[النساء : 119] وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا
(ولأضلنهم) عن الحق بالوسوسة (ولأمنينهم) ألقي في قلوبهم طول الحياة أن لا بعث ولا حساب (ولآمرنهم فليبتِّكن) يقطعن (آذان الأنعام) وقد فعل ذلك بالبحائر (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) دينه بالكفر وإحلال ما حرم الله وتحريم ما أحل (ومن يتخذ الشيطان وليا) يتولاه ويطيعه (من دون الله) أي غيره (فقد خسر خسرانا مبينا) بيناً لمصيره إلى النار المؤبدة عليه
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه ، مخبراً عن قيل الشيطان المريد الذي وصف صفته في هذه الآية : "ولأضلنهم"، ولأصدن النصيب المفروض الذي أتخذه من عبادك عن محجة الهدى إلى الضلال ، ومن الإسلام إلى الكفر، "ولأمنينهم"، يقول : لأزيغنهم - بما أجعل في نفوسهم من الأماني - عن طاعتك وتوحيدك ، إلى طاعتي والشرك بك ، "ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام"، يقول : ولآمرن النصيب المفروض لي من عبادك ، بعبادة غيرك من الأوثان والأنداد حتى ينسكوا له ، ويحرموا ويحللوا له ، ويشرعوا غير الذي شرعته لهم ، فيتبعوني ويخالفوك.
و البتك ، القطع ، وهو في هذا الموضع : قطع أذن البحيرة ليعلم أنها بحيرة.
وإنما أراد بذلك الخبيث أنه يدعوهم إلى البحيرة، فيستجيبون له ، ويعملون بها طاعةً له.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله : "فليبتكن آذان الأنعام"، قال : البتك في البحيرة والسائبة، كانوا يبتكون آذانها لطواغيتهم .
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : توله : "ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام"، أما يبتكن آذان الأنعام ، فيشقونها ، فيجعلونها بحيرة .
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، أخبرني القاسم بن أبي بزة، عن عكرمة : "فليبتكن آذان الأنعام"، قال : دين شرعه لهم إبليس ، كهيئة البحائر والسيب .
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى قوله : "فليغيرن خلق الله".
فقال بعضهم : معنى ذلك : ولآمرنهم فليغيرن خلق الله من البهائم ، بإخصائهم إياها.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس : أنه كره الإخصاء وقال : فيه نزلت : "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله".
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الله بن داود قال ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أنس : أنه كره الإخصاء وقال : فيه نزلت : "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله".
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس ، عن أنس بن مالك قال : هو الإخصاء، يعني قول الله : "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله".
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن مطرف قال : حدثني رجل ، عن ابن عباس قال : إخصاء البهائم مثلة! ثم قرأ: "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله".
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس قال : من تغيير خلق الله ، الإخصاء.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا جعفر بن سليمان قال ، أخبرني شبيل : أنه سمع شهر بن حوشب قرأ هذه الآية : "فليغيرن خلق الله"، قال : الخصاء، قال: فأمرت أبا التياح فسأل الحسن عن خصاء الغنم ، فقال : لا بأس به .
حدثنا الحسن قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، حدثنا عمي وهب بن نافع ، عن القاسم بن أبي بزة قال : أمرني مجاهد أن أسأل عكرمة عن قوله : "فليغيرن خلق الله"، فسألته ، فقال : هو الخصاء.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي ، عن عبد الجبار بن ورد، عن القاسم بن أبي بزة قال ، قال لي مجاهد: سل عنها عكرمة : "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، فسألته فقال : الإخصاء. قال مجاهد: ماله ، لعنه الله ! فوالله لقد علم أنه غير الإخصاء، ثم قال : سله ، فسألته فقال عكرمة: ألم تسمع إلى قول الله تبارك وتعالى : "فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله" [الروم:30]؟ قال : لدين الله ، فحدثت به مجاهداً فقال : ما له أخزاه الله !
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حفص ، عن ليث قال ، قال عكرمة: "فليغيرن خلق الله"، قال : الإخصاء.
حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا هارون النحوي قال ، حدثنا مطر الوراق قال ، سئل عكرمة عن قوله : "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال : هو الإخصاء .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح ، قال : الإخصاء.
حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا وكيع قال ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس قال : سمعت أنس بن مالك يقول في قوله : "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال : منه الخصاء.
حدثنا عمرو قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس ، بمثله .
حدثنا ابن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس ، بمثله .
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثنا أبي ، عن قتادة، عن عكرمة: أنه كره الإخصاء، قال : وفيه نزلت : "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله".
وقال آخرون : معنى ذلك : ولآمرنهم فليغيرن دين الله.
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس قوله : "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال : دين الله .
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن وأبو أحمد قالا، حدثنا سفيان ، عن قيس بن السلم، عن إبراهيم : "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال : دين الله .
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا سفيان قال ، حدثني قيس بن مسلم ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو نعيم ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، حدثنا عمي ، عن القاسم بن أبي بزة قال ، أخبرت مجاهدا بقول عكرمة في قوله : "فليغيرن خلق الله"، قال : دين الله .
حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا هارون النحوي قال ، حدثنا مطر الوراق قال ، ذكرت لمجاهد قول عكرمة في قوله : "فليغيرن خلق الله"، فقال : كذب العبد! "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال : دين الله .
حدثنا ابن وكيع وعمرو بن علي قالا، حدثنا أبو معاوية، عن ابن جريج ، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد وعكرمة قالا: دين الله .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي وحفص ، عن ليث ، عن مجاهد قال : دين الله . ثم قرأ: "ذلك الدين القيم" [الروم : 30].
حدثنا محمد بن عمرو وعمرو بن علي قالا، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله . "فليغيرن خلق الله"، قال : الفطرة ، دين الله .
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: "فليغيرن خلق الله"، قال : الفطرة، الدين .
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، أخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدا يقول : "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال : دين الله.
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة : "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، أي : دين الله ، في قول الحسن وقتادة.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله : "فليغيرن خلق الله"، قال : دين الله .
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الملك، عن عثمان بن الأسود، عن القاسم بن أبي بزة في قوله : "فليغيرن خلق الله"، قال : دين الله .
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي: "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال : أما "خلق الله"، فدين الله .
حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : "فليغيرن خلق الله"، قال : دين الله ، وهو قول الله : "فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله" [الروم : 30]، يقول : لدين الله .
حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، سمعت ابن زيد يقول في قوله : "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال : دين الله . وقرأ: "لا تبديل لخلق الله"، قال : لدين الله.
حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا سفيان قال ، حدثنا قيس بن مسلم ، عن إبراهيم : "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال : دين الله.
حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا معاذ بن معاذ قال ، حدثنا عمران بن حدير، عن عيسى بن هلال قال : كتب كثير مولى ابن سمرة إلى الضحاك بن مزاحم يسأله عن قوله : "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، فكتب : إنه دين الله.
وقال آخرون : معنى ذلك : "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله" بالوشم .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا حماد بن سلمة، عن يونس ، عن الحسن في قوله : "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال : الوشم .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد، عن نوح بن قيس ، عن خالد بن قيس ، عن الحسن :"فليغيرن خلق الله"، قال : الوشم .
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني هشيم قال ، أخبرنا يونس بن عبيد أو غيره ، عن الحسن : "فليغيرن خلق الله"، قال : الوشم .
حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا أبو هلال الراسبي قال : سأل رجل الحسن : ما تقول في امرأة قشرت وجهها؟ قال : ما لها، لعنها الله ! غيرت خلق الله .
حدثني أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال : قال عبد الله : لعن الله المتفلجات والمتنمصات والمستوشمات المغيرات خلق الله .
حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور، عن إبراهيم ، عن علقمة، عن عبد الله قال : لعن الله الواشرات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله .
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم ، عن علقمة، عن عبد الله قال : لعن الله المتنقصات والمتفلجات - قال شعبة : وأحسبه قال : المغبرات خلق الله .
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك ، قول من قال : معناه :
"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال : دين الله . وذلك لدلالة الآية الأخرى على أن ذلك معناه ، وهي قوله : "فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم" [الروم : 30].
وإذا كان ذلك معناه ، دخل في ذلك فعل كل ما نهى الله عنه : من خصاء ما لا يجوز خصاؤه ، ووسم ما نهى عن وشمه ووشره ، وغير ذلك من المعاصي ، ودخل فيه ترك كل ما أمر الله به . لأن الشيطان لا شك أنه يدعو إلى جميع معاصي الله وينهى عن جميع طاعته . فذلك معنى أمره نصيبه المفروض من عباد الله ، بتغيير ما خلق الله من دينه .
قال أبو جعفر: فلا معنى لتوجيه من وجه قوله : "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، إلى أنه وعد الآمر بتغيير بعض ما نهى الله عنه دون بعض ، أو بعض ما أمر به دون بعض . فإن كان الذي وجه معنى ذلك إلى الخصاء والوشم دون غيره ، إنما فعل ذلك لأن معناه كان عنده أنه عنى تغيير الأجسام ، فإن في قوله جل ثناؤه إخباراً عن قيل الشيطان : "ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام"، ما ينبىء أن معنى ذلك على غير ما ذهب إليه . لأن تبتيك آذان الأنعام من تغيير خلق الله الذي هو أجسام . وقد مضى الخبر عنه أنه وعد الآمر بتغيير خلق الله من الأجسام مفسراً، فلا وجه لإعادة الخبر عنه به مجملاً، إذ كان الفصيح في كلام العرب أن يترجم عن المجمل من الكلام بالمفسر، وبالخاص عن العام ، دون الترجمة عن المفسر بالمجمل ، وبالعام عن الخاص . وتوجيه كتاب الله إلى الأفصح من الكلام ، أولى من توجيهه إلى غيره ، ما وجد إليه السبيل .
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه ، عن حال نصيب الشيطان المفروض الذين شاقوا الله ورسوله من بعد ما تبين لهم الهدى. يقول الله : ومن يتبع الشيطان فيطيعه في معصية الله وخلاف أمره ، ويواليه فيتخذه ولياً لنفسه ونصيراً من دون الله ، "فقد خسر خسرانا مبينا"، يقول : فقد هلك هلاكاً، وبخس نفسه بخساً فأوبقها بخساً "مبينا"، يبين عن عطبه وهلاكه ، لأن الشيطان لا يملك له نصراً من الله إذا عاقبه على معصيته إياه في خلافه أمره ، بل يخذله عند حاجته إليه . وإنما حاله معه ما دام حياً ممهلاً بالعقوبة.
فيه تسع مسائل :
الأولى -قوله تعالى :" ولأضلنهم " أي لأصرفنهم عن طريق الهدي "ولأمنينهم " أي لأسولن لهم من التمني وهذا لا ينحصر إلى واحد من الأمنية لأن كل واحد في نفسه إنما يمينه بقدر رغبته وقرائن حاله وقيل: لأمنينهم طول الحياة الخير والتوبة والمعرفة مع الإصرار " ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام " البتك القطع ومنه سيف باتك أي أحمله على قطع آذان البحيرة والسائبة ونحوه يقال: بتكه وبتكه ( مخففاً ومشدداً ) وفي يدخل بتكة أي قطعة، والجمع بتك قال زهير:
طارت وفي كفه من ريشها بتك
الثانية - قوله تعالى:" ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " اللآمات كلها للقسم واختلف العلماء في هذا التغيير إلى ماذا يرجع، فقالت طائفة: هو الخصاء وفقء الأعين وقطع الآذان، قال معناه ابن عباس وأنس وعكرمة وأبو صالح وذلك كله تعذيب للحيوان، وتحريم وتحليل بالطغيان وقول بغير حجة ولا برهان والآذان في الأنعام جمال ومنفعة، وكذلك غيرها من الأعضاء فلذلك رأى الشيطان أن يغير بها خلق الله تعالى وفي حديث عياض بن ما المجاشعي:
وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم فحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشكروا بي ما لم أنزل به سلطاناً وأمرته أن يغيروا خلقي الحديث أخرج القاضي إسماعيل ومسلم أيضاً. وروى إسماعيل قال حدثنا أبو الوليد وسليمان بن حرب قالا حدثنا شعبة عن أبي إسحاق "عن أبي الأحوص عن أبيه قال:
أتيت رسول الله صلى الله وعليه وسلم وأنا قشف الهيئة ، قال : هل لك من مال ؟ قال قلت: نعم قال: من أي المال ؟ قلت: من كل المال من الخيل والإبل والرقيق- قال أبو الوليد: والغنم - قال : إذا آتاك الله مالا فلير عليك أثره ثم قال: هل تنتج إبل قومك صحاحاً آذانها فتعمد إلى موسى فتشق آذانها وتقول هذه بحر وتشق جلودها وتقول هذه صرم لتحرمها عليك وعلى أهلك؟ قال: قلت أجل. قال : وكل ما أتاك الله حل وموسى الله أحد من موسك وساعد الله أشد من ساعدك قال قلت: يا رسول الله أرأيت رجلاً نزلت به فلم يقرني ثم نزل بي أفأقريه أم أكافئه فقال: بل أقره "
الثالثة - ولما كان هذا من فعل الشيطان وأثره "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم :
أن نستشرف العين والأذان ولا نضحي بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة، ولا خرقاء ولا شرقاء " أخرجه أبو داود عن علي قال: أمرنا، فذكره المقابلة: المقطوعة طرف الأذان والمدابرة: المقطوعة مؤخر الأذن والشرقاء: الأذن والخرقاء التي تخرق أذن السمة والعيب في الأذن مراعى عند جماعة العلماء، قال مالك والليث المقطوعة الأذن أو جل الأذن لا تجزئ والق للميسم يجزئ وهو قول الشافعي وجماعة الفقهاء فإن كانت سكاء، وهي التي خلقت بلا أذن فقال مالك والشافعي: لا تجوز وإن كانت صغيرة الأذن أجزأ وروي عن أبي حنيفة مثل ذلك .
الرابعة- وأما خصاء البهائم فرخص فيه جماعة من أهل العلم إذا قصدت فيه المنفعة إما لسمن أو غيره، والجمهور من العلماء وجماعتهم على أنه لا بأس أن يضحى بالخصي واستحسنه بعضهم إذا كان أسمن من غيره، ورخص في خصاء الخيل عمر بن عبد العزيز وخصى عروة بن الزبير بغلاً له ورخص مالك في خصاء ذكور الغنم، وإنما جاز ذلك لأنه لا يقصد به تعليق الحيوان بالدين لصنم يعبد ولا لرب يوحد وإنما يقصد به تطيب اللحم فيما يؤكل وتقوية الذكر إذا انقطع أمله عن الأنثى، ومنهم من كره ذلك "لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
إنما يفعل ذلك لا يعلمون " واختاره ابن المنذر وقال : لأن ذلك ثابت عن ابن عمر، وكان يقول: هو نماء خلق الله ، وكره ذلك عبد الملك بن مروان وقال الأوزاعي: كانوا يكرهون خصاء كل شيء له نسل، وقال ابن المنذر: وفيه حديثنا أحدهما عن ابن عمر :
"أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن خصاء الغنم والبقر والإبل والخيل"، والآخر حديث ابن عباس :
"أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صبر الروح وخصاء البهائم" والذي في الموطأ من الباب ما ذكره عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكره الإخصاء ويقول: فيه تمام الخلق قال أبو عمر: يعني في ترك الإخصاء تمام الخلق، وروي نماء الخلق .
قلت: أسنده أبو محمد عبد الغني م حديث عمر بن إسماعيل عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى لاله عليه وسلم يقول:
لا تخصوا ما ينمى خلق الله " رواه عن الدارقطني يخه قال حدثنا: أبو عبد اله المعدل حدثنا عباس بن محمد حدثنا أبو مالك النخعي عن عمر بن إسماعيل فذكره قال الدارقطني : وروا عبد الصمد بن النعمان عن أبي مالك.
الخامسة - وأما الخصاء في الآدمي فمصيبة، فإنه إذا خصي بطل قلبه وقوته، عكس الحيوان وانقطع نسله المأمور به في "قوله عليه السلام:
تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم " ثم إن فيه ألماً عظيماً ربما يفضي بصاحبه إلى الهلاك فيكون فيه تضييع مال وإذهاب نفس، وكل ذلك منهي عنه ثم هذه مثلة وقد :
"نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة"، وهو صحيح وقد كره جماعة من فقهاء الحجازيين والكوفيين شراء الخصي من الصقالبة وغيرهم وقالوا: لو لم يشتروا منهم لم يخصوا ولم يختلفوا أن خصاء بني آدم لا يحل ولا يجوز لأنه مثلة وتغيير لخلق الله تعالى ، وكذلك قطع سائر أعضائهم في غير حد ولا قود قاله أبو عمر:
السادسة- وإذا تقرر هذا فاعلم أن الوسم والإشعار مستثنى من .
نهيه عليه السلام عن شريطة الشيطان وهي ما قدمناه من نهيه عن تعذيب الحيوان بالنار والوسم : الكي بالنار وأصله العلامة، يقال : وسم الشيء يسمه إذا علمه بعلامة يعرف بها ومنه قوله تعالى :" سيماهم في وجوههم " [ الفتح : 29] فالسيما العلامة والميسم المكواة وثبت في صحيح مسلم "عن أنس قال :
رأيت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم الميسم وهو يسم إبل الصدقة والفيء وغير ذلك" حتى يعرف كل مال فيؤدى في حقه، ولا يتجاوز به إلى غيره .
السابعة- والوسم جائز في كل الأعضاء غير الوجه، لما "رواه جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه" أخرجه مسلم وإنما كان ذلك لشرفة على الأعضاء إذ هو مقر الحسن والجمال، ولأن به قوام الحيوان، وقد "مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل يضرب عبده فقال :
اتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته " أي عيى صورة المضروب أي وجه هذا المضروب يشبه وجه آدم، فينبغي أن يحترم لشبهه، وهذا أحسن ما قيل في تأويله والله أعلم. وقالت طائفة: الإشارة بالتغيير إلى الوشم وما جرى مجراه من التصنع للحسن قاله ابن مسعود ومن ذلك الحديث الصحيح عن عبد الله قال "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله " الحديث أخرجه مسلم وسيأتي بكماله في الحشر إن شاء تعالى والوشم يكون في اليدين وهو أن يغرز ظهر كف المرأة ومعصمها بإبرة ثم يحشى بالكحل أو بالنئور فيخضر، وقد وشمت تشم وشماً فهي واشمة، والمستوشمة التي يفعل ذلك بها، قاله الهروي وقال ابن العربي: ورجال صقلية وإفريقية يفعلونه ليدل كل واحد منهم على رجلته في حداثته قال القاضي عياض: ووقع في رواية الهروي - أحد رواه مسلم - مكان "الواشمة والمستوشمة " الواشية والمستوشية " ( بالياء مكان الميم ) وهو من الوشي وهو التزين ، وأصل الوشي نسج الثوب على لونين وثور موشى في وجهه وقوائمه سواد أي تشي المرأة نفسها بما تفعله فيها من التنميص والتفليج والأشر، والمتنمصات جمع متنمصة وهي تقلع الشعر من وجهها بالمنماص وهو الذي يقلع الشعر، ويقال لها النامصة، ابن العربي وأهل مصر ينتفون شعر العانة وهو منه فإنه السنة حلق العانة ونتف الأبط فأما نتف الفرج فإنه يرخيه ويؤذيه ويبطل كثيراً من المنفعة فيه والمتفلجات جمع متفلجة وهي التي تفعل الفلج في أسنانها، أي تعانيه حتى ترجع المصمته الأسنان خلقة فلجاء صنعة وفي غير كتاب مسلم الواشرات وهي جمع واشرة وهي التي تشر أسنانها، أي تصنع فيها أشراً وهي التحزيزات التي تكون في أسنان الشبان تفعل ذلك المرأة الكبيرة تشبها بالشابة، وهذا الأمور كلها قد شهدت الأحاديث بلعن فاعلها وأنها من الكبائر واختلف في المعنى الذي نهى لأجلها فقيل: لأنها من باب التدليس: وقيل: من باب تغيير خلق الله تعالى كما قال ابن مسعود وهو أصح وهو يتضمن المعنى الأول ثم قيل: هذا المنهي عنه إنما هو فيما يكون باقياً، لأنه من باب تغيير خلق الله تعالى ، فأما ما لا يكون باقياً كالكحل والتزين به للنساء فقد أجاز العلماء ذلك مالك وغيره، وكرهه مالك للرجال، وأجاز مالك أيضاً أن تشي المرأة يديها بالحناء، وروي عن عمر إنكار ذلك وقال : إما أن تخضب يديها كلها وإما أن تدع وأنكر مالك هذه الرواية عن عمر ولا تدع الخضاب بالحناء "فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة لا تختضب فقال :
لا تدع إحداكن يدها كأنها يد رجل " فما زالت تختضب وقد جاوزت التسعين حتى ماتت قال القاضي عياض : وجاء حديث بالنهي عن تسويد الحناء ذكره صاحب المصابيح ولا تتعطل ويكون في عنقها قلادة من سير في خرز ، فإنه "يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها :
إنه لا ينبغي أن تكوني بغير قلادة إما بخيط وإما بسير " وقال أنس: يستحب المرأة أن تعلق في عنقها في الصلاة ولو سيراً قال أبو جعفر الطبري: في حديث مسعود دليل على أنه لا يجوز تغيير شيء من خلقها الذي خلقها الله عليه بزيادة أو نقصان التماس الحسن لزوج أو غيره سواء فلجت أسنانها أو وشرتها، أو كان لها سن زائدة فأزلتها أو أسنان طوال فقطعت أطارفها، وكذا لا يجوز لها حلق لحية أو شارب أو عنفقة إن نبتت لها لأن لك ذلك تغيير خلق الله قال عياض : ويأتي على ما ذكره أن من خلق بأصبع زائدة أو عضو زائد لا يجوز له قطعه ولا نزع، لأنه من تغيير خلق الله تعالى ، إلا أن تكون هذه الزائدة تؤلمه فلا بأس ينزعا عند أبي جعفر وغيره .
الثامنة- قلتك ومن هذا الباب "قوله صلى الله عليه وسلم
لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة " أخرجه مسلم فنهى صلى الله عليه وسلم عن وصل المرأة شعرها، وهو أن يضاف إليه شعر آخر يكثر به ، والواصلة هي التي تفعل ذلك والمستوصلة هي التي تستدعي من يفعل ذلك بها مسلم عن جابر قال:
"زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة بشعرها شيئاً" وخرج عن أسماء بنت أبي بكر قالت:" جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:
يا رسول الله إن لي ابنة عريساً أصاتها خصبة فتمرق شعرها أفأصله؟ فقال: لعن الله الواصلة والمستوصة " وهذا كله نص في تحريم وصل الشعر وبه قال مالك وجماعة العلماء ومنعوا الواصل بكل شيء من الصوف والخرق وغير ذلك لأنه في معن وصله بالشعر . وشذ الليث بن سعد فأجاز وصله بالصوف والخرق وما ليس بشعر، وهذا أشبه بمذهب أهل الظاهر, وأباح آخرون وضع الشعر على الرأس وقالوا: إنما جاء النهي عن الوصل خاصة، وهذه ظاهرية محضة وإعراض عن المعنى. وشذ قوم فأجازوا الوصل مطلقاً وهو قول باطل قطعاً ترده الأحاديث، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها ولم يصح، وروي عن ابن سيرين أنه سأله رجل فقال: إن أمي كانت تمشط النساء أتراني آكل من مالها؟ فقال: إن كانت تصل فلا. ولا يدخل في النهي ما ربط منه بخيوط الحرير الملونة على وجه الزينة والتجميل، والله أعلم .
التاسعة- وقالت طائفة: المراد بالتغيير لخلق الله هو أن الله تعالى خلق الشمس والقمر والأحجار والنار وغيرها من المخلوقات، ليعتبر بها وينتفع بها فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة قال الزجاج: إن الله تعالى خلق الأنعام لتركب وتؤكل فحرموها على أنفسهم وجعل الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس فجعلوها آلهة يعبدونها فقد غيروا ما خلق الله وقاله جماعة من أهل التفسير: مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة: وروي عن ابن عباس " فليغيرن خلق الله " دين الله وقاله النخعي واختاره الطبري قال : وإذا كان ذلك معناه دخل فيه فعل كل ما نهى الله عنه من خصاء ووشم وغير ذلك من المعاصي لأن الشيطان يدعو إلى جميع المعاصي ، أي فليغيرن ما خلق الله في دينه وقال مجاهد أيضاً " فليغيرن خلق الله " فطرة الله التي فطر الناس عليها يعني أنهم ولدوا على الإسلام فأمرهم الشيطان بتغييره، وهو معنى "قوله عليه السلام:
كل مولود على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" فرجع معنى الخلق إلى ما أوجده فيهم يوم الذر من الإيمان به في قوله تعالى :" ألست بربكم قالوا بلى" [ الأعراف : 172] قال ابن العربي: روي عن طاوس أنه كان لا يحضر نكاح سوداء بأبيض ولا بيضاء بأسود ويقول هذا من قول الله " فليغيرن خلق الله " قال القاضي: وهذا وإن كان يحتمله اللفظ فهو مخصوص بما أنفذه النبي صلى الله عليه وسلم من نكاح مولاه زيد وكان زيد أبيض بظئره بركة الحبشية أم أسامة وكان أسود من أبيض، وهذا مما خفي على طاوس مع علمه.
قلت: ثم أنكح أسامة فاطمة بنت قفيس وكان بيضاء قرشية وقد كانت تحت بلال أخت عبد الرحمن بن عوف زهرية وهذا أيضاً يخص وقد خفي عليهما .
قوله تعالى :" ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله " أي يطيعه ويدع أمر الله " فقد خسر " أي نقص نفسه وغبنها بأن أعطى الشيطان حق الله تعالى فيه وتركه من أجله .
قد تقدم الكلام على هذه الاية الكريمة, وهي قوله: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك" الاية, وذكرنا ما يتعلق بها من الأحاديث في صدر هذه السورة, وقد روى الترمذي: حديث ثوير بن أبي فاختة سعيد بن علاقة عن أبيه, عن علي رضي الله عنه أنه قال: ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الاية "إن الله لا يغفر أن يشرك به" الاية, ثم قال: هذا حسن غريب. وقوله: "ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً" أي فقد سلك غير الطريق الحق, وضل عن الهدى وبعد عن الصواب, وأهلك نفسه وخسرها في الدنيا والاخرة, وفاتته سعادة الدنيا والاخرة.
وقوله: "إن يدعون من دونه إلا إناثاً" قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمود بن غيلان, أنبأنا الفضل بن موسى, أخبرنا الحسن بن واقد عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية, عن أبي بن كعب قال: مع كل صنم جنية, وحدثنا أبي, حدثنا محمد بن سلمة الباهلي عن عبد العزيز بن محمد, عن هشام يعني ابن عروة, عن أبيه, عن عائشة "إن يدعون من دونه إلا إناثاً" قالت: أوثاناً. وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير ومجاهد وأبي مالك والسدي ومقاتل بن حيان, نحو ذلك. وقال جويبر عن الضحاك في الاية, قال المشركون إن الملائكة بنات الله, وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى, قال: فاتخذوهن أرباباً, وصوروهن جواري فحكموا وقلدوا, وقالوا: هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نعبده, يعنون الملائكة, وهذا التفسير شبيه بقول الله تعالى: "أفرأيتم اللات والعزى" الايات, وقال تعالى: "وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً" الاية, وقال: "وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً" الايتين وقال علي بن أبي طلحة والضحاك عن ابن عباس "إن يدعون من دونه إلا إناثاً" قال: يعني موتى. وقال مبارك, يعني ابن فضالة, عن الحسن: إن يدعون من دونه إلا إناثاً. قال الحسن: الإناث كل شيء ميت ليس فيه روح, إما خشبة يابسة وإما حجر يابس. ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير, وهو غريب.
وقوله: "وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً" أي هو الذي أمرهم بذلك وحسنه وزينه لهم, وهم إنما يعبدون إبليس في نفس الأمر, كما قال تعالى: " ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان " الاية. وقال تعالى إخباراً عن الملائكة أنهم يقولون يوم القيامة عن المشركين الذين ادعوا عبادتهم في الدنيا "بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون".
وقوله: "لعنه الله" أي طرده وأبعده من رحمته, وأخرجه من جواره, وقال: "لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً" أي معيناً مقدراً معلوماً. قال مقاتل بن حيان: من كل ألف, تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار, وواحد إلى الجنة, "ولأضلنهم" أي عن الحق, "ولأمنينهم" أي أزين لهم ترك التوبة, وأعدهم الأماني, وآمرهم بالتسويف والتأخير, وأغرهم من أنفسهم, وقوله: " ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ". قال قتادة والسدي وغيرهما: يعني تشقيقها وجعلها سمة وعلامة للبحيرة والسائبة والوصيلة, " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ", قال ابن عباس: يعني بذلك خصي الدواب, وقد روي عن ابن عمر وأنس وسعيد بن المسيب وعكرمة وأبي عياض وقتادة وأبي صالح والثوري, وقد ورد في حديث النهي عن ذلك, وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: يعني بذلك الوشم, وفي صحيح مسلم, النهي عن الوشم في الوجه, وفي لفظ: لعن الله من فعل ذلك, وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات, والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله عز وجل, ثم قال: ألا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله عز وجل, يعني قوله: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا". وقال ابن عباس في رواية عنه ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والحكم والسدي والضحاك وعطاء الخراساني في قوله: " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " يعني دين الله عز وجل, هذا كقوله: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله " على قول من جعل ذلك أمراً, أي لا تبدلوا فطرة الله ودعوا الناس على فطرتهم, كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه, أو ينصرانه, أو يمجسانه, كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تجدون بها من جدعاء" وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء, فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم, وحرمت عليهم ما أحللت لهم".
ثم قال تعالى: "ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً" أي فقد خسر الدنيا والاخرة, وتلك خسارة لا جبر لها ولا استدراك لفائتها. وقوله تعالى: "يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً" وهذا إخبار عن الواقع, فإن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم بأنهم هم الفائزون في الدينا والاخرة, وقد كذب وافترى في ذلك, ولهذا قال الله تعالى: "وما يعدهم الشيطان إلا غروراً", كما قال تعالى مخبراً عن إبليس يوم المعاد " وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم ".
وقوله: "أولئك" أي المستحسنون له فيما وعدهم ومناهم "مأواهم جهنم" أي مصيرهم ومآلهم يوم القيامة "ولا يجدون عنها محيصاً" أي ليس لهم عنها مندوحة ولا مصرف, ولا خلاص, ولا مناص, ثم ذكر تعالى حال السعداء والأتقياء ومالهم في مآلهم من الكرامة التامة, فقال تعالى: " والذين آمنوا وعملوا الصالحات " أي صدقت قلوبهم وعملت جوارحهم بما أمروا به من الخيرات, وتركوا ما نهوا عنه من المنكرات "سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار" أي يصرفونها حيث شاؤوا وأين شاؤوا "خالدين فيها أبداً" أي بلا زوال ولا انتقال "وعد الله حقاً" أي هذا وعد من الله, ووعد الله معلوم حقيقة أنه واقع لا محالة, ولهذا أكده بالمصدر الدال على تحقيق الخبر, وهو قوله حقاً, ثم قال تعالى: "ومن أصدق من الله قيلاً" أي لا أحد أصدق منه قولاً, أي خبراً لا إله هو ولا رب سواه, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: "إن أصدق الحديث كلام الله, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار".
قوله 119- "ولأضلنهم" اللام جواب قسم محذوف. والإضلال: الصرف عن طريق الهداية إلى طريق الغواية، وهكذا اللام في قوله: "ولأمنينهم ولآمرنهم" والمراد بالأماني التي يمنيهم بها الشيطان: هي الأماني الباطلة الناشئة عن تسويله ووسوسته. وقوله: "ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام" أي: ولآمرنهم بتبتك آذان الأنعام: أي تقطيعها فليبتكنها بموجب أمري. والبتك: القطع، ومنه سيف باتك، يقال: بتكه وبتكه مخففاً ومشدداً، ومنه قوله زهير:
طارت وفي كفه من ريشها بتك
أي: قطع. وقد فعل الكفار ذلك امتثالاً لأمر الشيطان واتباعاً لرسمه، فشقوا آذان البحائر والسوائب كما ذلك معروف. قوله "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله" أي: ولآمرنهم بتغيير خلق الله فليغيرنه بموجب أمري لهم. واختلف العلماء في هذا التغيير ما هو؟ فقالت طائفة: هو الخصاء وفقء الأعين وقطع الآذان. وقال آخرون: إن المراد بهذا التغيير هو أن الله سبحانه خلق الشمس والقمر والأحجار والنار ونحوها من المخلوقات لما خلقها له، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة، وبه قال الزجاج، وقيل: المراد بهذا التغيير تغيير الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور حملاً شمولياً أو بدلياً.
وقد رخص طائفة من العلماء في خصاء البهائم إذا قصد بذلك زيادة الانتفاع به لسمن أو غيره، وكره ذلك آخرون، وأما خصاء بني آدم فحرام، وقد كره قوم شراء الخصي. قال القرطبي: ولم يختلفوا أن خصاء بني آدم لا يحل ولا يجوز وأنه مثلة وتغيير لخلق الله وكذلك قطع سائر أعضائهم في غير حد ولا قود، قاله أبو عمر بن عبد البر "ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله" باتباعه وامتثال ما يأمر به من دون اتباع لما أمر الله به ولا امتثال له "فقد خسر خسراناً مبيناً" أي واضحاً ظاهراً.
119-"ولأضلنهم"يعني: عن الحق،أي: لأغوينهم ، يقوله إبليس، وأراد به التزيين،وإلا فليس إليه من الإضلال شيء ، كما قال:"لأزينن لهم في الأرض"(الحجر-39) "ولأمنينهم"، قيل :أمنينهم ركوب الأهواء، وقيل: أمنينهم ان لا جنة ولا نار ولا بعث، وقيل: أمنينهم إدراك الآخرة مع ركوب المعاصي، "ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام" أي: يقطعونها ويشقونها، وهي البحيرة"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن ومجاهد وسعيد بن المسيب والضحاك : يعني دين الله، نظيره قوله تعالى:"لا تبديل لخلق الله"(الروم-30)أي: لدين الله ، يريد وضع الله في الدين بتحليل الحرام وتحريم الحلال.
وقال عكرمة وجماعة من المفسرين : فليغيرن خلق الله بالخصاء والوشم وقطع الآذان حتى حرم بعضهم الخصاء وجوزه بعضهم في البهائم ،لأن فيه غرضاً ظاهراً وقيل: تغيير خلق الله هو أن الله تعالى خلق الأنعام للركوب والأكل فحرموها ، وخلق الشمس والقمر والأحجار لمنفعة العباد فعبدوها من دون الله،"ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله" أي: رباً يطيعه ،"فقد خسر خسراناً مبينا".
119" ولأضلنهم " عن الحق. " ولأمنينهم " الأماني الباطلة كطول الحياة وأن لا بعث ولا عقاب. " ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام " يشقونها لتحريم ما أحل الله وهي عبارة عما كانت العرب تفعل بالبحائر والسوائب، وإشارة إلى تحريم ما أحل ونقص كل ما خلق كاملاً بالفعل أو القوة. " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " عن وجهه وصورته أو صفته. ويندرج فيه ما قيل من فقء عين الحامي، وخصاء العبيد، والوشم، والوشر، واللواط، والسحق، ونحو ذلك وعبادة الشمس، والقمر، وتغيير فطرة الله سبحانه وتعالى التي هي الإسلام، واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالا ولا يوجب لها من الله سبحانه وتعالى زلفى. وعموم اللفظ يمنع الخصاء مطلقاً لكن الفقهاء خصوا في خصاء البهائم للحاجة. والجمل الأربع حكاية عما ذكره الشيطان نطقاً أو أتاه فعلاً. " ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله " بإيثاره ما يدعوا إليه على ما أمر الله به ومجاوزته عن طاعة الله إلى طاعته. " فقد خسر خسرانا مبينا " إذا ضيع رأس ماله وبدله مكانه من الجنة بمكان من النار.
119. And surely I will lead them astray, and surely I will arouse desires in them, and surely I will command them and they will cut the cattle's ears, and surely I will command them and they will change Allah's creation. Whoso chooseth Satan for a patron instead of Allah is verily a loser and his loss is manifest.
119 - I will mislead them, and i will create in them false desires; i will order them to slit the ears of cattle, and to deface the (fair) nature created by God. whoever, forsaking God, takes Satan for a friend, hath of a surety suffered a loss that is manifest.