[النساء : 88] فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً
ولما رجع ناس من أحد اختلف الناس فيهم فقال فريق نقتلهم وقال فريق لا فنزل (فما لكم) شأنكم صرتم (في المنافقين فئتين) فرقتين (والله أركسهم) ردهم (بما كسبوا) من الكفر والمعاصي (أتريدون أن تهدوا من أضلـ) ـه (الله) أي تعدوهم من جملة المهتدين ، والاستفهام في الموضعين للإنكار (ومن يضللـ) ـه (الله فلن تجد له سبيلا) طريقا إلى الهدى
قوله تعالى فما لكم في المنافقين الآية روى الشيخان وغيرهما عن زيد بن ثابت أن رسول الله عليه الصلاة والسلام خرج إلى أحد فرجع ناس خرجوا معه فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين فرقة تقول نقتلهم وفرقة تقول لا فأنزل الله فما لكم في المنافقين فئتين
ك وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن سعد بن معاذ قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال من لي بمن يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني فقال سعد بن معاذ إن كان من الأوس قتلناه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فأطعناك فقام سعد بن عبادة فقال ما بك يا ابن معاذ طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد عرفت ما هو منك فقام أسيد بن حضير فقال إنك يا ابن عبادة منافق وتحب المنافقين فقام محمد بن مسلمة فقال اسكتوا يا أيها الناس فإن فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأمرنا فننفذ أمره فأنزل الله فما لكم في المنافقين فئتين الآية
وأخرج أحمد عن عبد الرحمن بن عوف أن قوما من العرب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فأسلموا وأصابهم وباء المدينة وحماها فاركسوا خرجوا من المدينة فاستقبلهم نفر من الصحابة فقالوا لهم ما لكم رجعتم قالوا أصابنا وباء المدينة فقالوا أما لكم في رسول الله أسوة حسنة فقال بعضهم نافقوا وقال بعضهم لم ينافقوا فأنزل الله فما لكم في المنافقين فئتين الآية في إسناده تدليس وانقطاع ك
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله : "فما لكم في المنافقين فئتين"، فما شأنكم ، أيها المؤمنون ، في أهل النفاق فئتين مختلفتين ، "والله أركسهم بما كسبوا"، يعني بذلك : والله ردهم إلى أحكام أهل الشرك ، في إباحة دمائهم وسبي ذراريهم .
و الإركاس ، الرد، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
فأركسوا في حميم النار، إنهم كانوا عصاةً وقالوا الإفك والزورا
يقال منه : أركسهم و ركسهم .
وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله وأبي : والله ركسهم، بغيرألف.
واختلف أهل التأويل في الذين نزلت فيهم هذه الآية.
فقال بعضهم : نزلت في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وانصرفوا إلى المدينة، وقالوا لرسول الله عليه السلام ولأصحابه : "لو نعلم قتالا لاتبعناكم" [آل عمران : 167].
ذكر من قال ذلك :
حدثني الفضل بن زياد الواسطي قال ، حدثنا أبو داود، عن شعبة، عن عدي بن ثابت قال : سمعت عبد الله بن يزيد الأنصاري يحدث ، "عن زيد بن ثابت : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أحد، رجعت طائفة ممن كان معه ، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين ، فرقة تقول : نقتلهم، وفرقة تقول : لا . فنزلت هذه الآية : "فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا" الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة : إنها طيبة، وإنها تنفي خبثها كما تنفي النار خبث الفضة".
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو أسامة قال ، حدثنا شعبة، عن عدي بن ثابت ، عن عبد الله بن يزيد، عن زيد بن ثابت قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه .
حدثني زريق بن السخت قال ، حدثنا شبابة، عن عدي بن ثابت ، عن عبد الله بن يزيد، عن زيد بن ثابت قال : ذكروا المنافقين عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال فريق : نقتلهم ، وقال فريق : لا نقتلهم . فأنزل الله تبارك وتعالى : "فما لكم في المنافقين فئتين" إلى آخر الآية .
وقال آخرون : بل نزلت في اختلاف كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا قدموا المدينة من مكة، فأظهروا للمسلمين أنهم مسلمون ، ثم رجعوا إلى مكة وأظهروا لهم الشرك .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: "فما لكم في المنافقين فئتين"، قال : قوم خرجوا من مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون ، ثم ارتدوا بعد ذلك ، فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها. فاختلف فيهم المؤمنون ، فقائل يقول : هم منافقون ، وقائل يقول : هم مؤمنون . فبين الله نفاقهم فأمر بقتالهم ، فجاؤوا ببضائعهم يريدون المدينة، فلقيهم علي بن عويمر، أو: هلال بن عويمر الأسلمي ، وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم حلف ، وهو الذي حصر صدره أن يقاتل المؤمنين أو يقاتل قومه ، فدفع عنهم ، بأنهم يؤمون هلالاً، وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد، مثله بنحوه ، غير أنه قال : فبين الله نفاقهم ، وأمر بقتالهم ، فلم يقاتلوا يومئذ، فجاؤوا ببضائعهم يريدون هلال بن عويمر الأسلمي ، وبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف .
وقال آخرون : بل كان اختلافهم في قوم من أهل الشرك كانوا أظهروا الإسلام بمكة، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "فما لكم في المنافقين فئتين"، وذلك أن قوماً كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام ، وكانوا يظاهرون المشركين ، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم ، فقالوا : إن لقينا أصحاب محمد عليه السلام ، فليس علينا منهم بأس ! وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا، من مكة، قالت فئة من المؤمنين : اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم ، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم! وقالت فئة أخرى من المؤمنين : سبحان الله -أو كما قالوا- أتقتلون قوماً قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به ؟ أمن أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارهم ، تستحل دماؤهم وأموالهم لذلك! فكانوا كذلك فئتين ، والرسول عليه السلام عندهم لا ينهى واحداً من الفريقين عن شيء ، فنزلت : "فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله"، الآية.
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "فما لكم في المنافقين فئتين" الآية، ذكر لنا أنهما كانا رجلين من قريش كانا مع المشركين بمكة، وكانا قد تكلما بالإسلام ولم يهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيهما ناس من أصحاب نبي الله وهما مقبلان إلى مكة، فقال بعضهم : إن دماءهما وأموالهما حلال ! وقال بعضهم : لا يحل لكم ! فتشاجروا فيهما، فأنزل الله في ذلك : "فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا" حتى بلغ "ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم".
حدثنا القاسم قال ، حدثنا أبو سفيان ، عن معمر بن راشد قال : بلغني أن ناساً من أهل مكة كتبوا إلى النبي في أنهم قد أسلموا، وكان ذلك منهم كذباً، فلقوهم ، فاختلف فيهم المسلمون ، فقالت طائفة : دماؤهم حلال! وقالت طائفة : دماؤهم حرام! فأنزل الله : "فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا".
حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : "فما لكم في المنافقين فئتين"، هم ناس تخلفوا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا، فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتولاهم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتبرأ من ولايتهم آخرون ، وقالوا : تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهاجروا! فسماهم الله منافقين ، وبرأ المؤمنين من ولايتهم ، وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا .
وقال آخرون : بل كان اختلافهم في قوم كانوا بالمدينة، أرادوا الخروج عنها نفاقاً.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا"، قال : كان ناس من المنافقين أرادوا أن يخرجوا من المدينة، فقالوا للمؤمنين : إنا قد أصابنا أوجاع في المدينة واتخمناها، فلعلنا أن نخرج إلى الظهر حتى نتماثل ثم نرجع ، فإنا كنا أصحاب برية. فانطلقوا، واختلف فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت طائفة : أعداء لله منافقون! وددنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا فقاتلناهم ! وقالت طائفة : لا، بل إخواننا غمتهم المدينة فاتخموها، فخرجوا إلى الظهر يتنزهون ، فإذا برأوا رجعوا . فقال الله : "فما لكم في المنافقين فئتين"، يقول : ما لكم تكونون فيهم فئتين ، "والله أركسهم بما كسبوا".
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر أهل الإفك .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا"، حتى بلغ "فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله"، قال : هذا في شأن ابن أبي حين تكلم في عائشة بما تكلم .
وحدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد: إن هذه الآية حين أنزلت : "فما لكم في المنافقين فئتين"، فقرأ حتى بلغ "فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله"، فقال سعد بن معاذ: فإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من فئته! يريد عبد الله بن أبي ابن سلول.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك ، قول من قال : نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن اختلاف أهل التأويل في ذلك إنما هو على قولين : أحدهما : أنهم قوم كانوا من أهل مكة، على ما قد ذكرنا الرواية عنهم .
والآخر: أنهم قوم كانوا من أهل المدينة .
وفي قول الله تعالى ذكره : "فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا"، أوضح الدليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة . لأن الهجرة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر. فأما من كان بالمدينة في دار الهجرة مقيما من المنافقين وأهل الشرك ، فلم يكن عليه فرض هجرة، لأنه في دار الهجرة كان وطنه ومقامه .
واختلف أهل العربية في نصب قوله : "فئتين".
فقال بعضهم : هو منصوب على الحال ، كما تقول : ما لك قائماً، يعني : ما لك في حال القيام . وهذا قول بعض البصريين .
وقال بعض نحويي الكوفيين : هو منصوب على فعل مالك، قال : ولا تبال أكان المنصوب في مالك معرفة أو نكرة . قال : ويجوز في الكلام أن تقول : ما لك السائر معنا، لأنه كالفعل الذي ينصب ب كان وأظن وما أشبههما. قال : وكل موضع صلحت فيه فعل ويفعل من المنصوب ، جاز نصب المعرفة منه والنكرة، كما تنصب كان وأظن، لأنهن نواقص في المعنى، وإن ظننت أنهن تامات.
وهذا القول أولى بالصواب في ذلك ، لأن المطلوب في قول القائل : ما لك قائماً، القيام، فهو في مذهب كان وأخواتها ، و أظن وصواحباتها.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأوبل في تأويل قوله : "والله أركسهم".
فقال بعضهم : معناه : ردهم ، كما قلنا.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : "والله أركسهم بما كسبوا"، ردهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : والله أوقعهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال ، حدثني عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس : "والله أركسهم بما كسبوا"، يقول : أوقعهم.
وقال آخرون : معنى ذلك : أضلهم وأهلكهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان ، عن معمر، عن قتادة: "والله أركسهم"، قال : أهلكهم .
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر، عن قتادة : "والله أركسهم بما كسبوا"، أهلكهم بما عملوا .
حدثنا محمد بن المحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "والله أركسهم بما كسبوا"، أهلكهم .
وقد أتينا على البيان عن معنى ذلك قبل ، بما أغنى عن إعادته .
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله "أتريدون أن تهدوا من أضل الله"، أتريدون ، أيها المؤمنون ، أن تهدوا إلى الإسلام فتوفقوا للإقرار به والدخول فيه ، من أضله الله عنه -يعنى بذلك : من خذله .الله عنه - فلم يوفقه للإقرار به ؟.
وإنما هذا خطاب من الله تعالى ذكره للفئة التي دافعت عن هؤلاء المنافقين الذين وصف الله صفتهم في هذه الآية . يقول لهم جل ثناؤه : أتبغون هداية هؤلاء الذين أضلهم الله فخذلهم عن الحق واتباع الإسلام ، بمدافعتكم عن قتالهم من أراد قتالهم من المؤمنين؟ "ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا"، يقول : ومن خذله عن دينه واتباع ما أمره به ، من الإقرار به وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عنده ، فأضله عنه ، "فلن تجد له"، يا محمد، "سبيلا"، يقول : فلن تجد له طريقا تهديه فيها إلى إدراك ما خذله الله عنه ، ولا منهجاً يصل منه إلى الأمر الذي قد حرمه الوصول إليه.
قوله تعالى :" فما لكم في المنافقين فئتين " " فئتين " أي فرقتين مختلفتين روى مسلم "عن زيد بن ثابت .
إن النبي صلى الله عليه ولم خرج إلى أحد فرجع ناس ممن كان معه، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين فقال بعضهم نقتلهم وقال بعضهم : لا "فنزلت " فما لكم في المنافقين فئتين " وأخرجه الترمذي فزاد : وقال : "إنها طيبة" وقال : "إنها تنفي الخبيث كما تنفي النار خبث الحديد" قال : حديث حسن صحيح : وقال البخاري: "إنها طيبة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة " والمعنى بالمنافقين هنا عبد الله بن أبي وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ورجوا بعسكرهم بعد أن خرجوا كما تقدم في ل عمران وقال ابن عباس: هم قوم بمكة آمنوا وتركوا الهجرة قال الضحاك: وقالا إن ظهر محمد صلى الله عليه وسلم فقد عرفنا وإن ظهر قومنا فهو أحب إلينا فصار المسلمون فيهم فئتين قوم يتولونهم وقوم يتبرؤون منهم فقال الله عز وجل " فما لكم في المنافقين فئتين " .
وذكر أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه أنها نزلت في قوم جاءوا إلى المدينة وأظهروا الإسلام، فأصابهم وباء المدينة وحماها، فأركسوا فخرجوا من المدينة فاستقبلهم نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما لكم رجعتم ؟ فقالا: أصابنا وباء المدينة فاجتويناها فقالوا: ما لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة ؟ فقال بعضهم : نافقوا. وقال بعضهم : لم ينافقوا هم مسلمون فأنزل الله عز وجل " فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا " الآية حتى جاءوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون ثم ارتدوا بعد ذلك فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فاختلف فيهم المؤمنون فقائل يقول: هم منافقون وقائل يقول: هم مؤمنون فبين الله تعالى نفاقهم وأنزل هذه الآية وأمر بقتلهم .
قلت: وهذان القولان يعضدهما سياق آخر الآية من قوله تعالى :" حتى يهاجروا" والأول أصح نقلاً وهو اختيار البخاري ومسلمو الترمذي وفئتين نصب على الحال كما يقال: مالك قائماً عن الأخفش وقال الكوفيون: هو خبر ما لكم كخبر كان وظننت وأجازوا إدخال الألف واللام فيه وحكى الفراء: أركسهم وركسهم أي ردهم إلى الكفر ونكسهم ، وقاله النضر بن شميل والكسائي: والركس والنكس قلب الشيء على رأسه أو رد أوله على آخره والمركوس المنكوس وفي قراءة عبد الله وأبي رضي الله عنهما والله ركسهم وقال ابن رواحة :
اركسوا في فتنة مظلمة كسواد الليل يتلوها فتن
أي نكسوا. وارتكس فلان في أمر كان نجا منه والركوسية قوم بين النصارى والصابئين والراكس الثور وسط البيدر والثيران حواليه حين الدياس " أتريدون أن تهدوا من أضل الله " أي ترشدوه إلى الثواب بأن يحكم لهم بحكم المؤمنين " فلن تجد له سبيلا" أي طريقاً إلى الهدى والرشد وطلب الحجة وفي هذا رد على القدرية وغيرهم القائلين بخلق هداهم وقد تقدم .
يقول تعالى منكراً على المؤمنين في اختلافهم في المنافقين على قولين: واختلف في سبب ذلك فقال الإمام أحمد: حدثنا بهز, حدثنا شعبة, قال عدي بن ثابت, أخبرني عبد الله بن يزيد عن زيد بن ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس خرجوا معه, فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين: فرقة تقول: نقتلهم, وفرقة تقول: لا, هم المؤمنون, فأنزل الله "فما لكم في المنافقين فئتين" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد" أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة, وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في وقعة أحد أن عبد الله بن أبي بن سلول رجع يومئذ بثلث الجيش, رجع بثلثمائة وبقي النبي صلى الله عليه وسلم في سبعمائة, وقال العوفي عن ابن عباس: نزلت في قوم كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام, وكانوا يظاهرون المشركين, فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس, وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة, قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم, فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم, وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله, أو كما قالوا: أتقتلون قوماً قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم, نستحل دماءهم وأموالهم ؟ فكانوا كذلك فئتين, والرسول عندهم لا ينهى واحداً من الفريقين عن شيء, فنزلت "فما لكم في المنافقين فئتين" رواه ابن أبي حاتم, وقد روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا, وقال زيد بن أسلم عن ابن لسعد بن معاذ: أنها نزلت في تقاول الأوس والخزرج في شأن عبد الله بن أبي, حين استعذر من رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر في قضية الإفك, وهذا غريب, وقيل غير ذلك.
وقوله تعالى: "والله أركسهم بما كسبوا" أي ردهم وأوقعهم في الخطأ, قال ابن عباس "أركسهم" أي أوقعهم, وقال قتادة: أهلكم وقال السدي: أضلهم, وقوله: "بما كسبوا" أي بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول واتباعهم الباطل "أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا" أي لا طريق له إلى الهدى ولا مخلص له إليه, وقوله: "ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء" أي هم يودون لكم الضلالة لتستووا أنتم وإياهم فيها وما ذاك إلا لشدة عدواتهم وبغضهم لكم ولهذا قال: "فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا" أي تركوا الهجرة, قاله العوفي عن ابن عباس, وقال السدي: أظهروا كفرهم "فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً" أي لا توالوهم ولا تستنصروا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك, ثم استثنى الله من هؤلاء, فقال: "إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق" أي إلا الذين لجأوا وتحيزوا إلى قوم بينكم وبينهم مهادنة, أو عقد ذمة فاجعلوا حكمهم كحكمهم, وهذا قول السدي وابن زيد وابن جرير, وقد روى ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو سلمة, حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان, عن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال: لما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على أهل بدر وأحد وأسلم من حولهم, قال سراقة: بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج, فأتيته فقلت: أنشدك النعمة, فقالوا: صه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوه, ما تريد ؟" قال: بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي وأنا أريد أن توادعهم, فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام, وإن لم يسلموا لم تخشن قلوب قومك عليهم, فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد خالد بن الوليد فقال: "اذهب معه فافعل ما يريد" فصالحهم خالد على ألا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أسلمت قريش أسملوا معهم, فأنزل الله "ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء".
ورواه ابن مردويه من طريق حماد بن سلمة, وقال: فأنزل الله "إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق" فكان من وصل إليهم كان معهم على عهدهم, وهذا أنسب لسياق الكلام, وفي صحيح البخاري في قصة صلح الحديبية: فكان من أحب أن يدخل في صلح قريش وعهدهم, ومن أحب أن يدخل في صلح محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعهدهم, وقد روي عن ابن عباس أنه قال: نسخها قوله: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" الاية.
وقوله: " أو جاؤوكم حصرت صدورهم " الاية, هؤلاء قوم آخرون من المستثنين من الأمر بقتالهم وهم الذين يجئيون إلى المصاف وهم حصرة صدروهم أي ضيقة صدروهم مبغضين أن يقاتلوكم, ولا يهون عليهم أيضاً أن يقاتلوا قومهم معكم بل هم لا لكم ولا عليكم "ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم" أي من لطفه بكم أن كفهم عنكم "فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم" أي المسالمة "فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً" أي فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك , وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين فحضروا القتال وهم كارهون كالعباس ونحوه ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قتل العباس وأمر بأسره, وقوله: "ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم" الاية, هؤلاء في الصورة الظاهرة كمن تقدمهم, ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك, فإن هؤلاء قوم منافقون يظهرون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الإسلام ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهمم وذراريهم, ويصانعون الكفار في الباطن تعبدون معهم ما يعبدون ليأمنوا بذلك عندهم وهم في الباطن مع أولئك, كما قال تعالى: "وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم" الاية, وقال ههنا " كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها " أي انهمكوا فيها, وقال السدي: الفتنة ـ ههنا ـ الشرك, وحكى ابن جرير عن مجاهد أنها نزلت في قوم من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان, يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا, فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا ولهذا قال تعالى: "فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم" المهادنة والصلح, "ويكفوا أيديهم" أي عن القتال, "فخذوهم" أسراء, "واقتلوهم حيث ثقفتموهم" أي أين لقيتموهم, "وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً" أي بيناً واضحاً.
الاستفهام في قوله 88- "ما لكم" للإنكار، واسم الاستفهام مبتدأ وما بعده خبره. والمعنى: أي شيء كائن لكم "في المنافقين" أي: في أمرهم وشأنهم حال كونكم "فئتين" في ذلك. وحاصله الإنكار على المخاطبين أن يكون لهم شيء يوجب اختلافهم في شأن المنافقين. وقد اختلف النحويون في انتصاب فئتين، فقال الأخفش والبصريون على الحال كقولك: ما لك قائماً. وقال الكوفيون انتصابه على أنه خبر لكان، وهي مضمرة، والتقدير: فما لكم في المنافقين كنتم فئتين. وسبب نزول الآية ما سيأتي وبه يتضح المعنى. وقوله "والله أركسهم" معناه: ردهم إلى الكفر "بما كسبوا" وحكى الفراء والنضر بن شميل والكسائي أركسهم وركسهم: أي ردهم إلى الكفر ونكسهم، فالركس والنكس: قلب الشيء على رأسه، أو رد أوله إلى آخره، والمنكوس المركوس، وفي قراءة عبد الله بن مسعود وأبي " والله أركسهم " ومنه قول عبد الله بن رواحة:
أركسوا في فئة مظلمة كسواد الليل يتلوها فتن
والباء في قوله "بما كسبوا" سببية: أي أركسهم بسبب كسبهم، وهو لحوقهم بدار الكفر، والاستفهام في قوله "أتريدون أن تهدوا من أضل الله" للتقريع والتوبيخ، وفيه دليل على أن من أضله الله لا تنجع فيه هداية البشر "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء". قوله "ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً" أي: طريقاً إلى الهداية.
88-"فما لكم في المنافقين فئتين" اختلفوا في سبب نزولها فقال قوم :نزلت في الذين تخلفوا يوم أحد من المنافقين ، فلما رجعوا قال بعض الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم :اقتلهم فإنهم منافقون وقال بعضهم: اعف عنهم فإنهم تكلموا بالإسلام.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو الوليد أنا شعبة عن عدي بن ثابت قال: سمعت عبد الله بن يزيد يحدث عن زيد بن ثابت قال: "لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد رجع ناس ممن خرج معه وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرقتين ، فرقة تقول نقاتلهم وفرقة تقول لا نقاتلهم ، فنزلت :"فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا"، وقال:إنها طيبة تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الفضة".
وقال مجاهد:قوم خرجوا إلى المدينة وأسلموا ثم ارتدوا واستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها فخرجوا وأقاموا بمكة ، فاختلف المسلمون فيهم ، فقائل يقول: هم منافقون ، وقائل يقول: هم مؤمنون.
وقال بعضهم : نزلت في ناس من قريش قدموا المدينة وأسلموا ثم ندموا على ذلك فخرجوا كهيئة المتنزهين حتى باعدوا من المدينة فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم :إنا على الذي فارقناك عليه من الإيمان ولكنا اجتوينا المدينة واشتقنا إلى أرضنا ، ثم إنهم خرجوا في تجارة لهم نحو الشام فبلغ ذلك المسلمين ، فقال بعضهم : نخرج إليهم فنقتلهم ونأخذ ما معهم لأنهم رغبوا عن ديننا وقال: طائفة : كيف تقتلون قوماً على دينكم إن لم يذروا ديارهم ، وكان هذا بعين النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساكت لا ينهى واحداً من الفريقين، فنزلت هذه الآية.
وقال بعضهم : هم قوم أسلموا بمكة ثم لم يهاجروا وكانوا يظاهرون المشركين ، فنزلت"فما لكم" يا معشر المؤمنين"في المنافقين فئتين"أي: صرتم فيهم فئتين،أي: فرقتين"والله أركسهم"أي: نكسهم وردهم إلى الكفر" بما كسبوا"بأعمالهم غير الزاكية"أتريدون أن تهدوا" أي: أن ترشدوا"من أضل الله"،وقيل: معنا أتقولون أن هؤلاء مهتدون وقد أضلهم الله ،"ومن يضلل الله" أي: من يضلله الله عن الهدى ، "فلن تجد له سبيلاً"أي: طريقاً إلى الحق.
88"فما لكم في المنافقين" فما لكم تفرقتم في أمر المنافقين. "فئتين" أي فرقتين ولم تتفقوا على كفرهم، وذلك أن ناساً منهم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البدو لاجتواء المدينة، فلما خرجوا لم يزالوا رحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين، فاختلف المسلمون في إسلامهم. وقيل نزلت في المتخلفين يوم أحد، أو في قوم هاجروا ثم رجعوا معتلين باجتواء المدينة والاشتياق إلى الوطن، أو قوم أظهروا الإسلام وقعدوا عن الهجرة. و"فئتين" حال عاملها لكم كقولك: مالك قائماً. و"في المنافقين" حال من "فئتين" أي متفرقتين فيهم، أو من الضمير أي فما لكم تفترقون فيهم، ومعنى الافتراق مستفاد من "فئتين". "والله أركسهم بما كسبوا" ردهم إلى حكم الكفرة، أو نكسهم بأن صيرهم إلى للنار. وأصل الركس رد الشيء مقلوباً. " أتريدون أن تهدوا من أضل الله " أن تجعلوه من المهتدين. "ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً" إلى الهدى.
88. What aileth you that ye are become two parties regarding the hypocrites, when Allah cast them back (to disbelief) because of what they earned? Seek ye to guide him whom Allah hath sent astray? He whom Allah sendeth astray, for him thou (O Muhammad) canst not find a road.
88 - Why should ye be divided into two parties about the hypocrites? God hath upset them for their (evil) deeds. would ye guide those whom God hath thrown out of the way? for those whom God hath thrown out of the way, never shalt thou find the way.