[النساء : 6] وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا
(وابتلوا) اختبروا (اليتامى) قبل البلوغ في دينهم وتصرفهم في أحوالهم (حتى إذا بلغوا النكاح) أي صاروا أهلاً له بالاحتلام أو السن وهو استكمال خمسة عشر سنة عند الشافعي (فإن آنستم) أبصرتم (منهم رُشْداً) صلاحاً في دينهم ومالهم (فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها) أيها الأولياء (إسرافا) بغير حق حال (وبداراً) أي مبادرين إلى إنفاقها مخافة (أن يكبروا) رشداء فيلزمكم تسليمها إليهم (ومن كان) من الأولياء (غنياً فليستعفف) أي يعف عن مال اليتيم ويمتنع من أكله (ومن كان فقيراً فليأكل) منه (بالمعروف) بقدر أجرة عمله (فإذا دفعتم إليهم) أي إلى اليتامى (أموالهم فأشهدوا عليهم) أنهم تسلموها وبرئتم لئلا يقع اختلاف فترجعوا إلى البينة ، وهذا الأمر إرشاد (وكفى بالله) الباء زائدة (حسيباً) حافظاً لأعمال خلقه ومحاسبهم
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "وابتلوا اليتامى"، واختبروا عقول يتاماكم في أفهامهم ، وصلاحهم في أديانهم ، وإصلاحهم أموالهم ، كما:
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة والحسن في قوله: "وابتلوا اليتامى"، قالا يقول: اختبروا اليتامى.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: أما "ابتلوا اليتامى"، فجربوا عقولهم.
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "وابتلوا اليتامى"، قال: عقولهم.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله : "وابتلوا اليتامى"، قال : اختبروهم.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: "وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح"، قال : اختبروه في رأيه وفي عقله كيف هو. إذا عرف أنه قد أنس منه رشد، دفع إليه ماله . قال : وذلك بعد الاحتلام.
قال أبو جعفر: وقد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى الابتلاء الاختبار، بما فيه الكفاية عن إعادته.
وأما قوله: "إذا بلغوا النكاح"، فإنه يعني : إذا بلغوا الحلم ، كما:
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "حتى إذا بلغوا النكاح"، حتى إذا احتلموا.
حدثني علي بن داود فقال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس : "حتى إذا بلغوا النكاح"، قال : عند الحلم.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: "حتى إذا بلغوا النكاح"، قال : الحلم.
قال أبو جعفر: يعني بقوله : "فإن آنستم منهم رشدا"، فإن وجدتم منهم وعرفتم ، كما:
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس : "فإن آنستم منهم رشدا"، قال : عرفتم منهم.
يقال: آنست من فلان خيراً وبراً -بمد الألف- إيناساً وأنست به آنس أنساً، بقصر ألفها، إذا ألفه.
وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله: فإن أحسيتم منهم رشداً، بمعنى : أحسستم ، أي : وجدتم.
واختلف أهل التأويل في معنى: الرشد الذي ذكره الله في هذه الآية.
فقال بعضهم: معنى الرشد في هذا الموضع ، العقل والصلاح في الدين.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: "فإن آنستم منهم رشدا"، عقولاً وصلاحاً.
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة "فإن آنستم منهم رشدا"، يقول : صلاحاً في عقله ودينه.
وقال آخرون: معنى ذلك : صلاحاً في دينهم ، وإصلاحا لأموالهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثني أبي ، عن مبارك، عن الحسن قال : رشداً في الدين ، وصلاحاً، وحفظاً للمال.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس : "فإن آنستم منهم رشدا"، في حالهم ، والإصلاح في أموالهم.
وقال آخرون: بل ذلك العقل ، خاصة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد قال: لا ندفع إلى اليتيم ماله وإن أخذ بلحيته ، وإن كان شيخاً، حتى يؤنس منه رشده ، العقل.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: "آنستم منهم رشدا"، قال : العقل.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا أبو شبرمة، عن الشعبي قال: سمعته يقول: إن الرجل ليأخذ بلحيته وما بلغ رشده.
وقال آخرون: بل هو الصلاح والعلم بما يصلحه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج: "فإن آنستم منهم رشدا"، قال : صلاحاً وعلماً بما يصلحه.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بمعنىالرشد في هذا الموضع ، العقل وإصلاح المال، لإجماع الجميع على أنه إذا كان كذلك ، لم يكن ممن يستحق الحجر عليه في ماله، وحوز ما في يده عنه ، وإن كان فاجراً في دينه . وإذ كان ذلك إجماعاً من الجميع ، فكذلك حكمه إذا بلغ وله مال في يدي وصي أبيه ، أو في يد حاكم قد ولي ماله لطفولته ، واجب عليه تسليم ماله إليه ، إذا كان عاقلاً، بالغاً، مصلحاً لماله ، غير مفسد، لأن المعنى الذي به يستحق أن يولى على ماله الذي هو في يده ، هو المعنى الذي به يستحق أن يمنع يده من ماله الذي هو في يد ولي ، فإنه لا فرق بين ذلك.
وفي إجماعهم على أنه غير جائز حيازة ما في يده في حال صحة عقله وإصلاح ما في يده ، والدليل الواضح على أنه غير جائز منع يده مما هو له في مثل ذلك الحال ، وإن كان قبل ذلك في يد غيره ، لا فرق بينهما. ومن فرق بين ذلك ، عكس عليه القول في ذلك ، وسئل الفرق بينهما من أصل أو نظير، فلن يقول في أحدهما قولاً إلا ألزم في الآخر مثله.
فإذ كان ما وصفنا من الجميع إجماعاً، فبين أن الرشد الذي به يستحق اليتيم ، إذا بلغ فأونس منه، دفع ماله إليه ، ما قلنا من صحة عقله وإصلاح ماله.
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره ولاة أموال اليتامى. يقول الله لهم : فإذا بلغ أيتامكم الحلم ، فآنستم منهم عقلاً وإصلاحاً لأموالهم ، فادفعوا إليهم أموالهم ولا تحبسوها عنهم.
وأما قوله: "ولا تأكلوها إسرافا"، يعني : بغير ما أباحه الله لك ، كما:
حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة والحسن: "ولا تأكلوها إسرافا"، يقول : لا تسرف فيها.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي: "ولا تأكلوها إسرافا"، قال : يسرف في الأكل.
وأصل الإسراف : تجاوز الحد المباح إلى ما لم يبح . وربما كان ذلك في الإفراط ، وربما كان في التقصير. غير أنه إذا كان في الإفراط ، فاللغة المستعملة فيه أن يقال: أسرف يسرف إسرافاً، وإذا كان كذلك في التقصير، فالكلام منه : سرف يسرف سرفاً، يقال : مررت بكم فسرفتكم، يراد منه: فسهوت عنكم وأخطاتكم ، كما قال الشاعر:
أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ما في عطائهم من ولا سرف
يعني بقوله: ولا سرف، لا خطأ فيه، يراد به: أنهم يصيبون مواضع العطاء فلا يخطئونها.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله : "وبدارا" مبادرة.
وهو مصدر من قول القائل : بادرت هذا الأمر مبادرة وبداراً.
وإنما يعني بذلك جل ثناؤه ولاة أموال اليتامى. يقول لهم: لا تأكلوا أموالهم إسرافاً -يعني ما أباح الله لكم أكله- ولا مبادرة منكم بلوغهم وإيناس الرشد منهم ، حذراً أن يبلغوا فيلزمكم تسليمه إليهم ، كما:
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: "إسرافا وبدارا"، يعني: أكل مال اليتيم مبادراً أن يبلغ ، فيحول بينه وبين ماله.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة والحسن: "ولا تأكلوها إسرافا وبدارا"، يقول: لا تسرف فيها ولا تبادره.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: "وبدارا"، تبادراً أن يكبروا فيأخذوا أموالهم.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: "إسرافا وبدارا"، قال: هذه لولي اليتيم يأكله، جعلوا له أن يأكل معه ، إذا لم يجد شيئا يضع يده معه ، فيذهب يؤخره ، يقول : لا أدفع إليه ماله، وجعلت تأكله تشتهي أكله ، لأنك إذا لم تدفعه إليه لك فيه نصيب ، وإذا دفعته إليه فليس لك فيه نصيب.
وموضع "أن" في قوله: "أن يكبروا"، نصب بـ المبادرة، لأن معنى الكلام : لا تأكلوها مبادرة كبرهم.
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "ومن كان غنيا"، من ولاة أموال اليتامى على أموالهم، فليستعفف بماله عن أكلها -بغير الإسراف والبدار أن يكبروا- بما أباح الله له أكلها به ، كما:
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش، وابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله: "ومن كان غنيا فليستعفف"، قال: بغناه من ماله، حتى يستغني عن مال اليتيم.
وبه قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور، عن إبراهيم في قوله: "ومن كان غنيا فليستعفف"، بغناه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية، عن ليث ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس في قوله: "ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف"، قال: من مال نفسه ، ومن كان فقيراً منهم ، إليها محتاجاً، فليأكل بالمعروف.
قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في المعروف الذي أذن الله جل ثناؤه لولاة أموالهم أكلها به، إذا كانوا أهل فقر وحاجة إليها.
فقال بعضهم: ذلك هو القرض يستقرضه من ماله ، ثم يقضيه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع، عن سفيان وإسرائيل، عن أبي إسحق، عن حارثة بن مضرب قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إني أنزلت مال الله تعالى مني بمنزلة مال اليتيم، إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن عطية، عن زهير، عن العلاء بن المسيب، عن حماد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله : "ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف"، قال: وهو القرض.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر قال ، سمعت يونس ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة السلماني أنه قال في هذه الآية : "ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف"، قال: الذي ينفق من مال اليتيم ، يكون عليه قرضاً.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين قال ، سألت عبيدة عن قوله : "ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف"، قال : إنما هو قرض. ألا ترى أنه قال : "فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم"؟ قال: فظننت أنه قالها برأيه.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا هشام ، عن محمد، عن عبيدة في قوله :"ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف"، وهو عليه قرض.
حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم، عن سلمة بن علقمة، عن ابن سيرين، عن عبيدة في قوله: "ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف"، قال : المعروف القرض، ألا ترى إلى قوله : "فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم"؟.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، حدثنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة، مثل حديث هشام.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: "ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف"، يعني القرض.
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف"، يقول : إن كان غنياً، فلا يحل له من مال اليتيم أن يأكل منه شيئاً، وإن كان فقيراً، فليستقرض منه ، فإذا وجد ميسرة فليعطه ما استقرض منه ، فذلك أكله بالمعروف.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت أبي يذكر، عن حماد، عن سعيد بن جبير قال: يأكل قرضاً بالمعروف.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حجاج ، عن سعيد بن جبير قال : هو القرض ، ما أصاب منه من شيء قضاه إذا أيسر، يعني قوله : "ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف".
حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية، عن هشام الدستوائي قال ، حدثنا حماد قال ، سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية : "ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف"، قال: إن أخذ من ماله قدر قوته قرضاً، فإن أيسر بعد قضاه ، وإن حضره الموت ولم يوسر، تحلله من اليتيم ، وإن كان صغيراً تحلله من وليه.
حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا شعبة، عن حماد، عن سعيد بن جبير: فليأكل قرضاً.
حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن حماد، عن سعيد بن جبير: "ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف"، قال: هو القرض.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن عطاء بن السائب ، عن الشعبي: "ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف"، قال: لا يأكله إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة، فإن أكل منه شيئاً قضاه.
حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا شعبة، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "فليأكل بالمعروف"، قال: قرضاً.
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "فليأكل بالمعروف"، قال : سلفاً من مال يتيمه.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وعن حماد، عن سعيد بن جبير، "فليأكل بالمعروف"، قالا: هو القرض، قال الثوري: وقاله الحكم أيضاً، ألا ترى أنه قال: "فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم"؟
حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، حدثنا حجاج، عن مجاهد قال: هو القرض ، ما أصاب منه من شيء قضاه إذا أيسر، "ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف".
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: "فليأكل بالمعروف"، قال : القرض ، ألا ترى إلى قوله : "فإذا دفعتم إليهم أموالهم"؟.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عاصم، عن أبي وائل قال: قرضاً.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن سعيد بن جبير قال: إذا احتاج الولي أو افتقر فلم يجد شيئاً، أكل من مال اليتيم وكتبه ، فإن أيسر قضاه ، وإن لم يوسر حتى تحضره الوفاة، دعا اليتيم فاستحل منه ما أكل.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله : "ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف"، من مال اليتيم ، بغير إسراف ، ولا قضاء عليه فيما أكل منه.
واختلف قائلو هذا القول في معنى: أكل ذلك بالمعروف.
فقال بعضهم : أن يأكل من طعامه بأطراف الأصابع ، ولا يلبس منه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان، عن السدي قال ، أخبرني من سمع ابن عباس يقول: "ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف"، قال: بأطراف أصابعه.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبد الله الأشجعي، عن سفيان ، عن السدي، عمن سمع ابن عباس يقول، فذكر مثله.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: "ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف"، يقول: فمن كان غنياً، من ولي مال اليتيم ، فليستعفف عن أكله ، "ومن كان فقيرا"، من ولي مال اليتيم ، فليأكل معه بأصابعه ، لا يسرف في الأكل ، ولا يلبس.
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا حرمي بن عمارة قال ، حدثنا شعبة، عن عمارة، عن عكرمة في مال اليتيم: يدك مع أيديهم ، ولا تتخذ منه قلنسوة.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء وعكرمة قالا: تضع يدك مع يده.
وقال آخرون: بل المعروف في ذلك : أن يأكل ما يسد جوعه ، ويلبس ما وارى العورة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم قال: إن المعروف ليس بلبس الكتان ولا الحلل ، ولكن ما سد الجوع ووارى العورة.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم قال : كان يقال: ليس المعروف بلبس الكتان والحلل ، ولكن المعروف ما سد الجوع ووارى العورة.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري، عن مغيرة، عن إبراهيم نحوه.
حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، حدثنا أبو معبد قال: سئل مكحول عن والي اليتيم ، ما أكله بالمعروف إذا كان فقيراً؟ قال : يده مع يده . قيل له : فالكسوة؟ قال : يلبس من ثيابه ، فأما أن يتخذ من ماله مالاً لنفسه فلا.
حدثت أبو كريب قال ، حدثنا الأشجعي، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله : "فليأكل بالمعروف"، قال : ما سد الجوع ووارى العورة. أما إنه لبس لبوس الكتان والحلل.
وقال آخرون: بل ذلك المعروف، أكل تمرة، وشرب رسل ماشيته ، بقيامه على ذلك ، فأما الذهب والفضة، فليس له أخذ شيء منهما إلا على وجه القرض.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن القاسم بن محمد قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : إن في حجري أموال أيتام؟ وهو يستأذنه أن يصيب منها، فقال ابن عباس : ألست تبغي ضالتها؟ قال: بلى! قال : ألست تهنأ جرباها؟ قال : بلى! قال : ألست تلط حياضها؟ قال: بلى!، قال : ألست تفرط عليها يوم وردها؟ قال : بلى! قال : فأصب من رسلها! يعني : من لبنها.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد قال: جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال: إن في حجري أيتاماً، وإن لهم إبلاً ولي إبل، وأنا أمنح في إبلي وأفقر، فماذا يحل لي من ألبانها؟ قال : إن كنت تبغي ضاللها، وتهنأ جرباها، وتلوط حوضها، وتسقي عليها، فاشرب غير مضر بنسل ، ولا ناهك في الحلب.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود، عن أبي العالية في هذه الآية: "ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف"، قال: من فضل الرسل والتمرة.
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود، عن أبي العالية في والي مال اليتيم قال : يأكل من رسل الماشية ومن التمرة، لقيامه عليه ، ولا يأكل من المال. وقال : ألا ترى أنه قال: "فإذا دفعتم إليهم أموالهم"؟
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال سمعت داود، عن رفيع أبي العالية قال: رخص لولي اليتيم أن يصيب من الرسل ويأكل من التمرة، وأما الذهب والفضة فلا بد أن ترد. ثم قرأ: "فإذا دفعتم إليهم أموالهم"، ألا ترى أنه قال : لا بد من أن يدفع ؟
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عوف، عن الحسن أنه قال : إنما كانت أموالهم إذ ذاك النخل والماشية، فرخص لهم إذا كان أحدهم محتاجاً أن يصيب من الرسل.
حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا إسمعيل بن سالم، عن الشعبي في قوله: "ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف"، قال: إذا كان فقيراً أكل من التمر، وشرب من اللبن ، وأصاب من الرسل.
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: "ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف"، ذكر لنا "أن عم ثابت بن رفاعة -وثابت يومئذ يتيم في حجره- من الأنصار، أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله ، إن ابن أخي يتيم في حجري ، فما يحل لي من ماله؟ قال: أن تأكل بالمعروف ، من غير أن تقي مالك بماله ، ولا تتخذ من ماله وفراً". وكان اليتيم يكون له الحائط من النخل ، فيقوم وليه على صلاحه وسقيه ، فيصيب من تمرته ، أو تكون له الماشية، فيقوم وليه على صلاحها، أو يلي علاجها ومؤونتها، فيصيب من جزازها وعوارضها ورسلها . فأما رقاب المال وأصول المال ، فليس له أن يستهلكه.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف"، يعني ركوب الدابة وخدمة الخادم . فإن أخذ من ماله قرضاً في غنى، فعليه أن يؤديه ، وليس له أن يأكل من ماله شيئاً.
وقال آخرون منهم: له أن يأكل من جميع المال ، إذا كان يلي ذلك ، وإن أتى على المال، ولا قضاء عليه.
ذكر من قال ذلك:
حدثت أبو كريب قال، حدثنا إسمعيل بن صبيح، عن أبي أويس، عن يحيى بن سعيد وربيعة جميعاً، عن القاسم بن محمد قال : سئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عما يصلح لولي اليتيم قال : إن كان غنياً فليستعفف، وإن كان فقيراً فليأكل بالمعروف.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرنا يحيى بن أيوب ، عن محمد بن عجلان ، عن زيد بن أسلم، عن أبيه : أن عمر بن الخطاب كان يقول : يحل لولي الأمر ما يحل لولي اليتيم: "ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف".
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا الفضل بن عطية، عن عطاء بن أبي رباح في قوله : "ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف"، قال : إذا احتاج فليأكل بالمعروف ، فإن أيسر بعد ذلك فلا قضاء عليه.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا: ذكر الله تبارك وتعالى مال اليتامى فقال: "ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف"، ومعروف ذلك: أن يتقي الله في يتيمه.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيم: أنه كان لا يرى قضاءً على ولي اليتيم إذا أكل وهو محتاج.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم: "فليأكل بالمعروف"، في الوصي ، قال : لا قضاء عليه.
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم أنه قال في هذه الآية: "ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف"، قال : إذا عمل فيه ولي اليتيم أكل بالمعروف.
حدثنا بشر بن محمد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول: إذا احتاج أكل بالمعروف من المال، طعمةً من الله له.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن الحسن البصري قال : "قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن في حجري يتيماً، أفأضربه؟ قال: فيما كنت ضارباً منه ولدك، قال : أفاصيب من ماله؟ قال : بالمعروف، غير متأثل مالاً، ولا واق مالك بماله".
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح، عن الزبير بن موسى، عن الحسن البصري، مثله.
حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء أنه قال : يضع يده مع أيديهم فيأكل معهم ، كقدر خدمته وقدر عمله.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن هشام بن عروة، عن أبيه ، عن عائشة قالت: والي اليتيم ، إذا كان محتاجاً، يأكل بالمعروف ، لقيامه بماله.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد، وسألته عن قول الله تبارك وتعالى: "ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف"، قال: إن استغنى كف، وإن كان فقيراً أكل بالمعروف. قال : أكل بيده معهم ، لقيامه على أموالهم ، وحفظه إياها، يأكل مما يأكلون منه . وإن استغنى كف عنه ولم يأكل منه شيئاً.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال: المعروف الذي عناه الله تبارك وتعالى في قوله: "ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف"، أكل مال اليتيم عند الضرورة والحاجة إليه ، على وجه الاستقراض منه ، فأما على غير ذلك الوجه ، فغير جائز له أكله.
وذلك أن الجميع مجمعون على أن والي اليتيم لا يملك من مال يتيمه إلا القيام بمصلحته . فلما كان إجماعاً منهم أنه غير مالكه ، وكان غير جائز لأحد أن يستهلك مال أحد غيره ، يتيماً كان رب المال أو مدركاً رشيداً، وكان عليه إن تعدى فاستهلكه بأكل أو غيره ، ضمانه لمن استهلكه عليه ، بإجماع من الجميع ، وكان والي اليتيم سبيله سبيل غيره في أنه لا يملك مال يتيمه ، كان كذلك حكمه فيما يلزمه من قضائه إذا أكل منه ، سبيله سبيل غيره ، وإن فارقه في أن له الاستقراض منه عند الحاجة إليه، كفا له الاستقراض عليه عند حاجته إلى ما يستقرض عليه ، إذا كان قيماً بما فيه مصلحته.
ولا معنى لقول من قال: إنما عني بالمعروف في هذا الموضع ، أكل والي اليتيم من مال اليتيم ، لقيامه عليه على وجه الاعتياض على عمله وسعيه . لأن لوالي اليتيم أن يؤاجر نفسه منه للقيام بأموره، إذا كان اليتيم محتاجاً إلى ذلك، بأجرة معلومة، كما يستأجر له غيره من الأجراء، وكما يشتري له من يعينه ، غنياً كان الوالي أو فقيراً.
وإذ كان ذلك كذلك ، وكان الله تعالى ذكره قد دل بقوله: "ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف"، على أن أكل مال اليتيم إنما أذن لمن أذن له من ولاته في حال الفقر والحاجة، وكانت الحال التي للولاة أن يؤجروا أنفسهم من الأيتام مع حاجة الأيتام إلى الأجراء، غير مخصوص بها حال غنىً ولا حال فقر، كان معلوماً أن المعنى الذي أبيح لهم من أموال أيتامهم في كل أحوالهم ، غير المعنى الذي أبيح لهم ذلك فيه في حال دون حال.
ومن أبى ما قلنا، ممن زعم أن لولي اليتيم أكل مال يتيمه عند حاجته إليه على غير وجه القرض، استدلالاً بهذه الآية، قيل له: أجمع على أن الذي قلت تأويل قوله: "ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف"؟.
فإن قال: لا!
قيل له: فما برهانك على أن ذلك تأويله ، وقد علمت أنه غير مالك مال يتيمه؟
فإن قال: لأن الله أذن له بأكله!
قيل له: أذن له بأكله مطلقاً أم بشرط؟
فإن قال: بشرط، وهو أن يأكله بالمعروف.
قيل له: وما ذلك المعروف؟ وقد علمت القائلين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين أن ذلك هو أكله قرضاً وسلفاً؟
ويقال لهم أيضاً مع ذلك: أرأيت المولى عليهم في أموالهم من المجانين والمعاتيه ، ألولاة أموالهم أن يأكلوا من أموالهم عند حاجتهم إليه غير وجه القرض لا الاعتياض من قيامهم بها، كما قلتم ذلك في أموال اليتامى فأبحتموها لهم؟
فإن قالوا : ذلك لهم ، خرجوا من قول جميع الحجة.
وإن قالوا: ليس ذلك لهم.
قيل لهم: فما الفرق بين أموالهم وأموال اليتامى، وحكم ولاتهم واحد: في أنهم ولاة أموال غيرهم؟ فلن يقولوا في أحدهما شيئاً إلا ألزموا في الآخر مثله.
ويسألون كذلك عن المحجور عليه : هل لمن يلي ماله أن يأكل ماله عند حاجته إليه؟ نحو سؤالناهم عن أموال المجانين والمعاتيه.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإذا دفعتم ، يا معشر ولاة أموال اليتامى، إلى اليتامى أموالهم ، "فأشهدوا عليهم"، يقول : فأشهدوا على الأيتام باستيفائهم ذلك منكم، ودفعكموه إليهم، كما:
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم"، يقول : إذا دفع إلى اليتيم ماله ، فليدفعه إليه بالشهود، كما أمره الله تعالى.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره : وكفى بالله كافياً من الشهود الذين يشهدهم والي اليتيم على دفعه مال يتيمه إليه، كما:
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: "وكفى بالله حسيبا"، يقول : شهيداً.
يقال منه: قد أحسبني الذي عندي، يراد به ، كفاني. وسمع من العرب : لأحسبنكم من الأسودين، يعنى به: من الماء والتمر، والمحسب من الرجال : المرتفع الحسب ، والمحسب، المكفي.
فيه سبع عشرة مسألة.
الأولى- قوله تعالى:" وابتلوا اليتامى" الابتلاء الاختبار وقد تقدم وهذه الآية خطاب للجميع في بيان كيفية دفع أموالهم، وقيل: إنها نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه. وذلك أن رفاعه توفي وترك ابنه وهو صغير، فأتى عم ثابت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله، ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية .
الثانية- واختلفت العلماء في معنى الاختبار، فقيل: هو أن يتأمل الوصي أخلاق يتيمه ويستمع إلى أغراضه، فيحصل له العلم بنجابته، والمعرفة بالسعي في مصالحه وضبط ماله، والإهمال لذلك فإذا توسم الخير قال علماؤنا وغيرهم: لا بأس أن يدفع إليه شيئاً من ماله يبيح له التصرف فيه، فإن نماه وحسن النظر فيه فقد وقع الاختبار ووجب على الوصي تسليم جميع ماله إليه. وإن أساء النظر فيه فقد وجب عليه إمساك ماله عنده. وليس في العلماء من يقول: إنه إذا اختبر الصبي فوجده رشيداً ترتفع الولاية عنه،وأنه يجب دفع ماله إليه وإطلاق يده في التصرف، لقوله تعالى:" حتى إذا بلغوا النكاح" وقال جماعة من الفقهاء : الصغير لا يخلوا من أحد أمرين، إما أن يكون غلاماً أو جارية،فإن كان غلاماً رد النظر إليه في نفقة الدار شهراً، أو أعطاه شيئاً نزراً يتصرف فيه، ليعرف كيف تدبيره وتصرفه، وهو مع ذلك يراعيه لئلا يتلفه، فإن أتلفه فلا ضمان على الوصي. فإذا رآه متوخياً سلم إليه ماله وأشهد عليه. وإن كانت جارية رد إليها ما يرد إلى ربة البيت من تدبير بيتها والنظر فيه في الاستغزال والاستقصاء على الغزالات في دفع القطن وأجرته واستيفاء الغزل وجودته. فإن رآها رشيدة سلم أيضاً إليها مالها وأشهد عليها، وإلا بقيا تحت الحجر حتى يؤنس رشدهما. وقال الحسن ومجاهد وغيرهما: اختبروهم في عقولهم وأديانهم وتنمية أموالهم .
الثالثة- قوله تعالى:" حتى إذا بلغوا النكاح" أي الحلم لقوله تعالى:" وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم" [النور:59] أي البلوغ، وحال النكاح. والبلوغ يكون بخمسة أشياء: ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء واثنان يختصان بالنساء وهما الحيض والحبل.فأما الحيض والحبل فلم يختلف العلماء في أنه بلوغ، وأن الفرائض والأحكام تجب بهما، واختلفوا في الثلاث، فأما الإنبات والسن فقال الأوزاعي والشافعي وابن حنبل: خمس عشرة سنة بلوغ لمن لم يحتلم وهو قول ابن وهب وأصبغ وعبد الملك بن الماجشون وعمر بن عبد العزيز وجماعة من أهل المدينة، واختاره ابن العربي، وتجب الحدود والفرائض عندهم على من بلغ هذا السن. قال أصبغ بن الفرج: والذي نقول به إن حد البلوغ الذي تلزم به الفرائض والحدود خمس عشرة سنة، وذلك أحب ما فيه إلي وأحسنه عندي، لأنه الحد الذي يسهم فيه في الجهاد ولمن حضر القتال. واحتج بحديث ابن عمر إذ عرض يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجيز، ولم يجز يوم أحد، لأنه كان ابن أربع عشرة سنة. أخرجه مسلم . قال أبو عمر بن عبد البر: هذا فيمن عرف مولده، وأما من جهل مولده وعدة سنة أو جحده فالعمل فيه بما روى نافع عن أسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الأجناد: ألا تضربوا الجزية إلا على من جرت عليه المواسي وقال عثمان في غلام سرق: انظروا إن كان قد أخضر مئزره فاقطعوه. و"قال عطية القرظي: عرض رسول الله صلى الله عله وسلم بني قريظة فكل من أنبت منهم قتله بحكم سعد بن معاذ، ومن لم ينبت استحياه، فكنت فيمن لم ينبت فتركني"، وقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما: لا يحكم لمن لم يحتلم حتى يبلغ ما لم يبلغه أحد إلا احتلم وذلك سبع عشرة سنة، فيكون عليه حينئذ الحد إذا أتى ما يجب عليه الحد. وقال مالك مرة: بلوغه بأن يغلظ صوته وتنشق أرنبته، وعن أبي حنيفة رواية أخرى: تسع عشرة سنة وهو الأشهر وقال في الجارية : بلوغها لسبع عشرة سنة وعليها النظر. وروى اللؤلؤي عنه ثمان عشرة سنة وقال داود: لا يبلغ بالسن ما لم يحتلم ولو بلغ أربعين سنة فأما الإنبات فمنهم من قال: يستدل به على البلوغ، روى عن ابن القاسم وسالم وقاله مالك مرة، والشافعي في أحد قوليه وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور. وقيل: هو بلوغ، إلا أن يحكم به في الكفار فيقتل من أنبت ويجعل من لم ينبت في الذراري، قاله الشافعي في القول الآخر، لحديث عطية القرظي ولا اعتبار بالخضرة والزغب وإنما يترتب الحكم على الشعر. وقال ابن القاسم: سمعت مالكاً يقول: العمل عندي على حديث عمر بن الخطاب: لو جرت عليه المواسي لحددته قال أصبغ: قال لي ابن القاسم وأحب إلي ألا يقام عليه الحد إلا باجتماع الإنبات والبلوغ. وقال أبو حنيفة:لا يثبت بالإنبات حكم، وليس هو ببلوغ ولا دلالة على البلوغ. وقال الزهري وعطاء: لا حد على من لم يحتلم وهو قول الشافعي ومال إليه مالك مرة، وقال به بعض أصحابه وظاهره عدم اعتبار الإنبات والسن. قال ابن العربي: إذا لم يكن حديث ابن عمر دليلاً في السن فكل عدد يذكرونه من السنين فإنه دعوى، والسن التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من سنة لم يعتبرها ولا قام في الشرع دليل عليها، وكذلك اعتبر النبي صلى الله عله وسلم الإنبات في بني قريظة، فمن عذيري ممن ترك أمرين اعتبرهما النبي صلى الله عله وسلم فيتأوله ويعتبر ما لم يعتبره النبي صلى الله عليه وسلم لفظاً، ولا جعل الله له في الشريعة
قلت هذا قوله هنا، وقال في سورة الأنفال عكسه، إذ لم يعرج على حديث ابن عمر هناك، وتأوله علماؤنا، وأن موجبه الفرق بين من يطيق القتال ويسهم له وهو ابن خمس عشرة سنة، ومن لا يطيقه فلا يسهم له فيجعل في العيال، وهو الذي فهمه عمر بن عبد العزيز من الحديث . والله أعلم .
الرابعة- قوله تعالى:" فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم" أي أبصرتم ورأيتم، ومنه قوله تعالى" آنس من جانب الطور نارا" [القصص:29] أي أبصر ورأى .
قال الأزهري : تقول العرب اذهب فاستأنس هل ترى أحداً، معناه تبصر. قال النابغة :
....على مستأنس وحد
وأراد ثوراً وحشياً يتبصر هل يرى قانصاً فيحذره وقيل: آنست وأحسست ووجدت بمعنى واحد، ومنه قوله تعالى: "فإن آنستم منهم رشدا" أي علمتم والأصل فيه أبصرتم، وقراءة العامة رشداً بضم الراء وسكون الشين، وقرأ السلمي وعيسى والثقفي وابن مسعود رضي الله عنهم رشداً بفتح الراء والشين، وهما لغتان: وقيل: رشداً مصدر ورشد. ورشداً مصدر رشد، وكذلك الرشاد، والله أعلم .
الخامسة- واختلف العلماء في تأويل رشداً فقال الحسن وقتادة وغيرهما: صلاحاً في العقل والدين وقال ابن عباس والسدي والثوري: صلاحاً في العقل وحفظ المال.
وقال سعيد بن جبير والشعبي: إن الرجل ليأخذ بلحيته وما بلغ رشده، فلا يدفع إلى اليتيم ماله وإن شيخاً حتى يؤنس منه رشده وهكذا قال الضحاك: لا يعطى اليتيم وإن بلغ مائة سنة حتى يعلم منه إصلاح ماله وقال مجاهد: رشداً يعني في العقل خاصة. وأكثر العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم وإن شاخ لا يزول الحجر عنه، وهو مذهب مالك وغيره. وقال أبو حنيفة: لا يحجر على الحر البالغ إذا بلغ الرجال، ولو كان أفسق الناس وأشدهم تبذيراً إذا كان عاقلاً. وبه قال زفر بن الهذيل، وهو مذهب النخعي. واحتجوا في ذلك بما رواه قتادة "عن أنس أن حبان بن منقذ كان يبتاع وفي عقدته ضعف فقيل:
يا رسول الله احجر عليه، فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف. فاستدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تبع. فقال: لا أصبر. فقال له: فإذا بايعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثاً" قالوا: فلما سأله القوم الحجر عليه لما كان في تصرفه من الغبن ولم يفعل عليه السلام، ثبت أن الحجر لا يجوز. وهذا لا حجة لهم فيه، لأنه مخصوص بذلك على ما بيناه في البقرة فغيره بخلافه وقال الشافعي : إن كان مفسداً لماله ودينه، أو كان مفسداً لماله دونه دينه حجر عليه، وإن كان مفسداً لدينه مصلحاً لماله فعلى وجهين: أحدهما يحجر عليه، وهو اختيار أبي العباس بن شريح. والثاني لا حجر عليه وهو اختيار أبي إسحاق المروزي والأظهر من مذهب الشافعي: قال الثعلبي: وهذا الذي ذكرناه من الحجر على السفيه قول عثمان وعلي والزبير وعائشة وابن عباس وعبد الله بن جعفر رضوان الله عليهم ومن التابعين شريح وبه قال الفقهاء: مالك وأهل المدينة والأوزاعي وأهل الشام وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبو ثور. قال الثعلبي: وادعى أصحابنا الإجماع في هذه المسألة.
السادسة- إذا ثبت هذا فاعلم أن دفع المال يكون بشرطين: إيناس الرشد والبلوغ فإن وجد أحدهما دون الآخر لم يجز تسليم المال، وكذلك نص الآية وهو رواية ابن القاسم وأشهب وابن وهب عن مالك في الآية. وهو قول جماعة الفقهاء إلا أبا حنيفة وزفر والنخعي فإنهم أسقطوا إيناس الرشد ببلوغ خمس وعشرين سنة. قال أبو حنيفة: لكونه جداً وهذا يدل على ضعف قوهل،وضعف ما احتج به أبو بكر الرازي في أحكام القرآن له من استعمال الآيتين حسب ما تقدم فإن هذا من باب المطلق والمقيد، والمطلق يرد إلى المقيد باتفاق أهل الأصول. وماذا يغني كونه جداً إذا كان غير جد، أي بخت .
إلا أن علماءنا شرطوا في الجارية دخول الزوج بها مع البلوغ، وحينئذ يقع الابتلاء في الرشد. ولم يره أبو حنيفة والشافعي ورأوا الاختبار في الذكر والأنثى على ما تقدم.
وفرق علماؤنا بينهما بأن قالوا: الأنثى مخالفة للغلام لكونها محجوبة لا تعاني الأمور ولا تبرز لأجل البكارة فلذلك وقف فيها على وجود النكاح، فبه تفهم المقاصد كلها. والذكر بخلافها، فإنه بتصرفه وملاقاته للناس من أول نشئه إلى بلوغه يحصل له الاختبار، ويكمل عقله بالبلوغ فيحصل له الغرض، وما قاله الشافعي أصوب، فإن نفس الوطء بإدخال الحشفة لا يزيدها في رشدها إذا كانت عارفة بجميع أمورها ومقاصدها، غير مبذرة لمالها. ثم زاد علماؤنا فقالوا: لا بد بعد دخول زوجها من مضي مدة من الزمان تمارس فيها الأحوال. قال ابن العربي: وذكر علماؤها في تحديدها أقوالاً عديدة، منها الخمسة الأعوام والستة والسبعة في ذات الأب. وجعلوا في اليتيمة التي لا أب لها ولا وصي عليها عاماً واحداً بعد الدخول، وجعلوا في المولى عليها مؤبداً حتى يثبت رشدها. وليس في هذا كله دليل، وتحديد الأعوام في ذات الأب عسير، وأعسر منه تحديد العام في اليتيمة. وأما تمادي الحجر في المولى عليها حتى يتبين رشدها فيخرجها الوصي عنه، أو يخرجها الحكم منه فهو ظاهر القرآن والمقصود من هذا كله داخل تحت قوله تعالى :" فإن آنستم منهم رشدا" فتعين اعتبار الرشد ولكن يختلف إيناسه بحسب اختلاف حال الراشد. فاعرفه وركب عليه واجتنب التحكم الذي لا دليل عليه .
السابعة- واختلوا فيما فعلته ذات الأب في تلك المدة، فقيل: هو محمول على الرد لبقاء الحجر، وما عملته بعده فهو محمول على الجواز، وقال بعضهم: ما عملته في تلك المدة فقيل: هو محمول على الرد لبقاء الحجر، وما عملته بعده فهو محمول على الجواز. وقال بعضهم: ما عملته في تلك المدة محمول على الرد إلا أن يتبين فيه السداد وما عملته بعد ذلك محمول على الإمضاء حتى يتبين فيه السفه .
الثامنة- واختلفوا في دفع المال إلى المحجور عليه هل يحتاج إلى السلطان أم لا؟ فقالت فرقة: لا بد من رفعه إلى السلطان، ويثبت عنده رشده ثم يدفع إليه ماله، وقالت فرقة: ذلك موكول إلى اجتهاد الوصي دون أن يحتاج إلى رفعه إلى السلطان. قال ابن عطية: والصواب في أوصياء زماننا ألا يستغني عن رفعه إلى السلطان وثبوت الرشد عنده، لما حفظ من تواطؤ الأوصياء على أن يرشد الصبي، ويبرأ المحجور عليه لسفهه وقلة تحصيله في ذلك الوقت.
التاسعة- فإذا سلم المال إليه بوجود الرشد، ثم عاد إلى السفه بظهور تبذير وقلة تدبير عاد إليه الحجر عندها، وعند الشافعي في أحد قوليه. وقال أبو حنيفة: لا يعود، لأنه بالغ عاقل، بدليل جواز إقراره في الحدود والقصاص. ودليلنا قوله تعالى:" ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما" وقال تعالى:" فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل" [البقرة:282] ولم يفرق بين أن يكون محجوراً سفيهاً أو يطرأ ذلك عليه بعد الإطلاق .
العاشرة- ويجوز للوصي أن يصنع في مال اليتيم ما كان للأب أن يصنعه من تجارة وإبضاع وشراء وبيع وعليه أن يؤدي الزكاة من سائر أمواله: عين وحرث وماشية وفطرة ويؤدي عنه أروش الجنايات وقيم المتلفات ونفقة الوالدين وسائر الحقوق اللازمة.ويجوز أن يزوجه ويؤدي عنه الصداق، ويشتري له جارية يتسررها، ويصالح له وعليه على وجه النظر له وإذا قضى الوصي بعض الغرماء بقي من المال بقية تفي ما عليه من الدين كان فعل الوصي جائزاً فإن تلف باقي المال فلا شيء لباقي الغرماء على الوصي ولا على الذين اقتضوا وإن اقتضى الغرماء جميع المال ثم أتى غرماء آخرون فإن كان علاماً بالدين الباقي أو كان الميت معروفاً بالدين الباقي ضمن الوصي لهؤلاء الغرماء ما كان يصيبهم في المحاصة، ورجع على الذين اقتضوا دينهم بذلك وإن لم يكن عالماً بذلك ولا كان الميت معروفاً بالدين فلا شيء على الوصي وإذا دفع الوصي دين الميت بغير إشهاد ضمن. وأما إن أشهد وطال الزمان حتى مات الشهود فلا شيء عليه، وقد مضى في البقرة عند قوله تعالى:" وإن تخالطوهم فإخوانكم" [البقرة:220] من أحكام الوصي في الإنفاق وغيره ما فيه كفاية، والحمد لله .
الحادية عشرة- قوله تعالى:" ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا" ليس يريد أن أكل ما لهم من غير إسراف جائز، فيكون له دليل خطاب، بل المراد ولا تأكلوا أموالهم فإنه إسراف، فنهى الله سبحانه وتعالى الأوصياء عن أكل أموال اليتامى بغير الواجب المباح لهم، على ما يأتي بيانه والإسراف في اللغة والإفراط ومجازوة الحد. وقد تقدم في آل عمران والسرف الخطأ في الإنفاق، ومنه قول الشاعر:
أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ما في عطائهم من ولا سرف
أي ليس يخطئون مواضع العلماء وقال آخر:
وقال قائلهم والخيل تخبطهم أسرفتم فأجبنا أننا سرف
قال النضر بن شميل: السرف التبذير، والسرف الغفلة وسيأتي لمعنى الإسراف زيادة بيان في الأنعام إن شاء الله تعالى." وبدارا" معناه ومبادرة كبرهم وهو حال البلوغ والبدار والمبادرة كالقتال والمقاتلة وهو معطوف على إسرافاً و"أن يكبروا " في موضع نصب بداراً أي لا تستغنم مال محجورك فتأكله وتقول أبادر كبره لئلا يرشد ويأخذ ماله، عن ابن عباس وغيره.
الثانية عشرة- قوله تعالى:" ومن كان غنيا فليستعفف " الآية بين الله تعالى ما يحل لهم من أموالهم فأمر الغني بالإمساك وأباح للوصي الفقير أن يأكل من مال وليه بالمعروف يقال: عف الرجل عن الشيء واستعف إذا أمسك. والاستعفاف عن الشيء تركه ومنه قوله تعالى:" وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا" [النور:33] والعفة: الامتناع عما لا يحل ولا يجب فعله روى أبو داود من حديث حسين المعلم "عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم، قال فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مباذر ولا متأثل"
الثالثة عشر- واختلف العلماء من المخاطب والمراد بهذه الآية ففي صحيح مسلم عن عائشة في قوله تعالى: " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف" قالت : نزلت في ولي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه وإذا كان محتاجاً جاز أن يأكل منه. وفي رواية : بقدر ماله بالمعروف وقال بعضهم : المراد اليتيم إن كان غنياً وسع عليه وأعف عن ماله، وإن كان فقيراً أنفق عليه بقدره قاله ربيعة ويحيى سعيد . والأول قول الجمهور وهو الصحيح لأن اليتيم لا يخاطب بالتصرف لفي ماله لصغره ولسفهه والله أعلم .
الرابعة عشرة- واختلف الجمهور في الأكل بالمعروف ما هو؟ فقال قوم:هو القرض إذا احتاج ويقضي إذا أيسر، وقاله عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيدة وابن جبير والشعبي ومجاهد وأبو عالية، وهو قول الأوزاعي ولا يستسلف أكثر من حاجته قال عمر: ألا إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة الولي من مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف فإذا أيسر قضيت، روى عبد الله بن المبارك عن عاصم عن أبي العالية" ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف" قال : قرضاً- ثم تلا "فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم" وقول ثان روى عن إبراهيم وعطاء والحسن البصري والنخعي وقتادة: لا قضاء على الوصي الفقير فيما يأكل بالمعروف لأن ذلك حق النظر وعليه الفقهاء قال الحسن: هو طعمة من الله له ، وذلك أنه يأكل ما يسد جوعته ويكتسي ما يستر عورته ولا يلبس الرفيق من الكتان ولا الحلل، والدليل على صحة هذا القول إجماع الأمة على أن الإمام الناظر للمسلمين لا يجب عليه غرم ما أكل بالمعروف لأن الله تعالى قد فرض سهمه في مال الله فلا حجة لهم في قول عمر: فإذا أيسرت قضيت أن لو صح. وقد روي عن ابن عباس وأبي العالية والشعبي أن الأكل بالمعروف هو كالانتفاع بألبان المواشي، واستخدام العبيد، وركوب الدواب إذا لم يضر بأصل المال، كما يهنأ الجرباء، وينشد الضالة، ويلوط الحوض، ويجذ التمر، فأما أعيان الأموال وأصولها فليس للوصي أخذها. وهذا كله يخرج مع قول الفقهاء : إنه يأخذ بقدر أجر عمله، وقالت به طائفة وأن ذلك هو المعروف، ولا قضاء عليه، والزيادة على ذلك محرمة وفرق الحسن بن صالح بن حي -ويقال ابن حيان- بين وصي الأب والحاكم،فلوصي الأب أن يأكل بالمعروف، وأما وصي الحاكم فلا سبيل له إلى المال بوجه، وهو القول الثالث. وقول رابع روي عن مجاهد قال: ليس له أن يأخذ قرضاً ولا غيره وذهب إلى أن الآية منسوخة نسخفها قوله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم" [النساء:29] وهذا ليس بتجارة. وقال زيد بن أسلم : إن الرخصة في هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:" إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما" [النساء:10] الآية، وحكى بشري بن وليد عن أبي يوسف قال: لا لعل هذه الآية منسوخة بقوله عز وجل:" يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم" وقول خامس- وهو الفرق بين الحضر والسفر، فيمنع إذا كان مقيماً معه من المصر، فإذا احتاج أن يسافر من أجله فله أن يأخذ ما يحتاج إليه، ولا يقتني شيئاً، قاله أبو حنيفة وصاحباه أبو يوسف ومحمد وقول سادس- قال أبو قلابة: فليأكل بالمعروف مما يجني من الغلة، فأما المال الناض فليس له أن يأخذ منه شيئاً قرضاً ولا غيره. وقول سابع- روى عكرمة عن ابن عباس" ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف" قال: إذا احتاج واضطر وقال الشعبي: كذلك إذا كان منه بمنزلة الدم ولحم الخنزير أخذ منه، فإن وجد أوفى قال النحاس: وهذا لا معنى له، لأنه إذا اضطر هذا الاضطرار كان له أخذ ما يقيمه من مال يتيمه أو غيره من قريب أو بعيد. وقال ابن عباس أيضاً: المراد أن يأكل الوصي بالمعروف من مال نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم، فيستعفف الغني بغناه، والفقير يقتر على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال يتيمه. قال النحاس: وهذا من أحسن ما روي في تفسير الآية لأن أموال الناس محظورة لا يطلق شيء منها إلا بحجة قاطعة .
قلت: وقد اختار هذا القول الكيا الطبري في أحكام القرآن له فقال : توهم متوهمون من السيف بحكم الآية أن للوصي أن يأكل من مال الصبي قدراً لا ينتهي إلى حد السرف وذلك خلاف ما أمر الله تعالى به في قوله:" لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم" ولا يتحقق ذلك في مال اليتيم. فقوله :" ومن كان غنيا فليستعفف " يرجع إلى أكل مال نفسه دون مال اليتيم. فمعناه ولا تأكلوا أموال اليتيم مع أموالكم، بل اقتصروا على أكل أموالكم وقد دل عليه قوله تعالى:" ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا" [النساء:2] وبان بقوله تعالى:" ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف" الاقتصار على البلغة حتى لا يحتاج إلى أكل مال اليتيم، فهذا تمام معنى الآية. فقد وجدنا آيات محكمات تمنع أكل مال الغير دون رضاه، سيما في حق اليتيم وقد وجدنا هذه الآية محتملة المعاني، فحملها على موجب الآيات المحكمات متعين. فإن قال من ينصر مذهب السلف: إن القضاة يأخذون أرزاقهم لأجل عملهم للمسلمين فهلا كان الوصي كذلك إذا عمل لليتيم ولم لا يأخذ الأجرة بقدر عمله؟ قيل له : أعلم أن أحداً من السلف لم يجوز للوصي أن يأخذ من مال الصبي مع غني الوصي بخلاف القاضي، فذلك فارق بن المسألتين. وأيضاً فالذي يأخذه الفقهاء والقضاة القائمون بأمور الإسلام لا يتعين له مالك وقد جعل الله المال الضائع لأصناف بأوصاف، والقضاة من جملتهم والوصي إنما يأخذ بعمله مال شخص معين من غير رضاه، وعمله مجهول وأجرته مجهولة وذلك بعيد عن الاستحقاق
قلت: وكان شيخنا الإمام أبو العباس يقول: إن كان مال اليتيم كثيراً يحتاج إلى كبير قيام عليه بحيث يستغل الولي عن حاجته ومهماته فرض له فيه أجر عمله وإن كان تافهاً لا يشغله عن حاجاته فلا يأكل منه شيئاً، غير أنه يستحب له شرب قليل اللبن وأكل القليل من الطعام والسمن، غير مضر به ولا مستكثر له بل على ما جرت العادة بالمسامحة فيه قال شيخنا: وما ذكرته من الأجرة ونيل اليسير من التمر واللبن كل واحد منهما معروف، فصلح حمل الآية على ذلك والله أعلم .
قلت: والاحتراز عنه أفضل إن شاء الله .
وأما ما يأخذه قاضي القسمة ويسميه رسماً ونهب أتباعه فلا أدري له وجهاً ولا حلاً، وهم داخلون في عموم قوله تعالى:" إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا" [النساء:10].
الخامسة عشرة- قوله تعالى:" فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم " أمر الله تعالى بالإشهاد تنبيهاً على التحصين وزوالاً للتهم، وهذا الإشهاد مستحب عند طائفة من العلماء، فإن القول قول الوصي، لأنه أمين. وقالت طائفة: هو فرض، وهو ظاهر الآية وليس بأمين فيقبل قوله، كالوكيل إذا زعم أنه قد رد ما دفع إليه أو المودع، وإنما هو أمين للأب، ومتى ائتمنه الأب لا يقبل قوله على غيره، ألا ترى أن الوكيل لو ادعى أنه قد دفع لزيد ما أمره به بعدالته لم يقبل قوله إلا ببينة، فكذلك الوصي، ورأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن جبير أن هذا الإشهاد إنما هو على دفع الوصي في يسره ما استقرضه من مال يتيمه حالة فقره. قال عبيدة هذه الآية دليل على وجوب القضاء على من أكل. المعنى : فإذا اقترضتم أو أكلتم فأشهدوا إذا غرمتم، والصحيح أن اللفظ يعم هذا وسواه.
والظاهر أن المراد إذا أنفقتم شيئاً على المولى عليه فأشهدوا حتى لو وقع خلاف أمكن إقامة البينة، فإن كل مال قبض على وجه الأمانة بإشهاد لا يبرأ منه إلا بالإشهاد على دفعه لقوله تعالى:" فأشهدوا" فإذا دفع إليه بغير إشهاد فلا يحتاج في دفعها لإشهاد إن كان قبضها بغير إشهاد والله أعلم .
السادسة عشرة- كما على الوصي والكفيل حفظ مال يتيمه والتثمير له، كذلك عليه حفظ الصبي في بدنه فالمال يحفظه بضبطه، والبدن يحفظه بأدنه وقد مضى هذا المعنى في البقرة وروي "أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم :
إن في حجري يتيماً أآكل من ماله؟ قال: نعم غير متأثل مالاً ولا واق مالك بماله قال : يا رسول الله أفأضربه ؟ قال :ما كنت ضارباً منه ولدك" قال ابن العربي: وإن لم يثبت مسنداً فليس يجد أحد عنه ملتحداً.
السابعة عشرة-قوله تعالى:" وكفى بالله حسيبا" أي كفى الله حاسباً لأعمالكم ومجازياً بها، ففي هذا وعيد لكل جاحد حق والباء زائدة وهو في موضع رفع.
ينهى سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها الله للناس قياماً, أي تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها ومن ههنا يؤخذ الحجر على السفهاء وهم أقسام, فتارة يكون الحجر للصغر, فإن الصغير مسلوب العبارة, وتارة يكون الحجر للجنون, وتارة لسوء التصرف لنقص العقل أو الدين, وتارة للفلس, وهو ما إذا أحاطت الديون برجل وضاق ماله عن وفائها, فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه, حجر عليه, وقال الضحاك عن ابن عباس, في قوله "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم" قال: هم بنوك والنساء, وكذا قال ابن مسعود والحكم بن عيينة والحسن والضحاك: هم النساء والصبيان, وقال سعيد بن جبير: هم اليتامى, وقال مجاهد وعكرمة وقتادة: هم النساء, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا صدقة بن خالد, حدثنا عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وإن النساء السفهاء إلا التي أطاعت قيمها" ورواه ابن مردويه مطولاً وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن مسلم بن إبراهيم, حدثنا حرب بن سريح, عن معاوية بن قرة, عن أبي هريرة "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم" قال: هم الخدم, وهم شياطين الإنس, وقوله: "وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً". قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس, يقول: لا تعمد إلى مالك وما خولك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو بنيك ثم تنظر إلى ما في أيديهم ولكن أمسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم من كسوتهم ومؤونتهم ورزقهم, وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن فراس, عن الشعبي, عن أبي بردة, عن أبي موسى, قال: ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم: رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها, ورجل أعطى ماله سفيهاً, وقد قال: "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم", ورجل كان له على رجل دين فلم يشهد عليه, وقال مجاهد: "وقولوا لهم قولاً معروفاً", يعني في البر والصلة, وهذه الاية الكريمة تضمنت الإحسان إلى العائلة ومن تحت الحجر بالفعل من الإنفاق في الكساوي والأرزاق والكلام الطيب وتحسين الأخلاق, وقوله تعالى: "وابتلوا اليتامى" قال ابن عباس ومجاهد والحسن والسدي ومقاتل بن حيان: أي اختبروهم "حتى إذا بلغوا النكاح" قال مجاهد: يعني الحلم, قال الجمهور من العلماء البلوغ في الغلام تارة يكون بالحلم, وهو أن يرى في منامه ما ينزل به الماء الدافق الذي يكون منه الولد, وفي سنن أبي داود عن علي قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل" وفي الحديث الاخر عن عائشة وغيرها من الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة, عن الصبي حتى يحتلم, وعن النائم حتى يستقيظ, وعن المجنون حتى يفيق", أو يستكمل خمس عشرة سنة وأخذوا ذلك من الحديث الثابت في الصحيحين عن ابن عمر, قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني, وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني, فقال عمر بن عبد العزيز لما بلغه هذا الحديث: إن هذا الفرق بين الصغير والكبير واختلفوا في إنبات الشعر الخشن حول الفرج, وهي الشعرة, هل تدل على بلوغ أم لا ؟ على ثلاثة أقوال, يفرق في الثالث بين صبيان المسلمين فلا يدل على ذلك لاحتمال المعالجة, وبين صبيان أهل الذمة فيكون بلوغاً في حقهم لأنه لا يتعجل بها إلى ضرب الجزية عليه. فلا يعالجها, والصحيح أنها بلوغ في حق الجميع لأن هذا أمر جبلي يستوي فيه الناس واحتمال المعالجة بعيد, ثم قد دلت السنة على ذلك في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عطية القرظي رضي الله عنه, قال: عرضنا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة, فكان من أنبت قتل ومن لم ينبت خلى سبيله, فكنت فيمن لم ينبت فخلي سبيلي, وقد أخرجه أهل السنن الأربعة بنحوه, وقال الترمذي: حسن صحيح وإنما كان كذلك لأن سعد بن معاذ كان قد حكم فيهم بقتل المقاتلة وسبي الذرية, وقال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الغريب: حدثنا ابن علية عن إسماعيل بن أمية, عن محمد بن يحيى بن حبان, عن عمر, أن غلاماً ابتهر جارية في شعره, فقال عمر رضي الله عنه: انظروا إليه فلم يوجد أنبت فدرأ عنه الحد, قال أبو عبيد: ابتهرها أي قذفها, والابتهار أن يقول فعلت بها وهو كاذب, فإن كان صادقاً فهو الابتيار, قال الكميت في شعره:
قبيح بمثلي نعت الفتاة إما ابتهاراً وإما ابتياراً
وقوله عز وجل: "فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم" قال سعيد بن جبير: يعني صلاحاً في دينهم وحفظاً لأموالهم. وكذا روي عن ابن عباس والحسن البصري وغير واحد من الأئمة وهكذا قال الفقهاء: متى بلغ الغلام مصلحاً لدينه وماله انفك الحجر عنه فيسلم إليه ماله الذي تحت يد وليه بطريقه, وقوله: "ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا" ينهى تعالى عن أكل أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية "إسرافاً وبداراً" أي مبادرة قبل بلوغهم, ثم قال تعالى: "ومن كان غنياً فليستعفف" من كان في غنى عن مال اليتيم فليستعفف عنه ولا يأكل منه شيئا, وقال الشعبي هو عليه كالميتة والدم "ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف" قال ابن أبي حاتم حدثنا الأشج, حدثنا عبد الله بن سليمان, حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة, "ومن كان غنياً فليستعفف" نزلت في مال اليتيم وحدثنا الأشج وهارون بن إسحاق قالا حدثنا عبدة بن سليمان عن هشام عن أبيه عن عائشة "ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف" نزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه إذا كان محتاجاً أن يأكل منه, وحدثنا أبي, حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني, حدثنا علي بن مسهر عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: أنزلت هذه الاية في والي اليتيم "ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف" بقدر قيامه عليه. ورواه البخاري عن إسحاق عن عبد الله بن نمير عن هشام به, قال الفقهاء: له أن يأكل أقل الأمرين: أجرة مثله أو قدر حاجته, واختلفوا هل يرد إذا أيسر ؟ على قولين (أحدهما) لا, لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيراً, وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي, لأن الاية أباحت الأكل من غير بدل, قال أحمد: حدثنا عبد الوهاب, حدثنا حسين عن عمرو بن شعيب عن أبيه, عن جده: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ليس لي مال ولي يتيم ؟ فقال: "كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالاً ومن غير أن تقي مالك ـ أو قال ـ تفدي مالك بماله" شك حسين, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو خالد الأحمر, حدثنا حسين المكتب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي يتيماً عنده مال وليس عنده شيء ما. آكل من ماله ؟ قال: "بالمعروف غير مسرف" ورواه أبو دواد والنسائي وابن ماجه من حديث حسين المعلم به وروى ابن حبان في صحيحه وابن مردويه في تفسيره من حديث يعلى بن مهدي عن جعفر بن سليمان عن أبي عامر الخزاز, عن عمرو بن دينار, عن جابر أن رجلاً قال: يا رسول الله فيم أضرب يتيمي ؟ قال: "ما كنت ضارباً منه ولدك غير واق مالك بماله ولا متأثل منه مالاً" وقال ابن جرير: حدثنا الحسن بن يحيى, أخبرنا عبد الرزاق, أخبرنا الثوري عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال: جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال: إن في حجري أيتاماً وإن لهم إبلاً ولي إبل, وأنا أمنح في إبلي وأفقر, فماذا يحل لي من ألبانها ؟ فقال: إن كنت تبغي ضالتها وتهنأ جرباها وتلوط حوضها وتسقي عليها فاشرب غير مضر بنسل, ولا ناهك في الحلب, ورواه مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد به, وبهذا القول وهو عدم أداء البدل, يقول عطاء بن أبي رباح وعكرمة وإبراهيم النخعي وعطية العوفي والحسن البصري. (والثاني) نعم, لأن مال اليتيم على الحظر, وإنما أبيح للحاجة فيرد بدله كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة, وقد قال ابن أبي الدنيا: حدثنا ابن خيثمة, حدثنا وكيع عن سفيان وإسرائيل, عن أبي إسحاق, عن حارثة بن مضرب قال: قال عمر رضي الله عنه: إني أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة والي اليتيم, إن استغنيت استعففت, وإن احتجت استقرضت, فإذا أيسرت قضيت.
(طريق أخرى) قال سعيد بن منصور: حدثنا أبو الأحوص, عن أبي إسحاق, عن البراء قال: قال عمر رضي الله عنه: إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم, إن احتجت أخذت منه, فإذا أيسرت رددته, وإن استغنيت استعففت, إسناد صحيح وروى البيهقي عن ابن عباس نحو ذلك, وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله: "ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف" يعني القرض, قال وروي عن عبيدة وأبي العالية, وأبي وائل, وسعيد بن جبير في إحدى الروايات ومجاهد والضحاك والسدي نحو ذلك, وروي من طريق السدي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله "فليأكل بالمعروف" قال: يأكل بثلاث أصابع, ثم قال: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا ابن مهدي عن سفيان عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس "ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف" قال: يأكل من ماله يقوت على يتيمه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم, قال وروي عن مجاهد وميمون بن مهران في إحدى الروايات والحكم نحو ذلك, وقال عامر الشعبي: لا يأكل منه إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة فإن أكل منه قضاه, رواه ابن أبي حاتم وقال ابن وهب: حدثنا نافع بن أبي نعيم القارى قال: سألت يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة عن قول الله تعالى: "ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف" الاية, فقالا: ذلك في اليتيم إن كان فقيراً أنفق عليه بقدر فقره, ولم يكن للولي منه شيء, وهذا بعيد من السياق, لأنه قال "ومن كان غنيا فليستعفف" يعني من الأولياء. "ومن كان فقيراً" أي منهم "فليأكل بالمعروف" أي بالتي هي أحسن كما قال في الاية الأخرى "ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده" أي لا تقربوه إلا مصلحين له, فإن احتجتم إليه أكلتم منه بالمعروف وقوله: "فإذا دفعتم إليهم أموالهم" يعني بعد بلوغهم الحلم وإيناسكم الرشد منهم فحينئذ سلموا إليهم أموالهم فإذا دفعتم إليهم أموالهم "فأشهدوا عليهم" وهذا أمر من الله تعالى للأولياء أن يشهدوا على الأيتام إذا بلغوا الحلم وسلموا إليهم أموالهم لئلا يقع من بعضهم جحود وإنكار لما قبضه وتسلمه, ثم قال: " وكفى بالله حسيباً" أي وكفى بالله محاسباً وشهيداً ورقيباً على الأولياء في حال نظرهم للأيتام وحال تسليمهم للأموال هل هي كاملة موفرة أو منقوصة مبخوسة مدخلة, مروج حسابها, مدلس أمورها ؟ الله عالم بذلك كله , ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تلين مال يتيم".
قوله: 6- "وابتلوا اليتامى" الابتلاء: الاختبار. وقد تقدم تحقيقه. وقد اختلفوا في معنى الاختبار، فقيل: هو أن يتأمل الوصي أخلاق يتيمه ليعلم بنجابته وحسن تصرفه فيدفع إليه ماله إذا بلغ النكاح وآنس منه الرشد، وقيل معنى الاختبار: أن يدفع إليه شيئاً من ماله ويأمره بالتصرف فيه حتى يعلم حقيقة حاله، وقيل معنى الاختبار: أن يرد النظر إليه في نفقة الدار ليعرف كيف تدبيره، وإن كانت جارية رد إليها ما يرد إلى ربة البيت من تدبير بيتها. والمراد ببلوغ النكاح بلوغ الحلم لقوله تعالى "وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم" ومن علامات البلوغ الإنبات، وبلوغ خمس عشرة سنة. وقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما: لا يحكم لمن لم يحتلم بالبلوغ إلا بعد مضي سبع عشرة سنة، وهذه العلامات تعم الذكر والأنثى، وتختص الأنثى بالحبل والحيض. قوله "فإن آنستم" أي: أبصرتم ورأيتم، ومنه قوله "آنس من جانب الطور ناراً". قال الأزهري: تقول العرب اذهب فاستأنس هل ترى أحداً، معناه: تبصر، وقيل: هو هنا بمعنى وجد وتعلم: أي فإن وجدتم وعلمتم منهم رشداً. وقراءة الجمهور "رشداً" بضم الراء وسكون الشين. وقرأ ابن مسعود والسلمي وعيسى الثقفي بفتح الراء والشين، قيل هما لغتان، وقيل: هو بالضم مصدر رشد وبالفتح مصدر رشد.
واختلف أهل العلم في معنى الرشد ها هنا، فقيل: الصلاح في العقل والدين، وقيل: في العقل خاصة. قال سعيد بن جبير والشعبي: إنه لا يدفع إلى اليتيم ماله إذا لم يؤنس رشده وإن كان شيخاً. قال الضحاك: وإن بلغ مائة سنة. وجمهور العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ، وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم لا يزول عنه الحجر. وقال أبو حنيفة، لا يحجر على الحر البالغ وإن كان أفسق الناس وأشدهم تبذيراً، وبه قال النخعي وزفر وظاهر النظم القرآني أنها لا تدفع إليهم أموالهم إلا بعد بلوغ غاية هي بلوغ النكاح مقيدة هذه الغاية بإيناس الرشد، فلا بد من مجموع الأمرين فلا تدفع إلى اليتامى أموالهم قبل البلوغ وإن كانوا معروفين بالرشد، ولا بعد البلوغ إلا بعد إيناس الرشد منهم. والمراد بالرشد نوعه وهو المتعلق بحسن التصرف في أمواله وعدم التبذير بها ووضعها في مواضعها. قوله "ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا" الإسراف في اللغة: الإفراط ومجاوزة الحد. وقال النضر بن شميل: السرف والتبذير، والبدار المبادرة "أن يكبروا" في موضع نصب بقوله "بدارا" أي لا تأكلوا أموال اليتامى أكل إسراف وأكل مبادرة لكبرهم، أو لا تأكلوا لأجل السرف ولأجل المبادرة أو لا تأكلوها مسرفين ومبادرين لكبرهم وتقولوا ننفق أموال اليتامى فيما نشتهي قبل أن يبلغوا فينتزعوها من أيدينا. قوله "ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف" بين سبحانه ما يحل لهم من أموال اليتامى، فأمر الغني بالاستعفاف وتوفير مال الصبي عليه وعدم تناوله منه، وسوغ للفقير أن يأكل بالمعروف.
واختلف أهل العلم في الأكل بالمعروف ما هو؟ فقال قوم: هو القرض إذا احتاج إليه ويقضي متى أيسر الله عليه، وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيدة السلماني وابن جبير والشعبي ومجاهد وأبو العالية والأوزاعي قال النخعي وعطاء والحسن وقتادة: لا قضاء على الفقير فيما يأكل بالمعروف، وبه قال جمهور العلماء. وهذا بالنظم القرآني ألصق فإن إباحة الأكل للفقير مشعرة بجواز ذلك له من غير قرض. والمراد بالمعروف المتعارف به بين الناس، فلا يترفه بأموال اليتامى ويبالغ في التنعم بالمأكول والمشروب والملبوس، ولا يدع نفسه عن سد الفاقة وستر العورة. والخطاب في هذه الآية لأولياء الأيتام القائمين بما يصلحهم كالأب والحد ووصيهما. وقال بعض أهل العلم: المراد بالآية اليتيم إن كان غنياً وسع عليه وعف من ماله، وإن كان فقيراً كان الإنفاق عليه بقدر ما يحصل له، وهذا القول في غاية السقوط. قوله: "فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم" أي: إذا حصل مقتضى الدفع فدفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم أنهم قد قبضوها منكم لتندفع عنكم التهم وتأمنوا عاقبة الدعاوى الصادرة منهم وقيل: إن الإشهاد المشروع هو ما أنفقه عليهم الأولياء قبل رشدهم، وقيل هو على رد ما استقرضه إلى أموالهم وظاهر النظم القرآني مشروعية الإشهاد على ما دفع إليهم من أموالهم وهو يعم الإنفاق قبل الرشد، والدفع للجميع إليهم بعد الرشد "وكفى بالله حسيباً" أي: حاسباً لأعمالكم شاهداً عليكم في كل شيء تعملونه، ومن جملة ذلك معاملتكم لليتامى في أموالهم، وفيه وعيد عظيم، والباء زائدة، أي كفى الله.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم" يقول: لا تعمد إلى مالك وما خولك الله وجعله لك معيشة، فتعطيه امرأتك أو ابنتك، ثم تضطر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم ورزقهم ومؤونتهم. قال: وقوله "قواماً" يعني قوامكم من معايشكم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه من طريق العوفي في الآية يقول: لا تسلط السفيه من ولدك على مالك وأمره أن يرزقه منه ويكسوه. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: هم بنوك والنساء. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن النساء السفهاء إلا التي أطاعت قيمها". وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: هم الخدم، وهم شياطين الإنس. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن مسعود قال: النساء والصبيان. وأخرج ابن جرير عن حضرمي: أن رجلاً عمد فدفع ماله إلى امرأته فوضعته في غير الحق، فقال الله "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن جبير قال: هم اليتامى والنساء. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال: هو مال اليتيم يكون عندك، يقول: لا تؤته إياه وأنفق عليه حتى يبلغ. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله "وارزقوهم" يقول: أنفقوا عليهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد "وقولوا لهم قولاً معروفاً" قال: أمروا أن يقولوا لهم قولاً معروفاً في البر والصلة. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج "وقولوا لهم قولاً معروفاً" قال: عدة تعدونهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله "وابتلوا اليتامى" يعني اختبروا اليتامى عند الحلم "فإن آنستم" عرفتم "منهم رشداً" في حالهم والإصلاح في أموالهم "فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً" يعني تأكل مال اليتيم ببادرة قبل أن يبلغ فتحول بينه وبين ماله. وأخرج البخاري وغيره عن عائشة قالت: أنزلت هذه الآية في ولي اليتيم "ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف" بقدر قيامه عليه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وصححه عن ابن عباس "ومن كان غنياً فليستعفف" قال بغناه: "ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف" قال: يأكل من ماله يقوت على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم. وأخرج ابن جرير عنه قال: هو القرض. وأخرج عبد بن حميد والبيهقي عن ابن عباس قال: إن كان فقيراً أخذ من فضل اللبن وأخذ من فضل القوت ولا يجاوزه، وما يستر عورته من الثياب، فإن أيسر قضاه وإن أعسر فهو في حل. وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه من طرق عن عمر بن الخطاب قال: إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة ولي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن احتجت أخذت منه بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت. وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن أبي حاتم عن ابن عمر "أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ليس لي مال ولي يتيم فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالاً ومن غير أن تقي مالك بماله". وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ وابن المنذر عن ابن عباس في قوله "ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف" قال: نسختها "إن الذين يأكلون أموال اليتامى" الآية.
6-قوله تعالى: "وابتلوا اليتامى" ، الآية نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه، وذلك أن رفاعة توفي وترك ابنه ثابتاً وهو صغير، فجاء عمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إن ابن أخي يتيم في حجري ، فما يحل لي من ماله ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية"وابتلوا اليتامى" اختبروهم في عقولهم وأديانهم وحفظهم أموالهم ، "حتى إذا بلغوا النكاح"، أي: مبلغ الرجال والنساء ،"فإن آنستم" ،أبصرتم، "منهم رشداً" ، فقال المفسرون يعني: عقلاً وصلاحاً في الدين وحفظاً للمال وعلماً بما يصلحه . وقال سعيد بن جبير ومجاهد والشعبي : لا يدفع إليه ماله وإن كان شيخاً حتى يؤنس منه رشده.
والابتلاء يختلف باختلاف أحوالهم فإن كان ممن يتصرف في السوق فيدفع الولي إليه شيئاً يسيراً من المال وينظر في تصرفه وإن كان ممن لا يتصرف في السوق فيختبره في نفقة داره، والإنفاق على عبيده وأجرته وتختبر المرأة في أمر بيتها وحفظ متاعها وغزلها واستغزالها ، فإذا رأى حسن تدبيره ، وتصرفه في الأمور مراراً يغلب على القلب رشده ، دفع المال إليه.
واعلم أن الله تعالى علق زوال الحجر عن الصغير وجواز دفع المال إليه بشيئين: بالبلوغ والرشد، فالبلوغ يكون بأحد (أشياء أربعة) ، اثنان يشترك فيهما الرجال والسناء، واثنان تختصان بالنساء:
فما يشترك فيه الرجال والنساء أحدهما السن ، والثاني الاحتلام أما السن فإذا استكمل المولود خمس عشرة سنة حكم ببلوغه غلاماً كان أو جارية ، لما أخبرها عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز ابن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي اخبرنا سفيان عن عيينة عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة ، فردني، ثم عرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني، قال نافع: فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز ، فقال: هذا فرق بين المقاتلة والذرية ، وكتب أن يفرض لابن خمس عشرة في المقاتلة ، ومن لم يبلغها في الذرية . وهذا قول أكثر أهل العلم.
وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: بلوغ الجارية باستكمال سبع عشرة ، وبلوغ الغلام باستكمال ثماني عشرة سنة.
وأما الاحتلام نفعني به نزول المني سواء كان بالاحتلام أو بالجماع، أو غيرهما، فإذا وجدت ذلك بعد استكمال تسع سنين من أيهما كان حكم ببلوغه ، لقوله تعالى:"وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا"وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ في الجزية حين بعثه إلى اليمن:"خذ من كل حالم ديناراً".
وأما الإنبات : وهو نبات الشعر الخشن حول الفرج: فهو بلوغ في أولاد المشركين ، لما روي عن عطية القرظي قال: كنت من سبي قريظة ، فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قتل ومن لم ينبت لم يقتل، فكنت ممن لم ينبت.
وهل يكون ذلك بلوغاً في أولاد المسلمين؟ فيه قولان، أحدهما: يكون بلوغاً كما أولاد الكفار، والثاني: لا يكون بلوغاً أنه يمكن الوقوف على مواليد المسلمين بالرجوع إلى آبائهم ، وفي الكفار لا يوقف على مواليدهم ، ولا يقبل قول آبائهم فيه لكفرهم ، فجعل الإنبات الذي هو إمارة البلوغ بلوغاً في حقهم .
وأما ما يختص بالنساء: فالحيض والحبل، فإذا حاضت المرأة بعد استكمال تسع سنين يحكم ببلوغها، وكذلك إذا ولدت يحكم ببلوغها قبل الوضع بستة أشهر لأنها أقل مدة الحمل.
وأما الرشد: فهو أن يكون مصلحاً في دينه وماله ، فالصلاح في الدين هو أن يكون مجتنباً عن الفواحش والمعاصي التي تسقط العدالة ، والصلاح في المال هو أن لا يكون مبذراً ، والتبذير : هو أن ينفق ماله فيما لا يكون فيه محمدة دنيوية ولا مثوبة أخروية ، أو لا يحسن التصرف فيها ، فيغبن في البيوع فإذا بلغ الصبي وهو مفسد في دينه وغير مصلح لماله ، دام الحجر عليه، ولا يدفع إليه ماله ولا ينفذ تصرفه.
وعند أبي حنيفة رضي الله عنه إذا كان مصلحاً لماله زال الحجر عنه وإن كان مفسداً في دينه ، وإذا كان مفسداً لماله قال: لا يدفع إليه حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة ، غير أن تصرفه يكون نافذاً قبله . والقرآن حجة لمن استدام الحجر عليه ، لأن الله تعالى قال:"حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم"، أمر بدفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد، والفاسق لا يكون رشيداً وبعد بلوغه خمساً وعشرين سنة ، وهو مفسد لماله بالاتفاق غير رشيد ، فوجب أن لا يجوز دفع المال إليه كما قبل بلوغ هذا السن.
وإذا بلغ وأونس منه الرشد، زال الحجر عنه ، ودفع إليه المال رجلاً كان أو امرأة تزوج أو لم يتزوج.
وعند مالك رحمه الله تعالى: إن كانت امرأة لا يدفع المال إليها ما لم تتزوج ، فإذا تزوجت دفع إليها، ولكن لا ينفذ تصرفها إلا بإذن الزوج، ما لم تكبر وتجرب.
فإذا بلغ الصبي رشيداً وزال الحجر عنه ثم عاد سفيهاً،نظر: فإن عاد مبذراً لماله حجر عليه ، وإن عاد مفسداً في دينه فعلى وجهين: أحدهما: يعاد الحجر عليه إذا بلغ بهذه الصفة، والثاني: لا يعاد لأن حكم الدوام أوقى من حكم الابتداء.
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى: لا حجر على الحر العاقل البالغ بحال، والدليل على إثبات الحجر من اتفاق الصحابة رضي الله عنهم ما روي عن هشام بن عروة عن أبية عبد الله بن جعفر ابتاع أرضاً سبخة بستين ألف درهم ، فقال علي: لآتين عثمان فلأحجرن عليك فأتى ابن جعفر الزبير فأعلمه بذلك (فقال الزبير: أنا شريكك في بيعتك ، فأتى علي عثمان وقال: احجر على هذا) ، فقال الزبير :أنا شريكه، فقال عثمان: كيف أحجر على رجل في بيع شريكه في الزبير، فكان ذلك اتفاقاً منهم على جواز الحجر حتى احتال الزبير في دفعه.
قوله تعالى :"ولا تأكلوها " يا معشر الأولياء "إسرافاً" بغير حق،"وبداراً" أي مبادرة "أن يكبروا"و" أن" في محل النصب، يعني : لا تبادروا كبرهم ورشدهم حذراً من أن يبلغوا فيلزمكم تسليمها إليهم ، ثم بين ما يحل لهم من مالهم فقال:" ومن كان غنياً فليستعفف" أي ليمتنع من مال اليتيم لا يرزأه قليلاً و كثيراً، والعفة : الامتناع مما لا يحل"ومن كان فقيراً" محتاجاً إلى مال اليتيم وهو يحفظه ويتعهده فليأكل/ بالمعروف.
أخبرنامحمد بن الحسن المروزي أخبرنا أبو سهل محمد بن عمر السجزيأخبرنا الإمامأبو سليمان الخطابيأخبرنا أبو بكر بن داسة التمار أخبرناأبو داؤد السجستانيأخبرنا حميد بن مسعدة أن خالد بن الحرث حدثهم أخبرنا حسين يعني المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه "أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني فقير وليس لي شيء ولي يتيم؟ فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل".
واختلفوا في أنه هل يلزمه القضاء؟ فذهب بعضهم إلى انه يقضي إذا أيسر، وهو المراد من قوله "فليأكل بالمعروف" فالمعروف القرض،أي : يستقرض من مال اليتيم إذا احتاج إليه ، فإذا أيسر قضاه، وهو قول مجاهدوسعيد بن جبير ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إني أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة ما اليتيم : إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت.
وقالالشعبي: لا يأكله إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة.
وقال قوم: لا قضاء عليه.
ثم اختلفوا في كيفية هذا الأكل بالمعروف ، فقال عطاء وعكرمة: يأكل بأطراف أصابعه ، ولا يسرف ولا يكتسي منه، ولا يلبس الكتان ولا الحلل ، ولكن ما سد الجوعة ووارى العورة.
وقالالحسنوجماعة: يأكل من ثمر نخيله ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه، فإما الذهب والفضة فلا فإن أخذ شيئاً منه رده.
وقالالكلبي: المعروف ركوب الدابة وخدمة الخادم ، ولي له أن يأكل من ماله شيئاً.
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحق الهاشمي، أنا أبو مصعب عن مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال سمعت القاسم بن محمد يقول: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال:إن لي يتيماً وإن له إبلاً أفأشرب من لبن إبله؟ فقال: إن كنت تبغي ضالة إبله وتهناً جرباها وتليط حوضها وتسقيها يوم وردها فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب.
وقال بعضهم : المعروف أن يأخذ من جميع ماله بقدر قيامه وأجره عمله ، ولا قضاء عليه، وهو قول عائشة وجماعة من أهل العلم.
قوله تعالى:"فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم "، هذا أمر إرشاد ، ليس بواجب، أمر الولي بالإشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعدما بلغ لتزول عنه التهمة وتنقطع الخصومة ، "وكفى بالله حسيباً" محاسباً ومجازياً وشاهداً .
6" وابتلوا اليتامى " اختبروهم قبل بلوغ بتتبع أحوالهم في صلاح الدين، والتهدي إلى ضبط المال وحسن التصرف، بأن يكل إليه مقدمات العقد. وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى بأن يدفع إليه ما يتصرف فيه. " حتى إذا بلغوا النكاح " حتى إذا بلغوا حد البلوغ بأن يحتلم، أو يستكمل خمسة عشر سنة عندنا لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا استكمل الولد خمس عشرة سنة، كتب ما له وما عليه وأقيمت عليه الحدود". وثماني عشرة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وبلوغ النكاح كناية عن البلوغ، لأنه يصلح للنكاح عنده. " فإن آنستم منهم رشدا " فإن أبصرتم منهم رشداً. وقرئ أحستم بمعنى أحسستم. " فادفعوا إليهم أموالهم " من غير تأخير عن حد البلوغ، ونظم الآية أن إن الشرطية جواب إذاً المتضمنة معنى الشرط، والجملة غاية الابتلاء فكأنه قيل، وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم واستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم، وهو دليل على أنه لا يدفع إليهم ما لم يأنس منهم الرشد. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: إذا زادت على سن البلوغ سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير الأحوال، إذ الطفل يميز بعدها ويؤمر بالعبادة، دفع إليه المال وإن لم يأنس منه الرشد. " ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا " مسرفين ومبادرين كبرهم، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم. " ومن كان غنيا فليستعفف " من أكلها. " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " بقدر حاجته وأجرة سعيه، ولفظ الاستعفاف والأكل بالمعروف مشعر بأن الولي له حق في مال الصبي، وعنه عليه الصلاة والسلام: "أن رجلاً قال له إن في حجري يتيماً أفآكل من ماله؟ قال: كل بالمعروف غير متأثل مالاً ولا واق مالك بماله" وإيراد هذا التقسيم بعد قوله ولا تأكلوها يدل على أنه نهي للأولياء أن يأخذوا وينفقوا على أنفسهم أموال اليتامى. " فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم " بأنهم قبضوها فإنه أنفى للتهمة وأبعد من الخصومة، ووجوب الضمان وظاهره يدل على أن القيم لا يصدق في دعواه إلا بالبينة وهو المختار عندنا وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى خلافاً لأبي حنيفة. " وكفى بالله حسيبا " محاسباً فلا تخالفوا ما أمرتكم به ولا تتجاوزوا ما حد لكم.
6. Prove orphans till they reach the marriageable age; then, if ye find them of sound judgment, deliver over unto them their fortune; and devour it not squandering and in haste lest they should grow up. Whoso (of the guardians) is rich, let him abstain generously (from taking of the property of orphans); and whoso is poor let him take thereof in reason (for his guardianship). And when ye deliver up their fortune unto orphans, have (the transaction) witnessed in their presence. Allah sufficeth as a Reckoner.
6 - Make trial of orphans until they reach the age of marriage; if then ye find sound judgment in them, release their property to them; but consume it not wastefully, nor in haste against their growing up if the guardian is well off, let him claim no remuneration, but if he poor, let him have for himself what is just and reasonable. when ye release their property to them, take witnesses in their presence: but all sufficient is God in taking account.