[النساء : 29] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا
(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) بالحرام في الشرع كالربا والغصب (إلا) لكن (أن تكون) تقع (تجارةٌ) وفي قراءة بالنصب ، أن تكون الأموال أموال تجارة صادرة (عن تراض منكم) وطيب نفس فلكم أن تأكلوها (ولا تقتلوا أنفسكم) بارتكاب ما يؤدي إلى هلاكها أيا كان في الدنيا أو الآخرة بقرينة (إن الله كان بكم رحيما) في منعه لكم من ذلك
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "يا أيها الذين آمنوا"، صدقوا الله ورسوله، "لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل"، يقول: لا يأكل بعضكم أموال بعض بما حرم عليه، من الربا والقمار وغير ذلك من الأمور التى نهاكم الله عنها، "إلا أن تكون تجارة"، كما:
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم"، أما أكلهم أموالهم بينهم بالباطل، فبالربا والقمار والبخس والظلم، "إلا أن تكون تجارة"، ليربح في الدرهم ألفاً إن استطاع.
حدثني محمد ين المثنى قال، حدثنا محمد بن الفضل أبو النعمان قال، حدثنا خالد الطحان قال، أخبرنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى: "لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل"، قال: الرجل يشتري السلعة فيردها ويرد معها درهماً.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، في الرجل يشتري من الرجل الثوب فيقول: إن رضيته أخذته وإلا رددته ورددت معه درهماً، قال: هو الذي قال الله: "لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل".
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية بالنهي عن أن يأكل بعضهم طعام بعض إلا بشراء. فأما قرى، فإنه كان محظوراً بهذه الآية، حتى نسخ ذلك بقوله في سورة النور: "ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم" الآية [النور: 61].
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسن بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا في قوله: "لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم" الآية، فكان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الاية، فنسخ ذلك بالآية التي في سورة النور، فقال: "ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم" إلى قوله: "جميعا أو أشتاتا" [النور: 61]. فكان الرجل الغني يدعو الرجل من أهله إلى الطعام، فيقول: إني لأتجنح! -والتجنح التحرج- ويقول: المساكين أحق به مني! فأحل من ذلك أن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وأحل طعام أهل الكتاب.
قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بالصواب في ذلك، قول السدي. وذلك أن الله تعالى ذكره حرم أكل أموالنا بيننا بالباطل، ولا خلاف بين المسلمين أن أكل ذلك حرام علينا، فإن الله لم يحل قط أكل الأموال بالباطل.
وإذ كان ذلك كذلك، فلا معنى لقول من قال: كان ذلك نهياً عن أكل الرجل طعام أخيه قرىً على وجه ما أذن له، ثم نسخ ذلك، لنقل علماء الأمة جميعاً وجهالها: أن قرى الضيف وإطعام الطعام كان من حميد أفعال أهل الشرك والإسلام التي حمد الله أهلها عليها وندبهم إليها، وأن الله لم يحرم ذلك في عصر من العصور، بل ندب الله عباده وحثهم عليه.
وإذ كان ذلك كذلك، فهو من معنى الأكل بالباطل خارج، ومن أن يكون ناسخاً أو منسوخاً بمعزل. لأن النسخ إنما يكون لمنسوخ، ولم يثبت النهي عنه، فيجوز أن يكون منسوخاً بالإباحة.
وإذ كان ذلك كذلك، صح القول الذي قلناه: من أن الباطل الذي نهى الله عن أكل الأموال به، هو ما وصفنا مما حرمه على عباده في تنزيله أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم- وشذ ما خالفه.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: "إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم".
فقرأها بعضهم: إلا أن تكون تجارة رفعاً، بمعنى: إلا أن توجد تجارة، أو: تقع تجارة، عن تراض منكم، فيحل لكم أكلها حينئذ بذلك المعنى.
ومذهب من قرأ ذلك على هذا الوجه: "إلا أن تكون" تامةً ههنا، لا حاجة بها إلى خبر، على ما وصفت. وبهذه القراءة قرأ أكثر أهل الحجاز وأهل البصرة.
وقرأ ذلك آخرون، وهم عامة قرأة الكوفيين: "إلا أن تكون تجارة"، نصباً، بمعنى: إلا أن تكون الأموال التي تاكلونها بينكم، تجارةً عن تراض منكم، فيحل لكم هنالك أكلها. فتكون الأموال مضمرة في قوله: "إلا أن تكون" والتجارة منصوبة على الخبر.
قال أبو جعفر: وكلتا القراءتين عندنا صواب جائزة القراءة بهما، لاستفاضتهما في قرأة الأمصار، مع تقارب معانيهما. غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن قراءة ذلك بالنصب، أعجب إلي من قراءته بالرفع، لقوة النصب من وجهين:
أحدهما: أن في "تكون" ذكر من الأموال. والآخر: أنه لو لم يجعل فيها ذكر منها، ثم أفردت بـ التجارة، وهي نكرة، كان فصيحاً في كلام العرب النصب، إذ كانت مبنيةً على اسم وخبر. فإذا لم يظهر معها إلا نكرة واحدة، نصبوا ورفعوا، كما قال الشاعر:
إذا كان طعناً بينهم وعناقا
قال أبو جعفر: ففي هذه الآية إبانة من الله تعالى ذكره عن تكذيب قول الجهلة من المتصوفة المنكرين طلب الأقوات بالتجارات والصناعات، والله تعالى يقول: "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم"، اكتساباً منا ذلك بها، كما:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم"، قال: التجارة رزق من رزق الله، وحلال من حلال الله، لمن طلبها بصدقها وبرها. وقد كنا نحدث: أن التاجر الأمين الصدوق مع السبعة في ظل العرش يوم القيامة.
وأما قوله: "عن تراض"، فإن معناه كما:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى: "عن تراض منكم"، في تجارة بيع، أو عطاء يعطيه أحد أحداً.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "عن تراض منكم" في تجارة، أو بيع، أو عطاء يعطيه أحد أحداً.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن القاسم، عن سليمان الجعفي، عن أبيه، عن ميمون بن مهران قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البيع عن تراض، والخيار بعد الصفقة، ولا يحل لمسلم أن يغش مسلماً".
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: المماسحة، بيع هي؟ قال: لا، حتى يخيره، التخيير بعد ما يجب البيع، إن شاء أخذ، وإن شاء ترك.
واختلف أهل العلم في معنى التراضي في التجارة.
فقال بعضهم: هو أن يخير كل واحد من المتبايعين بعد عقدهما البيع بينهما فيما تبايعا فيه، من إمضاء البيع أو نقضه، أو يتفرقا عن مجلسهما الذي تواجبا فيه البيع بأبدانهما، عن تراض منهما بالعقد الذي تعاقداه بينهما قبل التفاسخ.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن محمد بن سيرين، عن شريح قال: اختصم رجلان باع أحدهما من الآخر برنساً، فقال: إني بعت من هذا برنساً، فاسترضيته فلم يرضني!! فقال: أرضه كما أرضاك. قال: إني قد أعطيته دراهم ولم يرض! قال: أرضه كما أرضاك. قال: قد أرضيته فلم يرض! فقال: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبي، عن شريح قال: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الحكم، عن شريح مثله.
حدثنا ابن المثنى قال حدثنا محمد قال، حدثنا شعبة، عن جابر قال، حدثني أبو الضحى، عن شريح أنه قال: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، قال قال أبو الضحى: كان شريح يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وحدثني الحسين بن يزيد الطحان قال، حدثنا إسحق بن منصور، عن عبد السلام، عن رجل، عن أبي حوشب، عن ميمون قال: اشتريت من ابن سيرين سابرياً، فسام علي سومه، فقلت: أحسن! فقال: إما أن تأخذ وإما أن تدع. فأخذت منه، فلما وزنت الثمن وضع الدراهم فقال: اختر، إما الدراهم، وإما المتاع. فاخترت المتاع فأخذته.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن إسمعيل بن سالم، عن الشعبي أنه كان يقول في البيعين: إنهما بالخيار ما لم يتفرقا، فإذا تصادرا فقد وجب البيع.
حدثنا محمد بن إسمعيل الأحمسي قال، حدثنا محمد بن عبيد قال، حدثنا سفيان بن دينار، عن ظبية قال: كنت في السوق وعلي رضي الله عنه في السوق، فجاءت جارية إلى بيع فاكهة بدرهم، فقالت: أعطني هذا. فأعطاها إياه، فقالت: لا أريده، أعطني درهمي! فأبى، فأخذه منه علي فأعطاها إياه.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي: أنه أتي في رجل اشترى من رجل برذوناً ووجب له، ثم إن المبتاع رده قبل أن يتفرقا، فقضى أنه قد وجب عليه، فشهد عنده أبو الضحى: أن شريحاً قضى في مثله أن يرده على صاحبه. فرجع الشعبي إلى قضاء شريح.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا هشام، عن ابن سيرين، عن شريح: أنه كان يقول في البيعين إذا ادعى المشتري، أنه قد أوجب له البيع، وقال البائع: لم أوجب له، قال: شاهدان عدلان أنكما افترقتما عن تراض بعد بيع أو تخاير، وإلا فيمين البائع: أنكما [ما] افترقتما عن بيع ولا تخاير.
حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد قال، كان شريح يقول: شاهدان ذوا عدل أنكما افترقتما عن تراض بعد بيع وتخاير، وإلا فيمينه بالله: ما تفرقتما عن تراض بعد بيع أو تخاير.
حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن شريح أنه كان يقول: شاهدان ذوا عدل أنهما تفرقا عن تراض بعد بيع أوتخاير.
وعلة من قال هذه المقالة، ما:
حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله قال، أخبرني نافع، عن ابن عمر، "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يتفرقا، إلا أن يكون خياراً".
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مروان بن معاوية قال، حدثني يحيى بن أيوب قال، كان أبو زرعة إذا بايع رجلاً يقول له: خيرني! ثم يقول: قال أبو هريرة: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يفترق اثنان إلا عن رضى".
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أهل البقيع! فسمعوا صوته، ثم قال: يا أهل البقيع! فاشرأبوا ينظرون، حتى عرفوا أنه صوته، ثم قال: يا أهل البقيع! لا يتفرقن بيعان إلا عن رضى".
حدثني أحمد بن محمد الطوسي قال، حدثنا أبو داود الطيالسي قال، حدثنا سليمان بن معاذ قال، حدثنا سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع رجلاً ثم قال له: اختر. فقال: قد اخترت. فقال: هكذا البيع".
قالوا: فالتجارة عن تراض، هو ما كان على ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم من تخيير كل واحد من المشتري والبائع في إمضاء البيع فيما يتبايعانه بينهما، أو نقضه بعد عقد البيع بينهما وقبل الافتراق، أو ما تفرقا عنه بأبدانهما عن تراض منهما بعد مواجبة البيع فيه عن مجلسهما. فما كان بخلاف ذلك، فليس من التجارة التي كانت بينهما عن تراض منهما.
وقال آخرون: بل التراضي في التجارة، تواجب عقد البيع فيما تبايعه المتبايعان بينهما عن رضى من كل واحد منهما: ما ملك عليه صاحبه وملك صاحبه عليه، افترقا عن مجلسهما ذلك أو لم يفترقا، تخايرا في المجلس أو لم يتخايرا فيه بعد عقده.
وعلة من قال هذه المقالة: أن البيع إنما هو بالقول، كما أن النكاح بالقول. ولا خلاف بين أهل العلم في الإجبار في النكاح لأحد المتناكحين على صاحبه، افترقا أو لم يفترقا عن مجلسهما الذي جرى ذلك فيه. قالوا: فكذلك حكم البيع. وتأولوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا"، على أنه ما لم يتفرقا بالقول. وممن قال هذه المقالة مالك بن أنس، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد.
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في ذلك عندنا، قول من قال: إن التجارة التي هي عن تراض بين المتبايعين، ما تفرق المتبايعان عن المجلس الذي تواجبا فيه بينهما عقدة البيع بأبدانهما، عن تراض منهما بالعقد الذي جرى بينهما، وعن تخيير كل واحد منهما صاحبه، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما:
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يكون بيع خيار"، وربما قال: "أو يقول أحدهما للآخر اختر".
فإذ كان ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحاً، فليس يخلو قول أحد المتبايعين لصاحبه: اختر، من أن يكون قبل عقد البيع، أو معه، أو بعده.
فإن يكن قبله، فذلك الخلف من الكلام الذي لا معنى له، لأنه لم يملك قبل عقد البيع أحد المتبايعين على صاحبه ما لم يكن له مالكاً، فيكون لتخييره صاحبه فيما ملك عليه وجه مفهوم، ولا فيهما من يجهل أنه بالخيار في تمليك صاحبه ما هو له غير مالك بعوض يعتاضه منه، فيقال له: أنت بالخيار فيما تريد أن تحدثه من بيع أو شراء.
أو يكون -إذ بطل هذا المعنى- تخيير كل واحد منهما صاحبه مع عقد البيع. ومعنى التخيير في تلك الحال، نظير معنى التخيير قبلها. لأنها حالة لم يزل فيها عن أحدهما ما كان مالكه قبل ذلك إلى صاحبه، فيكون للتخيير وجه مفهوم.
أو يكون ذلك بعد عقد البيع، إذ فسد هذان المعنيان.
وإذ كان ذلك كذلك، صح أن المعنى الآخر من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم -أعني قوله: "ما لم يتفرقا"- إنما هو التفرق بعد عقد البيع، كما كان التخيير بعده. وإذ صح ذلك، فسد قول من زعم أن معنى ذلك إنما هو التفرق بالقول الذي به يكون البيع. وإذ فسد ذلك، صح ما قلنا من أن التخيير والافتراق إنما هما معنيان بهما يكون تمام البيع بعد عقده، وصح تأويل من قال: معنى قوله: "إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم": إلا أن يكون أكلكم الأموال التي يأكلها بعضكم لبعض، عن ملك منكم عمن ملكتموها عليه، بتجارة تبايعتموها بينكم، وافترقتم عنها عن تراض منكم بعد عقد البيع بينكم بأبدانكم، أو تخيير بعضكم بعضاً.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: "ولا تقتلوا أنفسكم"، ولا يقتل بعضكم بعضاً، وأنتم أهل ملة واحدة، ودعوة واحدة، ودين واحد. فجعل جل ثناؤه أهل الإسلام كلهم بعضهم من بعض. وجعل القاتل منهم قتيلاً، في قتله إياه منهم، بمنزلة قتله نفسه، إذ كان القاتل والمقتول أهل يد واحدة على من خالف ملتهما.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "ولا تقتلوا أنفسكم"، يقول: أهل ملتكم.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح: "ولا تقتلوا أنفسكم"، يقول: قتل بعضكم بعضاً.
وأما قوله جل ثناؤه: "إن الله كان بكم رحيما"، فإنه يعني: إن الله تبارك وتعالى لم يزل "رحيما" بخلقه، ومن رحمته بكم كف بعضكم عن قتل بعض، أيها المؤمنون، بتحريم دماء بعضكم على بعض إلا بحقها، وحظر أكل مال بعضكم على بعض بالباطل، إلا عن تجارة يملك بها عليه برضاه وطيب نفسه. لولا ذلك هلكتم وأهلك بعضكم بعضاً قتلاً وسلباً وغصباً.
فيه تسع مسائل:
الأولى- قوله تعالى :" بالباطل " أي بغير حق ووجوه ذلك تكثر على ما بيناه وقد قدمنا معناه في البقرة ومن أكل المال بالباطل بيع العريان وهو أن يأخذ منك السلعة أو يكتري منك الدابة ويعطيك درهماً فما فوقه، على أنه إن اشتراها أو ركب الدابة فهو من ثمن السلعة أو كراء الدابة، وإن ترك ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطاك فهو لك فهذا لا يصلح ولا يجوز عند جماعة فقهاء الأمصار من الحجازيين والعراقيين، لأنه من باب بيع القمار والغرر والمخاطرة وأكل المال بالباطل بغير عوض ولا هبة، وذلك باطل بإجماع وبيع العربان مفسوخ إذا وقع على هذا الوجه قبل القبض وبعده، وترد السلعة إن كانت قائمة، فإن فاتت رد قيمتها يوم قبضها ، وقد روي عن قوم منهم ابن سيرين ومجاهد ونافع بن عبد الحارث وزيد بن أسلم أنهم أجازوا بيع العربان على ما وصفنا، وكان زيد بن أسلم يقول: أجازه رسول الله صلى الله عليه قال أبو عمر: هذا لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه يصح، وإنما ذكره عبد الرزاق عن الأسلمي عن زيد بن أسلم مرسلاً معه، وذلك أن يعربنه ثم يحسب عربانه من الثمن إذا اختار تمام البيع . وهذا لا خلاف في جوازه عن مالك وغيره، وفي موطأ مالك عن الثقة عنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
نهى عن بيع العربان" قال أبو عمر: قد تكلم الناس في الثقة عنده في هذا الموضع، وأشبه ما قيل فيه: أنه أخذه عن ابن لهيعة أو عن ابن وهب عن ابن لهيعة لأن ابن لهيعة سمعه من عمرو بن شعيب ورواه عنه حدث به عن ابن لهيعة ابن وهب وغيره وابن لهيعة أحد العلماء إنه أنه يقال: إنه احترقت كتبه فكان إذا حدث بعد ذلك من حفظه غلط، وما رواه عن ابن المبارك وابن وهب فيه وعند بعضهم صحيح ومنهم من يضعف حديثه كله، وكان عنده علم واسع وكان كثير الحديث، إلا أن حاله عندهم كما وصفنا .
الثانية- قوله تعالى :" إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم " هذا استثناء منقطع أي ولكن تجارة عن تراض والتجارة هي البيع والشراء، وهذا مثل قوله تعالى :" وأحل الله البيع وحرم الربا" [البقرة:275]على ما تقدم وقرئ تجارة بالرفع أي إلا أن تقع تجارة وعليه أنشد سيبويه:
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي إذا كان يوم ذو كواكب أشهب
وتسمى هذه كان التامة، لأنها تمت بفاعلها ولم تحتج إلى مفعول وقرئ تجارة بالنصب فتكون كان ناقصة، لأنها لا تتم بالاسم دون الخبر فاسمها مضمر فيها ، وإن شئت قدرته أي إلا أن تكون الأموال أموال تجارة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وقد تقدم هذا ومنه قوله تعالى :" وإن كان ذو عسرة " [البقرة :280]
الثالثة- قوله تعالى : "تجارة" التجارة في اللغة عبارة عن معاوضة ومن الأجر الذي يعطيه البارئ سبحانه العبد عوضاً عن الأعمال الصالحة التي هي بعض من فعله قال الله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم " [ الصف:10] وقال تعالى :" يرجون تجارة لن تبور" [فاطر:29] وقال تعالى :" إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم " [ التوبة :111] الآية فسمى ذلك كله بيعاً وشراء على وجه المجاز تشبيها ً بعقود الأشرية والبياعات التي تحصل بها الأغراض، وهي نوعان تقلب في الحضر من غير نقله ولا سفر، وهذا تربص واحتكار قد رغب عنه أولوا الأقدار، وزهد فيه ذوو الأخطار والثاني تقلب المال بالأسفار ونقله إلى الأمصار فهذا أليق بأهل المروءة وأعم جدوى ومنفعة غير أنه أكثر خطراً وأعظم غرراً وقد "روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن المسافر وماله لعلى قلت إلا ما وقى الله " يعنى على خطر. وقل: في التوراة يا ابن آدم، أحدث سفراً أحدث لك رزقاً الطبري: وهذه الآية أدل دليل على فساد قول .
الرابعة - أعلم أن كل معاوضة تجارة على أي وجه كان العوض، إلا أن قوله " بالباطل " أخرج منها كل عوض لا يجوز شرعاً من رباً أو جهالةً أو تقدير عوض فاسد كالخرم والخنزير وغير ذلك . وخرج منها أيضاً كل عقد جائز لا عوض فيه، كالقرض والصدقة والهبة لا للثواب، وجازت عقود التبرعات بأدلة أخرى مذكورة في مواضعها فهذان طرفان متفق عليهما، وخرج منها أيضاً دعاء أخيك إياك إلى طعامه روى أبو داود عن ابن عباس في قوله تعالى :" لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم " فكان الرجل يحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذا الآية فنسخ ذلك بالآية الأخرى التي في النور فقال: " ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم " [ النور :61] إلى قوله " أشتاتا" [النور: 61] فكان الرجل الغني يدعو الرجل من أهله إلى طعامه فيقول : أني لأجنح أن آكل منه- والتجنج الحرج- ويقول : المسكين أحق به مني فأحل في ذلك أن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وأحل طعام أهل الكتاب.
الخامسة- لو اشتريت من السوق شيئاً فقال لك صاحبه قبل الشراء ذقه وأنت في حل فلا تأكل منه لأن إذنه بالأكل لأجل الشراء، فربما لا يقع بينكما شراء فيكون ذلك الأكل شبهة ولكن لو وصف لك صفة فاشتريته فلم تجده على تلك الصفة فأنت بالخيار
السادسة- والجمهور على جواز الغبن في التجارة مثل أن يبيع رجل ياقوتة بدرهم وهي تساوي مائة فذلك جائز، وأن المالك الصحيح الملك جائز له أن يبيع ماله الكثير بالتافه اليسير، وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء إذا عرف قدر ذلك ما تجوز الهبة لو وهب واختلفوا فيه إذا لم يعرف قدر ذلك ، فقال قوم: عرف قدر ذلك أو لم يعرف فهو جائز إذا كان رشيداً حراً بالغاً وقالت فرقة: الغبن إذا تجاوز الثلث مردود وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات وأما المتفاحش الفادح فلا ، وقاله ابن وهب من أصحاب مالك رحمه الله والأول أصح، "لقوله عليه السلام في حديث الأمة الزانية :فليبعها ولو بضفير" و"قوله عليه السلام لعمر :
لا تبتعه - يعني الفرس - ولو أعطاكه بدرهم واحد" و"قوله عليه السلام:
دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض " "قوله عليه السلام:
لا يبع حاضر لباد " ليس فيها تفصيل بين القليل والكثير من ثلث ولا غيره .
السابعة- قوله تعالى :" عن تراض منكم" أي عن رضي ، إلا أنها جاءت من المفاعلة إذ التجارة من اثنين واختلف العلماء في التراضي فقالت : طائفة : تمامه وجزمه بافتراق الأبدان بعد عقده البيع، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه: اختر فيقول : قد اخترت وذلك بعد العقدة أيضاً فينجزم أيضاً وإن لم يتفرقا، قاله جماعة من الصحابة والتابيعن وبه قال الشافعي والثور والأوزاعي والليث وابن عيينة وإسحاق وغيرهم قال الأوزاعي: هما بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيوعاً ثلاثة: بيع السلطان المغانم والشركة، في الميراث والشركة في التجارة فإذا صافقه في هذه الثلاثة فقد وجب البيع وليسا فيه بالخيار . وقال : وحد التفرقة أن يتوارى كل واحد منهما عن صاحبه، وهو قول أهل الشام.وقال الليث: التفرق أن يقوم أحدهما : وكان أحمد بن حنبل يقول: هما بالخيار أبداً ما لم يتفرقل بأبدانهما وسواء قالا:اخترنا أو لم يقولاه حتى يفترقا بأبدانهما من مكانهما وقاله الشافعي أيضاً، وهو الصحيح في هذا الباب للأحاديث الواردة في ذلك وهو مروي عن ابن عمر وأبي برزة وجماعة من العلماء وقال مالك وأبو حنيفة: تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة فنيجزم العقد بذلك ويرتفع الخيار قال محمد بن الحسن معنى قوله في الحديث :
"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" أن البائع إذا قال: قد بعتك فله أن رجع ما لم يقل المشتري قد قيل المشتري قد قبلت: وهو قول أبي حنيفة ونص مذهب مالك أيضاً، حكاه ابن خويز منداد وقيل: ليس له أن يرجع، وقد مضى في البقرة واحتج الأولون بما ثبت من حديث سمرة بن جندب وأبي برزة وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وحكيم بن حزام وغيرهم "عن النبي صلى الله عليه وسلم :
البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه اختر " رواه أيوب عن نافع عن ابن عمر فقوله عليه السلام في هذه الرواية: "أو يقول أحدهما لصاحبه اختر " هو معنى الرواية الأخرى "إلا بيع الخيار " وقوله : " إلا أن يكون بيعهما عن خيار" ونحوه أي يقول أحدهما بعد تمام البيع لصاحبه: اختر إنفاذ البيع أو فسخه، فإن اختار إمضاء البيع تم البيع بينهما وإن لم يتفرقا وكان ابن عمر وهو راوي الحديث إذا بايع أحداً وأحب أن ينفذ البيع مشى قليلاً ثم رجع وفي الأصول: أن من روى حديثا فهو أعلم بتأويله ، لا سيما الصحابة إذ هم أعلم بالمقال وأقعد بالحال. وروى أبو داود والدارقطني عن أبي الوضيء قال :كنا في سفر في عسكر فأتى رجل معه فرس فقال له رجل منا: أتبيع هذا الفرس بهذا الغلام ؟ قال نعم، فباعه ثم بات معنا، فلما أصبح قام إلى فرسه قال له صاحبنا: مالك والفرس أليس قد بعتنيها فقال: مالي في هذا البيع من حاجة: فقال: مالك ذلك لقد بعتني فقال لهما القوم: هذا أبو برزة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتياه فقال لهما:
أترضيان بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال نعم: فقال "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " وإني لا أراكما افترقتما . فهذان صحابيان قد علما مخرج الحديث وعملا بمقتضاه بل هذا كان عمل الصحابة: قال سالم قال ابن عمر: كنا إذا تبايعنا كان كل واحد منا بالخيار ما لم يتفرق المتبايعان قال: فتبايعت أنا وعثمان فبعته مالي بالوادي بمال له بخيبر، قال : فلما بعته طفقت أنكص القهقري خشية أن يرادني عثمان البيع قبل أن أفارقه أخرجه الدارقطني ثم قال : إن أهل اللغة فرقوا بين فرقت مخففاً وفرقت مثقلاً فجعلوه بالتخفيف في الكلام وبالتثقيل في الأبدان، قال أحمد يحيى ثعلب: أخبرني ابن الأعرابي عن المفضل قال: يقال فرقت بين الكلامين مخففاً فافترقا بين اثنين مشدداً فتفرقا فجعل الافتراق في القول، والتفرق في الأبدان احتجب المالكية بما تقدم بيانه في آية الدين وبقوله تعالى :" أوفوا بالعقود " [ المائدة:1] وهذان قد تعاقدا وفي هذا الحديث إبطال الوفاء بالعقود قالوا: وقد يكون التفرق بالقول كعقد النكاح ووقوع الطلاق الذي قد سماه الله فراقاً قال الله تعالى : " وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته" [ النساء : 130] وقال تعالى :" ولا تكونوا كالذين تفرقوا " [ آل عمران:105] و"قال عليه السلام:
تفترق أمتي" ولم يقل بأبدانها وقد روى الدارقطني وغيره "عن عمرو بن شعيب قال سمعت شعيباً يقول سمعت عبد الله بن عمرو يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أيما رجل ابتاع من رجل بيعة فإن كل واحد منهما بالخيار حتى يتفرقا من مكانهما إلا أن تكون صفقة خيار فلا يحل لأحدهما أن يفارق صاحبه مخافة أن يقيله " قالوا: فهذا يدل على أنه قد تم البيع بينهما قبل الافتراق لأن الإقالة لا تصح إلا فيما قد تم من البيوع. قالوا: ومعنى قوله "المتبايعان بالخيار" أي المتساومان بالخيار ما لم يعقداً فإذا عقداً بطل الخيار فيه والجواب - أما ما اعتلوا به من الافتراق بالكلام فإنما المراد بذلك الأديان كما بيناه في آل عمران وإن كان صحيحاً في بعض المواضع فهو في هذا الموضع غير صحيح وبيانه أن يقال: خبرونا عن الكلام الذي وقع به الاجتماع وتم به البيع أهو الكلام الذي أريد به الافتراق أم غيره؟ فإن قالوا: هو غيره فقد أحالوا وجاءوا بما لا يعقل لأنه ليس ثم كلام غير ذلك، وإن قالوا: هو ذلك الكلام بعينه قيل لهم: كيف يجوز أن يكون الكلام الذي به اجتمعا وتم به بيعهما به افترقا هذا عين المحال والفاسد من القول وأما قوله: "ولا يحل له أن يفارق صاحبه مخافة أن يقيله " فمعناه إن صح - على الندب بدليل "قوله عليه السلام:
من أقال مسلماً أقاله الله عثرته، " وبإجماع المسلمين على أن ذلك يحل لفاعله على خلاف ظاهر الحديث، ولإجماعهم أنه جائز له أن يفارقه لينفذ بيعه ولا يقيله إلا أن يشاء. وفيما أجمعوا عليه من ذلك رد لرواية من روى "لا يحل " فإن لم يكن وجه هذا الخبر الندب ، وإلا فهو باطل بالإجماع. وأما تأويل المتبايعان بالمتساومين فعدول عن ظاهر اللفظ وإنما معناه المتبايعان بعد عقدهما مخيران ما داما في مجلسهما إلا بيعاً يقول أحدهما لصاحبه فيه: اختر فيختار فإن الخيار ينقطع بينهما وإن لم يتفرقا فإن فرض خيار فالمعنى : إلا بيع الخيار فإنه يبقى الخيار بعد التفرق بالأبدان، وتتميم هذا الباب في كتب الخلاف، وفي قول عمرو بن شعيب سمعت أبي يقول: دليل على صحة حديثه فإن الدارقطني قال: حدثنا أبو بكر النيسابوري حدثنا محمد بن علي الوراق قال قلت لأحمد بن حنبل: شعيب سمع من أبيه شيئاً قال : يقول حدثني أبي قال فقلت: فأبوه سمع من عبد الله بن عمرو؟ قال : نعم أراه قد سمع منه قال الدارقطني سمعت أبا بكر النيسابوري يقول: هو عمرو بن شعيب محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص وقد صح سماع عمرو بن شعيب من أبيه شعيب وسماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو وقد صح سماع عمرو بن شعيب من أبيه شعيب وسماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو .
الثامنة- روى الدارقطني "عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
التاجر الصدوق الأمين المسلم مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة " ويكره للتاجر أن يحلف لأجل ترويج السلعة وتزيينها أو يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في عرض سلعته وهو أن يقول: صلى الله على محمد ! ما أجود هذا ويستحب للتاجر ألا تشغله تجارته عن أداء الفرائض فإذا جاء وقت الصلاة ينبغي أن يترك تجارته حتى يكون من أهل هذه الآية " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " [ النور :37] وسيأتي .
التاسعة - وفي هذه الآية مع الأحاديث التي ذكرناها ما يرد قول من ينكر طلب الأقوات بالتجارات والصناعات من المتصوفة الجهلة لأن الله تعالى حرم أكلها بالباطل وأحلها بالتجارة وهذا بين .
قوله تعالى :" ولا تقتلوا أنفسكم " فيه مسألة واحدة - قرأ الحسن تقتلوا على التكثير وأجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهي أن يقتل بعض الناس بعضاً ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل في الحرص على الدنيا وطلب المال بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى التلف ويحتمل أن يقال " ولا تقتلوا أنفسكم " في حال ضجر أو غضب فهذا كله يتناوله النهي وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد حين أجنب في غزوة ذات السلاسل خوفاً على نفسه منه فقرر النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه وضحك عنده ولم يقل شيئاً خرج أبو داود وغيره وسيأتي .
ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضاً بالباطل, أي بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية كأنواع الربا والقمار, وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل, وإن ظهرت في غالب الحكم الشرعي مما يعلم الله أن متعاطيها إنما يريد الحيلة على الربا, حتى قال ابن جرير: حدثني ابن المثنى, حدثنا عبد الوهاب, حدثنا داود عن عكرمة, عن ابن عباس في الرجل يشتري من الرجل الثوب فيقول: إن رضيته أخذته, وإلا رددته ورددت معه درهماً, قال: هو الذي قال الله عز وجل فيه "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن حرب الموصلي, حدثنا ابن فضيل عن داود الأودي, عن عامر, عن علقمة, عن عبد الله في الاية, قال: إنها محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لما أنزل الله "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" قال المسلمون: إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل, والطعام هو أفضل أموالنا, فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد, فكيف للناس ؟ فأنزل الله بعد ذلك "ليس على الأعمى حرج" الاية, وكذا قال قتادة, وقوله تعالى: "إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم" قرىء تجارة بالرفع وبالنصب وهو استثناء منقطع, كأنه يقول: لا تتعاطوا الأسباب المحرمة في اكتساب الأموال, ولكن المتاجر المشروعة التي تكون عن تراض من البائع والمشتري فافعلوها وتسببوا بها في تحصيل الأموال, كما قال تعالى: "ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق", وكقوله "لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى". ومن هذه الاية الكريمة احتج الشافعي على أنه لا يصح البيع إلا بالقبول, لأنه يدل على التراضي نصاً بخلاف المعاطاة, فإنها قد لا تدل على الرضى ولا بد, وخالف الجمهور في ذلك مالك وأبو حنيفة وأحمد وأصحابهم, فرأوا أن الأقوال كما تدل على التراضي فكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعاً, فصححوا بيع المعاطاة مطلقاً, ومنهم من قال: يصح في المحقرات وفيما يعده الناس بيعاً وهو احتياط نظر من محققي المذهب, والله أعلم. وقال مجاهد "إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم" بيعاً أو عطاء يعطيه أحد أحداً, ورواه ابن جرير, ثم قال: وحدثنا وكيع, حدثنا أبي عن القاسم, عن سليمان الجعفي, عن أبيه, عن ميمون بن مهران, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "البيع عن تراض والخيار بعد الصفقة, ولا يحل لمسلم أن يغش مسلماً" هذا حديث مرسل. ومن تمام التراضي إثبات خيار المجلس, كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "البيعان بالخيار مالم يتفرقا" وفي لفظ البخاري "إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار مالم يتفرقا", وذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث أحمد والشافعي وأصحابهما وجمهور السلف والخلف, ومن ذلك مشروعية خيار الشرط بعد العقد إلى ثلاثة أيام بحسب ما يتبين فيه حال البيع ولو إلى سنة في القرية ونحوها, كما هو المشهور عن مالك رحمه الله, وصححوا بيع المعاطاة مطلقاً وهو قول في مذهب الشافعي, ومنهم من قال: يصح بيع المعاطاة في المحقرات فيما يعده الناس بيعاً وهو اختيار طائفة من الأصحاب كما هو متفق عليه, وقوله "ولا تقتلوا أنفسكم" أي بارتكاب محارم الله, وتعاطي معاصيه, وأكل أموالكم بينكم بالباطل "إن الله كان بكم رحيماً" أي فيما أمركم به ونهاكم عنه. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس, عن عبد الرحمن بن جبير, عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم, عام ذات السلاسل, قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد, فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك, فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح, قال: فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم, ذكرت ذلك له, فقال "يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب" قال: قلت: يا رسول الله, إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد, فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك, فذكرت قول الله عز وجل "ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً" فتيممت ثم صليت, فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً, وهكذا رواه أبو داود من حديث يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب به. ورواه أيضاً عن محمد بن أبي سلمة, عن ابن وهب, عن ابن لهيعة وعمر بن الحارث, كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب, عن عمران بن أبي أنس, عن عبد الرحمن بن جبير المصري, عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عنه, فذكر نحوه, وهذا ـ والله أعلم ـ أشبه بالصواب. وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد البلخي, حدثنا محمد بن صالح بن سهل البلخي, حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري, حدثنا يوسف بن خالد, حدثنا زياد بن سعد عن عكرمة, عن ابن عباس أن عمرو بن العاص صلى بالناس وهو جنب, فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فدعاه فسأله عن ذلك, فقال: يا رسول الله, خفت أن يقتلني البرد, وقد قال الله تعالى: "ولا تقتلوا أنفسكم" الاية, فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم أورد ابن مردويه عند هذه الاية الكريمة من حديث الأعمش عن أبي صالح, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قتل نفسه بحديدة, فحديدته في يده, يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً, ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده, يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ومن تردى من جبل فقتل نفسه, فهو مترد في نار جهنم خالداً فيها أبداً" وهذا الحديث ثابت في الصحيحين, وكذلك رواه أبو الزناد عن الأعرج, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه, وعن أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة" وقد أخرجه الجماعة في كتبهم من طريق أبي قلابة. وفي الصحيحين من حديث الحسن عن جندب بن عبد الله البجلي, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان رجل ممن كان قبلكم وكان به جرح فأخذ سكيناً نحر بها يده, فمارقأ الدم حتى مات, قال الله عز وجل "عبدي بادرني بنفسه, حرمت عليه الجنة" ولهذا قال تعالى: "ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً" أي ومن يتعاطى ما نهاه الله عنه معتدياً فيه ظالماً في تعاطيه أي عالماً بتحريمه متجاسراً على انتهاكه "فسوف نصليه ناراً" الاية, وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد, فليحذر منه كل عاقل لبيب ممن ألقى السمع وهو شهيد. وقوله تعالى: "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم" الاية, أي إذا اجتنبتم كبائر الاثام التي نهيتم عنها, كفرنا عنكم صغائر الذنوب وأدخلناكم الجنة, ولهذا قال "وندخلكم مدخلاً كريماً" وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا مؤمل بن هشام, حدثنا إسماعيل بن إبراهيم, حدثنا خالد بن أيوب عن معاوية بن قرة, عن أنس, قال: الذي بلغنا عن ربنا عز وجل, ثم لم نخرج له عن كل أهل ومال أن تجاوز لنا عما دون الكبائر, يقول الله: "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم" الاية, وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الاية الكريمة, فلنذكر منها ما تيسر, قال الإمام أحمد: حدثنا هشيم عن مغيرة عن أبي معشر, عن إبراهيم, عن قرثع الضبي, عن سلمان الفارسي, قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم "أتدري ما يوم الجمعة ؟" قلت: هو اليوم الذي جمع الله فيه أباكم, قال "لكن أدري ما يوم الجمعة, لا يتطهر الرجل فيحسن طهوره, ثم يأتي الجمعة فينصت حتى يقضي الإمام صلاته إلا كان كفارة له ما بينه وبين الجمعة المقبلة ما اجتنبت المقتلة", وقد روى البخاري من وجه آخر عن سلمان نحوه. وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني المثنى, حدثنا أبو صالح, حدثنا الليث, حدثني خالد عن سعيد بن أبي هلال, عن نعيم المجمر, أخبرني صهيب مولى العتواري, أنه سمع أبا هريرة وأبا سعيد يقولان: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً, فقال: "والذي نفسي بيده" ثلاث مرات, ثم أكب فأكب كل رجل منا يبكي لا ندري ماذا حلف عليه, ثم رفع رأسه وفي وجهه البشر, فكان أحب إلينا من حمر النعم, فقال: "ما من عبد يصلي الصلوات الخمس, ويصوم رمضان, ويخرج الزكاة, ويجتنب الكبائر السبع, إلا فتحت له أبواب الجنة, ثم قيل له: ادخل بسلام", وهكذا رواه النسائي والحاكم في مستدركه من حديث الليث بن سعد به, ورواه الحاكم أيضاً وابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث, عن سعيد بن أبي هلال به ثم قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه.
(تفسير هذه السبع) وذلك بما ثبت في الصحيحين من حديث سليمان بن بلال عن ثور بن زيد, عن سالم أبي الغيث, عن أبي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال "اجتنبوا السبع الموبقات". قيل: يا رسول الله, وما هن ؟ قال "الشرك بالله, وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق, والسحر, وأكل الربا, وأكل مال اليتيم, والتولي يوم الزحف, وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات".
(طريق أخرى عنه) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا فهد بن عوف, حدثنا أبو عوانة عن عمرو بن أبي سلمة, عن أبيه, عن أبي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال "الكبائر سبع: أولها الإشراك بالله, ثم قتل النفس بغير حقها, وأكل الربا, وأكل مال اليتيم إلى أن يكبر, والفرار من الزحف, ورمي المحصنات, والانقلاب إلى الأعراب بعد الهجرة", فالنص على هذه السبع بأنهن كبائر, لا ينفي ما عداهن إلا عند من يقول بمفهوم اللقب, وهو ضعيف عند عدم القرينة ولا سيما عند قيام الدليل بالمنطوق على عدم المفهوم, كما سنورده من الأحاديث المتضمنة من الكبائر غير هذه السبع, فمن ذلك ما رواه الحاكم في مستدركه حيث قال: حدثنا أحمد بن كامل القاضي إملاء, حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد, حدثنا معاذ بن هانيء, حدثنا حرب بن شداد, حدثنا يحيى بن أبي كثير عن عبد الحميد بن سنان, عن عبيد بن عمير, عن أبيه يعني عمير بن قتادة رضي الله عنه, أنه حدثه وكانت له صحبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع "ألا إن أولياء الله المصلون من يقم الصلوات الخمس التي كتبت عليه, ويصوم رمضان ويحتسب صومه, يرى أنه عليه حق, ويعطي زكاة ماله يحتسبها ويجتنب الكبائر التي نهى الله عنها", ثم إن رجلاً سأله فقال: يارسول الله, ما الكبائر ؟ فقال "تسع: الشرك بالله, وقتل نفس مؤمن بغير حق, وفرار يوم الزحف, وأكل مال اليتيم وأكل الربا, وقذف المحصنة, وعقوق الوالدين المسلمين, واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً, ثم قال: لا يموت رجل لا يعمل هؤلاء الكبائر, ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة إلا كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في دار أبوابها مصاريع من ذهب", هكذا رواه الحاكم مطولاً, وقد أخرجه أبو داود والترمذي مختصراً من حديث معاذ بن هانيء به. وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديثه مبسوطاً, ثم قال الحاكم: رجاله كلهم يحتج بهم في الصحيحين إلا عبد الحميد بن سنان. (قلت) وهو حجازي لا يعرف إلا بهذا الحديث, وقد ذكره ابن حبان في كتاب الثقات. وقال البخاري: في حديثه نظر, وقد رواه ابن جرير عن سليمان بن ثابت الجحدري, عن سلم بن سلام, عن أيوب بن عتبة, عن يحيى بن أبي كثير, عن عبيد بن عمير, عن أبيه فذكره, ولم يذكر في الإسناد عبد الحميد بن سنان, والله أعلم.
(حديث آخر في معنى ما تقدم) قال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا أحمد بن يونس, حدثنا يحيى بن عبد الحميد, حدثنا عبد العزيز بن مسلم بن الوليد, عن المطلب بن عبد الله بن حنطب, عن ابن عمرو, قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر, فقال "لا أقسم, لا أقسم", ثم نزل فقال: "أبشروا أبشروا, من صلى الصلوات الخمس واجتنب الكبائر السبع, نودي من أبواب الجنة: ادخل". قال عبد العزيز: لا أعلمه. إلا قال: "بسلام". وقال المطلب: سمعت من سأل عبدالله بن عمرو, أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرهن ؟ قال: نعم "عقوق الوالدين, وإشراك بالله, وقتل النفس, وقذف المحصنات, وأكل مال اليتيم, والفرار من الزحف, وأكل الربا" .
(حديث آخر في معناه) قال أبو جعفر بن جرير في التفسير: حدثنا يعقوب, حدثنا ابن علية, حدثنا زياد بن مخراق عن طيسلة بن مياس, قال: كنت مع النجدات فأصبت ذنوباً لا أراها إلا من الكبائر, فلقيت ابن عمر, فقلت له: إني أصبت ذنوباً لا أراها إلا من الكبائر, قال: ما هي ؟ قلت: أصبت كذا وكذا. قال: ليس من الكبائر. قلت: وأصبت كذا وكذا. قال ليس من الكبائر. قال ـ بشي لم يسمه طيسلة ـ قال: هي تسع وسأعدهن عليك "الإشراك بالله, وقتل النفس بغير حقها والفرار من الزحف, وقذف المحصنة, وأكل الربا وأكل مال اليتيم ظلماً. وإلحاد في المسجد الحرام والذي يستسحر, وبكاء الوالدين من العقوق". قال زياد: وقال طيسلة: لما رأى ابن عمر فرقي قال: أتخاف النار أن تدخلها ؟ قلت: نعم. قال: وتحب أن تدخل الجنة ؟ قلت: نعم. قال: أحي والداك ؟ قلت: عندي أمي. قال: فوالله لئن أنت ألنت لها الكلام, وأطعمتها الطعام لتدخلن الجنة ما اجتنبت الموجبات.
(طريق أخرى) قال ابن جرير: حدثنا سليمان بن ثابت الجحدري الواسطي, حدثنا سلم بن سلام, حدثنا أيوب بن عتبة عن طيسلة بن علي النهدي, قال: أتيت ابن عمر وهو في ظل أراك يوم عرفة وهو يصب الماء على رأسه ووجهه, قلت: أخبرني عن الكبائر ؟ قال: هي تسع قلت: ما هي ؟ قال: "الإشراك بالله وقذف المحصنة" قال: قلت: قبل القتل ؟ قال: نعم ورغما, وقتل النفس المؤمنة, والفرار من الزحف, والسحر, وأكل الربا, وأكل مال اليتيم, وعقوق الوالدين المسلمين, وإلحاد بالبيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً" هكذا رواه من هذين الطريقين موقوفاً. وقد رواه علي بن الجعد عن أيوب بن عتبة, عن طيسلة بن علي, قال: أتيت ابن عمر عشية عرفة, وهو تحت ظل أراكة, وهو يصب الماء على رأسه فسألته عن الكبائر ؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هن سبع" قال: قلت: وما هن ؟ قال "الإشراك بالله وقذف المحصنة" قال: قلت: قبل الدم ؟ قال: نعم, ورغماً, وقتل النفس المؤمنة, والفرار من الزحف, والسحر وأكل الربا, وأكل مال اليتيم, وعقوق الوالدين, وإلحاد بالبيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً". وهكذا رواه الحسن بن موسى الأشيب عن أيوب بن عتبة اليماني وفيه ضعف, والله أعلم.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا زكريا بن عدي, حدثنا بقية عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان أن أبارهم السمعى حدثهم عن أبي أيوب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من عبد الله لا يشرك به شيئاً, وأقام الصلاة وآتى الزكاة, وصام رمضان, واجتنب الكبائر فله الجنة ـ أو دخل الجنة ـ" فسأله رجل ما الكبائر ؟ فقال "الشرك بالله, وقتل نفس مسلمة, والفرار يوم الزحف" ورواه أحمد أيضاً, والنسائي من غير وجه عن بقية.
(حديث آخر) روى ابن مردويه في تفسيره من طريق سليمان بن داود اليماني ـ وهو ضعيف ـ عن الزهري, عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم, عن أبيه, عن جده, قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن كتاباً فيه الفرائض والسنن والديات, وبعث به مع عمرو بن حزم قال: وكان في الكتاب "إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة: إشراك بالله, وقتل النفس المؤمنة بغير حق, والفرار في سبيل الله يوم الزحف, وعقوق الوالدين, ورمي المحصنة, وتعلم السحر, وأكل الربا وأكل مال اليتيم".
(حديث آخر فيه ذكر شهادة الزور): قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة, حدثني عبيد الله بن أبي بكر, قال: سمعت أنس بن مالك: قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر, أو سئل عن الكبائر, فقال "الشرك بالله, وقتل النفس, وعقوق الوالدين", وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قال: قول الزور ـ أو شهادة الزور ـ" قال شعبة: أكبر ظني أنه قال: شهادة الزور. أخرجاه من حديث شعبة به. وقد رواه ابن مردويه من طريقين آخرين غريبين عن أنس بنحوه.
(حديث آخر) أخرجه الشيخان من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه, قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا: بلى يارسول الله. قال "الإشراك بالله, وعقوق الوالدين" وكان متكئاً, فجلس فقال "ألا وشهادة الزور, ألا وقول الزور" فمازال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.
(حديث آخر فيه ذكر قتل الولد) وهو ثابت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله, أي الذنب أعظم ؟ وفي رواية أكبر قال "أن تجعل لله نداً وهو خلقك". قلت: ثم أي ؟ قال "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك". قلت: ثم أي ؟ قال "أن تزاني حليلة جارك" ثم قرأ " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب ".
(حديث آخر فيه ذكر شرب الخمر) قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, أخبرنا ابن وهب, حدثني ابن صخر أن رجلاً حدثه عن عمارة بن حزم أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص وهو بالحجر بمكة, وسأله رجل عن الخمر فقال: والله إن عظيماً عند الله الشيخ مثلي يكذب في هذا المقام على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فذهب فسأله, ثم رجع فقال: سألته عن الخمر, فقال "هي أكبر الكبائر, وأم الفواحش من شرب الخمر ترك الصلاة ووقع على أمه وخالته وعمته" غريب من هذا الوجه.
(طريق أخرى) رواها الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن داود بن صالح عن سالم بن عبد الله, عن أبيه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وعمر بن الخطاب وأناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين, جلسوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا أعظم الكبائر, فلم يكن عندهم ما ينتهون إليه, فأرسلوني إلى عبد الله بن عمرو بن العاص أسأله عن ذلك, فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر, فأتيتهم فأخبرتهم, فأنكروا ذلك, فوثبوا إليه حتى أتوه في داره, فأخبرهم أنهم تحدثوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ملكاً من بني إسرائيل أخذ رجلاً فخيره بين أن يشرب خمراً, أو يقتل نفساً, أو يزاني أو يأكل لحم خنزير أو يقتله, فاختار شرب الخمر, وإنه لما شربها لم يمتنع من شيء أراده منه, وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا مجيباً "ما من أحد يشرب خمراً إلا لم تقبل له صلاة أربعين ليلة, ولا يموت أحد وفي مثانته منها شيء إلا حرم الله عليه الجنة, فإن مات في أربعين ليلة مات ميتة جاهلية" هذا حديث غريب من هذا الوجه جداً, وداود بن صالح هذا هو التمار المدني مولى الأنصار, قال الإمام أحمد: لا أرى به بأساً. وذكره ابن حبان في الثقات ولم أر أحداً جرحه.
(حديث آخر) عن عبد الله بن عمرو وفيه ذكر اليمين الغموس. قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن فراس, عن الشعبي, عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "أكبر الكبائر الإشراك بالله, وعقوق الوالدين, أو قتل النفس ـ شعبة الشاك ـ واليمين الغموس" ورواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث شعبة, وزاد البخاري وشيبان كلاهما عن فراس به.
(حديث آخر في اليمين الغموس) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو صالح كاتب الليث, حدثنا الليث بن سعد, حدثنا هشام بن سعد, عن محمد بن زيد بن مهاجر بن قنفذ التيمي, عن أبي أمامة الأنصاري, عن عبد الله بن أنيس الجهني, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أكبر الكبائر الشرك بالله, وعقوق الوالدين, واليمين الغموس, وما حلف حالف بالله يمين صبر فأدخل فيها مثل جناح البعوضة إلا كانت وكتة في قلبه إلى يوم القيامة", وهكذا رواه أحمد في مسنده وعبد بن حميد في تفسيره, كلاهما عن يونس بن محمد المؤدب عن الليث بن سعد به, وأخرجه الترمذي عن عبد بن حميد به, وقال: حسن غريب, وأبو أمامة الأنصاري هذا هو ابن ثعلبة ولا يعرف اسمه, وقد روى عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث. قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي: وقد رواه عبد الرحمن بن إسحاق المدني عن محمد بن زيد, عن عبد الله بن أبي أمامة, عن أبيه, عن عبد الله بن أنيس, فزاد عبد الله بن أبي أمامة. (قلت) هكذا وقع في تفسير ابن مردويه وصحيح ابن حبان من طريق عبدالرحمن بن إسحاق كما ذكره شيخنا فسح الله في أجله.
(حديث آخر) عن عبد الله بن عمرو في التسبب إلى شتم الوالدين, قال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي, حدثنا وكيع عن مسعر وسفيان, عن سعد بن إبراهيم, عن حميد بن عبد الرحمن, عن عبدالله بن عمرو, رفعه سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم, ووقفه مسعر على عبد الله بن عمرو, قال "من الكبائر أن يشتم الرجل والديه, قالوا: وكيف يشتم الرجل والديه ؟ قال "يسب الرجل أبا الرجل, فيسب أباه, ويسب أمه, فيسب أمه" أخرجه البخاري عن أحمد بن يونس, عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف, عن أبيه, عن عمه حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد الله بن عمرو, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه" قالوا: وكيف يلعن الرجل والديه ؟ قال "يسب الرجل أبا الرجل, فيسب أباه ويسب أمه, فيسب أمه" وهكذا رواه مسلم من حديث سفيان وشعبة ويزيد بن الهاد, ثلاثتهم عن سعد بن إبراهيم به مرفوعاً بنحوه, وقال الترمذي: صحيح, وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "سباب المسلم فسوق, وقتاله كفر".
(حديث آخر في ذلك) قال ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم, حدثنا عمرو بن أبي سلمة, حدثنا زهير بن محمد عن العلاء بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أكبر الكبائر عرض الرجل المسلم, والسبتان والسبة" هكذا روي هذا الحديث, وقد أخرجه أبو داود في كتاب الأدب من سننه عن جعفر بن مسافر, عن عمرو بن أبي سلمة, عن زهير بن محمد عن العلاء عن أبيه, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق, ومن الكبائر السبتان بالسبة" وكذا رواه ابن مردويه من طريق عبد الله بن العلاء بن زبر, عن العلاء, عن أبيه عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر مثله.
(حديث آخر في الجمع بين الصلاتين من غير عذر) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا نعيم بن حماد, حدثنا معتمر بن سليمان عن أبيه, عن حنش, عن عكرمة, عن ابن عباس, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى باباً من أبواب الكبائر" وهكذا رواه أبو عيسى الترمذي عن أبي سلمة يحيى بن خلف عن المعتمر بن سليمان به, ثم قال: حنش هو أبو علي الرحبي, وهو حسين بن قيس, وهو ضعيف عند أهل الحديث, ضعفه أحمد وغيره. وروى ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح, حدثنا إسماعيل ابن علية عن خالد الحذاء, عن حميد بن هلال, عن أبي قتادة يعني العدوي, قال: قرىء علينا كتاب عمر: من الكبائر جمع بين الصلاتين ـ يعني بغير عذر ـ والفرار من الزحف, والنهبة, وهذا إسناد صحيح. والغرض أنه إذا كان الوعيد فيمن جمع بين الصلاتين كالظهر والعصر, تقديماً أو تأخيراً, وكذا المغرب والعشاء هما من شأنه أن يجمع بسبب من الأسباب الشرعية, فإذا تعاطاه أحد بغير شيء من تلك الأسباب يكون مرتكباً كبيرة, فما ظنك بترك الصلاة بالكلية, ولهذا روى مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة". وفي السنن مرفوعاً عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة, من تركها فقد كفر", وقال "من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله", وقال "من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله".
(حديث آخر) فيه اليأس من روح الله, والأمن من مكر الله. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل, حدثنا أبي, حدثنا شبيب بن بشر عن عكرمة, عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متكئاً, فدخل عليه رجل فقال: ما الكبائر فقال "الشرك بالله, واليأس من روح الله, والقنوط من رحمة الله, والأمن من مكر الله, وهذا أكبر الكبائر" وقد رواه البزار عن عبد الله بن إسحاق العطار, عن أبي عاصم النبيل, عن شبيب بن بشر, عن عكرمة, عن ابن عباس أن رجلاً قال: يا رسول الله ما الكبائر ؟ قال "الإشراك بالله واليأس من روح الله, والقنوط من رحمة الله عز وجل" وفي إسناده نظر, والأشبه أن يكون موقوفاً, فقد روي عن ابن مسعود نحو ذلك. قال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا هشيم, أخبرنا مطرف عن وبرة بن عبد الرحمن عن أبي الطفيل قال: قال ابن مسعود: أكبر الكبائر الإشراك بالله, واليأس من روح الله, والقنوط من رحمة الله, والأمن من مكر الله, وكذا رواه من حديث الأعمش وأبي إسحاق عن وبرة عن أبي الطفيل عن عبد الله به, ثم رواه من طرق عدة عن أبي الطفيل عن ابن مسعود وهو صحيح إليه بلا شك.
(حديث آخر) فيه سوء الظن بالله. قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن إبراهيم بن بندار, حدثنا أبو حاتم بكر بن عبدان, حدثنا محمد بن مهاجر, حدثنا أبو حذيفة البخاري عن محمد بن عجلان, عن نافع, عن ابن عمر أنه قال: أكبر الكبائر سوء الظن بالله عز وجل, حديث غريب جداً.
(حديث آخر) فيه التعرب بعد الهجرة قد تقدم في رواية عمرو بن أبي سلمة, عن أبيه, عن أبي هريرة مرفوعاً قال ابن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد, حدثنا أحمد بن رشدين, حدثنا عمرو بن خالد الحراني, حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب, عن محمد بن سهل بن أبي حثمة عن أبيه, قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "الكبائر سبع, ألا تسألوني عنهن ؟ الشرك بالله, وقتل النفس والفرار يوم الزحف, وأكل مال اليتيم, وأكل الربا, وقذف المحصنة, والتعرب بعد الهجرة", وفي إسناده نظر, ورفعه غلط فاحش, والصواب ما رواه ابن جرير: حدثنا تميم بن المنتصر, حدثنا يزيد, أخبرنا محمد بن إسحاق عن محمد بن سهل بن أبي حثمة, عن أبيه, قال: إني لفي هذا المسجد, مسجد الكوفة, وعلي رضي الله عنه يخطب الناس على المنبر يقول: يا أيها الناس, الكبائر سبع فأصاخ الناس, فأعادها ثلاث مرات, ثم قال: لم لا تسألوني عنها ؟ قالوا: يا أمير المؤمنين, ما هي ؟ قال: الإشراك بالله, وقتل النفس التي حرم الله, وقذف المحصنة, وأكل مال اليتيم, وأكل الربا, والفرار يوم الزحف, والتعرب بعد الهجرة. فقلت لأبي: يا أبت, التعرب بعد الهجرة, كيف لحق ههنا ؟ قال يا بني وما أعظم من أن يهاجر الرجل حتى إذا وقع سهمه في الفيء, ووجب عليه الجهاد, خلع ذلك من عنقه, فرجع أعرابياً كما كان.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم, حدثنا أبو معاوية يعني شيبان, عن منصور, عن هلال بن يساف, عن سلمة بن قيس الأشجعي, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع "ألا إنما هن أربع أن لا تشركوا بالله شيئاً, ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق, ولا تزنوا, ولا تسرقوا" قال: فما أنا بأشح عليهن مني إذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رواه أحمد أيضاً والنسائي وابن مردويه من حديث منصور بإسناده مثله.
(حديث آخر) تقدم من رواية عمر بن المغيرة عن داود بن أبي هند, عن عكرمة, عن ابن عباس, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "الإضرار في الوصية من الكبائر" والصحيح ما رواه غيره عن داود, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال ابن أبي حاتم: وهو الصحيح عن ابن عباس من قوله.
(حديث آخر في ذلك) قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا أحمد بن عبد الرحمن, حدثنا عباد بن عباد, عن جعفر بن الزبير, عن القاسم عن أبي أمامة, أن أناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا الكبائر وهو متكىء, فقالوا: الشرك بالله, وأكل مال اليتيم, وفرار من الزحف, وقذف المحصنة, وعقوق الوالدين, وقول الزور, والغلول, والسحر, وأكل الربا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأين تجعلون "الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً"" إلى آخر الاية. في إسناده ضعف, وهو حسن .
(ذكر أقوال السلف في ذلك)
قد تقدم ما روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما في ضمن الأحاديث المذكورة, وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن علية عن ابن عون, عن الحسن, أن أناساً سألوا عبد الله بن عمرو بمصر, فقالوا: نرى أشياء من كتاب الله عز وجل أمر أن يعمل بها لا يعمل بها, فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك, فقدم وقدموا معه, فلقيه عمر رضي الله عنه فقال: متى قدمت ؟ فقال: منذ كذا وكذا. قال: أبإذن قدمت ؟ قال: فلا أدري كيف رد عليه. فقال: يا أمير المؤمنين, إن ناساً لقوني بمصر فقالوا: إنا نرى أشياء في كتاب الله أمر أن يعمل بها فلا يعمل بها, فأحبوا أن يلقوك في ذلك. قال: فاجمعهم لي. قال: فجمعتهم له. قال ابن عون: أظنه قال: في بهو, فأخذ أدناهم رجلاً فقال: أنشدك بالله وبحق الإسلام عليك, أقرأت القرآن كله ؟ قال: نعم. قال: فهل أحصيته في نفسك ؟ فقال: اللهم لا. قال: ولو قال: نعم, لخصمه. قال: فهل أحصيته في بصرك ؟ فهل أحصيته في لفظك ؟ هل أحصيته في أمرك ؟ ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم قال: فثكلت عمر أمه, أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله, قد علم ربنا أنه ستكون لنا سيئات, قال: وتلا "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم" الاية. ثم قال: هل علم أهل المدينة ؟ أو قال: هل علم أحد بما قدمتم ؟ قالوا: لا. قال: لو علموا لوعظت بكم, إسناد حسن ومتن حسن وإن كان من رواية الحسن عن عمر, وفيها انقطاع إلا أن مثل هذا اشتهر, فتكفي شهرته. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا أبو أحمد يعني الزبيري, حدثنا علي بن صالح عن عثمان بن المغيرة, عن مالك بن جوين, عن علي رضي الله عنه. قال: الكبائر الإشراك بالله, وقتل النفس, وأكل مال اليتيم, وقذف المحصنة, والفرار من الزحف, والتعرب بعد الهجرة, والسحر, وعقوق الوالدين, وأكل الربا, وفراق الجماعة, ونكث الصفقة. وتقدم عن ابن مسعود أنه قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله, واليأس من روح الله, والقنوط من رحمة الله, والأمن من مكر الله عز وجل. وروى ابن جرير من حديث الأعمش عن أبي الضحى, عن مسروق والأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, كلاهما عن ابن مسعود, قال: الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها, ومن حديث سفيان الثوري وشعبة عن عاصم بن أبي النجود, عن زر بن حبيش, عن ابن مسعود قال: الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها ثم تلا "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه" الاية, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا المنذر بن شاذان, حدثنا يعلى بن عبيد, حدثنا صالح بن حيان عن ابن بريدة, عن أبيه, قال: أكبر الكبائر الشرك بالله, وعقوق الوالدين, ومنع فضول الماء بعد الري, ومنع طروق الفحل إلا بجعل.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ", وفيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة, ولا يزكيهم, ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه ابن السبيل" وذكر تمام الحديث. وفي مسند الإمام أحمد من حديث عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده مرفوعاً "من منع فضل الماء وفضل الكلأ منعه الله فضله يوم القيامة". وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسين بن محمد بن شنبة الواسطي, حدثنا أبو أحمد عن سفيان, عن الأعمش, عن مسلم, عن مسروق, عن عائشة, قالت: ما أخذ على النساء من الكبائر, قال ابن أبي حاتم: يعني قوله تعالى: "على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن" الاية, وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن علية, حدثنا زياد بن مخراق عن معاوية بن قرة, قال: أتينا أنس بن مالك فكان فيما حدثنا قال: لم أر مثل الذي بلغنا عن ربنا تعالى لم نخرج له عن كل أهل ومال, ثم سكت هنيهة ثم قال: والله لما كلفنا ربنا أهون من ذلك لقد تجاوز لنا عما دون الكبائر فما لنا ولها, وتلا "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه" الاية.
أقوال ابن عباس في ذلك
روى ابن جرير من حديث المعتمر بن سليمان عن أبيه, عن طاوس, قال: ذكروا عند ابن عباس الكبائر فقالوا: هي سبع, فقال: هي أكثر من سبع وسبع, قال: فلا أدري كم قالها من مرة, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا قبيصة, حدثنا سفيان عن ليث عن طاوس, قال: قلت لابن عباس: ما السبع الكبائر ؟ قال: هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع. ورواه ابن جرير عن ابن حميد, عن جرير, عن ليث, عن طاوس قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: أرأيت الكبائر السبع التي ذكرهن الله ؟ قال: هن إلى السبعين أدنى منهن إلى سبع, وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن طاوس عن أبيه قال: قيل لابن عباس: الكبائر سبع ؟ قال: هن إلى السبعين أقرب, وكذا قال أبو العالية الرياحي رحمه الله. وقال ابن جرير: حدثنا المثنى, حدثنا أبو حذيفة, حدثنا شبل عن قيس بن سعد, عن سعيد بن جبير: أن رجلاً قال لابن عباس: كم الكبائر سبع ؟ قال: هن إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع, غير أنه لا كبيرة مع استغفار, ولا صغيرة مع إصرار, وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شبل به, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه" قال: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب, رواه ابن جرير. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن حرب الموصلي, حدثنا ابن فضيل, حدثنا شبيب عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: الكبائر كل ما وعد الله عليه النار كبيرة, وكذا قال سعيد بن جبير والحسن البصري. وقال ابن جرير: حدثني يعقوب, حدثنا ابن علية, أخبرنا أيوب عن محمد بن سيرين, قال: نبئت أن ابن عباس كان يقول: كل ما نهى الله عنه كبيرة, وقد ذكرت الطرفة, قال: هي النظرة, وقال أيضاً: حدثنا أحمد بن حازم, أخبرنا أبو نعيم, حدثنا عبدالله بن معدان عن أبي الوليد, قال: سألت ابن عباس عن الكبائر, فقال كل شيء عصي الله فيه فهو كبيرة.
(أقوال التابعين)
قال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن علية عن ابن عون, عن محمد, قال: سألت عبيدة عن الكبائر فقال: الإشراك بالله, وقتل النفس التي حرم الله بغير حقها, وفرار يوم الزحف, وأكل مال اليتيم بغير حقه, وأكل الربا, والبهتان. قال: ويقولون: أعرابية بعد هجرة, قال ابن عون: فقلت لمحمد: فالسحر ؟ قال: إن البهتان يجمع شراً كثيراً. وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عبيد المحاربي, حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم, عن أبي إسحاق, عن عبيد بن عمير, قال: الكبائر سبع, ليس منهن كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله, الإشراك بالله منهن "ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح" الاية, و "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً" الاية, و "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس" " الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ", والفرار من الزحف "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً" الاية, والتعرب بعد الهجرة "إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى", وقتل المؤمن "ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها" الاية, وكذا رواه ابن أبي حاتم أيضاً في حديث أبي إسحاق عن عبيد بن عمير بنحوه. وقال ابن جرير: حدثنا المثنى, حدثنا أبو حذيفة, حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح, عن عطاء يعني ابن أبي رباح, قال: الكبائر سبع: قتل النفس, وأكل مال اليتيم, وأكل الربا, ورمي المحصنة, وشهادة الزور, وعقوق الوالدين, والفرار من الزحف. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا عثمان بن أبي شيبة, حدثنا جرير عن مغيرة, قال: كان يقال: شتم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من الكبائر. قلت: وقد ذهب طائفة من العلماء إلى تكفير من سب الصحابة, وهو رواية عن مالك بن أنس رحمه الله. وقال محمد بن سيرين: ما أظن أحداً ينتقص أبا بكر وعمر وهو يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, رواه الترمذي. وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا يونس, أخبرنا ابن وهب, أخبرني عبدالله بن عياش, قال زيد بن أسلم في قول الله عز وجل "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه" من الكبائر: الشرك بالله, والكفر بآيات الله ورسله, والسحر, وقتل الأولاد, ومن دعى لله ولداً أو صاحبة ـ ومثل ذلك من الأعمال والقول الذي لا يصلح معه عمل. وأما كل ذنب يصلح معه دين, ويقبل معه عمل, فإن الله يغفر السيئات بالحسنات. وقال ابن جرير: حدثنا بشر بن معاذ, حدثنا يزيد, حدثنا سعيد عن قتادة "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه" الاية: إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر، وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "اجتنبوا الكبائر, وسددوا, وأبشروا" وقد روى ابن مردويه من طرق عن أنس وعن جابر مرفوعاً "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي", ولكن في إسناده من جميع طرقه ضعف, إلا ما رواه عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن ثابت, عن أنس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" فإنه إسناد صحيح على شرط الشيخين. وقد رواه أبو عيسى الترمذي منفرداً به من هذا الوجه عن عباس العنبري, عن عبد الرزاق, ثم قال: هذا حديث حسن صحيح, وفي الصحيح شاهد لمعناه وهو قوله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الشفاعة "أترونها للمؤمنين المتقين ؟ لا ولكنها للخاطئين المتلوثين" وقد اختلف علماء الأصول والفروع في حد الكبيرة, فمن قائل: هي ما عليه حد في الشرع, ومنهم من قال: هي ما عليه وعيد مخصوص من الكتاب والسنة, وقيل غير ذلك. قال أبو القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي في كتابه الشرح الكبير الشهير في كتاب الشهادات منه: ثم اختلف الصحابة رضي الله عنهم, فمن بعدهم في الكبائر وفي الفرق بينها وبين الصغائر, ولبعض الأصحاب في تفسير الكبيرة وجوه (أحدها) أنها المعصية الموجبة للحد. (والثاني) أنها المعصية التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص كتاب أو سنة, وهذا أكثر ما يوجد لهم, وهو إلى الأول أميل, لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفسير الكبائر. (والثالث) قال إمام الحرمين في الإرشاد وغيره: كل جريمة تنبىء بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة, فهي مبطلة للعدالة. (والرابع) ذكر القاضي أبو سعيد الهروي أن الكبيرة كل فعل نص الكتاب على تحريمه وكل معصية توجب في جنسها حداً من قتل أو غيره, وترك كل فريضة مأمور بها على الفور والكذب في الشهادة والرواية واليمين, هذا ما ذكروه على سبيل الضبط, ثم قال: وفصل القاضي الروياني فقال: الكبائر سبع: قتل النفس بغير الحق, والزنا, واللواطة, وشرب الخمر, والسرقة, وأخذ المال غصباً, والقذف, وزاد في الشامل على السبع المذكورة: شهادة الزور, وأضاف إليها صاحب العدة: أكل الربا والإفطار في رمضان بلا عذر, واليمين الفاجرة, وقطع الرحم, وعقوق الوالدين, والفرار من الزحف, وأكل مال اليتيم, والخيانة في الكيل والوزن, وتقديم الصلاة على وقتها, وتأخيرها عن وقتها بلا عذر, وضرب المسلم بلا حق, والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمداً, وسب أصحابه, وكتمان الشهادة بلا عذر, وأخذ الرشوة, والقيادة بين الرجال والنساء, والسعاية عند السلطان, ومنع الزكاة,. وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة, ونسيان القرآن بعد تعلمه, وإحراق الحيوان بالنار, وامتناع المرأة من زوجها بلا سبب, واليأس من رحمة الله, والأمن من مكر الله, ويقال: الوقيعة في أهل العلم, وحملة القرآن, ومما يعد من الكبائر: الظهار, وأكل لحم الخنزير والميتة إلا عن ضرورة, ثم قال الرافعي: وللتوقف مجال في بعض هذه الخصال. قلت: وقد صنف الناس في الكبائر مصنفات منها ما جمعه شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي الذي بلغ نحواً من سبعين كبيرة, وإذا قيل: إن الكبيرة ما توعد عليها الشارع بالنار بخصوصها, كما قال ابن عباس وغيره وما تتبع ذلك, اجتمع منه شيء كثير, وإذا قيل كل ما نهى الله عنه فكثير جداً, والله أعلم.
الباطل: ما ليس بحق، ووجوه ذلك كثيرة، ومن الباطل البيوعات التي نهى عنها الشرع. والتجارة في اللغة عبارة عن المعارضة، وهذا الاستثناء منقطع: أي لكن تجارة عن تراض منكم جائزة بينكم، أو لكن كون تجارة عن تراض منكم حلالاً لكم. وقوله 29- "عن تراض" صفة لتجارة: أي كائنة عن تراض، وإنما نص الله سبحانه على التجارة دون سائر أنواع المعاوضات لكونها أكثرها وأغلبها، وتطلق التجارة على جزاء الأعمال من الله على وجه المجاز، ومنه قوله تعالى: "هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم". وقوله "يرجون تجارة لن تبور".
واختلف العلماء في التراضي، فقالت طائفة: تمامه وجوبه بافتراق الأبدان بعد عقد البيع، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه: اختركما في الحديث الصحيح "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر". وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعي والثوري والأوزاعي والليث وابن عيينة وإسحاق وغيرهم. وقال مالك وأبو حنيفة: تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة فيرتفع بذلك الخيار وأجابوا عن الحديث بما لا طائل تحته. وقد قرئ تجارة بالرفع على أن كان تامة، وتجارة بالنصب على أنها ناقصة. قوله "ولا تقتلوا أنفسكم" أي: لا يقتل بعضكم أيها المسلمون بعضاً إلا بسبب أثبته الشرع، أو لا تقتلوا أنفسكم باقتراف المعاصي أو المراد النهي عن أن يقتل الإنسان نفسه حقيقة. ولا مانع من حمل الآية على جميع المعاني. ومما يدل على ذلك احتجاج عمرو بن العاص بها حين لم يغتسل بالماء البارد حين أجنب في غزاة ذات السلاسل، فقرر النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه وهو في مسند أحمد وسنن أبي داود وغيرهما.
29-قوله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" ، بالحرام ،يعني: بالربا والقمار والغصب والسرقة والخيانة ونحوها، وقيل: هو العقود الفاسدة"إلا أن تكون تجارة" ، قرأ أهل الكوفة "تجارة" نصب على خبر كان، أي: إلا أن تكون الأموال تجارة، وقر الآخرون بالرفع ،أي: إلا أن تقع تجارة، "عن تراض منكم"، أي بطيبة نفس كل واحد منكم.
وقيل: هو أن يجيز كل واحد من المتبايعين صاحبه بعد البيع، فيلزم ، وإلا فلهما الخيار مالم يتفرقا لما اخبرناأبو الحسن السرخسيأخبرنازاهر بن أحمد أناأبو إسحاق الهاشميأناأبو مصعب عنمالكعننافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ، مالم يتفرقا إلا بيع الخيار".
"ولا تقتلوا أنفسكم"، قال أبو عبيدة:أي لا تهلكوها، كما قال: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة (البقرة -195) و: لا تقتلوا أنفسكم بأكل المال بالباطل.
وقيل: أراد به قتل المسلم نفسه،أخبرناعبد الوهاب بن محمد الخطيبأناعبد العزيز بن أحمد الخلالأناأبو العباس الأصمأناالربيعأنا الشافعي أنا ابن عيينة عن أيوب عن أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة".
حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي أخبرنا أبو معاذ عبد الرحمن المزني أنا أبو إسحاق إبراهيم بن حماد القاضي أنا أبو موسى الزمن أنا وهب بن جرير أخبرنا أبي قال سمعت الحسن: أخبرنا جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"خرج برجل فيمن كان قبلكم أراب فجزع منه، فأخرج سكيناً فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات فقال الله عز وجل: بادرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة".
وقال الحسن:"لا تقتلوا أنفسكم"، يعني: إخوانكم ،أي: لا يقتل بعضكم بعضاً،"إن الله كان بكم رحيماً" ،أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي انا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا سليمان بن حرب أنا شعبة عن علي بن مدرك قال: سمعت أبا زرعة بن عمرو بن جرير عن جده قال: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع:استنصت الناس ثم قال: لا ترجعن بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض".
29" يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " بما لم يبحه الشرع كالغصب والربا والقمار. " إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم " استثناء منقطع أي، ولكن كون تجارة عن تراض غير منهي عنه، أو اقصدوا كون تجارة. وعن تراض صفة لتجارة أي تجارة صادرة عن تراضي المتقاعدين، وتخصيص التجارة من الوجوه التي بها يحل تناول مال الغير، لأنها أغلب وأرفق لذوي المروءات، ويجوز أن يراد بها الانتقال مطلقاً. وقيل: المراد بالنهي المنع عن صرف المال فيما لا يرضاه الله. وبالتجارة صرفه فيما يرضاه. وقرأ الكوفيون " تجارة " بالنصب على كان الناقصة وإضمار الإسم أي إلا أن تكون التجارة أو الجهة تجارة. " ولا تقتلوا أنفسكم " بالبخع كما تفعله جهلة الهند، أو بإلقاء النفس إلى التهلكة. ويؤيده ما روي:أن عمرو بن العاص تأوله التيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم أو بارتكاب ما يؤدي إلى قتلها. أو باقتراف ما يذلها ويرديها فإنه القتل الحقيقي للنفس. وقيل المراد بالأنفس من كان من أهل دينهم، فإن المؤمنين كنفس واحدة. جمع في التوصية بين حفظ النفس والمال الذي هو شقيقها من حيث إنه سبب قوامها استبقاء لهم ريثما تستكمل النفوس، وتستوفى فضائلها رأفة بهم ورحمة كمال أشار إليه بقوله: " إن الله كان بكم رحيما " أي أمر ما أمر ونهى عما نهى لفرط رحمته عليكم. وقيل: معناه إنه كان بكم يا أمة محمد رحيماً لما أمر بني إسرائيل بقتل الأنفس ونهاكم عنه.
29. O ye who believe! Squander not your wealth among yourselves in vanity, except it be a trade by mutual consent, and kill not one another. Lo! Allah is ever Merciful unto you.
29 - O ye who believe eat not up your property among yourselves in vanities: but let there be amongst you traffic and trade by mutual good will: nor kill (or destroy) yourselves: for verily God hath been to you most merciful