[النساء : 47] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً
(يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا) من القرآن (مصدقا لما معكم) من التوراة (من قبل أن نطمس وجوها) نمحو ما فيها من العين والأنف والحاجب (فنردها على أدبارها) فنجعلها كالأقفاء لوحا واحدا (أو نلعنهم) نمسخهم قردة (كما لعنا) مسحنا (أصحاب السبت) منهم (وكان أمر الله) قضاؤه (مفعولا) ولما نزلت أسلم عبد الله بن سلام فقيل كان وعيدا بشرط فلما أسلم بعضهم رفع وقيل يكون طمس ومسخ قبل قيام الساعة
قوله تعالى يا أيها الذين أوتوا الكتاب الآية أخرج ابن إسحق عن ابن عباس قال كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء أحبار اليهود منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن أسيد فقال لهم يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فو الله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق فقالوا ما نعرف ذلك يا محمد فأنزل الله فيهم يا أيها الذين أتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا الآية
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله : "يا أيها الذين أوتوا الكتاب"، اليهود من بني إسرائيل ، الذين كانوا حوالي مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله لهم: يا أيها الذين أنزل إليهم الكتاب فأعطوا العلم به ، "آمنوا" يقول : صدقوا بما نزلنا إلى محمد من الفرقان ، "مصدقا لما معكم"، يعني : محققاً للذي معكم من التوراة التي أنزلتها إلى موسى بن عمران ، "من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها".
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .
فقال بعضهم : طمسه إياها، محوه آثارها حتى تصير كالأقفاء.
وقال اخرون : معنى ذلك أن نطمس أبصارها فنصيرها عمياء، ولكن الخبر خرج بذكرالوجه ، والمراد به بصره ، "فنردها على أدبارها"، فنجعل أبصارها من قبل أقفائها .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثنا عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا" إلى قوله : "من قبل أن نطمس وجوها"، وطمسها: أن تعمى، "فنردها على أدبارها"، يقول : أن نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم ، فيمشون القهقرى، ونجعل لأحدهم عينين في قفاه .
حدثني أبو العالية إسماعيل بن الهيثم العبدي قال ، حدثنا أبو قتيبة، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي في قوله : "من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها"، قال : نجعلها في أقفائها، فتمشي على أعقابها القهقرى.
حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى قال ، حدثنا فصيل بن مرزوق ، عن عطية، بنحوه ، إلا أنه قال : طمسها : أن يردها على أقفائها.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة : "فنردها على أدبارها"، قال : نحول وجوهها قبل ظهورها .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : من قبل أن نعمي قوما عن الحق ، "فنردها على أدبارها"، في الضلالة والكفر.
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها"، فنردها عن الصراط ، عن الحق ، "فنردها على أدبارها"، قال : في الضلالة .
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: "أن نطمس وجوها" عن صراط الحق ، "فنردها على أدبارها"، في الضلالة .
حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك قراءة، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، قال الحسن : "نطمس وجوها"، يقول : نطمسها عن الحق ، "فنردها على أدبارها"، على ضلالتها .
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "يا أيها الذين أوتوا الكتاب" إلى قوله : "كما لعنا أصحاب السبت"، قال : نزلت في مالك بن الصيف ، ورفاعة بن زيد بن التابوت ، من بني قينقاع . أما "أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها"، يقول : فنعميها عن الحق ونرجعها كفاراً .
حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : "من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها"، يعني : أن نردهم عن الهدى والبصيرة، فقد ردهم على أدبارهم ، فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به .
وقال آخرون : معنى ذلك : من قبل أن نمحو آثارهم من وجوههم التي هم بها، وناحيتهم التي هم بها، "فنردها على أدبارها"، من حيث جاؤوا منه بدياً من الشام .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها"، قال : كان أبي يقول : إلى الشأم .
وقال آخرون : معنى ذلك : "من قبل أن نطمس وجوها"، فنمحو آثارها ونسويها، "فنردها على أدبارها"، بأن نجعل الوجوه منابت الشعر، كما وجوه القردة منابت للشعر، لأن شعور بني آدم في أدبار وجوههم . فقالوا : إذا أنبت الشعر في وجوههم ، فقد ردها على أدبارها، بتصييره إياها كالأقفاء وأدبار الوجوه .
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : معنى قوله : "من قبل أن نطمس وجوها"، من قبل أن نطمس أبصارها ونمحو آثارها فنسويها كالأقفاء ، "فنردها على أدبارها"، فنجعل أبصارها في أدبارها، يعني بذلك : فنجعل الوجوه في أدبار الوجوه ، فيكون معناه : فنحول الوجوه أقفاءً والأقفاء وجوهاً، فيمشون القهقرى، كما قال ابن عباس وعطية ومن قال ذلك .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب : لأن الله جل ثناؤه خاطب بهذه الآية اليهود الذين وصف صفتهم بقوله : "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة"، ثم حذرهم جل ثناؤه بقوله : "يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها" الآية، بأسه وسطوته وتعجيل عقابه لهم ، إن هم لم يؤمنوا بما أمرهم بالإيمان به . ولا شك أنهم كانوا لما أمرهم بالإيمان به يومئذ كفاراً .
وإذ كان ذلك كذلك فبين فساد قول من قال : تأويل ذلك : أن نعميها عن الحق فنردها في الضلالة . فما وجه رد من هو في الضلالة فيها؟! وإنما يرد في الشيء من كان خارجا منه . فأما من هو فيه ، فلا وجه لأن يقال : نرده فيه .
وإذ كان ذلك كذلك ، وكان صحيحاً أن الله قد تهدد الذين ذكرهم في هذه الآية برده وجوههم على أدبارهم ، كان بيناً فساد تأويل من قال : معنى ذلك : يهددهم بردهم في ضلالتهم .
وأما الذين قالوا : معنى ذلك : من قبل أن نجعل الوجوه منابت الشعر كهيئة وجوه القردة، فقول لقول أهل التأويل مخالف . وكفى بخروجه عن قول أهل العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الخالفين ، على خطئه شاهداً.
وأما قول من قال : معناه : من قبل أن نطمس وجوههم التي هم فيها، فنردهم إلى الشأم من مساكنهم بالحجاز ونجد، فإنه -وإن كان قولا له وجه - مما يدل عليه ظاهر التنزيل بعيد. وذلك أن المعروف من الوجوه في كلام العرب ، التي هي خلاف الأقفاء، وكتاب الله يوجه تأويله إلى الأغلب في كلام من نزل بلسانه ، حتى يدل على أنه معني به غير ذلك من الوجوه ، الذي يجب التسليم له .
وأما الطمس ، فهو العفو والدثور في استواء . منه يقال : طمست أعلام الطريق تطمس طموساً، إذا دثرت وتعفحت ، فاندفنت واستوت بالأرض ، كما قال كعب بن زهير:
من كل نصاحة الذفرى إذا عرقت غرضتها طامس الأعلام مجهول
يعني : طامس الأعلام ، داثر الأعلام مندفنها. ومن ذلك قيل للأعمى الذي قد تعفى غر ما بين جفني عينيه فدثر: أعمى مطموس ، وطميس ، كما قال الله جل ثناؤه : "ولو نشاء لطمسنا على أعينهم" [يس : 66] .
قال أبو جعفر: الغر، الشق الذي بين الجفنين .
فإن قال قائل : فإن كان الأمر كما وصفت من تأويل الآية، فهل كان ما توعدهم به ؟
قيل : لم يكن ، لأنه آمن منهم جماعة، منهم : عبدالله بن سلام ، وثعلبة بن سعية، وأسد بن سعية، وأسد بن عبيد، ومخيرق ، وجماعة غيرهم ، فدفع عنهم بإيمانهم .
ومما يبين عن أن هذه الآية نزلت في اليهود الذين ذكرنا صفتهم ، ما:
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير، وحدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، جميعاً، عن ابن إسحاق قال ، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال ، حدثني سيد بن جبير أو عكرمة، "عن ابن عباس قال : كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود: منهم عبدالله بن صوريا، وكعب بن أسد فقال لهم : يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق ! فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد! وجحدوا ما عرفوا، وأصروا على الكفر، فأنزل الله فبهم : "يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها"، ا لآية".
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح ، عن عيسى بن المغيرة قال : تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب، فقال : أسلم كعب في زمان عمر، أقبل وهو يريد بيت المقدس ، فمر على المدينة، فخرج إليه عمر فقال : يا كعب ، أسلم ! قال : ألستم تقرأون في كتابكم : "مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا" [الجمعة : 5]؟ وأنا قد حملت التوراة! قال : فتركه. ثم خرج حتى انتهى إلى حمص ، قال : فسمع رجلا من أهلها حزينا وهو يقول : "يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها"، الآية. فقال كعب : يا رب آمنت ، يا رب أسلمت ! مخافة أن تصيبه الآية، ثم رجع فأتى أهله باليمن ، ثم جاء بهم مسلمين .
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه : "أو نلعنهم"، أو نلعنكم فنخزيكم ونجعلكم قردة، "كما لعنا أصحاب السبت"، يقول : كما أخزينا الذين اعتدوا في السبت من أسلافكم . قيل ذلك على وجه الخطاب في قوله : معه آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم لهه ، كما قال : "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها" [يونس : 122].
وقد يحتمل أن يكون معناه : "من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها"، أو نلعن أصحاب الوجوه ، فجعل الهاء والميم في لموله : معه أو نلعنهم مهر، من ذكر أصحاب الوجوه ، إذ كان في الكلام دلالة على ذلك :
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "يا أيها الذين أوتوا الكتاب" إلى قوله : "أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت"، أي : نحولهم قردة.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن الحسن : "أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت"، يقول : أو نجعلهم قردة .
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت"، أو نجعلهم قردة .
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت"، قال : هم يهود جميعاً، نلعن هؤلاء كما لعنا الذين لعنا منهم من أصحاب السبت .
وأما قوله : "وكان أمر الله مفعولا"، فإنه يعني : وكان جميع ما أمر الله أن يكون ، كائناً مخلوقاً موجوداً، لا يمتنع عليه خلق شيء شاء خلقه .
و الأمر في هذا الموضع : المأمور سمي "أمر الله"، لأنه عن أمره كان وبأمره .
والمعنى : وكان أمر الله مفعولاً.
قوله تعالى :" يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا " "قال ابن اسحاق كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود منه عبد الله بن صوريا الأعور وكعب بن أسد فقال لهم:
يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق " قالوا: ما نعرف ذلك يا محمد وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر فأنزل الله عز وجل فيهم " يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها " إلى آخر الآية.
قوله تعالى :" مصدقا لما معكم " نصب على الحال " من قبل أن نطمس وجوها" الطمس استئصال أثر الشيء ومنه قوله تعالى :" فإذا النجوم طمست " [المراسلات:8] ونطمس ونطمس بكسر الميم وضمها في المستقبل لغتان ويقال في الكل طسم يطسم ويطسم بمعنى طمس الأثر وطسم أي امحى كله لغات ومنه قوله تعالى :" ربنا اطمس على أموالهم " [يونس:88] أي أهلكها، عن ابن عرفة.ويقال: طمسته فطمس لازم ومتعد وطمس الله بصره وهو مطموس البصرة إذا ذهب أثر العين ومنه قوله تعالى :" ولو نشاء لطمسنا على أعينهم " [يس:66] يقول أعميناهم .
واختلف العلماء في المعنى المراد بهذا الآية هل هو حقيقة فيجعل الوجه كالقفا فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين أو ذلك عبارة عن الضلالة في قلوبهم وسلبهم التوفيق قولان: روي عن أبي بن كعب أنه قال : " من قبل أن نطمس " من قبل أن نضلكم إضلالاً لا تهتدون بعده يذهب إلى أنه تمثيل وأنهم إن لم يؤمنوا فعل هذا بهم عقوبة وقال قتادة معناه من قبل أن نجعل الوجه أقفاء أي يذهب بالأنف والشفاه والأعين والحواجب هذا معناه عند أهل اللغة وروي عن ابن عباس وعطية العوفي: أن الطمس أن تزال العينان خاصة وترد في القفا فيكون ذلك رداً على الدبر ويمشي القهقرى وقال مالك رحمه الله كان أول الإسلام كعب الأحبار أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية :" يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا " فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته فأسلم مكانه وقال : والله لقد خفت إلا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي. وكذلك فعل عبد الله بن سلام لما نزلت هذه الآية وسمعها أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله وأسلم وقال: يا رسول الله ما كنت أدري أن أصل إليك حتى يحول وجهي في قفاي فإن قيل: كيف جاز أن يهددهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا ثم لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم فقيل: إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين. وقال المبرد : الوعيد باق منتظر وقال: لا بد من طمس في اليهود ومسخ قبل يوم القيامة .
قوله تعالى :" أو نلعنهم " أي أصحاب الوجوه " كما لعنا أصحاب السبت " أي نمسخهم قردة وخنازير عن الحسن وقتادة وقيل: هو خروج من الخطاب إلى الغيبة " وكان أمر الله مفعولا" أي كائناً موجوداً ويراد بالأمر المأمور فهو مصدر وقع موقع المفعول فالمعنى أنه متى أراده أوجده وقيل: معناه أن كل أمر أخبر بكونه فهو كائن على ما أخبر به .
يقول تعالى آمراً أهل الكتاب بالإيمان بما نزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب العظيم الذي فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات, ومتهدداً لهم إن لم يفعلوا بقوله: "من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها" قال بعضهم: معناه من قبل أن نطمس وجوهاً, فطمسها هو ردها إلى الأدبار وجعل أبصارهم من ورائهم, ويحمتل أن يكون المراد: من قبل أن نطمس وجوهاً فلا نبقي لها سمعاً ولا بصراً ولا أثراً, ومع ذلك نردها إلى ناحية الأدبار. قال العوفي عن ابن عباس في الاية وهي "من قبل أن نطمس وجوهاً" وطمسها أن تعمى "فنردها على أدبارها" يقول: نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم, فيمشون القهقرى, ونجعل لأحدهم عينين من قفاه, وكذا قال قتادة وعطية العوفي, وهذا أبلغ في العقوبة والنكال, وهو مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل, ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبل الضلالة, يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم, وهذا كما قال بعضهم في قوله " إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون * وجعلنا من بين أيديهم سدا " الاية: إن هذا مثل ضربه الله لهم في ضلالهم, ومنعهم عن الهدى. قال مجاهد: من قبل أن نطمس وجوهاً, يقول: عن صراط الحق فنردها على أدبارها, أي في الضلال. قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عباس والحسن نحو هذا. قال السدي: فنردها على أدبارها, فنمنعها عن الحق, قال: نرجعها كفاراً ونردهم قردة, وقال ابن زيد: نردهم إلى بلاد الشام من أرض الحجاز. وقد ذكر أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الاية. قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا جابر بن نوح عن عيسى بن المغيرة, قال: تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب, فقال: أسلم كعب زمان عمر, أقبل وهو يريد بيت المقدس, فمر على المدينة, فخرج إليه عمر فقال: يا كعب, أسلم. فقال: ألستم تقرأون في كتابكم " مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا " وأنا قد حملت التوراة, قال: فتركه عمر ثم خرج حتى انتهى إلى حمص, فسمع رجلاً من أهلها حزيناً وهو يقول: "يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها" الاية, قال كعب: يا رب أسلمت مخافة أن تصيبه هذه الاية, ثم رجع فأتى أهله في اليمن, ثم جاء بهم مسلمين. وقد رواه ابن أبي حاتم بلفظ آخر من وجه آخر فقال: حدثنا أبي , حدثنا ابن نفيل, حدثنا عمرو بن واقد عن يونس بن حلبس, عن أبي إدريس عائذ الله الخولاني, قال: كان أبو مسلم الجليلي معلم كعب, وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: فبعثه إليه لينظر أهو هو ؟ قال كعب: فركبت حتى أتيت المدينة, فإذا تال يقرأ القرآن يقول "يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها" فبادرت الماء فاغتسلت, وإني لأمس وجهي مخافة أن أطمس ثم أسلمت. وقوله "أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت" يعني الذين اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الاصطياد وقد مسخوا قردة وخنازير, وسيأتي بسط قصتهم في سورة الأعراف. وقوله "وكان أمر الله مفعولاً" أي إذا أمر بأمر فإنه لا يخالف ولا يمانع. ثم أخبر تعالى أنه "لا يغفر أن يشرك به". أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به, "ويغفر ما دون ذلك", أي من الذنوب "لمن يشاء", أي من عباده, وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الاية الكريمة فلنذكر منها ما تيسر:
(الحديث الأول) قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا صدقة بن موسى, حدثنا أبو عمران الجوني عن يزيد بن بابنوس عن عائشة, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الدواوين عند الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً, وديوان لا يترك الله منه شيئاً, وديوان لا يغفره الله, فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله, قال الله عز وجل: "إن الله لا يغفر أن يشرك به" الاية, وقال "إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة", وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً, فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه أو صلاة تركها, فإن الله يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء, وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً فظلم العباد بعضهم بعضاً, القصاص لا محالة" تفرد به أحمد.
(الحديث الثاني) قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا أحمد بن مالك, حدثنا زائدة بن أبي الرقاد, عن زياد النميري, عن أنس بن مالك, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ""الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفره الله, وظلم يغفره الله, وظلم لا يتركه الله, فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك, وقال "إن الشرك لظلم عظيم", وأما الظلم الذي يغفره الله فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم, وأما الظلم الذي لا يتركه فظلم العباد بعضهم بعضاً حتى يدين لبعضهم من بعض" .
(الحديث الثالث) قال الإمام أحمد: حدثنا صفوان بن عيسى, حدثنا ثور بن يزيد عن أبي عون, عن أبي إدريس, قال: سمعت معاوية يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً, أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً" ورواه النسائي عن محمد بن مثنى عن صفوان بن عيسى به.
(الحديث الرابع) قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم, حدثنا عبد الحميد, حدثنا شهر, حدثنا ابن غنم أن أبا ذر حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ,قال "إن الله يقول: يا عبدي ما عبدتني ورجوتني, فإني غافر لك على ما كان منك, يا عبدي إنك إن لقيتني بقراب الأرض خطيئة ما لم تشرك بي, لقيتك بقرابها مغفرة" تفرد به أحمد من هذا الوجه.
(الحديث الخامس) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد, حدثنا أبي, حدثنا حسين عن ابن بريدة أن يحيى بن يعمر حدثه أن أبا الأسود الديلي حدثه أن أبا ذر حدثه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك, إلا دخل الجنة, قلت: وإن زنى وإن سرق ؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق ؟ قال وإن زنى وإن سرق ثلاثاً, ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر", قال: فخرج أبو ذر وهو يجر إزاره وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر, وكان أبو ذر يحدث بهذا ويقول: وإن رغم أنف أبي ذر. أخرجاه من حديث حسين به.
(طريق أخرى) لحديث أبي ذر. قال أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب, عن أبي ذر, قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء, ونحن ننظر إلى أحد, فقال "يا أبا ذر" قلت: لبيك يا رسول الله. قال: "ما أحب أن لي أحداً ذاك عندي ذهباً أمسي ثالثة وعندي منه دينار إلا ديناراً أرصده يعني لدين, إلا أن أقول به في عباد الله هكذا", وحثا عن يمينه وبين يديه وعن يساره, قال: ثم مشينا, فقال "يا أبا ذر, إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة, إلا من قال هكذا وهكذا", فحثا عن يمينه ومن بين يديه وعن يساره, قال: ثم مشينا, فقال "يا أبا ذر كما أنت حتى آتيك" قال: فانطلق حتى توارى عني, قال: فسمعت لغطاً, فقلت: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض له, قال: فهممت أن أتبعه, ثم ذكرت قوله: لا تبرح حتى آتيك, فانتظرته حتى جاء, فذكرت له الذي سمعت, فقال "ذاك جبريل أتاني فقال: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة" قلت: وإن زنى وإن سرق ؟ قال: "وإن زنى وإن سرق", أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش به, وقد رواه البخاري ومسلم أيضاً, كلاهما عن قتيبة, عن جرير بن عبد الحميد, عن عبد العزيز بن رفيع, عن زيد بن وهب, عن أبي ذر, قال: خرجت ليلة من الليالي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده ليس معه إنسان, قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد, قال: فجعلت أمشي في ظل القمر, فالتفت فرآني, فقال "من هذا ؟" فقلت: أبو ذر, جعلني الله فداك. قال "يا أبا ذر تعال". قال: فمشيت معه ساعة, فقال "إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة, إلا من أعطاه الله خيراً فنفخ فيه عن يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرا" قال فمشيت معه ساعة, فقال لي "إجلس ههنا", فأجلسني في قاع حوله حجارة, فقال لي "إجلس ههنا حتى أرجع إليك". قال: فانطلق في الحرة حتى لا أراه, فلبث عني فأطال اللبث, ثم إني سمعته وهو مقبل وهو يقول "وإن زنى وإن سرق" قال: فلما جاء لم أصبر حتى قلت: يا نبي الله, جعلني الله فداك من تكلم في جانب الحرة, ما سمعت أحداً يرجع إليك شيئاً, قال "ذاك جبريل عرض لي من جانب الحرة, فقال: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة: قلت: يا جبريل, وإن سرق وإن زنى, قال: نعم. قلت: وإن سرق وإن زنى, قال: نعم: قلت: وإن سرق وإن زنى ؟ قال: نعم, وإن شرب الخمر" .
(الحديث السادس) قال عبد بن حميد في مسنده: حدثنا عبيد الله بن موسى عن ابن أبي ليلى عن أبي الزبير, عن جابر, قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, ما الموجبتان, قال: "من مات لا يشرك بالله شيئاً وجبت له الجنة, ومن مات يشرك بالله شيئاً وجبت له النار", وذكر تمام الحديث تفرد به من هذا الوجه.
(طريق أخرى) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا الحسن بن عمرو بن خلاد الحراني, حدثنا منصور بن إسماعيل القرشي, حدثنا موسى بن عبيدة الربذي, أخبرني عبد الله بن عبيدة عن جابر بن عبد الله, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من نفس تموت لا تشرك بالله شيئاً إلا حلت لها المغفرة, إن شاء الله عذبها وإن شاء غفر لها "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء", ورواه الحافظ أبو يعلى في مسنده من حديث موسى بن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيدة, عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع الحجاب" قيل: يا نبي الله وما الحجاب ؟ قال "الإشراك بالله ـ قال ـ ما من نفس تلقى الله لا تشرك به شيئاً إلا حلت لها المغفرة من الله تعالى, إن يشاء أن يعذبها وإن يشاء أن يغفر لها" ثم قرأ نبي الله " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ".
(الحديث السابع) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم, حدثنا زكريا عن عطية, عن أبي سعيد الخدري, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة" تفرد به من هذا الوجه.
(الحديث الثامن) قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا أبو قبيل عن عبد الله بن ناشر من بني سريع, قال: سمعت أبارهم قاص أهل الشام يقول: سمعت أبا أيوب الأنصاري يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم, خرج ذات يوم إليهم, فقال لهم: إن ربكم عز وجل خيرني بين سبعين ألفاً يدخلون الجنة عفواً بغير حساب وبين الخبيئة عنده لأمتي, فقال له بعض أصحابه: يا رسول الله, أيخبأ ذلك ربك ؟ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج وهو يكبر فقال "إن ربي زادني مع كل ألف سبعين ألفاً والخبيئة عنده" قال أبو رهم: يا أبا أيوب: وما تظن خبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأكله الناس بأفواههم, فقالوا: وما أنت وخبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أبو أيوب: دعوا الرجل عنكم أخبركم عن خبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أظن, بل كالمستيقن إن خبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأن محمداً عبده ورسوله مصدقاً لسانه قلبه أدخله الجنة" .
(الحديث التاسع) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا المؤمل بن الفضل الحراني, حدثنا عيسى بن يونس (ح) وأخبرنا هاشم بن القاسم الحراني فيما كتب إلي, قال: حدثنا عيسى بن يونس نفسه عن واصل بن السائب الرقاشي, عن أبي سورة ابن أخي أبي أيوب الأنصاري, عن أبي أيوب, قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام. قال "وما دينه ؟" قال: يصلي ويوحد الله تعالى. قال "استوهب منه دينه, فإن أبى فابتعه منه" فطلب الرجل ذاك منه فأبى عليه, فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره, فقال "وجدته شحيحاً في دينه" قال: فنزلت "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء".
(الحديث العاشر) قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا عمرو بن الضحاك حدثنا أبي, حدثنا مستور أبو همام الهنائي, حدثنا ثابت عن أنس, قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, ما تركت حاجة ولا ذا حاجة إلا قد أتيت, قال "أليس تشهد أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله ؟" ثلاث مرات ؟ قال: نعم, قال "فإن ذلك يأتي على ذلك كله" .
(الحديث الحادي عشر) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر, حدثنا عكرمة بن عمار عن ضمضم بن جوش اليمامي, قال: قال لي أبو هريرة: يا يمامي لا تقولن لرجل: والله لا يغفر الله لك, أو لا يدخلك الجنة أبداً. قلت: يا أبا هريرة, إن هذه كلمة يقولها أحدنا لأخيه وصاحبه إذا غضب قال: لا تقلها, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "كان في بني إسرائيل رجلان: كان أحدهما مجتهداً في العبادة, وكان الاخر مسرفاً على نفسه, وكانا متآخيين, وكان المجتهد لا يزال يرى الاخر على ذنب فيقول: يا هذا أقصر, فيقول: خلني وربي أبعثت علي رقيباً قال: إلى أن رآه يوماً على ذنب استعظمه, فقال له: ويحك, أقصر ! قال: خلني وربي, أبعثت علي رقيباً ؟ فقال والله لا يغفر الله لك أو لا يدخلك الله الجنة أبداً, قال: فبعث الله إليهما ملكا فقبض أرواحهما, واجتمعا عنده, فقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي, وقال للاخر: أكنت عالماً, أكنت على ما في يدي قادراً ؟ اذهبوا به إلى النار: قال: فوالذي نفس أبي القاسم بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته", ورواه أبو داود من حديث عكرمة بن عمار, حدثني ضمضم بن جوش به.
(الحديث الثاني عشر) قال الطبراني: حدثنا أبو شيخ عن محمد بن الحسن بن عجلان الأصبهاني, حدثنا سلمة بن شبيب, حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان, عن أبيه, عن عكرمة, عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: "من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي, ما لم يشرك بي شيئاً" .
(الحديث الثالث عشر) قال الحافظ أبو بكر البزار والحافظ أبو يعلى: حدثنا هدبة بن خالد, حدثنا سهل بن أبي حازم عن ثابت, عن أنس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من وعده الله على عمل ثواباً, فهو منجزه له, ومن توعده على عمل عقاباً, فهو فيه بالخيار" تفردا به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا بحر بن نصر الخولاني, حدثنا خالد يعني ابن عبد الرحمن الخراساني, حدثنا الهيثم بن حماد عن سلام بن أبي مطيع عن بكر بن عبد الله المزني, عن ابن عمر, قال: كنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نشك في قاتل النفس, وآكل مال اليتيم, وقاذف المحصنات, وشاهد الزور, حتى نزلت هذه الاية "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" فأمسك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة, ورواه ابن جرير من حديث الهيثم بن حماد به وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا عبد الملك بن أبي عبد الرحمن المقري, حدثنا عبد الله بن عاصم, حدثنا صالح يعني المري, حدثنا أبو بشر عن أيوب, عن نافع, عن ابن عمر, قال: كنا لا نشك فيمن أوجب الله له النار في الكتاب, حتى نزلت علينا هذه الاية "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" قال: فلما سمعناها كففنا عن الشهادة وأرجينا الأمور إلى الله عز وجل. وقال البزار: حدثنا محمد بن عبد الرحيم, حدثنا شيبان بن أبي شيبة, حدثنا حرب بن سريج عن أيوب, عن نافع, عن ابن عمر: قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا نبينا صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" وقال: "أخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة", وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع, أخبرني مجبر عن عبد الله بن عمر أنه قال: لما نزلت "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله" إلى آخر الاية, قام رجل فقال: والشرك بالله يا نبي الله ؟ فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما " رواه ابن جرير, وقد رواه ابن مردويه من طرق عن ابن عمر, وهذه الاية التي في سورة تنزيل مشروطة بالتوبة, فمن تاب من أي ذنب وإن تكرر منه, تاب الله عليه, ولهذا قال "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً" أي بشرط التوبة, ولو لم يكن كذلك لدخل الشرك فيه, ولا يصح ذلك لأنه تعالى قد حكم ههنا بأنه لا يغفر الشرك, وحكم بأنه يغفر ما عداه لمن يشاء, أي: وإن لم يتب صاحبه فهذه أرجى من تلك من هذا الوجه, والله أعلم. وقوله "ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً" كقوله "إن الشرك لظلم عظيم" وثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال: قلت: يا رسول الله, أي الذنب أعظم ؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك" وذكر تمام الحديث, وقال ابن مردويه: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد, حدثنا أحمد بن عمرو, حدثنا إبراهيم بن المنذر, حدثنا معن, حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة, عن الحسن, عن عمران بن حصين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أخبركم بأكبر الكبائر الشرك بالله" ثم قرأ "ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً", وعقوق الوالدين. ثم قرأ "أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير".
قوله 47- "يا أيها الذين أوتوا الكتاب" ذكر سبحانه أولاً أنهم أوتوا نصيباً من الكتاب، وهنا ذكر أنهم أوتوا الكتاب. والمراد أنهم أوتوا نصيباً منه، لأنهم لم يعملوا بجميع ما فيه، بل حرفوا وبدلوا. وقوله "مصدقاً" منتصب على الحال. والطمس: استئصال أثر الشيء، ومنه " فإذا النجوم طمست " يقال: نطمس بكسر الميم وضمها لغتان في المستقبل ويقال: طمس الأثر أي محاه كله، ومنه "ربنا اطمس على أموالهم" أي: أهلكها ويقال: هو مطموس البصر، ومنه "ولو نشاء لطمسنا على أعينهم" أي أعميناهم.
واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية هل هو حقيقة؟ فيجعل الوجه كالقفا، فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين، أو ذلك عبارة عن الضلالة في قلوبهم وسلبهم التوفيق؟ فذهب إلى الأول طائفة، وذهب إلى الآخر آخرون، وعلى الأول فالمراد بقوله "فنردها على أدبارها" نجعلها قفا: أي نذهب بآثار الوجه وتخطيطه حتى يصير على هيئة القفا، وقيل: إنه بعد الطمس يردها إلى موضع القفا، والقفا إلى مواضعها، وهذا هو ألصق بالمعنى الذي يفيده قوله "فنردها على أدبارها". فإن قيل: كيف جاز أن يهددهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم؟ فقيل: إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين. وقال المبرد: الوعيد باق منتظر وقال: لا بد من طمس في اليهود، ونسخ قبل يوم القيامة. قوله "أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت" الضمير عائد إلى أصحاب الوجوه، قيل: المراد باللعن هنا المسخ لأجل تشبيهه بلعن أصحاب السبت، وكان لعن أصحاب السبت مسخهم قردة وخنازير، وقيل: المراد نفس اللعنة وهم ملعونون بكل لسان. والمراد وقوع أحد الأمرين: إما الطمس، أو اللعن. وقد وقع اللعن، ولكنه يقوي الأول تشبيه هذا اللعن بلعن أهل السبت. قوله "وكان أمر الله مفعولاً" أي: كائناً موجوداً لا محالة، أو يراد بالأمر المأمور. والمعنى: أنه متى أراده كان، كقوله "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون".
47-قوله عز وجل:"يا أيها الذين أوتوا الكتاب"، يخاطب اليهود،"آمنوا بما نزلنا"يعني: القرآن ، "مصدقاً لما معكم" ،يعني: التوراة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم أحبار اليهود: عبد الله بن صوريا وكعب بن الأشرف ، فقال : يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا ، فو الله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق ، قالوا: ما نعرف ذلك ، وأصروا على الكفر، فنزلت هذه الآية.
"من قبل أن نطمس وجوهاً" ، قال ابن عباس : نجعلها كخف البعير، وقال قتادة والضحاك: نعميها ، والمراد بالوجه العين ،"فنردها على أدبارها"، أي: نطمس الوجه فنرده على القفا، وقيل: نجعل الوجوه منا بت الشعر كوجوه القردة، لأن منابت شعور الآدميين في أدبارهم دون وجوههم ، وقيل: معناه نمحو آثارها وما فيها من أنف وعين وفم وحاجب فنجعلها كالأقفاء ، وقيل: نجعل عينيه على القفا فيمشي قهقري.
روي أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه لما سمع هذه الآية جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله ، ويده على وجهه ، وأسلم وقال: يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي، وكذلك كعب الأحبار لما سمع هذه الآية أسلم في زمن عمر رضي الله عنه،فقال: يا رب آمنت ، يا رب أسلمت ، مخافة أن يصيبه وعيد هذه الآية.
فإن قيل: قد أوعدهم بالطمس إن لم يؤمنوا ثم لم يؤمنوا ولم يفعل بهم ذلك ؟.
قيل: هذا الوعيد باق، ويكون طمس ومسخ في اليهود قبل قيام الساعة.
وقيل: كان هذا وعيداً بشرط ن فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه رفع ذلك عن الباقين.
وقيل: أراد به القيامة، وقال مجاهد/ أراد بقوله:"نطمس وجوهاً"أي: نتركهم في الضلالة، فيكون المراد طمس وجه القلب، ولارد عن بصائر الهدى على أدبارها في الكفر والضلالة.
وأصل الطمس : المحو والإفساد والتحويل، وقال ابن زيد: نمحو آثارهم من وجوههم ونواحيهم التي هم بها، فنردها على أدبارهم حتى يعودوا إلى حيث جاؤوا منه بدءاً وهو الشام ، وقال: قد مضى ذلك، وتأوله في إجلاء بني النضير إلى أذرعات واريحاء من الشام"أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت"، فنجعلهم قردة وخنازير،"وكان أمر الله مفعولاً".
47"يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها" من قبل أن نمحو تخطيط صورها ونجعلها على هيئة أدبارها، يعني الأقفاء، أو ننكسها إلى ورائها في الدنيا، أو في الآخرة. وأصل الطمس إزالة الأعلام المائلة وقد يطلق بمعنى الطلس في إزالة الصورة ولمطلق القلب والتغيير، ولذلك قيل معناه من قبل أن نغير وجوهاً فنسلب وجاهتها وإقبالها ونكسوها الصغار والإدبار، أو نردها إلى حيث جاءت منه، وهي أذرعات الشام يعني إجلاء بني النضير، ويقرب منه قول من قال إن المراد بالوجوه الرؤساء، أو من قبل أن نطمس وجوهاً بأن نعمي الأبصار عن الاعتبار ونصم الأسماع عن الإصغاء إلى الحق بالطبع ونردها عن الهداية إلى الضلالة. "أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت" أو نخزيهم بالمسخ كما أخزينا به أصحاب السبت، أو نمسخهم مسخاً مثل مسخهم، أو نلعنهم على لسانك كما لعناهم على لسان داود. والضمير لأصحاب الوجوه أو للذين على طريقة الإلتفات، أو للوجوه إن أريد به الوجهاء، وعطفه على الطمس بالمعنى الأول يدل على أن المراد به ليس مسخ الصورة في الدنيا ومن حمل الوعيد على تغيير الصورة في الدنيا قال إنه بعد مترقب أو كان وقوعه مشروطاً بعد إيمانهم وقد آمن منهم طائفة. "وكان أمر الله" بإيقاع شيء أو وعيده، أو ما حكم به أو قضاه. "مفعولاً" نافذاً وكائناً فيقع لا محالة ما أوعدتم به إن لم تؤمنوا.
47. O ye unto whom the Scripture hath been given! Believe in what We have revealed concerning that which ye possess, before We destroy countenances so as to confound them, or curse them as We cursed the Sabbath breakers (of old time). The commandment of Allah is always executed.
47 - Ye people of the book believe in what we have (now) revealed, confirming what was (already) with you, before we change the face and fame of some (of you) beyond all recognition, and turn them hindwards, or curse them as we cursed the Sabbath breakers, for the decision of God must be carried out.