والأرض " ... الآية ، قال : ذلك أنه ليس على الأرض مؤمن يموت إلا بكى عليه ما كان يصلي فيه من المساجد حين يفقده ، وإلا بكى عليه من السماء الموضع الذي كان يرفع منه كلامه ، فذلك قوله لأهل معصيته " فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين " لأنهما يبكيان على أولياء الله .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " فما بكت عليهم السماء والأرض " .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " فما بكت عليهم السماء والأرض " يقول : لا تبكي السماء والأرض على الكافر ، وتبكي على المؤمن الصالح معالمه من الأرض ومقر عمله من السماء .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : " فما بكت عليهم السماء والأرض " قال : بقاع المؤمن التي كان يصلي عليها من الأرض تبكي عليه إذا مات ، وبقاعه من السماء التي كان يرفع فيها عمله .
وحدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، قال : سئل ابن عباس : هل تبكي السماء والأرض على أحد ؟ فقال : نعم إنه ليس أحد من الخلق إلا له باب في السماء يصعد فيه عمله ، وينزل منه رزقه ، فإذا مات بكى عليه مكانه من الأرض الذي كان يذكر الله فيه ويصلي فيه ، وبكى عليه بابه الذي كان يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه . وأما قوم فرعون ، فلم يكن لهم آثار صالحة ، ولم يصعد إلى السماء منهم خير ، فلم تبك عليهم السماء والأرض .
وقوله : " وما كانوا منظرين " يقول : وما كانوا مؤخرين بالعقوبة التي حلت بهم ، ولكنهم عوجلوا بها إذا أسخطوا ربهم عز وجل عليهم .
قوله تعالى : " فما بكت عليهم السماء والأرض " أي لكفرهم ، " وما كانوا منظرين " أي مؤخرين بالغرق ، وكانت العرب تقول عند موت السيد مهم : بكت له السماء والأرض ، أي عمت مصيبته الأشياء حتى بكته السماء والأرض والريح والبرق ، وبكته الليالي الشاتيات قال الشاعر :
فالريح تبكي شجوها والبرق يلمع في الغمامة
وقال آخر :
والشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
وقالت الخارجية :
أيا شجر الخابور ما لك مورقاً كأنك لم تجزع على ابن طريف
وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه ، والمعنى أنهم هلكوا فلم تعظم مصيبتهم ولم يوجد لهم فقد ، وقيل : في الكلام إضمار ، أي ما بكى عليهم أهل السماء والأرض من الملائكة ، كقوله تعالى : " واسأل القرية " [ يوسف : 82 ] ، بل سروا بهلاكهم ، قاله الحسن : وروى يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك ، " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من مؤمن إلا وله في السماء بابان ينزل منه رزقه وباب يدخل منه كلامه وعمله فإذا مات فقداه فبكيا عليه ، ثم تلا : " فما بكت عليهم السماء والأرض " " ، يعني أنهم لم يعملوا على الأرض عملاً صالحاً تبكي عليهم لأجله ، ولا صعد لهم إلى السماء عمل صالح فتبكي فقد ذلك ، وقال مجاهد : إن السماء والأرض يبكيان على المؤمن أربعين صباحاً فتبكي ، قال أبو يحيى : فعجبت من قوله فقال : أتعجب ! وما للأرض لا تبكي على عبد يعمرها بالركوع والسجود ! وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي النحل ! ، وقال علي وابن عباس رضي الله عنهما ، إنه يبكي عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء ، وتقدير الآية على هذا : فما بكت عليهم مصاعد عملهم من السماء ولا مواضع عبادتهم من الأرض ، وهو معنى قول سعيد بن جبير وفي بكاء السماء والأرض ثلاثة أوجه : أحدها أنه كالمعروف من بكاء الحيوان ويشبه أن يكون قول مجاهد ، وقال شريح الحضرمي " قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غيريباً كما بدأ فطوبى للغرباء يوم القيامة ، قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال : هم الذين إذا فسد الناس صلحوا ، ثم قال : ألا لا غربة على مؤمن وما مات مؤمن في غربة غائباً عنه بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : فما بكت عليهم السماء والأرض ، ثم قال : ألا إنهما لا يبكيان على الكافر " .
قلت : وذكر أبو نعيم الحافظ قال : حدثنا محمد بن معمر قال : حدثنا شعيب الحراني قال : حدثنا يحيى بن عبد الله قال حدثنا الأوزاعي قال حدثني عطاء الخراساني قال : ما من عبد يسجد لله سجدة في بقعة من بقاع الأرض إلا شهدت له يوم القيامة وبكت عليه يوم يموت ، وقيل : بكاؤهما حمرة أطرافهما ، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، و عطاء و السدي و الترمذي و محمد بن علي وحكاه عن الحسن ، قال السدي : لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما بكت عليه السماء ، وبكاؤها حمرتها ، وحكى جرير عن يزيد بن أبي زياد قال : لما قتل الحسين بن علي بن أبي طالب رضي عنهما أحمر له آفاق السماء أربعة أشهر ، قال يزيد : واحمرارها بكاؤها ، وقال محمد بن سيرين : أخبرونا أن الحمرة التي تكون مع الشفق لم تكن حتى قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما ، وقال سليمان القاضي : مطرنا دماً يوم قتل الحسين .
قلت : روى الدارقطني من حديث مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال : " قال النبي صلى الله عليه وسلم : الشفق الحمرة " ، وعن عبادة بن الصامت وشداد بن أوس قالا : الشفق شفقان الحمرة والبياض ، فإذا غابت الحمرة حلت الصلاة وعن أبي هريرة قال : الشفق الحمرة ، وهذا يرد ما حكاه ابن سيرين وقد تقدم في ( سبحان ) عن قرة بن خالد قال : ما بكت السماء على أحد إلا على يحيى بن زكريا والحسين بن علي ، وحمرتها بكاؤها وقالت محمد بن علي الترمذي : البكاء إدرار الشيء فإذا أدرت العين بمائها قيل بكت ، وإذا أدرت السماء بحمرتها قيل بكت ، وإذا أدرت الأرض بغبرتها قيل بكت ، لأن المؤمن نور ومعه نور الله ، فالأرض مضيئة بنوره وإن غاب عن عينيك ، فإن فقدت نور المؤمن اغبرت فدرت باغبرارها ، لأنها كانت غبراء بخطايا أهل الشرك ، وإنما صارت مضيئة بنور المؤمن فإذا قبض المؤمن منها درت بغبرتها ، وقال أنس : لما كان اليوم الذي دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء كل شيء فلما كان اليوم الذي قبض فيه أظلم كل شيء ، وإنا لفي دفنه ما نفضنا الأيدي منه حتى أنكرنا قلوبنا ، وأما بكاء السماء فحمرتها كما قال الحسن وقال نصر بن عاصم : إن الأول الآيات حمرة تظهر ، وإنما ذلك لدنو الساعة ، فتدر بالبكاء لخلائها من أنوار المؤمنين ، وقيل : بكاؤها أمارة تظهر منها تدل على أسف وحزن .
قلت : والقول الأول أظهر ، إذ لا استحالة في ذلك ، إذا كانت السموات والأرض تسبح وتسمع وتتكلم كما بيناه في ( سبحان ومريم وحم فصلت ) فكذلك تبكي مع ما جاء من الخبر في ذلك الله أعلم بصواب هذه الأقوال .
يقول تعالى: ولقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون وهم قبط مصر "وجاءهم رسول كريم" يعني موسى كليمه عليه الصلاة والسلام " أن أدوا إلي عباد الله " كقوله عز وجل: " فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى ". وقوله جل وعلا: "إني لكم رسول أمين" أي مأمون على ما أبلغكموه. وقوله تعالى: "وأن لا تعلوا على الله" أي لا تستكبروا عن اتباع آياته والانقياد لحججه والإيمان ببراهينه كقوله عز وجل: "إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين" "إني آتيكم بسلطان مبين" أي بحجة ظاهرة واضحة وهي ما أرسله الله تعالى به من الايات البينات والأدلة القاطعات. "وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون" قال ابن عباس رضي الله عنهما وأبو صالح: هو الرجم باللسان وهو الشتم. وقال قتادة: الرجم بالحجارة أي أعوذ بالله الذي خلقني وخلقكم من أن تصلوا إلي بسوء من قول أو فعل "وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون" أي فلا تتعرضوا لي ودعوا الأمر بيني وبينكم مسالمة إلى أن يقضي الله بيننا. فلما طال مقامه صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم وأقام حجج الله تعالى عليهم. كل ذلك وما زادهم ذلك إلا كفراً وعناداً, دعا ربه عليهم دعوة نفذت فيهم كما قال تبارك وتعالى: "وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم * قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما" وهكذا قال ههنا: "فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون" فعند ذلك أمره الله تعالى أن يخرج ببني إسرائيل من بين أظهرهم من غير أمر فرعون ومشاورته واستئذانه ولهذا قال جل جلاله: "فأسر بعبادي ليلاً إنكم متبعون" كما قال تعالى: "ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى".
وقوله عز وجل ههنا: "واترك البحر رهواً إنهم جند مغرقون" وذلك أن موسى عليه الصلاة والسلام لما جاوز هو وبنو إسرائيل البحر, أراد موسى أن يضربه بعصاه حتى يعود كما كان, ليصير حائلاً بينهم وبين فرعون فلا يصل إليهم, فأمره الله تعالى أن يتركه على حاله ساكناً وبشره بأنهم جند مغرقون فيه وأنه لا يخاف دركاً ولا يخشى, وقال ابن عباس رضي الله عنهما "واترك البحر رهواً" كهيئته وامضه, وقال مجاهد: رهواً طريقاً يبساً كهيئته. يقول: لا تأمره يرجع اتركه حتى يرجع آخرهم, وكذا قال عكرمة والربيع بن أنس والضحاك وقتادة وابن زيد, وكعب الأحبار وسماك بن حرب وغير واحد ثم قال تعالى: "كم تركوا من جنات" وهي البساتين " وعيون * وزروع " والمراد بها الأنهار والابار "ومقام كريم" وهي المساكن الأنيقة والأماكن الحسنة, وقال مجاهد وسعيد بن جبير "ومقام كريم" المنابر, وقال ابن لهيعة عن وهب بن عبد الله المعافري عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: نيل مصر سيد الأنهار سخر الله تعالى له كل نهر بين المشرق والمغرب وذلله له, فإذا أراد الله عز وجل أن يجري نيل مصر أمر كل نهر أن يمده فأمدته الأنهار بمائها, وفجر الله تبارك وتعالى له الأرض عيوناً, فإذا انتهى جريه إلى ما أراد الله جل وعلا أوحى الله تعالى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره, وقال في قول الله تعالى: " كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين " قال: كانت الجنان بحافتي نهر النيل من أوله إلى آخره في الشقين جميعاً, ما بين أسوان إلى رشيد, وكان له تسع خلج: خليج الإسكندرية, وخليج دمياط, وخليج سردوس, وخليج منف, وخليج الفيوم, وخليج المنهى متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء وزرع ما بين الجبلين كله من أول مصر إلى آخر ما يبلغه الماء, وكانت جميع أرض مصر تروى من ستة عشر ذراعاً لما قدروا ودبروا من قناطرها وجسورها وخلجها.
"ونعمة كانوا فيها فاكهين" أي عيشة كانوا يتفكهون فيها فيأكلون ما شاؤوا ويلبسون ما أحبوا مع الأموال والجاهات والحكم في البلاد, فسلبوا ذلك جميعه في صبيحة واحدة وفارقوا الدنيا وصاروا إلى جهنم وبئس المصير, واستولى على البلاد المصرية وتلك الحواصل الفرعونية والممالك القبطية بنو إسرائيل كما قال تبارك وتعالى: "كذلك وأورثناها بني إسرائيل". وقال في هذه الاية الأخرى " وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون ".
وقال عز وجل ههنا: "كذلك وأورثناها قوماً آخرين" وهم بنو إسرائيل كما تقدم. وقوله سبحانه وتعالى: "فما بكت عليهم السماء والأرض" أي لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم, ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله تعالى فيها فقدتهم, فلهذا استحقوا أن لا ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم وعتوهم وعنادهم. قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا أحمد بن إسحاق البصري, حدثنا مكي بن إبراهيم, حدثنا موسى بن عبيدة, حدثني يزيد الرقاشي حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من عبد إلا وله في السماء بابان: باب يخرج منه رزقه, وباب يدخل منه عمله وكلامه, فإذا مات فقداه وبكيا عليه". وتلا هذه الاية "فما بكت عليهم السماء والأرض" وذكر أنهم لم يكونوا عملوا على الأرض عملاً صالحاً يبكي عليهم, ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم, ورواه ابن أبي حاتم من حديث موسى بن عبيدة وهو الربذي, وقال ابن جرير: حدثني يحيى بن طلحة, حدثني عيسى بن يونس عن صفوان بن عمرو عن شريح بن عبيد الحضرمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ. ألا لا غربة على مؤمن, ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "فما بكت عليهم السماء والأرض" ثم قال: "إنهما لا يبكيان على الكافر".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عصام, حدثنا أبو أحمد يعني الزبيري, حدثنا العلاء بن صالح عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله قال: سأل رجل علياً رضي الله عنه هل تبكي السماء والأرض على أحد ؟ فقال له: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من قبلك, إنه ليس من عبد إلا له مصلى في الأرض ومصعد عمله من السماء. وإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض ولا عمل يصعد في السماء ثم قرأ علي رضي الله عنه "فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين" وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب , حدثنا طلق بن غنام عن زائدة عن منصور عن منهال عن سعيد بن جبير قال: أتى ابن عباس رضي الله عنهما رجل فقال: يا أبا العباس أرأيت قول الله تعالى: "فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين" فهل تبكي السماء والأرض على أحد ؟ قال رضي الله عنه: نعم إنه ليس أحد من الخلائق إلا وله باب في السماء منه ينزل رزقه وفيه يصعد عمله, فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه ففقده بكى عليه, وإذا فقده مصلاه من الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر الله عز وجل فيها بكت عليه, وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة ولم يكن يصعد إلى الله عز وجل منهم خير, فلم تبك عليهم السماء والأرض, وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما نحو هذا.
وقال سفيان الثوري عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان يقال تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحاً, وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وغير واحد, وقال مجاهد أيضاً: ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً, قال فقلت له: أتبكي الأرض ؟ فقال: أتعجب وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود ؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل ؟ وقال قتادة: كانوا أهون على الله عز وجل من أن تبكي عليهم السماء والأرض. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا عبد السلام بن عاصم, حدثنا إسحاق بن إسماعيل, حدثنا المستورد بن سابق عن عبيد المكتب عن إبراهيم قال: ما بكت السماء منذ كانت الدنيا إلا على اثنين, قلت لعبيد: أليس السماء والأرض تبكي على المؤمن ؟ قال: ذاك مقامه حيث يصعد عمله. قال: وتدري ما بكاء السماء! قلت: لا . قال: تحمر وتصير وردة كالدهان, إن يحيى بن زكريا عليه الصلاة والسلام لما قتل احمرت السماء وقطرت دماً وإن الحسين بن علي رضي الله عنهما لما قتل احمرت السماء.
وحدثنا علي بن الحسين, حدثنا أبو غسان محمد بن عمرو زنيج, حدثنا جرير عن يزيد بن أبي زياد قال: لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما احمرت آفاق السماء أربعة أشهر, قال يزيد: واحمرارها بكاؤها, وهكذا قال السدي في الكبير, وقال عطاء الخراساني: بكاؤها أن تحمر أطرافها وذكروا أيضاً في مقتل الحسين رضي الله عنه أنه ما قلب حجر يومئذ إلا وجد تحته دم عبيط, وأنه كسفت الشمس واحمر الأفق وسقطت حجارة, وفي كل من ذلك نظر, والظاهر أنه من سخف الشيعة وكذبهم ليعظموا الأمر ولا شك أنه عظيم, ولكن لم يقع هذا الذي اختلقوه وكذبوه وقد وقع ما هو أعظم من قتل الحسين رضي الله عنه ولم يقع شيء مما ذكروه, فإنه قتل أبوه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أفضل منه بالإجماع, ولم يقع شيء من ذلك, وعثمان بن عفان رضي الله عنه قتل محصوراً مظلوماً ولم يكن شيء من ذلك. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل في المحراب في صلاة الصبح, وكأن المسلمين لم تطرقهم مصيبة قبل ذلك ولم يكن شيء من ذلك. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو سيد البشر في الدنيا والاخرة, يوم مات لم يكن شيء مما ذكروه. ويوم مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم خسفت الشمس فقال الناس: خسفت لموت إبراهيم! فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف وخطبهم وبين لهم أن الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته.
وقوله تبارك وتعالى: "ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين * من فرعون إنه كان عالياً من المسرفين" يمتن عليهم تعالى بذلك حيث أنقذهم مما كانوا فيه من إهانة فرعون وإذلاله لهم, وتسخيره إياهم في الأعمال المهينة الشاقة. وقوله تعالى: "من فرعون إنه كان عالياً" أي مستكبراً جباراً عنيداً كقوله عز وجل: "إن فرعون علا في الأرض" وقوله جلت عظمته "فاستكبروا وكانوا قوماً عالين" من المسرفين أي مسرف في أمره سخيف الرأي على نفسه. وقوله جل جلاله: "ولقد اخترناهم على علم على العالمين" قال مجاهد "اخترناهم على علم على العالمين" على من هم بين ظهريه. وقال قتادة: اختيروا على أهل زمانهم ذلك, وكان يقال: إن لكل زمان عالماً, وهذا كقوله تعالى: "قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس" أي أهل زمانه ذلك كقوله عز وجل لمريم عليها السلام: "واصطفاك على نساء العالمين" أي في زمنها فإن خديجة رضي الله عنها إما أفضل منها أو مساوية لها في الفضل, وكذا آسية بنت مزاحم امرأة فرعون, وفضل عائشة رضي الله عنها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام. وقوله جل جلاله: " وآتيناهم من الآيات " أي الحجج والبراهين وخوارق العادات "ما فيه بلاء مبين" أي اختبار ظاهر جلي لمن اهتدى به.
29- "فما بكت عليهم السماء والأرض" هذا بيان لعدم الاكتراث بهلاكهم. قال المفسرون: أي إنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملاً صالحاً تبكي عليهم به ولم يصعد لهم إلى السماء عمل طيب يبكى عليهم به، والمعنى: أنه لم يصب بفقدهم وهلاكهم أحد من أهل السماء ولا من أهل الأرض، وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم: بكت له السماء والأرض: أي عمت مصيبته، ومن ذلك قول جرير:
‌لما أتى الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع
ومنه قول النابغة:
بكى حارث الجولان من فقد ربه وحوران منه خاشع متضائل
وقال الحسن: في الكلام مضاف محذوف: أي ما بكى عليهم أهل السماء والأرض من الملائكة والناس. وقال مجاهد: إن السماء والأرض تبكيان على المؤمن أربعين صباحاً، وقيل إنه يبكي على المؤمن مواضع صلاته ومصاعد عمله "وما كانوا منظرين" أي ممهلين إلى وقت آخر بل عوجلوا بالعقوبة لفرط كفرهم وشدة عنادهم.
29. " فما بكت عليهم السماء والأرض "، وذلك أن المؤمن إذا مات تبكي عليه السلام والأرض أربعين صباحاً، وهؤلاء لم يكن يصعد لهم عمل فتبكي السماء على فقده، ولا لهم على الأرض عمل صالح فتبكي الأرض عليه.
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو عبد الله الفنجوي ، حدثنا أبو علي المقري ، حدثنا أبو يعلى الموصلي ، حدثنا أحمد بن إسحاق البصري ، حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن عبيدة الربذي ، أخبرني يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من عبد إلا له في السماء بابان باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل فيه عمله، فإذا مات فقداه وبكيا عليه "، وتلا: " فما بكت عليهم السماء والأرض ".
قال عطاء : بكاء السماء حمرة أطرافها.
قال السدي : لما قتل الحسين بن علي بكت عليه السماء، وبكاؤها: حمرتها.
" وما كانوا منظرين "، لم ينظروا حين أخذهم العذاب لتوبة ولا لغيرها.
29-" فما بكت عليهم السماء والأرض " مجاز من عدم الاكتراث بهلاكهم والاعتداد بوجودهم كقولهم : بكت عليهم السماء والأرض وكسفت لمهلكهم الشمس في نقيض ذلك . ومنه ما روي في الأخبار : إن المؤمن ليبكي عليه مصلاه ومحل عبادته ومصعد عمله ومهبط رزقه . وقيل تقديره فما بكت عليهم أهل السماء والأرض " وما كانوا منظرين " ممهلين إلى وقت آخر .
29. And the heaven and the earth wept not for them, nor were they reprieved.
29 - And neither heaven nor earth shed a tear over them: nor were they given a respite (again).