[النساء : 21] وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا
والاستفهام للتوبيخ وللإنكار في قوله: (وكيف تأخذونه) أي بأي وجه (وقد أفضى) وصل (بعضكم إلى بعض) بالجماع المقرر للمهر (وأخذن منكم ميثاقا) عهدا (غليظا) شديدا وهو ما أمر الله به من إمساكهن بمعروف أو تسريحهن بإحسان
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله : "وكيف تأخذونه"، وعلى أي وجه تأخذون من نسائكم ما آتيتموهن من صدقاتهن ، إذا أردتم طلاقهن واستبدال غيرهن بهن أزواجاً، "وقد أفضى بعضكم إلى بعض"، فتباشرتم وتلامستم.
وهذا كلام لان كان مخرجه مخرج الاستفهام ، فإنه في معنى النكير والتغليظ ، كما يقول الرجل لأخر : كيف تفعل كذا وكذا، وأنا غير راض به؟، على معنى التهديد والوعيد.
وأما الإفضاء إلى الشيء ، فإنه الوصول إليه بالمباشرة له ، كما قال الشاعر:
[بلين]بلى أفضى إلى [كل] كتبة بدا سيرها من باطن بعد ظاهر
يعني بذلك أن الفساد والبلى وصل إلى الخرز. والذي عني به الإفضاء في هذا الموضع، الجماع في الفرج.
فتأويل الكلام إذ كان ذلك معناه : وكيف تأخذون ما آتيتموهن ، وقد أفضى بعضكم إلى بعض بالجماع.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني عبد الحميد بن بيان القناد قال ، حدثنا إسحق ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن بكر بن عبد الله ، عن ابن عباس قال : الإفضاء المباشرة، ولكن الله كر يم يكني عما يشاء.
حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن بكر، عن ابن عباس قال : الإفضاء الجماع ، ولكن الله يكني.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن عاصم ، عن بكر بن عبد الله المزني ، عن ابن ، عباس قال : الإفضاء هو الجماع.
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "وقد أفضى بعضكم إلى بعض"، قال : مجامعة النساء.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض"، يعني المجامعة.
قال أبو جعفر: أي : ما وثقتم به لهن على أنفسكم ، من عهد وإقرار منكم بما أقررتم به على أنفسكم ، من إمساكهن بمعروف ، أو تسريحهن بإحسان.
وكان في عقد المسلمين النكاح قديما فيما بلغنا - أن يقال للناكح : آلله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان!.
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "وأخذن منكم ميثاقا غليظا".والميثاق الغليظ الذي أخذه للنساء على الرجال : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وقد كان في عقد المسلمين عند إنكاحهم : الله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان.
واختلف أهل التأويل في الميثاق الذي عنى الله جل ثناؤه بقوله : "وأخذن منكم ميثاقا غليظا".
فقال بعضهم : هو إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله : "وأخذن منكم ميثاقا غليظا"، قال : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن جويبر، عن الضحاك مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله : "وأخذن منكم ميثاقا غليظا"، قال : هو ما أخذ الله تبارك وتعالى للنساء على الرجال ، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. قال : وقد كان ذلك يؤخذ عند عقد النكاح.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أما "وأخذن منكم ميثاقا غليظا"، فهو أن ينكح المرأة فيقول وليها أنكحناكها بأمانة الله ، على أن تمسكها بالمعروف أو تسرحها بإحسان.
حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله : "وأخذن منكم ميثاقا غليظا"، قال : الميثاق الغليظ الذي أخذه الله للنساء : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، وكان في عقدة المسلمين عند نكاحهن : أيم الله عليك ، لتمسكن بمعروف ولتسرحن بإحسان.
حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو قتيبة قال ، حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن الحسن ومحمد بن سيرين في قوله : "وأخذن منكم ميثاقا غليظا"، قال : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
وقال آخرون : هو كلمة النكاح التي استحل بها الفرج.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: "وأخذن منكم ميثاقا غليظا"، قال : كلمة النكاح التي استحل بها فروجهن.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي هاشم المكي ، عن مجاهد في قوله : "وأخذن منكم ميثاقا غليظا"، قال : قوله : نكحت.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام قال ، حدثنا عنبسة، عن محمد بن كعب القرظي : "وأخذن منكم ميثاقا غليظا"، قال : هو قولهم : قد ملكت النكاح.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن سالم الأفطس ، عن مجاهد: "وأخذن منكم ميثاقا غليظا"، قال : كلمة النكاح.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "وأخذن منكم ميثاقا غليظا"، قال : الميثاق النكاح.
حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا سفيان قال ، حدثني سالم الأفطس ، عن مجاهد : "وأخذن منكم ميثاقا غليظا"، قال : كلمة النكاح ، قوله : نكحت.
وقال آخرون : بل عني قول النبي صلى الله عليه وسلم: أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر وعكرمة : "وأخذن منكم ميثاقا غليظا"، قالا : أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع : "وأخذن منكم ميثاقا غليظا"، والميثاق الغليظ : أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل ذلك ، قول من قال : الميثاق الذي عني به في هذه الأية: هو ما أخذ للمرأة على زوجها عند عقدة النكاح من عهد على إمساكها بمعروف أو تسريحها بإحسان ، فأقر به الرجل. لأن الله جل ثناؤه بذلك أوصى الرجال في نسائهم.
وقد بينا معنى الميثاق فيما مضى قبل ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
واختلف في حكم هذه الآية : أمحكم أم منسوخ؟
فقال بعضهم : محكم ، وغير جائز للرجل أخذ شيء مما آتاها، إذا أراد طلاقها، إلا أن تكون هي المريدة الطلاق.
وقال آخرون : هي محكمة، وغير جائز له أخذ شيء مما آتاها منها بحال ، كان هي المريدة للطلاق أو هو. وممن حكي عنه هذا القول ، بكر بن عبد الله المزني.
حدثنا مجاهد بن موسى قال ، حدثنا عبد الصمد قال ، حدثنا عقبة بن أبي الصهباء قال : سألت بكراً عن المختلعة، أيأخذ منها شيئاً؟ قال : لا، "وأخذن منكم ميثاقا غليظا".
وقال آخرون : بل هي منسوخة، نسخها قوله : " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله " [البقرة : 229].
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج" إلى قوله : "وأخذن منكم ميثاقا غليظا"، قال : ثم رخص بعد فقال : " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به " [البقرة : 229]. قال : فنسخت هذه تلك.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك ، قول من قال : إنها محكمة غير منسوخة، وغير جائز للرجل أخذ شيء مما آتاها، إذا أراد طلاقها من غير نشوز كان منها، ولا ريبة أتت بها.
وذلك أن الناسخ من الأحكام ، ما نفى خلافه من الأحكام ، على ما قد بينا في سائر كتبنا. وليس في قوله : "وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج"، نفي حكم قوله : " فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به " [البقرة : 229]. لأن الذي حرم الله على الرجل بقوله : "وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا"، أخذ ما آتاها منها إذا كان هو المريد طلاقها. وأما الذي أباح له أخذه منها بقوله : "فلا جناح عليهما فيما افتدت به" [البقرة: 229]، فهو إذا كانت هي المريدة طلاقه وهو له كاره ، ببعض المعاني التي قد ذكرنا في غير هذا الموضع.
وليس في حكم إحدى الآيتين نفي حكم الأخرى.
وإذ كان ذلك كذلك ، لم يجز أن يحكم لإحداهما بأنها ناسخة، وللأخرى بأنها منسوخة، إلا بحجة يجب التسليم لها.
وأما ما قاله بكر بن عبد الله المزني : من أنه ليس لزوج المختلعة أخذ ما أعطته على فراقه إياها، إذا كانت هي الطالبة الفرقة، وهو الكاره ، فليس بصواب ، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه أمر ثابت بن قيس بن شماس بأخذ ما كان ساق إلى زوجته وفراقها إذ طلبت فراقه ، وكان النشوز من قبلها.
الخامسة- قوله تعالى :" وكيف تأخذونه " الآية تعليل لمنع الأخذ مع الخلوة وقال بعضهم: الإفضاء إذا كان معها في لحاف واحد جامع أو لم يجامع حكاه الهروي وهو قول الكلبي: وقال الفراء: الإفضاء أن يخلو الرجل والمرأة وأن يجامعها وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم : الإفضاء في هذه الآية الجماع قال ابن عباس: ولكن الله كريم يكني وأصل الإفضاء في اللغة المخالطة ويقال للشيء المختلط فضاً قال الشاعر:
فقلت لها يا عتمي لك ناقتي وتمر فضاً في عيبتي وزبيب
ويقال : القوم فوضى فضاً، أي مختلطون لا أمير عليهم وعلى أن معنى أفضى خلا وإن لم يكن جامع هل يتقرر المهر بوجود الخلوة أم لا ؟ اختلف علماؤنا في ذلك على أربعة أقوال: يستقر الخلوة لا يستقر إلا بالوطء يستقر بالخلوة في بيت الإهداء التفرقة بين وبيته وبيتها، والصحيح استقراره بالخلوة مطلقاً، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، قالوا: إذا خلا بها خلوة صحيحة يجب كمال المهر والعدة دخل بها أو لم يدخل بها لما رواه الدراقطني "عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
من كشف خمار امرأة ونظر إليها وجب الصداق" وقال عمر: إذا أغلق باباً وأرخى ستراً ورأى عورة فقد وجب الصداق، وعليها العدة، ولها الميراث وعن علي: إذا أغلق باباً وأرخى ستراً ورأى عورة فقد وجب الصداق وقال مالك: إذا طال مكثه معها مثل السنة ونحوها واتفقا على ألا مسيس وطلبت المهر كله كان لها ، وقال الشافعي لا عدة عليها ولها نصف المهر . وقد مضى في البقرة
السادسة- قوله تعالى :" وأخذن منكم ميثاقا غليظا" فيه ثلاثة أقوال. قيل: هو "قوله عليه السلام:
فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله " قاله عكرمة والربيع الثاني- قوله تعالى " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " قاله الحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي. الثالث- عقدة النكاح قول الرجل: نكحت وملكت عقدة النكاح قاله مجاهد وابن زيد. وقال قوم: الميثاق الغليظ الولد . والله أعلم
قال البخاري: حدثنا محمد بن مقاتل, حدثنا أسباط بن محمد, حدثنا الشيباني عن عكرمة, عن ابن عباس, ـ قال الشيباني: وذكره أبو الحسن السوائي, ولا أظنه ذكره إلا عن ابن عباس ـ "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" قال: كانوا إذا مات الرجل, كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها, وإن شاؤوا زوجوها, وإن شاؤوا لم يزوجوها, فهم أحق بها من أهلها, فنزلت هذه الاية "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" هكذا رواه البخاري وأبو داود والنسائي وابن مردويه وابن أبي حاتم من حديث أبي إسحاق الشيباني واسمه سليمان بن أبي سليمان, عن عكرمة, وعن أبي الحسن السوائي واسمه عطاء, كوفي أعمى, كلاهما عن ابن عباس بما تقدم. وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي, حدثني علي بن حسين عن أبيه, عن يزيد النحوي, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة" وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها, فأحكم الله تعالى عن ذلك, أي نهى عن ذلك, تفرد به أبو داود, وقد رواه غير واحد عن ابن عباس بنحو ذلك. فقال وكيع عن سفيان, عن علي بن بذيمة, عن مقسم, عن ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها, فجاء رجل فألقى عليها ثوباً كان أحق بها, فنزلت "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً". وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" قال: كان الرجل إذا مات وترك جارية, ألقى عليها حميمه ثوبه فمنعها من الناس فإن كانت جميلة تزوجها, وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها, وروى العوفي عنه: كان الرجل من أهل المدينة إذا مات حميم أحدهم, ألقى ثوبه على امرأته, فورث نكاحها, ولم ينكحها أحد غيره, وحبسها عنده حتى تفتدي منه بفدية, فأنزل الله "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً". وقال زيد بن أسلم في الاية: كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية, ورث امرأته من يرث ماله, وكان يعضلها حتى يرثها, أو يزوجها من أراد, وكان أهل تهامة يسيء الرجل صحبة المرأة حتى يطلقها, ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد حتى تفتدي منه ببعض ما أعطاها, فنهى الله المؤمنين عن ذلك, رواه ابن أبي حاتم. وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم, حدثنا موسى بن إسحاق, حدثنا علي بن المنذر, حدثنا محمد بن فضيل, عن يحيى بن سعيد, عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف, عن أبيه, قال: لما توفي أبو قيس بن الأسلت, أراد ابنه أن يتزوج امرأته, وكان لهم ذلك في الجاهلية, فأنزل الله "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" ورواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل به. ثم روى من طريق ابن جريج قال: أخبرني عطاء أن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل وترك امرأة, حبسها أهله على الصبي يكون فيهم, فنزلت "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" الاية. وقال ابن جريج: قال مجاهد: كان الرجل إذ توفي, كان ابنه أحق بامرأته ينكحها إن شاء إذا لم يكن ابنها, أو ينكحها من شاء أخاه أو ابن أخيه. وقال ابن جريج: قال عكرمة: نزلت في كبيشة بنت معن بن عاصم من الأوس, توفي عنها أبو قيس بن الأسلت, فجنح عليها ابنه, فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالت: يا رسول الله, لا أنا ورثت زوجي, ولا أنا تركت فأنكح, فأنزل الله هذه الاية. وقال السدي عن أبي مالك: كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها, جاء وليه فألقى عليها ثوباً, فإن كان له ابن صغير, أو أخ, حبسها حتى يشب, أو تموت فيرثها, فإن هي انفلتت فأتت أهلها ولم يلق عليها ثوباً, نجت, فأنزل الله "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً". وقال مجاهد في هذه الاية: كان الرجل يكون في حجره اليتيمة هو يلي أمرها, فيحبسها رجاء أن تموت امرأته فيتزوجها أو يزوجها ابنه, رواه ابن أبي حاتم. ثم قال: وروي عن الشعبي وعطاء بن أبي رباح وأبي مجلز والضحاك والزهري وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان, نحو ذلك. قلت: فالاية تعم ما كان يفعله أهل الجاهلية وما ذكره مجاهد, ومن وافقه, وكل ما كان فيه نوع من ذلك, والله أعلم. وقوله "ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن" أي لا تضاروهن في العشرة, لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه أو حقاً من حقوقها عليك, أو شيئاً من ذلك على وجه القهر لها والإضطهاد. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله "ولا تعضلوهن" يقول: ولا تقهروهن "لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن" يعني الرجل, تكون له امرأة وهو كاره لصحبتها, ولها عليه مهر فيضرها لتفتدي, وكذا قال الضحاك وقتادة, واختاره ابن جرير, وقال ابن المبارك وعبد الرزاق: أخبرنا معمر, قال أخبرني سماك بن الفضل عن ابن البيلماني, قال: نزلت هاتان الايتان, إحداهما في أمر الجاهلية, والأخرى في أمر الإسلام. قال عبد الله بن المبارك: يعني قوله "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" في الجاهلية, "ولا تعضلوهن" في الإسلام. وقوله "إلا أن يأتين بفاحشة مبينة" قال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب والشعبي والحسن البصري ومحمد بن سيرين وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وعطاء الخراساني والضحاك وأبو قلابة وأبو صالح والسدي وزيد بن أسلم وسعيد بن أبي هلال: يعني بذلك الزنا, يعني إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها, وتضاجرها حتى تتركه لك, وتخالعها, كما قال تعالى في سورة البقرة: " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله " الاية, وقال ابن عباس وعكرمة والضحاك: الفاحشة المبينة النشوز والعصيان, واختار ابن جرير أنه يعم ذلك كله الزنا والعصيان, والنشوز وبذاء اللسان, وغير ذلك. يعني أن هذا كله يبيح مضاجرتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه ويفارقها, وهذا جيد, والله أعلم. وقد تقدم فيما رواه أبو داود منفرداً به من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " قال: وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت, أو ترد إليه صداقها, فأحكم الله عن ذلك, أي نهى عن ذلك. قال عكرمة والحسن البصري: وهذا يقتضي أن يكون السياق كله كان في أمر الجاهلية, ولكن نهي المسلمون عن فعله في الإسلام, وقال عبد الرحمن بن زيد: كان العضل في قريش بمكة ينكح الرجل المرأة الشريفة, فلعلها لا توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه, فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد, فإذا خطبها الخاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها قال: فهذا قوله "ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن" الاية, وقال مجاهد في قوله "ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن" هو كالعضل في سورة البقرة. وقوله تعالى: "وعاشروهن بالمعروف" أي طيبوا أقوالكم لهن, وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم كما تحب ذلك منها, فافعل أنت بها مثله, كما قال تعالى: "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خيركم خيركم لأهله, وأنا خيركم لأهلي" وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة دائم البشر, يداعب أهله, ويتلطف بهم ويوسعهم نفقته, ويضاحك نساءه حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها, يتودد إليها بذلك, قالت: سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته, وذلك قبل أن أحمل اللحم, ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني, فقال "هذه بتلك" ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان, ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها, وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد, يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار, وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام, يؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم. وقد قال الله تعالى "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" وأحكام عشرة النساء وما يتعلق بتفصيل ذلك موضعه كتب الأحكام, ولله الحمد.
وقوله تعالى "فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً" أي فعسى أن يكون صبركم مع إمساككم لهن وكراهتهن فيه, خير كثير لكم في الدنيا والاخرة, كما قال ابن عباس في هذه الاية: هو أن يعطف عليها فيرزق منها ولداً, ويكون في ذلك الولد خير كثير, وفي الحديث الصحيح "لا يفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقاً رضي منها آخر".
وقوله تعالى: "وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً" أي إذا أراد أحدكم أن يفارق امرأة ويستبدل مكانها غيرها فلا يأخذ مما كان أصدق الأولى شيئاً ولو كان قنطاراً من المال, وقد قدمنا في سورة آل عمران الكلام على القنطار بما فيه كفاية عن إعادته ههنا. وفي هذه الاية دلالة على جواز الإصداق بالمال الجزيل, وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق, ثم رجع عن ذلك, كما قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل, حدثنا سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين, قال: نبئت عن أبي العجفاء السلمي, قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: ألا لا تغلوا في صداق النساء, فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله, كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم, ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية, وإن كان الرجل ليبتلى بصدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه وحتى يقول: كلفت إليك علق القربة, ثم رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طرق عن محمد بن سيرين عن أبي العجفاء واسمه هرم بن مسيب البصري, وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(طريق أخرى عن عمر) قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو خيثمة, حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا أبي عن ابن إسحاق, حدثني محمد بن عبد الرحمن عن المجالد بن سعيد, عن الشعبي, عن مسروق, قال: ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أيها الناس, ما إكثاركم في صدق النساء. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإنما الصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم, فما دون ذلك, ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها. فلا أعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم. قال: ثم نزل, فاعترضته امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين, نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم, قال: نعم, فقالت: أما سمعت ما أنزل الله في القرآن ؟ قال: وأي ذلك ؟ فقالت: أما سمعت الله يقول "وآتيتم إحداهن قنطاراً" الاية ؟ قال: فقال: اللهم غفراً, كل الناس أفقه من عمر. ثم رجع فركب المنبر فقال: إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صداقهن على أربعمائة درهم, فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب. قال أبو يعلى: وأظنه قال: فمن طابت نفسه فليفعل, إسناده جيد قوي.
(طريق أخرى) قال ابن المنذر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق, عن قيس بن ربيع, عن أبي حصين, عن أبي عبد الرحمن السلمي, قال: قال عمر بن الخطاب: لا تغالوا في مهور النساء, فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر, إن الله يقول: "وآتيتم إحداهن قنطاراً" ـ من ذهب ـ قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود, " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ", فقال عمر: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته.
(طريق أخرى عن عمر فيها انقطاع) قال الزبير بن بكار: حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن جدي قال: قال عمر بن الخطاب: لا تزيدوا في مهور النساء وإن كانت بنت ذي الغصة ـ يعني يزيد بن الحصين الحارثي ـ فمن زاد, ألقيت الزيادة في بيت المال. فقالت امرأة من صفة النساء طويلة, في أنفها فطس: ما ذاك لك. قال: ولم ؟ قالت: لأن الله قال "وآتيتم إحداهن قنطاراً" الاية, فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ ولهذا قال منكراً "وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض" أي وكيف تأخذون الصداق من المرأة وقد أفضيت إليها وأفضت إليك ؟ قال ابن عباس ومجاهد والسدي وغير واحد: يعني بذلك الجماع ـ وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال للمتلاعنين بعد فراغهما من تلاعنهما "الله يعلم أن أحدكما كاذب. فهل منكما تائب ؟" قالها ثلاثاً, فقال الرجل: يا رسول الله مالي ؟ ـ يعني ما أصدقها ـ قال "لا مال لك. إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها, وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها". في سنن أبي داود وغيره عن بصرة بن أكتم أنه تزوج امرأة بكراً في خدرها, فإذا هي حامل من الزنا, فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له, فقضى لها بالصداق, وفرق بينهما, وأمر بجلدها, وقال "الولد عبد لك. فالصداق في مقابلة البضع" ولهذا قال تعالى "وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض".
وقال تعالى: "وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً" روي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير, أن المراد بذلك العقد. وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس في قوله "وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً" قال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. قال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة ومجاهد وأبي العالية والحسن وقتادة ويحيى بن أبي كثير والضحاك والسدي, نحو ذلك. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في الاية: هو قوله "أخذتموهن بأمانة الله, واستحللتم فروجهن بكلمة الله" فإن كلمة الله هي التشهد في الخطبة, قال: وكان فيما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به, قال له "جعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي" رواه ابن أبي حاتم, وفي صحيح مسلم عن جابر في خطبة حجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها "واستوصوا بالنساء خيراً فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله".
وقال تعالى: "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" الاية, يحرم الله تعالى زوجات الاباء تكرمة لهم, وإعظاماً واحتراماً أن توطأ من بعده, حتى إنها لتحرم عن الابن بمجرد العقد عليها, وهذا أمر مجمع عليه. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا مالك بن إسماعيل, حدثنا قيس بن الربيع حدثنا أشعث بن سوار عن عدي بن ثابت, عن رجل من الأنصار, قال: لما توفي أبو قيس ـ يعني ابن الأسلت ـ وكان من صالحي الأنصار, فخطب ابنه قيس امرأته, فقالت: إنما أعدك ولداً وأنت من صالحي قومك, ولكن آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالت: إن أبا قيس توفي, فقال "خيراً" ثم قالت: إن ابنه قيساً خطبني, وهو من صالحي قومه. وإنما كنت أعده ولداً فما ترى ؟ فقال لها "ارجعي إلى بيتك", قال: فنزلت "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" الاية, وقال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا حسين, حدثنا حجاج عن ابن جريج, عن عكرمة في قوله "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف" قال: نزلت في أبي قيس بن الأسلت خلف على أم عبيد الله بنت صخرة, وكانت تحت الأسلت أبيه وفي الأسود بن خلف, وكان خلف على ابنة أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار, وكان عند أبيه خلف, وفي فاختة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد كانت عند أمية بن خلف, فخلف عليها صفوان بن أمية. وقد زعم السهيلي أن نكاح نساء الاباء كان معمولاً به في الجاهلية, ولهذا قال "إلا ما قد سلف" كما قال "وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف" قال: وقد فعل ذلك كنانة بن خزيمة, تزوج بامرأة أبيه, فأولدها ابنه النضر بن كنانة, قال: وقد قال صلى الله عليه وسلم "ولدت من نكاح لا من سفاح" قال: فدل على أنه كان سائغاً لهم ذلك, فإن أراد أنهم كانوا يعدونه نكاحاً فيما بينهم. فقد قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي, حدثنا قراد, حدثنا ابن عيينة عن عمرو, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين, فأنزل الله تعالى "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" "وأن تجمعوا بين الأختين", وهكذا قال عطاء وقتادة, ولكن فيما نقله السهيلي من قصة كنانة نظر, والله أعلم, وعلى كل تقدير فهو حرام في هذه الاية, مبشع غاية التبشع, ولهذا قال تعالى: "إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً" وقال " ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن " وقال " ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا " فزاد ههنا "ومقتاً" أي بغضاً أي هو أمر كبير في نفسه, ويؤدي إلى مقت الابن أباه بعد أن يتزوج بامرأته, فإن الغالب أن من تزوج بامرأة يبغض من كان زوجها قبله, ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة لأنهن أمهات لكونهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وهو كالأب, بل حقه أعظم من حق الاباء بالإجماع, بل حبه مقدم على حب النفوس صلوات الله وسلامه عليه . وقال عطاء بن أبي رباح في قوله "ومقتاً" أي يمقت الله عليه, "وساء سبيلاً" أي وبئس طريقاً لمن سلكه من الناس, فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه, فيقتل ويصير ماله فيئاً لبيت المال. كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طرق عن البراء بن عازب, عن خاله أبي بردة ـ وفي رواية: ابن عمر, وفي رواية: عن عمه ـ أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله ويأخذ ماله. وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم, حدثنا أشعث عن عدي بن ثابت, عن البراء بن عازب, قال: مر بي عمي الحارث بن عمرو ومعه لواء قد عقده له النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: أي عم أين بعثك النبي ؟ قال: بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه.
(مسألة) وقد أجمع العلماء على تحريم من وطئها الأب بتزويج أو ملك أو شبهة, واختلفوا فيمن باشرها بشهوة دون الجماع, أو نظر إلى ما لا يحل له النظر إليه منها لو كانت أجنبية, فعن الإمام أحمد رحمه الله أنها تحرم أيضاً بذلك, وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة خديج الحمصي مولى معاوية قال: اشترى لمعاوية جارية بيضاء جميلة, فأدخلها عليه مجردة وبيده قضيب, فجعل يهوي به إلى متاعها, ويقول: هذا المتاع, لو كان له متاع اذهب بها إلى يزيد بن معاوية, ثم قال: لا, ادع لي ربيعة بن عمرو الجرسي, وكان فقيهاً, فلما دخل عليه قال: إن هذه أتيت بها مجردة فرأيت منها ذاك وذاك, وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد, فقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين فإنها لا تصلح له, ثم قال: نعم ما رأيت, ثم قال ادع لي عبد الله بن مسعدة الفزاري, فدعوته وكان آدم شديد الأدمة, فقال: دونك هذه بيض بها ولدك, قال: وكان عبد الله بن مسعدة هذا وهبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة فربته, ثم أعتقته, ثم كان بعد ذلك مع معاوية من الناس على علي رضي الله عنه.
وقوله 21- "وكيف تأخذونه" إنكار بعد إنكار مشتمل على العلة التي تقتضي منع الأخذ: وهي الإفضاء. قال الهروي: وهو إذا كانا في لحاف واحد جامع أو لم يجامع، وقال الفراء: الإفضاء أن يخلو الرجل والمرأة وإن لم يجامعها. وقال ابن عباس ومجاهد والسدي: الإفضاء في هذه الآية: الجماع، وأصل الإفضاء في اللغة المخالطة، يقال للشيء المختلط فضاء، ويقال القوم فوضى وفضاء: أي مختلطون لا أمير عليهم. قوله "وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً" معطوف على الجملة التي قبله: أي والحال أن قد أفضى بعضكم إلى بعض، وقد أخذن منكم ميثاقاً غليظاً وهو عقد النكاح، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله" وقيل: هو قوله تعالى "فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" وقيل: هو الأولاد.
21-"وكيف تأخذونه"، على طريق الإستعظام، "وقد أفضى بعضكم إلى بعض"، أراد به المجامعة، ولكن الله حيي يكني، وأصل الإفضاء: الوصول إلى الشيء من غير واسطة.
"وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً"، قال الحسن وابن سيرين والضحاك وقتادة: هو قول الولي عند العقد: زوجتكما على ما أخذ الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان،وقال الشعبي وعكرمة: هو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله تعالى واستحللتم فروجهن بكلمة الله تعالى".
21" وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض " إنكار لاسترداد المهر والحال أنه وصل إليها بالملامسة ودخل بها وتقرر المهر. " وأخذن منكم ميثاقا غليظا " عهداً وثيقاً، وهو حق الصحبة والممازحة، أو ما أوثق الله عليهم في شأنهم بقوله: " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " أو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله".
21. How can ye take it (back) after one of you hath gone in unto the other, and they have taken a strong pledge from you?
21 - And how could ye take it when ye have gone in when ye have gone in unto each other, and they have taken from you a solemn covenant?