[النساء : 123] لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا
ونزل لما افتخر المسلمون وأهل الكتاب (ليس) الأمر منوطا (بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) بل بالعمل الصالح (من يعمل سوء يجز به) إما في الآخرة أو الدنيا بالبلاء والمحن كما ورد في الحديث (ولا يجد له من دون الله) أي غيره (وليا) يحفظه (ولا نصيرا) يمنعه منه
قوله تعالى ليس بأمانيكم الآية أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال قالت اليهود والنصارى لا يدخل الجنة غيرنا وقالت قريش إنا لا نبعث فأنزل الله ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب
وأخرج ابن جرير عن مسروق قال تفاخر النصارى وأهل الإسلام فقال هؤلاء نحن أفضل منكم وقال هؤلاء نحن أفضل منكم فأنزل الله ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب
وأخرج نحوه عن قتادة والضحاك والسدي وأبي صالح ولفظهم نفاخر أهل الأديان وفي لفظ جلس ناس من اليهود وناس من النصارى وناس من المسلمين فقال هؤلاء نحن أفضل فنزلت
وأخرج أيضا عن مسروق قال لما نزلت ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب قال أهل الكتاب نحن وأنتم سواء فنزلت هذه الآية ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله : "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب".
فقال بعضهم : عني بقوله : "ليس بأمانيكم"، أهل الإسلام .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق قال : تفاخر النصارى وأهل الإسلام ، فقال هؤلاء : نحن أفضل منكم ! وقال هؤلاء: نحن أفضل منكم ! قال : فأنزل الله : "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب".
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى، عن مسروق قال : لما نزلت : "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، قال : أهل الكتاب : نحن وأنتم سواء! فنزلت هذه الآية : "ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن".
حدثني أبو السائب وابن وكيع قالا، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق في قوله : "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، قال : احتج المسلمون وأهل الكتاب ، فقال المسلمون : نحن أهدى منكم ! وقال أهل الكتاب : نحن أهدى منكم ! فأنزل الله : "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، قال : ففلج عليهم المسلمون بهذه الآية: "ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن"، إلى آخر الآيتين .
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال : ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، ونحن أولى بالله منكم! وقال المسلمون : نحن أولى بالله منكم ، نبينا خاتم النبيين ، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله ! فأنزل الله : "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به"، إلى قوله : "ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا"، فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي: "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به"، قال : التقى ناس من اليهود والنصارى، فقالت اليهود للمسلمين : نحن خير منكم ، ديننا قبل دينكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، ونحن على دين إبراهيم ، ولن يدخل الجنة إلا من كان هوداً! وقالت النصارى مثل ذلك ، فقال المسلمون : كتابنا بعد كتابكم ، ونبيا بعد نبيكم ، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم ، فنحن خير منكم ، نحن على دين إبراهيم واسماعيل وإسحاق ، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا! فرد الله عليهم قولهم فقال : "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به"، ثم فضل الله المؤمنين عليم فقال: "ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا".
حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به"، تخاصم أهل الأديان ، فقال أهل التوراة : كتابنا أول كتاب وخيرها، ونبينا خير الأنبياء! وقال أهل الإنجيل نحواً من ذلك ، وقال أهل الإسلام : لا دين إلا دين الإسلام ، وكتابنا نسخ كل كتاب ، ونبينا خاتم النبيين ، وأمرنا أن نعمل بكتابنا ونؤمن بكتابكم ، فقضى الله بينهم فقال : "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به"، ثم خير بين أهل الأديان ففضل أهل الفضل فقال : "ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن" إلى قوله : "واتخذ الله إبراهيم خليلا".
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، إلى : "ولا نصيرا"، تحاكم أهل الأديان ، قال أهل التوراة : كتابنا خير الكتب ، أنزل قبل كتابكم ، ونبينا خير الأنبياء، وقال أهل الإنجيل مثل ذلك ، وقال أهل الإسلام : لا دين إلا الإسلام ، كتابنا نسخ كل كتاب ، ونبينا خاتم النبيين ، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ، ونعمل بكتابنا! فقضى الله بينهم ففال : "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به"، وخير بين أهل الأديان فقال : "ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا".
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا يعلى بن عبيد وأبو زهير، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح قال : جلس أناس من أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الإيمان ، فقال هؤلاء: نحن أفضل! وقال هؤلاء : نحن أفضل ! فانزل الله : "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به". ثم خص، الله أهل الإيمان فقال : "ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن".
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة، عن إسماعيل ، عن أبي صالح قال : جلس أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الزبور فتفاخروا، فقال هؤلاء : نحن أفضل ! وقال هؤلاء : نحن أفضل ! وقال هؤلاء: نحن أفضل ! فأنزل الله : "ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا".
حدثنا يحيى بن أبي طالب قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله : "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، قال : افتخر أهل الأديان ، فقالت اليهود: كتابنا خير الكتب وأكرمها على الله ، ونبينا أكرم الأنبياء على الله ، موسى كلمه الله قبلاً، وخلا به نجياً،وديننا خير الأديان! وقالت النصارى : عيسى ابن مريم خاتم الرسل ، وآتاه الله التوراة والإنجيل ، ولو أدركه موسى لاتبعه ، وديننا خير الأديان ! وقال المجوس وكفار العرب : ديننا أقدم الأديان وخيرها! وقال المسلمون : محمد نبينا خاتم النبيين وسيد الأنبياء، والفرقان آخر ما أنزل من الكتب من عند الله ، وهو أمين على كل كتاب ، والإسلام خير الأديان ! فخير الله بينهم فقال : "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب".
وقال آخرون : بل عنى الله بقوله : "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، أهل الشرك به من عبدة الأوثان .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، قال : قريش ، قالت : لن نبعث ولن نعذب .
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: "ليس بأمانيكم"، قال : قالت قريش : لن نبعث ولن نعذب ، فأنزل الله : "من يعمل سوءا يجز به".
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به"، قال : قالت العرب : لن نبعث ولن نعذب ، وقالت اليهود والنصارى : "لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى" [البقرة: 111]، أو قالوا : "لن تمسنا النار إلا أياما معدودة" [البقرة :85]، شك أبو بشر.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد: "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، قريش وكعب بن الأشرف ، "من يعمل سوءا يجز به".
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله : "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب"، إلى آخر الآية، قال : جاء حيي بن أخطب إلى المشركين فقالوا له : يا حيي ، إنكم أصحاب كتب ، فنحن خير أم محمد وأصحابه ؟ فقال : نحن وأنتم خير منه ! فذلك قوله : "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب" إلى قوله : "ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا" [النساء: 51، 52]. ثم قال للمشركين : "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، فقرأ حتى بلغ : "ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن"، رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، "فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا"، قال : ووعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيئاتهم ، ولم يعد أولئك ، وقرأ : "والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون" [العنكبوت : 7].
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله : "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به"، قال : قالت قريش : لن نبعث ولن نعذب !
وقال آخرون : عني به أهل الكتاب خاصة.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان قال ، سمعت الضحاك يقول : "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب" الآية، قال : نزلت في أهل الكتاب حين خالفوا النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك ، ما قال مجاهد: من أنه عنى بقوله : "ليس بأمانيكم"، مشركي قريش.
وأنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن المسلمين لم يجر لأمانيهم ذكر فيما مضى من الآي قبل قوله : "ليس بأمانيكم"، وإنما جرى ذكر أماني نصيب الشيطان المفروض ، وذلك في قوله : "ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام"، وقوله : "يعدهم ويمنيهم"، فإلحاق معنى قوله جل ثناؤه : "ليس بأمانيكم" بما قد جرى ذكره قبل ، أحق وأولى من ادعاء تأويل فيه ، لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل ، ولا أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا إجماع من أهل التأويل .
وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية إذا : ليس الأمر بأمانيكم ، يا معشر أولياء الشيطان وحزبه ، التي يمنيكموها وليكم عدو الله ، من إنقاذكم ممن أرادكم بسوء، ونصرتكم عليه وإظفاركم به ، ولا أماني أهل الكتاب الذين قالوا اغتراراً بالله وبحلمه عنهم : "لن تمسنا النار إلا أياما معدودة" [البقرة : 80]، و "لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى" [البقرة : 111 ]، فإن الله مجازي كل عامل منكم جزاء عمله ، من يعمل منكم سوءاً، ومن غيركم ، يجز به ، ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة.
ومما يدل على صحة ما قلنا في تأويل ذلك ، وأنه عني بقوله : "ليس بأمانيكم" مشركو العرب ، كما قال مجاهد : أن الله وصف وعد الشيطان ما وعد أولياءه وأخبر بحال وعده ، ثم أتبع ذلك بصفة وعده الصادق بقوله : "والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا"، وقد ذكر جل ثناؤه مع وصفه وعد الشيطان أولياءه ، تمنيته إياهم الأماني بقوله : "يعدهم ويمنيهم"، كما ذكر وعده إياهم . فالذي هو أشبه : أن يتبع تمنيته إياهم من الصفة، بمثل الذي أتجع عدته إياهم به من الصفة.
وإذ كان ذلك كذلك ، صح أن قوله : "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به" الآية، إنما هو خبر من الله عن أماني أولياء الشيطان . وما إليه صائرة أمانيهم ، مع سيىء أعمالهم من سوء الجزاء، وما إليه صائرة أعمال أولياء الله من حسن الجزاء. وإنما ضم جل ثناؤه أهل الكتاب إلى المشركين في قوله : "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، لأن أماني الفريقين من تمنية الشيطان إياهم التي وعدهم أن يمنيهموها بقوله : "ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم".
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .
فقال بعضهم : عني ب السوء كل معصية لثه . وقالوا: معنى الآية : من يرتكب صغيرة أو كبيرة من مؤمن أو كافر من معاصي الله ، يجازه الله بها.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: أن الربيع بن زياد سأل أبن بن كعب عن هذه الآية: "من يعمل سوءا يجز به"، فقال : ما كنت أراك إلا أفقه مما أرى! النكبة والعود والخدش .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا غندر، عن هشام الدستوائي قال ، حدثنا قتادة، عن الربيع بن زياد قال : قلت لأبي بن كعب : قول الله تبارك وتعالى : "من يعمل سوءا يجز به"، والله إن كان كل ما عملنا جزينا به هلكنا! قال : والله إن كنت لأراك أفقه مما أرى! لا يصيب رجلا خدش ولا عثرة إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر، حتى اللدغة والنفحة .
حدثنا القاسم بن بشر بن معروف قال، حدثنا سليمان بن حرب قال ، حدثنا حماد بن زيد، عن حجاج الصواف ، عن أيوب ، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب قال : دخلت على عائشة كي أسألها عن هذه الآية: "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به"، قالت : ذاك ما يصيبكم في الدنيا.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، أخبرني خالد: أنه سمع مجاهدا يقول في قوله : "من يعمل سوءا يجز به"، قال : يجز به في الدنيا. قال قلت : وما تبلغ المصيبات ؟ قال : ما تكره .
وقال آخرون : معنى ذلك : من يعمل سوءاً من أهل الكفر، يجز به .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هرون ، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن : "من يعمل سوءا يجز به"، قال : الكافر، ثم قرأ : "وهل نجازي إلا الكفور" [سبأ: 17]، قال : من الكفار.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا سهل ، عن حميد، عن الحسن ، مثله .
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو همام الأهوازي ، عن يونس بن عبيد، عن الحسن ، أنه كان يقول: "من يعمل سوءا يجز به"، و"وهل نجازي إلا الكفور" [سبأ: 17]، يعني بذلك الكفار، لا يعني بذلك أهل الصلاة .
حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا مبارك ، عن الحسن في قوله : "من يعمل سوءا يجز به"، قال : والله ما جازى الله عبداً بالخير والشر إلا عذبه . قال : "ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى" [النجم : 31]. قال : أما والله لقد كانت لهم ذنوب ، ولكنه غفرها لهم ولم يجازهم بها، إن الله لا يجازي عبده المؤمن بذنب ، إذاً توبقه ذنوبه.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، سمعت ابن زيد يقول في قوله : "من يعمل سوءا يجز به"، قال : وعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيئاتهم ، ولم يعد أولئك ، يعني : المشركين .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم ، عن الحسن : "من يعمل سوءا يجز به"، قال : إنما ذلك لمن أراد الله هو أنه، فأما من أراد كرامته ، فإنه من أهل الجنة : "وعد الصدق الذي كانوا يوعدون" [الأحقاف : 16 ].
حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر، عن الضحاك : "من يعمل سوءا يجز به"، يعني بذلك : اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب ، "ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا".
وقال آخرون : معنى السوء في هذا الموضع : الشرك . قالوا: وتأويل قوله : "من يعمل سوءا يجز به"، من يشرك بالله يجز بشركه ، "ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا".
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله : "من يعمل سوءا يجز به"، يقول : من يشرك يجز به -وهوالسوء- "ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا"، إلا أن يتوب قبل موته ، فيتوب الله عليه .
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير: "من يعمل سوءا يجز به"، قال : الشرك .
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات التي ذكرناها بتأويل الآية، التأويل الذي ذكرناه عن أبي بن كعب وعائشة : وهو أن كل من عمل سوءاً صغيراً أو كبيراً من مؤمن أو كافر، جوزي به .
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية: لعموم الآية كل عامل سوء، من غير أن يخص أو يستثنى منهم أحد. فهي على عمومها، إذ لم يكن في الآية دلالة على خصوصها، ولا قامت حجة بذلك من خبر عن ا لرسول صلى الله عليه وسلم.
فإن قال قائل : وأين ذلك من قول الله : "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم" [النساء: 31]؟ وكيف يجوز أن يجازي على ما قد وعد تكفيره ؟.
قيل : إنه لم يعد بقوله : "نكفر عنكم سيئاتكم" [النساء: 30]، ترك المجازاة عليها، وإنما وعد التكفير بترك الفضيحة منه لأهلها في معادهم ، كما فضح أهل الشرك والنفاق . فأما إذا جازاهم في الدنيا عليها بالمصائب ليكفرها عنهم بها، ليوافوه ولا ذنب لهم يستحقون المجازاة عليه ، فإنما وفى لهم بما وعدهم بقوله : "نكفر عنكم سيئاتكم" [النساء: 30]، وأنجز لهم ما ضمن لهم بقوله : "والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار" [النساء : 122].
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر الأخبار الواردة بذلك :
حدثنا أبو كريب وسفيان بن وكيع ونصر بن علي وعبد الله بن أبي زياد القطواني قالوا، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن محيصن ، عن محمد بن قيس بن مخرمة، "عن أبي هريرة قال : لما نزلت هذه الآية : "من يعمل سوءا يجز به"، شقت على المسلمين ، وبلغت منهم ما شاء الله أن تبلغ ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : قاربوا وسددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة، حتى النكبة ينكبها، أو الشوكة يشاكها".
حدثني عبد الله بن أبي زياد وأحمد بن منصور الرمادي قالا، حدثنا زيد بن حباب قال ، حدثنا عبد الملك بن الحسن الحارثي قال ، حدثنا محمد بن زيد بن قنفذ، عن عائشة، عن أبي بكر قال : لما نزلت "من يعمل سوءا يجز به"، قال أبو بكر: يا رسول الله ، كل ما نعمل نؤاخذ به ؟ فقال : يا أبا بكر، أليس يصيبك كذا وكذا؟ فهو كفارته.
حدثني إبراهيم بن سعد الجوهري قال ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن زياد الجصاص ، عن علي بن زيد، عن مجاهد قال ، حدثني عبد الله بن عمر: أنه سمع أبا بكر يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "من يعمل سوءا يجز به" في الدنيا.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن إسماعيل ، عن أبي بكر بن أبي زهير، عن أبي بكر الصديق أنه قال : يا نبي الله ، كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أية آية؟ قال يقول الله : "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به"، فما عملناه جزينا به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : غفر الله لك يا أبا بكر! ألست تمرض ؟ ألست تحزن ؟ ألست تصيبك الأواء؟ قال : فهو ما تجزون به !.
حدثنا يونس قال ، حدثنا سفيان ، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال : أظنه عن أبي بكر الثقفي ، عن أبي بكر قال : لما نزلت هذه الآية : "من يعمل سوءا يجز به"، قال أبو بكر: كيف الصلاح ؟ ثم ذكر نحوه ، إلا أنه زاد فيه : ألست تنكب ؟.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي بكر بن أبي زهير: أن أبا بكر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف الصلاح ؟ فذكر مثله .
حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال ، حدثنا أبو مالك الجنبي ، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي قال ، "قال أبو بكر: يا رسول الله ، فذكر نحوه ، إلا أنه قال : فكل سوء عملناه جزينا به ؟ وقال أيضاً : ألست تمرض ؟ ألست تنصب ؟ ألست تحزن ؟ أليس تصيبك الأواء؟ قال : بلى، قال : هو ما تجزون به!".
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن ابن أبي خالد، "عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي قال : لما نزلت هذه الآية : "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به"، قال : قال أبو بكر: يا رسول الله ، وإنا لنجزى بكل شيء نعمله ؟ قال : يا أبا بكر، ألست تنصب ؟ ألست تحزن ؟ ألست تصيبك الأواء؟ فهذا مما تجزون به".
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا ابن أبي خالد قال ، حدثني أبو بكر بن أبى زهير الثقفي ، عن أبي بكر، فذكر مثله .
حدثنا أبو السائب وسفيان بن وكيع قالا، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش ، عن مسلم قال : "قال أبو بكر: يا رسول الله ، ما أشد هذه الآية : "من يعمل سوءا يجز به"؟ قال : يا أبا بكر، إن المصيبة في الدنيا جزاء".
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا روح بن عبادة قال ، حدثنا أبو عامر الخزاز، عن ابن أبي مليكة، "عن عائشة قالت : قلت : إني لأعلم أي آية في كتاب الله أشد! فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : أي آية؟ فقلت : "من يعمل سوءا يجز به"! قال : إن المؤمن ليجازى بأسوإ عمله في الدنيا، ثم ذكر أشياء منهن المرض والنصب ، فكان آخره أنه ذكر النكبة، فقال : كل ذي يجزى به بعمله ، يا عائشة، إنه ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا يعذب . فقلت : أليس يقول الله : "فسوف يحاسب حسابا يسيرا" [الانشقاق : 8]؟ فقال : ذاك عند العرض ، إنه من نوقش الحساب عذب؟ وقال بيده على إصبعه ، كأنه ينكته".
حدثني القاسم بن بشر بن معروف قال ، حدثنا سليمان بن حرب قال ، حدثنا سليمان بن حرب قال ، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أمية قالت : سألت عائشة عن هذه الآية : "وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله" [البقرة: 284]، و "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به". قالت : ما سألني عنها أحداً منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقال : يا عائشة، ذاك مثابة الله للعبد بما يصيبه من الحمى والكبر، والبضاعة يضعها في كمه فيفقدها، فيفزع لها، فيجدها في كمه ، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا أبو عامر الخزاز قال ، حدثنا اين أبي مليكه ، "عن عائشة قالت : قلت يا رسول الله إني لأعلم أشد آية في القران ! فقال : ما هي يا عائشة؟ قلت : هي هذه الآية يا رسول الله : "من يعمل سوءا يجز به"، فقال : هو ما يصيب العبد المؤمن ، حتى النكبة ينكبها".
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية، عن الربيع بن صبيح، عن عطاء قال : لما نزلت : "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به"، قال أبو بكر: يا رسول الله، ما أشد هذه الآية؟ قال : يا أبا بكر، إنك تمرض ، وإنك تحزن ، وإنك يصيبك أذى، فذاك بذاك.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، أخبرني عطاء بن أبي رباح قال : لما نزلت قال أبو بكر: جاءت قاصمة الظهر! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما هي المصيبات في الدنيا.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه : ولا يجد الذي يعمل سوءاً من معاصي الله وخلاف ما أمره به ، "من دون الله"، يعني : من بعد الله ، وسواه ، "وليا" يلي أمره ، ويحمي عنه ما ينزل به من عقوبة الله ، "ولا نصيرا"، يعني : ولا ناصراً ينصره مما يحل به من عقوبة الله وأليم نكاله.
قوله تعالى:" ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " وقرأ أبو جعفر المدني ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب بتخفيف الياء فيهما جميعاً ومن أحسن ما روي في نزولها ما رواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال:
قالت اليهود والنصارى لن يدخل الجنة إلا من كان منا. وقالت قريش ليس نبعث فأنزل الله " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " وقال قتادة والسدي: تفاخر المؤمنون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أحق بالله منكم، وقال المؤمنون: نبينا خاتم الأنبياء وكتابنا يقضي على سائر الكتب فنزلت الآية .
قوله تعالى :" من يعمل سوءا يجز به " السوء ههنا الشرك قال الحسن: هذه الآية في الكافر وقرأ هل يجازى إلا الكفور وعنه أيضاً " من يعمل سوءا يجز به " قال : ذلك لمن أراد الله هوانه فأما من أراد كرامته فلا قد ذكرا الله قوماً فقال " أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون " [ الأحقاف : 16] وقال الضحاك: يعني اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب وقال الجمهور: لفظ الآية عام، والكافر والمؤمن مجاز بعمله السوء، فأما مجازاة الكافر فالنار لأن كفره أوبقه، وأما المؤمن فبنكبات الدنيا، كما روى مسلم في صحيحة "عن أبي هريرة قال :لما نزلت " من يعمل سوءا يجز به " بلغت من المسلمين مبلغاً شديدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
قاربوا وسدوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها " وخرج الترمذي الحكيم في نوادر الأصول في الفصل الخامس والتسعين حدثنا إبراهيم بن المستمر الهذلي قال حدثنا عبد الرحمن بن سليم بن حيان أبو زيد قال:
سمعت أبي يذكر عن أبيه قال صحبت ابن عمر من مكة إلى المدينة فقال لنافع :
لا تمر بين على المصلوب يعني ابن الزبير قال :فما فجئه في جوف الليل إن صك محملة جذعة فجلس فمسح عينه ثم قال: يرحمك الله أبا خبيب أن كنت وأن كنت !ولقد سمعت أباك الزبير يقول : "قال رسول الله صلى لله عليه وسلم : من يعمل سوءا يجز به في الدنيا أو في الآخرة " فإن يك هذا بذاك فهيه قال الترمذي أبو عبد الله : فأما في التنزيل فقد أجمله فقال: " من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا" فدخل فيه البر والفاجر والعدو والولي والمؤمن والكافر، ثم ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بين الموطنين "فقال: يجز به في الدنيا أو في الآخرة" وليس يجمع عليه الجزاء في المواطنين ألا ترى أن ابن عمر قال : فإن يك هذا بذاك فهيه، معناه أنه قاتل في حرم الله وأحدث فيه حدثاً عظيماً حتى أحرق البيت ورمى الحجر الأسود بالمنجنيق فانصدع حتى ضبب بالفضة فهو إلى يومنا هذا كذاك وسمع للبيت أنيناً آه آه! فلما رأى ابن عمر فعله ثم رآه مقتولاً مصلوباً ذكر "قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : من يعمل سوءاً يجز به " ثم قال : إن يك هذا القتل بذاك الذي فعله فهيه ، أي كأنه جوزي بذلك السوء هذا القتل والصلب رحمه الله ! ثم ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم في حدث آخر بين الفريقين، حدثنا أبي رحمه الله قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا محمد بن مسلم عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي قال
لما نزلت " من يعمل سوءا يجز به " "قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : ما هذه بمبقية قال :منا يا أبا بكر إنما يجزئ المؤمن بها في الدنيا ويجزئ بها الكافر يوم القيمة " حدثنا الجارود قال حدثنا وكيع وأبو معاوية وعبدة عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي قال: لما نزلت " من يعمل سوءا يجز به " "قال أبو بكر :
كيف الصلاح يا رسول الله مع هذا؟ كل شيء عملناه جزينا به فقال غفر الله لك يا أبا بكر ألست تنصب، ألست تحزن، ألست تصيبك اللأواء؟ قال :بلى قال: فلذلك مما تجزون به " ففسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أجمله التنزيل من قوله : "من يعمل سوءا يجز به " وروى الترمذي "عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنها لما نزلت قال له النبي صلى الله عليه وسلم :
أما أنت يا أبا بكر والمؤمنون فتجوزن بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله وليس لكم ذنوب وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة " قال حديث غريب: وفي إسناده مقال وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث ضعفه يحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل. ومولى بن سباع مجهول، وقد روي هذا من غير وجه عن أبي بكر وليس له إسناد صحيح أيضاً وفي الباب عن عائشة .
قلت خرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أمه أنها سألت عائشة عن هذه الآية " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " [ البقرة : 284] وعن هذه الآية " من يعمل سوءا يجز به " فقالت عائشة: ما سألني أحد منا "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال :
يا عائشة هذه مبايعة الله بما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة حتى البضاعة يضعفها في كمه فيفقدها فيفزع فيجدها في عيبته، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر من الكير " واسم ليس مضمر فيها من جميع هذه الأقوال والتقدير : ليس الكائن من أموالكم ما تتمونه بل من يعلم سوءاً يجز به وقيل: المعنى ليس ثواب الله بأمانيكم إذ قد تقدم " والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات " .
قوله تعالى :" ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا " يعني المشركين لقوله تعالى :" إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد " [غافر : 51] وقيل: " من يعمل سوءا يجز به " إلا أن يتوب وقراءة الجمعة ولا يجد له بالجزم عطفاً على يجز به وروى ابن بكار عن ابن عامر ولا يجد بالرفع استئنافاً فإن حملت الآية على الكافر فليس له غداً ولي ولا نصير، وإن حملت على المؤمن فليس له ولي ولا نصير دون الله .
قال قتادة: ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا, فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم, وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم ونبينا خاتم النبيين, وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله, فأنزل الله "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به" "ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن" الاية, ثم أفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الاديان, وكذا روي عن السدي ومسروق والضحاك وأبي صالح وغيرهم, وكذا روى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في هذه الاية: تخاصم أهل الأديان, فقال أهل التوارة: كتابنا خير الكتب, ونبينا خير الأنبياء, وقال أهل الإنجيل مثل ذلك, وقال أهل الإسلام: لا دين إلا الإسلام, وكتابنا نسخ كل كتاب, ونبينا خاتم النبيين, وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا فقضى الله بينهم, وقال: "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به" الاية.
وخير بين الأديان فقال: " ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن " إلى قوله: "واتخذ الله إبراهيم خليلاً". وقال مجاهد: قالت العرب: لن نبعث ولن نعذب, وقالت اليهود والنصارى "لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى", وقالوا: "لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات" والمعنى في هذه الاية أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني, ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال, وليس كل من ادعى شيئاً حصل له بمجرد دعواه, ولا كل من قال إنه هو على الحق سمع قوله بمجرد ذلك, حتى يكون له من الله برهان, ولهذا قال تعالى: "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به" أي ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني ؟ بل العبرة بطاعة الله سبحانه واتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الكرام, ولهذا قال بعده "من يعمل سوءاً يجز به", كقوله: " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " وقد روي أن هذه الاية لما نزلت شق ذلك على كثير من الصحابة .
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن نمير, حدثنا إسماعيل عن أبي بكر بن أبي زهير, قال: أخبرت أن أبا بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله كيف الفلاح بعد هذه الاية "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به" فكل سوء عملناه جزينا به ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "غفر الله لك يا أبا بكر, ألست تمرض, ألست تنصب, ألست تحزن, ألست تصيبك اللأواء ؟" قال: بلى. قال: "فهو مما تجزون به". ورواه سعيد بن منصور عن خلف بن خليفة, عن إسماعيل بن أبي خالد به, ورواه الحاكم من طريق سفيان الثوري عن إسماعيل به. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء عن زياد الجصاص, عن علي بن زيد, عن مجاهد, عن ابن عمر, قال: سمعت أبا بكر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يعمل سوءاً يجز به في الدنيا" وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن هشيم بن جهيمة, حدثنا يحيى بن أبي طالب, حدثنا عبد الوهاب بن عطاء, حدثنا زياد الجصاص عن علي بن زيد, عن مجاهد, قال: قال عبد الله بن عمر: انظروا المكان الذي فيه عبد الله بن الزبير مصلوباً فلا تمرن عليه, قال: فسها الغلام فإذا عبد الله بن عمر ينظر إلى ابن الزبير فقال: يغفر الله لك ثلاثاً, أما والله ما علمتك إلا صواماً قواماً وصالاً للرحم, أما والله إني لأرجو مع مساوي ما أصبت أن لا يعذبك الله بعدها, قال: ثم التفت إلي فقال: سمعت أبا بكر الصديق يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يعمل سوءاً في الدنيا يجز به" ورواه أبو بكر البزار في مسنده عن الفضل بن سهل, عن عبد الوهاب بن عطاء به مختصراً, وقال في مسنده ابن الزبير: حدثنا إبراهيم بن المستمر العروقي, حدثنا عبد الرحمن بن سليم بن حيان, حدثني أبي عن جدي حيان بن بسطام, قال: كنت مع ابن عمر فمر بعبد الله بن الزبير وهو مصلوب, فقال: رحمة الله عليك أبا خبيب, سمعت أباك يعني الزبير, يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يعمل سوءاً يجز به في الدنيا والاخرة" ثم قال: لا نعلمه يروى عن الزبير إلا من هذا الوجه.
وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا أحمد بن كامل, حدثنا محمد بن سعد العوفي, حدثنا روح بن عبادة, حدثنا موسى بن عبيدة, حدثني مولى بن سباع, قال: سمعت ابن عمر يحدث عن أبي بكر الصديق قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الاية " من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر ألا أقرئك آية أنزلت علي ؟" قلت: بلى يا رسول الله. قال: فاقرأنيها فلا أعلم إلا أني قد وجدت انفصاماً في ظهري حتى تمطيت لها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مالك يا أبا بكر ؟" قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله, وأينا لم يعمل السوء وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون, فإنكم تجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب, وأما الاخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة", وكذا رواه الترمذي عن يحيى بن موسى وعبد بن حميد عن روح بن عبادة به. ثم قال: وموسى بن عبيدة يضعف, ومولى بن سباع مجهول. وقال ابن جرير: حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء بن أبي رباح قال: لما نزلت هذه الاية قال أبو بكر: جاءت قاصمة الظهر, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هي المصيبات في الدنيا".
(طريق أخرى عن الصديق) قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إسحاق العسكري, حدثنا محمد بن عامر السعدي, حدثنا يحيى بن يحيى, حدثنا فضيل بن عياض عن سلمان بن مهران, عن مسلم بن صبيح, عن مسروق, قال: قال أبو بكر الصديق: يا رسول الله, ما أشد هذه الاية "من يعمل سوءاً يجز به ؟" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المصائب والأمراض والأحزان في الدينا جزاء".
(طريق أخرى) قال ابن جرير: حدثني عبد الله بن أبي زياد وأحمد بن منصور, قالا: أنبأنا زيد بن الحباب, حدثنا عبد الملك بن الحسن المحاربي, حدثنا محمد بن زيد بن قنفذ عن عائشة, عن أبي بكر قال: لما نزلت "من يعمل سوءاً يجز به" قال أبو بكر: يا رسول الله, كل ما نعمل نؤاخذ به ؟ فقال: "يا أبا بكر أليس يصيبك كذا وكذا, فهو كفارة".
(حديث آخر) قال سعيد بن منصور: أنبأنا عبد الله بن وهب, أخبرني عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدثه أن يزيد بن أبي يزيد حدثه عن عبيد بن عمير, عن عائشة أن رجلاً تلا هذه الاية "من يعمل سوءاً يجز به" فقال: إنا لنجزى بكل ما علمناه, هلكنا إذاً, فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "نعم يجزى به المؤمن في الدنيا في نفسه في جسده فيما يؤذيه".
(طريق أخرى) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا سلمة بن بشير, حدثنا هشيم عن أبي عامر, عن ابن أبي مليكة, عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله, إني لأعلم أشد آية في القرآن, فقال: "ما هي يا عائشة ؟" قلت: من يعمل سوءاً يجز به, فقال: "هو ما يصيب العبد المؤمن حتى النكبة ينكبها" ورواه ابن جرير من حديث هشيم به. ورواه أبو داود من حديث أبي عامر صالح بن رستم الخزاز به.
(طريق أخرى) قال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد, عن أمية أنها سألت عائشة عن هذه الاية "من يعمل سوءاً يجز به", فقالت: ما سألني أحد عن هذه الاية منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم, سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: "يا عائشة هذه مبايعة الله للعبد مما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة حتى البضاعة يضعها في كمه, فيفزع لها, فيجدها في جيبه حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه, كما أن الذهب يخرج من الكير".
(طريق أخرى) قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم, حدثنا أبو القاسم, حدثنا سريج بن يونس, حدثنا أبو معاوية عن محمد بن إسماعيل, عن محمد بن زيد بن المهاجر, عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الاية "من يعمل سوءاً يجز به", قال: "إن المؤمن يؤجر في كل شيء حتى في القبض عند الموت" وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين عن زائدة, عن ليث, عن مجاهد, عن عائشة قالت: قال: رسول الله: إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها, ابتلاه الله بالحزن ليكفرها عنه.
(حديث آخر) قال سعيد بن منصور, عن سفيان بن عيينة, عن عمر بن عبد الرحمن بن محيصن, سمع محمد بن قيس بن مخرمة يخبر أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت "من يعمل سوءاً يجز به" شق ذلك على المسلمين, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا, فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها", هكذا رواه أحمد عن سفيان بن عيينة, ومسلم والترمذي والنسائي من حديث سفيان بن عيينة به, ورواه ابن مردويه من حديث روح ومعتمر, كلاهما عن إبراهيم بن يزيد, عن عبد الله بن إبراهيم, سمعت أبا هريرة يقول: لما نزلت هذه الاية "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به" بكينا وحزنا, وقلنا: يارسول الله ما أبقت هذه الاية من شيء, قال: "أما والذي نفسي بيده إنها لكما أنزلت, ولكن أبشروا وقاربوا وسددوا, فإنه لا يصيب أحداً منكم مصيبة في الدنيا إلا كفر الله بها من خطيئته حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه" وقال عطاء بن يسار, عن أبي سعيد وأبي هريرة: أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر الله من سيئاته" أخرجاه.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن سعد بن إسحاق, حدثتني زينب بنت كعب بن عجرة عن أبي سعيد الخدري, قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا, ما لنا بها ؟ قال: كفارات. قال أبي: وإن قلت قال: حتى الشوكة فما فوقها, قال: فدعا أبي على نفسه أنه لا يفارقه الوعك حتى يموت في أن لا يشغله عن حج ولا عمرة ولا جهاد في سبيل الله ولا صلاة مكتوبة في جماعة, فما مسه إنسان إلا وجد حره حتى مات رضي الله عنه, تفرد به أحمد.
(حديث أخر) روى ابن مردويه من طريق حسين بن واقد عن الكلبي, عن أبي صالح, عن ابن عباس, قال: قيل: يا رسول الله "من يعمل سوءاً يجز به", قال: "نعم ومن يعمل حسنة يجز بها عشراً" فهلك من غلب واحدته عشراته. وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن "من يعمل سوءاً يجز به" قال: الكافر, ثم قرأ "وهل نجازي إلا الكفور", وهكذا روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أنهما فسرا السوء ههنا بالشرك أيضاً. وقوله: "ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً" قال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: إلا أن يتوب فيتوب الله عليه, رواه ابن أبي حاتم, والصحيح أن ذلك عام في جميع الأعمال لما تقدم من الأحاديث, وهذا اختيار ابن جرير, والله أعلم.
وقوله: "ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن" الاية, لما ذكر الجزاء على السيئات وأنه لا بد أن يأخذ مستحقها من العبد إما في الدنيا وهو الأجود له, وإما في الاخرة والعياذ با لله من ذلك, ونسأله العافية في الدنيا والاخرة, والصفح والعفو والمسامحة, شرع في بيان إحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصالحة من عباده, ذكرانهم وإناثهم بشرط الإيمان, وأنه سيدخلهم الجنة ولا يظلمهم من حسناتهم ولا مقدار النقير, وهو النقرة التي في ظهر نواة التمرة وقد تقدم الكلام على الفتيل وهو الخيط في شق النواة, وهذا النقير وهما في نواة التمرة, وكذا القطمير وهو اللفافة التي على نواة التمرة, والثلاثة في القرآن,
ثم قال تعالى: "ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله" أخلص العمل لربه عز وجل فعمل إيماناً واحتساباً, "وهو محسن" أي اتبع في عمله ما شرعه الله له, وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق,, وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما, أي يكون خالصاً صواباً والخالص أن يكون لله, والصواب أن يكون متابعاً للشريعة فيصح ظاهره بالمتابعة, وباطنه بالإخلاص, فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد, فمتى فقد الإخلاص كان منافقاً وهم الذين يراءون الناس, ومن فقد المتابعة كان ضالاً جاهلاً, ومتى جمعهما كان عمل المؤمنين الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم, الاية, ولهذا قال تعالى: "واتبع ملة إبراهيم حنيفاً" وهم محمد وأتباعه إلى يوم القيامة. كما قال تعالى: "إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي" الاية, وقال تعالى: "ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين" والحنيف هو المائل عن الشرك قصداً, أي تاركاً له عن بصيرة, ومقبل على الحق بكليته لا يصده عنه صاد, ولا يرده عنه راد.
وقوله: "واتخذ الله إبراهيم خليلاً" وهذا من باب الترغيب في اتباعه, لأنه إمام يقتدى به حيث وصل إلى غاية ما يتقرب به العباد له, فإنه انتهى إلى درجة الخلة التي هي أرفع مقامات المحبة, وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه, كما وصفه به في قوله: "وإبراهيم الذي وفى", قال كثير من علماء السلف: أي قام بجميع ما أمر به في كل مقام من مقامات العبادة, فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير, ولا كبير عن صغير وقال تعالى: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" الاية. وقال تعالى: "إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين" الاية, والاية بعدها, وقال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب, حدثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت, عن سعيد بن جبير, عن عمرو بن ميمون, قال: إن معاذاً لما قدم اليمن صلى بهم الصبح, فقرأ "واتخذ الله إبراهيم خليلا" فقال رجل: من القوم: لقد قرت عين أم إبراهيم, وقد ذكر ابن جرير في تفسيره عن بعضهم: أنه إنما سماه الله خليلاً من أجل أنه أصاب أهل ناحيته جدب, فارتحل إلى خليل له من أهل الموصل, وقال بعضهم من أهل مصر: ليمتار طعاماً لأهله من قبله فلم يصب عنده حاجته, فلما قرب من أهله قر بمفازة ذات رمل, فقال: لو ملأت غرائري من هذا الرمل لئلا يغتم أهلي برجوعي إليهم بغير ميرة, وليظنوا أني أتيتهم بما يحبون, ففعل ذلك فتحول ما في الغرائر من الرمل دقيقاً, فلما صار إلى منزله نام, و قام أهله ففتحوا الغرائر فوجدوا دقيقاً فعجنوا منه وخبزوا, فاستيقظ فسألهم عن الدقيق الذي خبزوا, فقالوا: من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك, فقال: نعم هو من عند خليلي الله, فسماه الله خليلاً, وفي صحة هذا ووقوعه نظر, وغايته أن يكون خبراً إسرائيلياً لا يصدق ولا يكذب, وإنما سمي خليل الله لشدة محبة ربه عز وجل, له لما قام به من الطاعة التي يحبها ويرضاها, ولهذا ثبت في الصحيحين من رواية أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في آخر خطبة خطبها, قال: "أما بعد, أيها الناس فلو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً, لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلاً, ولكن صاحبكم خليل الله" وجاء من طريق جندب بن عبد الله البجلي وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن مسعود عن النبي قال: "إن الله اتخذني خليلاً, كما اتخذ إبراهيم خليلاً" وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم, حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أسيد, حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني بمكة, حدثنا عبد الله الحنفي, حدثنا زمعة أبو صالح عن سلمة بن وهران, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: جلس ناس من أصحاب رسول الله ينتظرونه, فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم, وإذا بعضهم يقول: عجب, إن الله اتخذ من خلقه خليلاً فإبراهيم خليله, وقال آخر: ماذا بأعجب من أن الله كلم موسى تكليماً, وقال آخر: فعيسى روح الله وكلمته, وقال آخر: آدم اصطفاه الله فخرج عليهم فسلم, وقال: "قد سمعت كلامكم وتعجبكم إن إبراهيم خليل الله, وهو كذلك, وموسى كليمه, وعيسى روحه وكلمته, وآدم اصطفاه الله وهو كذلك, وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم قال: ألا وإني حبيب الله, ولا فخر وأنا أول شافع وأول مشفع, ولا فخر وأنا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح الله ويدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين, ولا فخر, وأنا أكرم الأولين والاخرين يوم القيامة ولا فخر" وهذا حديث غريب من هذا الوجه ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها,
وقال قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: أتعجبون من أن تكون الخلة لإبراهيم, والكلام لموسى, والرؤية لمحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, رواه الحاكم في المستدرك, وقال: صحيح على شرط البخاري, ولم يخرجاه, وكذا روي عن أنس بن مالك وغير واحد من الصحابة والتابعين والأئمة من السلف والخلف وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يحيى بن عبدك القزويني, حدثنا محمد يعني سعيد بن سابق, حدثنا عمرو يعني ابن أبي قيس عن عاصم عن أبي راشد, عن عبيد بن عمير, قال: كان إبراهيم عليه السلام يضيف الناس, فخرج يوماً يلتمس أحداً يضيفه فلم يجد أحداً يضيفه, فرجع إلى داره فوجد فيها رجلاً قائماً, فقال: يا عبد الله ما أدخلك داري بغير إذني ؟ قال: دخلتها بإذن ربها, قال: ومن أنت ؟ قال: أنا ملك الموت أرسلني ربي إلى عبد من عباده, أبشره بأن الله قد اتخذه خليلاً, قال: من هو ؟ فوالله إن أخبرتني به, ثم كان بأقصى البلاد لاتينه, ثم لا أبرح له جاراً حتى يفرق بيننا الموت, قال: ذلك العبد أنت. قال: أنا ؟ قال: نعم, قال فيم اتخذني ربي خليلاً ؟ قال: إنك تعطي الناس ولا تسألهم وحدثنا أبي, حدثنا محمود بن خالد السلمي, حدثنا الوليد عن إسحاق بن يسار, قال: لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً ألقى في قلبه الوجل حتى أن خفقان قلبه ليسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء وهكذا جاء في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل إذا اشتد غليانها من البكاء.
وقوله: "ولله ما في السموات وما في الأرض" أي الجميع ملكه وعبيده وخلقه وهو المتصرف في جميع ذلك, لا راد لما قضى, ولا مقعب لما حكم, ولا يسأل عما يفعل لعظمته وقدرته وعدله وحكمته ولطفه ورحمته. وقوله: "وكان الله بكل شيء محيطاً" أي علمه نافذ في جميع ذلك لا تخفى عليه خافية من عباده, ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر, ولا تخفى عليه ذرة لما تراءى للناظرين وما توارى.
قرأ أبو جعفر بتخفيف الياء من أماني في الموضعين، واسم ليس محذوف: أي ليس دخول الجنة أو الفضل أو القرب من الله بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب كما يدل على ذلك سبب نزول الآية الآتي، وقيل: ضمير يعود إلى وعد الله، وهو بعيد، ومن أماني أهل الكتاب قولهم "لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى" وقولهم "نحن أبناء الله وأحباؤه" وقولهم "لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة". قوله 123- "من يعمل سوءاً يجز به" قيل: المراد بالسوء الشرك، وظاهر الآية أعم من ذلك، فكل من عمل سوءاً أي سوء كان فهو مجزي به من غير فرق بين المسلم والكافر. وفي هذه الجملة ما ترجف له القلوب من الوعيد الشديد، وقد كان لها في صدور المسلمين عند نزولها موقع عظيم كما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة، قال:" لما نزلت "من يعمل سوءاً يجز به" بلغت من المسلمين مبلغاً شديداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قاربوا وسددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها" . قوله "ولا يجد له" قرأه الجماعة بالجزم عطفاً على الجزاء، وروى ابن بكار عن ابن عامر "ولا يجد" بالرفع استئنافاً: أي ليس لمن يعمل السوء من دون الله ولياً يواليه ولا نصيراً ينصره.
123-قوله تعالى:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"،الآية قال مسروق وقتادة والضحاك:أراد ليس بأمانيكم أيها المسلمون ولا أماني أهل الكتاب يعني اليهود والنصارى، وذلك انهم افتخروا ، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم ، وقال المسلمون : نبينا خاتم الأنبياء وكتابنا يقضي على الكتب ، وقد آمنا بكتابكم ولم تؤمنوا بكتابنا فنحن أولى.
وقال مجاهد"ليس بأمانيكم" يا مشركي أهل الكتاب ، وذلك أنهم قالوا : لا بعث ولا حساب وقال أهل الكتاب " لن تمسنا النار إلا أياما معدودة" (البقرة- 80) " لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى" (البقرة-111) فأنزل الله تعالى:" ليس بأمانيكم" أي : ليس الأمر بالأماني وإنما الأمر بالعمل الصالح.
"من يعمل سوءا يجز به" وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وجماعة:الآية عامة في حق كل عامل.
وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما :" لما نزلت هذه الآية شقت على المسلمين وقالوا: يا رسول الله وأينا لم يعمل سوءاً غيرك فكيف الجزاء؟ قال: منه ما يكون في الدنيا فمن يعمل حسنة فله عشر حسنات، ومن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشر ، وبقيت له تسع حسنات ، فويل لمن غلبت آحاده أعشاره ، وأما ما يكون جزاء في الآخرة فيقابل بين حسناته وسيئاته، فيلقى مكان كل سيئة حسنة وينظر في الفضل ، فيعطى الجزاء في الجنة فيؤتي كل ذي فضل فضله".
أخبرنا عبد الواحد بن احمد المليحي ثنا أبو بكرمحمد بن احمد العبدوسي ثنا أبو بكر أحمد بن سليمان الفقيه ببغداد ثنا يحيى بن جعفر بن الزبرقان والحراث بن محمد قالا: ثنا روح هو ابن عبادة ثنا موسى بن عبيدة اخبرني مولى بن سباع : سمعت عبد الله بن عمر يحدث عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: كنت عند/ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه هذه الآية: "من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"يا أبا بكر ألا أقرئك آية أنزلت علي؟قال: قلت بلى ، قال: فأقرأنيها، قال: ولا أعلم إلا أني وجدت انفصاماً في ظهري حتى تمطيت لها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مالك يا أبا بكر؟ فقلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي وأينا لم يعمل سوءاً؟ إنا لمجزيون بكل سوء عملناه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله وليست لكم ذنوب ، وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا يوم القيامة".
123" ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " أي ليس ما وعد الله من الثواب ينال بأمانيكم أيها المسلمون، ولا بأماني أهل الكتاب، وإنما ينال بالإيمان والعمل الصالح. وقيل: ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل. روي (أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا. فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولي بالله منكم، وقال المسلمون: نحن أولى منكم نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب المتقدمة) فنزلت. وقيل: الخطاب مع المشركين ويدل عليه تقدم ذكرهم أي: ليس الأمر بأماني المشركين، وهو قولهم لا جنة ولا نار، وقولهم إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء لنكونن خيراً منهم وأحسن حالاً، ولا أماني أهل الكتاب وهو قولهم: " لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى " وقولهم: " لن تمسنا النار إلا أياما معدودة " ثم قرر ذلك وقال: " من يعمل سوءا يجز به " عاجلاً أو آجلاً لما روي "أنها لما نزلت قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: فمن ينجوا مع هذا يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام: أما تحزن أما تمرض أما يصيبك الأراء؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: هو ذاك". " ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا " ولا يجد لنفسه إذا جاوز موالاة الله ونصرته من يواليه وينصره في دفع العذاب عنه.
123. It will not be in accordance with your desires, nor the desires of the People of the Scripture. He who doeth wrong will have the recompense thereof, and will not find against Allah any protecting friend or helper.
123 - Dot your desires, nor those of the people of the book (can prevail): whoever works evil, will be requited accordingly. nor will he find, besides God, any protector or helper.