[النساء : 85] مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا
(من يشفع) بين الناس (شفاعة حسنة) موافقة للشرع (يكن له نصيب) من الأجر (منها) بسببها (ومن يشفع شفاعة سيئة) مخالفة له (يكن له كفل) نصيب من الوزر (منها) بسببها (وكان الله على كل شيء مقيتا) مقتدرا فيجازي كل أحد بما عمل
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه : "من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها"، من يصر، يا محمد، شفعا لوتر أصحابك ، فيشفعهم في جهاد عدوهم وقتالهم في سبيل الله ، وهو الشفاعة الحسنة، "يكن له نصيب منها"، يقول : يكن له من شفاعته تلك نصيب -وهو الحظ - من ثواب الله وجزيل كرامته ، "ومن يشفع شفاعة سيئة"، يقول : ومن يشفع وتر أهل الكفر بالله على المؤمنين به ، فيقاتلهم معهم ، وذلك هو الشفاعة السيئة، "يكن له كفل منها".
يعني : ب الكفل ، النصيب والحظ من الوزر والإثم . وهو مأخوذ من كفل البعير والمركب ، وهو الكساء أو الشيء يهيأ عليه شبيه بالسرج على الدابة . يقال منه : جاء فلان مكتفلاً، إذا جاء على مركب قد وطىء له -على مابينا-لركوبه.
وقد قيل إنه عني بقوله : "من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها" الآية، شفاعة الناس بعضهم لبعض. وغير مستنكر أن تكون الآية نزلت فيما ذكرنا، ثم عم بذلك كل شافع بخير أو شر.
وإنما اخترنا ما قلنا من القول في ذلك ، لأنه في سياق الآية التي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيها بحض المؤمنين على القتال ، فكان ذلك بالوعد لمن أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والوعيد لمن أبى إجابته ، أشبه منه من الحث على شفاعة الناس بعضهم لبعض ، التي لم يجر لها ذكر قبل ، ولا لها ذكر بعد.
ذكر من قال : ذلك في شفاعة الناس بعضهم لبعض :
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة"، قال : شفاعة بعض الناس لبعض .
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
حدثت عن ابن مهدي ، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن قال : من يشفع شفاعة حسنة كان له فيها أجران ، ولأن الله يقول : "من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها"، ولم يقل يشفع .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن الحسن قال : "من يشفع شفاعة حسنة"، كتب له أجرها ما جرت منفعتها.
حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، سئل ابن زيد عن قول الله : "من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها"، قال : الشفاعة الصالحة التي يشفع فيها وعمل بها، هي بينك وبينه ، هما فيها شريكان ، "ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها"، قال : هما شريكان فيها، كما كان أهلها شريكين .
ذكر من قال : الكفل : النصيب .
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها"، أي حظ منها، "ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها"، والكفل هو الإثم .
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : "يكن له كفل منها"، أما الكفل ، فالحظ .
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع : "يكن له كفل منها"، قال : حظ منها، فبئس الحظ.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : الكفل و النصيب واحد. وقرأ: "يؤتكم كفلين من رحمته" [الحديد: 8 ].
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ؟ "وكان الله على كل شيء مقيتا".
فقال بعضهم : تأويله : وكان الله على كل شيء حفيظاً وشهيداً.
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس : "وكان الله على كل شيء مقيتاً"، يقول : حفيظاً.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد "مقيتا" ، شهيداً.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل اسمه مجاهد، عن مجاهد مثله .
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد: "مقيتا"، قال : شهيداً، حسيباً، حفيظاً.
حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم قال ، حدثنا عبد الرحمن بن شريك قال ، حدثنا أبي ، عن خصيف ، عن مجاهد أبي الحجاج : "وكان الله على كل شيء مقيتا"، قال : المقيت ، الحسيب .
وقال آخرون : معنى ذلك : القائم على كل شيء بالتدبير.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال عبد الله بن كثير: "وكان الله على كل شيء مقيتا"، قال : المقيت ، الواصب.
وقال آخرون : هو القدير.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "وكان الله على كل شيء مقيتا"، أما المقيت ، فالقدير.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "وكان الله على كل شيء مقيتا"، قال : على كل شيء قديراً، المقيت القدير.
قال أبو جعفر: والصواب من هذه الأقوال ، قول من قال : معنى المقيت ، القدير. وذلك أن ذلك فيما يذكر، كذلك بلغة قريش ، وينشد للزبير بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وذي ضغن كففت النفس عنه وكنت على مساءته مقيتاً
أي : قادراً. وقد قيل إن منه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقيت".
في رواية من رواها يقيت ، يعني : من هو تحت يديه وفي سلطانه من أهله وعياله ، فيقدر له قوته . يقال منه . أقات فلان الشيء ، يقيته إقاتة و قاته يقوته قياتةً وقوتاً ، و القوت الاسم . وأما المقيت في بيت اليهودي الذي يقول فيه :
ليت شعري ، وأشعرن إذا ما قربوها منشورةً ودعيت!
ألي الفضل أم علي إذا حو سبت؟ إني على الحساب مقيت
فإن معناه : فإني على الحساب موقوف ، وهو من غير هذا المعنى.
الأولى-قوله تعالى :" من يشفع " أصل الشفاعة الشفعة ونحوها من الشفع وهو الزوج في العدد ومنه الشفيع لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعا ومنه ناقة شفوع إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة وناقة شفيع إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها. والشفع ضم واحد إلى واحد. والشفعة ضم ملك الشريك إلى ملكك، فالشفاعة إذا ضم غيركم إلى جاهك ووسيلتك فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع وإيصال المنفعة إلى المشفوع له .
الثانية- واختلف المتأولون في هذه الآية فقال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم هي في شفاعات الناس بينهم في حوائجهم فمن يشفع لينفع فله نصيب ومن يشفع ليضر فله كفل وقيل: الشفاعة الحسنة هي في البر والطاعة، والسيئة في المعاصي فمن شفع شفاعة حسنة ليصح بين اثنين استوجب الأجر، ومن سعى بالنميمة والغيبة أثم وهذا قريب من الأول وقيل: يعني بالشفاعة الحسنة الدعاء للمسلمين والسيئة الدعاء عليهم وفي صحيح الخبر :
"من دعا بظهر الغيب استجيب له وقال الملك آمين ولك بمثل" هذا هو النصيب وكذلك في الشر بل يرجع شؤم دعائه عليه وكانت اليهود تدعو عل المسلمين وقيل: المعنى من يكن شفعاً لصاحبه في الجهاد يكن له نصبه من الأجر ومن يكن شفعاً لآخر في باطل يكن له نصيبه من الوزر، وعن الحسن أيضاً: الحسنة ما يجوز في الدين، والسيئة ما لا يجوز فيه وكأن هذا القول جامع والكفل الوزر والإثم عن الحسن وقتادة. السدي وابن زيد هو النصيب واشتقاقه من الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه لئلا يسقط يقال: اكتفلت البعير إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه ويقال له: اكتفل لأنه لم يستعمل الظهر كله بل استعمل نصيباً من الظهر ويستعمل في النصيب من الخير والشر، وفي كتاب الله تعالى " يؤتكم كفلين من رحمته " [النحل: 28] والشافع يؤجر فيما يجوز وإن لم يشفع لأنه تعالى قال : " من يشفع" ولم يقل يشفع وفي صحيح مسلم:
ا"شفعوا تؤجروا وليقض الله على لسان نبيه ما أحب "
الثالثة - قوله تعالى :" وكان الله على كل شيء مقيتا" مقيتاً معناه مقتدراً ومنه قول الزبير بن عبد المطلب :
وذي ضغن كففت النفس عنه وكنت على مساءته مقيتا
أي قديراً: فالمعنى إن الله تعالى يعطي كل إنسان قوته، ومنه "قوله عليه السلام:
كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقيت " على من رواه هكذا أي من هو تحت قدرته وفي قبضته من عيال وغيره، ذكره ابن عطية يقول منه: قته أقوته قوتاً وأقته أقيته إقاتة فأنا قائت ومقيت وحكي الكسائي: أقات يقيت وأما قول الشاعر :
إني على الحساب مقيت
فقال فيه الطبري: إنه من غير هذا المعنى المتقدم وإنه بمعنى الموقوف وقال أبو عبيدة : المقيت الحافظ وقال الكسائي: المقيت المقتدر: وقال النحاس: وقول أبي عبيدة أولى لأنه مشتق من القوت، والقوت معناه مقدار ما يحفظ الإنسان وقال الفراء: المقيت الذي يعطي كل رجل قوته ، وجاء في الحديث : "كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت"ويقيت ذكره الثعلبي وحكى ابن فارس في المجمل: المقيت المقتدر والمقيت الحافظ والشاهد، وما عنده قيت ليلة وقوت ليلة والله أعلم .
يأمر تعالى عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يباشر القتال بنفسه, ومن نكل عنه فلا عليه منه, ولهذا قال "لا تكلف إلا نفسك" قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن عمرو بن نبيح, حدثنا حكام, حدثنا الجراح الكندي عن أبي إسحاق, قال: سألت البراء بن عازب عن الرجل يلقى المائة من العدو فيقاتل فيكون ممن قال الله فيه: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" ؟ قال: قد قال الله تعالى لنبيه: "فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين". ورواه الإمام أحمد عن سليمان بن داود, عن أبي بكر بن عياش, عن أبي إسحاق, قال: قلت للبراء: الرجل يحمل على المشركين, أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة ؟ قال: لا, إن الله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم وقال: "فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك" إنما ذلك في النفقة وكذا رواه ابن مردويه من طريق أبي بكر بن عياش وعلي بن صالح, عن أبي إسحاق, عن البراء به. ثم قال ابن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد, حدثنا أحمد بن النضر العسكري, حدثنا مسلم بن عبد الرحمن الجرمي, حدثنا محمد بن حمير, حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق, عن البراء, قال: لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم "فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين" الاية, قال لأصحابه: "وقد أمرني ربي بالقتال فقاتلوا" حديث غريب.
وقوله: "وحرض المؤمنين" أي على القتال ورغبهم فيه وشجعهم عليه, كما قال لهم صلى الله عليه وسلم يوم بدر وهو يسوي الصفوف: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض" وقد وردت أحاديث كثيرة في الترغيب في ذلك, فمن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آمن بالله ورسوله, وأقام الصلاة وآتى الزكاة, وصام رمضان, كان حقاً على الله أن يدخله الجنة, هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها". قالوا: يا رسول الله أفلا نبشر الناس بذلك ؟ فقال: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبييل الله, بين كل درجتين كما بين السماء والأرض, فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة, وأعلى الجنة, وفوقه عرش الرحمن, ومنه تفجر أنهار الجنة" وري من حديث عبادة ومعاذ وأبي الدرداء, نحو ذلك. وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا سعيد, من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً, وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً ونبياً, وجبت له الجنة", قال: فعجب لها أبو سعيد, فقال: أعدها علي يا رسول الله, ففعل, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأخرى يرفع الله العبد بها مائة درجة في الجنة, ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض". قال: وما هي يا رسول الله ؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" , رواه مسلم. وقوله: "عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا" أي بتحريضك إياهم على القتال تنبعث هممهم على مناجزة الأعداء. ومدافعتهم عن حوزة الإسلام وأهله, ومقاومتهم ومصابرتهم. وقوله تعالى: "والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً" أي هو قادر عليهم في الدنيا والاخرة كما قال تعالى: " ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض " الاية.
وقوله: "من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها" أي من يسعى في أمر فيترتب عليه خير كان له نصيب من ذلك, "ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها" اي يكون عليه وزر من ذلك الأمر الذي ترتب على سعيه ونيته, كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم, أنه قال: "اشفعوا تؤجروا, ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء", وقال مجاهد بن جبر: نزلت هذه الاية في شفاعات الناس بعضهم لبعض. وقال الحسن البصري: قال الله تعالى: "من يشفع" ولم يقل من يشفع, وقوله: "وكان الله على كل شيء مقيتاً". قال ابن عباس وعطاء وعطية وقتادة ومطر الوارق "مقيتاً" أي حفيظاً. وقال مجاهد: شهيداً, وفي رواية عنه: حسيباً. وقال سعيد بن جبير والسدي وابن زيد: قديراً. وقال عبد الله بن كثير: المقيت الواصب, وقال الضحاك المقيت الرزاق, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الرحيم بن مطرف, حدثنا عيسى بن يونس عن إسماعيل عن رجل. عن عبد الله بن رواحة, وسأله رجل عن قول الله تعالى: "وكان الله على كل شيء مقيتا" قال: مقيت لكل إنسان بقدر عمله.
وقوله: "وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها" أي إذا سلم عليكم المسلم فردوا عليه أفضل مما سلم, أو ردوا عليه بمثل ما سلم, فالزيادة مندوبة, والمماثلة مفروضة, قال ابن جرير: حدثنا موسى بن سهل الرملي, حدثنا عبد الله بن السري الأنطاكي, حدثنا هشام بن لاحق عن عاصم الأحول, عن أبي عثمان النهدي, عن سلمان الفارسي, قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله, فقال: "وعليك السلام ورحمة الله", ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وعليك السلام ورحمة الله وبركاته"، ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته, فقال له: "وعليك", فقال له الرجل: يا نبي الله, بأبي أنت وأمي, أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت علي فقال: "إنك لم تدع لنا شيئاً, قال الله تعالى: "وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها" فرددناها عليك", وهكذا رواه ابن أبي حاتم معلقاً, فقال: ذكر عن أحمد بن الحسن الترمذي حدثنا عبد الله بن السري أبو محمد الأنطاكي, قال أبو الحسن, وكان رجلاً صالحاً: حدثنا هشام بن لاحق فذكره بإسناده مثله, ورواه أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الباقي بن قانع, حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل, حدثنا أبي, حدثنا هشام بن لاحق أبو عثمان فذكره مثله, ولم أره في المسند, والله أعلم.
وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا زيادة في السلام على هذه الصفة, السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, إذ لو شرع أكثر من ذلك لزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن كثير أخو سليمان عن كثير, حدثنا جعفر بن سليمان بن عوف, عن أبي رجاء العطاردي, عن عمران بن حصين أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: السلام عليكم يا رسول الله فرد عليه ثم جلس فقال: "عشر", ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله يا رسول الله, فرد عليه ثم جلس, فقال: "عشرون", ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, فرد عليه, ثم جلس فقال: "ثلاثون", وكذا رواه أبو داود عن محمد بن كثير وأخرجه الترمذي والنسائي والبزار من حديثه, ثم قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه. وفي الباب عن أبي سعيد وعلي وسهل بن حنيف, وقال البزار: قد روي هذا عن البني صلى الله عليه وسلم من وجوه هذا أحسنها إسناداً وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن حرب الموصلي, حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي عن الحسن بن صالح, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان مجوسياً, ذلك بأن الله يقول: فحيوا بأحسن منها أو ردوها, وقال قتادة: فحيوا بأحسن منها, يعني للمسلمين, أو ردوها يعني لأهل الذمة, وهذا التنزيل فيه نظر كما تقدم في الحديث من أن المراد أن يرد بأحسن مما حياه به, فإن بلغ المسلم غاية ما شرع في السلام, رد عليه مثل ما قال, فأما أهل الذمة فلا يبدؤون بالسلام ولا يزادون, بل يرد عليهم بما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليكم, فقل: وعليك" في صحيح مسلم عن أبي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه". وقال سفيان الثوري, عن رجل, عن الحسن البصري, قال: السلام تطوع والرد فريضة, وهذا الذي قال هو قول العلماء قاطبة, أن الرد واجب على من سلم عليه, فيأثم إن لم يفعل, لأنه خالف أمر الله في قوله: فحيوا بأحسن منها أو ردوها وقد جاء في الحديث الذي رواه (أبو داود بسنده إلى أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده, لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم") .
وقوله: "الله لا إله إلا هو" إخبار بتوحيده وتفرده بالإلهية لجميع المخلوقات وتضمن قسماً لقوله: "ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه" وهذه اللام موطئة للقسم, فقوله الله لا إله إلا هو خبر وقسم أنه سيجمع الأولين والاخرين في صعيد واحد, فيجازي كل عامل بعمله, وقوله تعالى: "ومن أصدق من الله حديثاً" أي لا أحد أصدق منه في حديثه وخبره ووعده ووعيده, فلا إله إلا هو ولا رب سواه.
85- "من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها" أصل الشفاعة والشفعة ونحوهما من الشفع وهو الزوج، ومنه الشفيع لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعاً، ومنه ناقة شفوع: إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة وناقة شفيع: إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها. والشفع: ضم واحد إلى واحد. والشفعة: ضم ملك الشريك إلى ملكه، فالشفاعة: ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع واتصال منفعة إلى المشفوع له. والشفاعة الحسنة هي في البر والطاعة. والشفاعة السيئة في المعاصي، فمن شفع في الخير لينفع فله نصيب منها، أي من أجرها، ومن شفع في الشر كمن يسعى بالنميمة والغيبة كان له كفل منها، أي نصيب من وزرها. والكفل: الوزر والإثم، واشتقاقه من الكساء الذي يجعله الراكب على سنام البعير لئلا يسقط، يقال اكتفلت البعير: إذا أدركت على سنامه كساء وركبت عليه، لأنه لم يستعمل الظهر كله بل استعمل نصيباً منه ويستعمل في النصيب من الخير والشر. ومن استعماله في الخير قوله تعالى "يؤتكم كفلين من رحمته" "وكان الله على كل شيء مقيتاً" أي: مقتدراً، قاله الكسائي. وقال الفراء: المقيت الذي يعطي كل إنسان قوته، يقال: قته أقوته قوتاً، وأقته أقيته إقاتة فأنا قائت ومقيت، وحكى الكسائي أقات يقيت. وقال أبو عبيدة: المقيت الحافظ. قال النحاس: وقول أبي عبيدة لأنه مشتق من القوت، والقوت معناه: مقدار ما يحفظ الإنسان. وقال ابن فارس في المجمل: المقيت المقتدر. والمقيت: الحافظ والشاهد. وأما قول الشاعر:
ألي الفضل أم علي إذا حو سبت إني على الحساب مقيت
فقال ابن جرير الطبري إنه من غير هذا المعنى.
85-قوله عز وجل:"من يشفع شفاعةً حسنةً يكن له نصيب منها، ومن يشفع شفاعةً سيئةً يكن له كفل منها"، أي: نصيب منها، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الشفاعة الحسنة هي الإصلاح بين الناس، والشفاعة السيئة هي المشي بالنميمة بين الناس.
وقيل: الشفاعة الحسنة هي حسن القول في الناس ينال به الثواب والخير، والسيئة هي : الغيبة وإساءة القول في الناس ينال به الشر.
وقوله "كفل منها"أي: من وزرها، وقال مجاهد: هي شفاعة الناس بعضهم لبعض، ويؤجر الشفيع على شفاعته وإن لم يشفع .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد ابن إسماعيل أنا سفيان الثوري عن أبي بردة اخبرني جدي أبو بردة عن ابيه عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه رجل يسأل و طالب حاجة أقبل علينا بوجهه ، قال:"اشفعوا لتؤجروا ليقضي الله على لسان نبيه ما شاء".
قوله تعالى:"وكان الله على كل شيء مقيتاً"، قال ابن عباس رضي الله عنهما : مقتدراً مجازياً، قال الشاعر:
وذي ضغن كففت النفس عنه وكنت على مساءته مقيتاً
وقال مجاهد: شاهداً: وقال قتادة: حافظاً وقيل: معناه على كل حيوان مقيتاً أي: يوصل القوت إليه ، وجاء في الحديث "كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت ويقيت".
85"من يشفع شفاعة حسنةً" راعى بها حق مسلم ودفع بها عنه ضراً أو جلب إليه نفعاً ابتغاء لوجه الله تعالى، ومنها الدعاء لمسلم قال عليه الصلاة والسلام: "من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك ولك مثل ذلك". "يكن له نصيب منها" وهو ثواب الشفاعة والتسبب إلى الخير الواقع بها. "ومن يشفع شفاعةً سيئةً" يريد بها محرماً. "يكن له كفل منها" نصيب من وزرها مساو لها في القدر. " وكان الله على كل شيء مقيتا " مقتدراً من أقات الشيء إذا قدر قال:
وذي ضغن كففت الضغن عنه وكنت على مساءته مقيتاً
أو شهيداً حافظاً، واشتقاقه من القوت فإنه يقوي البدن ويحفظه.
85. Whoso interveneth in a good cause will have the reward thereof, and whoso interveneth in an evil cause will bear the consequence thereof. Allah overseeth all things.
85 - Whoever recommends and helps a good cause becomes a partner therein: and whoever recommends and helps an evil cause, shares in its burden: and God hath power over all things.