[النساء : 107] وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا
(ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم) يخونونها بالمعاصي لأن وبال خيانتهم عليهم (إن الله لا يحب من كان خوانا) كثير الخيانة (أثيما) أي يعاقبه
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: "ولا تجادل" يا محمد، فتخاصم، "عن الذين يختانون أنفسهم"، يعني: يخونون أنفسهم ، يجعلونها خونة بخيانتهم ما خانوا من أموال من خانوه ماله، وهم بنو أبيرق . يقول : لا تخاصم عنهم من يطالبهم بحقوقهم وما خانوه فيه من أموالهم ، "إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما"، يقول: إن الله لا يحب من كان صفته خيانة الناس في أموالهم ، وركوب الإثم في ذلك وغيره مما حرمه الله عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل: وقد تقدم ذكر الرواية عنهم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة : "ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم"، قال : اختان رجل عما له درعاً، فقذف بها يهودياً كان يغشاهم ، فجادل عم الرجل قومه ، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم عذره. ثم لحق بأرض الشرك ، فنزلت فيه : "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى" الآية [النساء:115].
أي لا تحاجج عن الذين يخونون أنفسهم ، نزلت في أسير بن عروة كما تقدم المجادلة المخاصمة من الجدل وهو الفتل، ومنه رجل مجدول الخلق ومنه الأجدال للصقر وقيل: هو من الجدالة وهي وجه الأرض فكل واحد من الخصمين يرد أن يلقي صاحبه عليها قال العجاج:
قد أركب الحالة بعد الحالة وأترك العاجز بالجدالة
منغفراً ليست له محاله
الجدالة الأرض، من ذلك قولهم : تركته مجدلاً أن مطروحاً على الجدالة .
قوله تعالى :" إن الله لا يحب " أي لا يرضى عنه ولا ينوه بذكر " من كان خوانا " خائناً " خوانا" أبلغ لأنه من أبنية المبالغة، وإنما كان ذلك لعظم قدر تلك الخيانة والله أعلم .
يقول تعالى: مخاطباً لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق" أي هو حق من الله, وهو يتضمن الحق في خبره وطلبه, وقوله: "لتحكم بين الناس بما أراك الله" احتج به من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان صلى الله عليه وسلم له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الاية, وبما ثبت في الصحيحين من رواة هشام بن عروة, عن أبيه, عن زينب بنت أم سلمة, عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, سمع جلبة خصم بباب حجرته, فخرج إليهم فقال: "ألا إنما أنا بشر وإنما أقضي بنحو مما أسمع, ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها" وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا أسامة بن زيد عن عبد الله بن رافع, عن أم سلمة, قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست, ليس عندهما بينة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر, ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض, وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع, فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه, فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها إسطاماً في عنقه يوم القيامة" فبكى الرجلان, وقال كل منهما: حقي لأخي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما, ثم توخيا الحق بينكما ثم استهما, ثم ليحلل كل منكما صاحبه" وقد رواه أبو داود من حديث أسامة بن زيد به, وزاد "إني إنما أقضي بينكما برأي فيما لم ينزل علي فيه" .
وقد روى ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس: أن نفراً من الأنصار غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته, فسرقت درع لأحدهم, فأظن بها رجل من الأنصار, فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن طعمة بن أبيرق سرق درعي, فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء, وقال لنفر من عشيرته: إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عنده, فانطلقوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلاً فقالوا: يا نبي الله إن صاحبنا بريء وإن صاحب الدرع فلان, وقد أحطنا بذلك علماً, فأعذر صاحبنا على رؤوس الناس, وجادل عنه, فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم, فبرأه وعذره على رؤوس الناس, فأنزل الله "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً * واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً * ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم" الاية.
ثم قال تعالى: للذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب "يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله" الايتين, يعني الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين يجادلون عن الخائنين, ثم قال عز وجل: "ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه" الاية, يعني الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب ثم قال: "ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً" يعني السارق والذين جادلوا عن السارق, وهذا سياق غريب, وكذا ذكر مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وابن زيد وغيرهم في هذه الاية: إنها نزلت في سارق بني أبيرق على اختلاف سياقاتهم وهي متقاربة.
وقد روى هذه القصة محمد بن إسحاق مطولة, فقال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الاية من جامعه, وابن جرير في تفسيره: "حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحراني, حدثنا محمد بن سلمة الحراني, حدثنا محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة, عن أبيه, عن جده قتادة بن النعمان رضي الله عنه, قال: كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق بشر وبشير ومبشر, وكان بشير رجلاً منافقاً يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم ينحله لبعض العرب, ثم يقول: قال فلان كذا وكذاو وقال فلان كذا وكذا, فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الرجل الخبيث أو كما قال الرجل, وقالوا ابن الأبيرق: قالها, قالوا: وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام, وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير, وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الدرمك ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه, وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير, فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملاً من الدرمك فجعله في مشربة له, وفي المشربة سلاح ودرع وسيف, فعدي عليه من تحت البيت, فنقبت المشربة, وأخذ الطعام والسلاح. فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي, إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه, فنقبت مشربتنا, فذهب بطعامنا وسلاحنا, قال: فتحسسنا في الدار وسألنا, فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم, قال: وكان بنو أبيرق قالوا ـ ونحن نسأل في الدار ـ: والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلاً منا له صلاح وإسلام, فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال: أنا أسرق ؟! والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة, قالوا: إليك عنا أيها الرجل فما أنت بصاحبها, فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها, فقال لي عمي: يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له, قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له, وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا, فأما الطعام, فلا حاجة لنا فيه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سآمر في ذلك, فلما سمع بذلك بنو أبيرق أتوا رجلاً منهم يقال له أسير بن عمرو فكلموه في ذلك, فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا: يارسول الله, إن قتادة بن النعمان وعمه, عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت, قال قتادة: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكلمته, فقال: عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح, ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت, قال: فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك, فأتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي ما صنعت ؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: الله المستعان ", فلم نلبث أن نزل القرآن "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً" يعني بني أبيرق, "واستغفر الله" أي مما قلت لقتادة " إن الله كان غفورا رحيما * ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم " ـ إلى قوله ـ "رحيماً" أي لو استغفروا الله لغفر لهم " ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما * ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا " قولهم للبيد "ولولا فضل الله عليك ورحمته "ـ إلى قوله ـ "فسوف نؤتيه أجراً عظيماً" فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة, فقال قتادة: لما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخاً قد عسى أو عشي ـ الشك من أبي عيسى ـ في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولاً لما أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي هو في سبيل الله, فعرفت أن إسلامه كان صحيحاً, فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين, فنزل على سلافة بنت سعد بن سمية, فأنزل الله تعالى: " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا * إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا " فلما نزل على سلافة بنت سعد, هجاها حسان بن ثابت بأبيات من شعر فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت به, فرمته في الأبطح, ثم قالت: أهديت لي شعر حسان ما كنت تأتيني بخير, لفظ الترمذي ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب, لا نعلم أحداً أسنده غير محمد بن سلمة الحراني.
ورواه يونس بن بكير وغير واحد عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلاً لم يذكروا فيه عن أبيه عن جده, ورواه ابن أبي حاتم عن هاشم بن القاسم الحراني عن محمد بن سلمة به ببعضه. ورواه ابن المنذر في تفسيره: حدثنا محمد بن إسماعيل يعني الصائغ, حدثنا الحسن بن أحمد بن شعيب الحراني, حدثنا محمد بن سلمة, فذكره بطوله. ورواه أبو الشيخ الأصبهاني في تفسيره عن محمد بن عياش بن أيوب والحسن بن يعقوب, كلاهما عن الحسن بن أحمد
ابن أبي شعيب الحراني عن محمد بن سلمة به, ثم قال في آخره: قال محمد بن سلمة: سمع مني هذا الحديث يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إسرائيل, وقد روى هذا الحديث الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في كتابه المستدرك عن ابن عباس الأصم, عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي, عن يونس بن بكير, عن محمد بن إسحاق بمعناه أتم منه وفيه الشعر, ثم قال: وهذا حديث صحيح على شرط مسلم, ولم يخرجاه.
وقوله تعالى: "يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله" الاية, هذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس لئلا ينكروا عليهم, ويجاهرون الله بها, لأنه مطلع على سرائرهم وعالم بما في ضمائرهم, ولهذا قال: " وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا " تهديد لهم ووعيد. ثم قال تعالى: "ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا" الاية, أي هب أن هؤلاء انتصروا في الدنيا بما أبدوه أو أبدي لهم عند الحكام الذين يحكمون بالظاهر وهم متعبدون بذلك, فماذا يكون صنيعهم يوم القيامة بين يدي الله تعالى الذي يعلم السر وأخفى ؟ ومن ذا الذي يتوكل لهم يومئذ يوم القيامة في ترويج دعواهم ؟ أي لا أحد يومئذ يكون لهم وكيلاً, ولهذا قال: "أم من يكون عليهم وكيلاً".
قوله 107- "ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم" أي: لا تحاجج عن الذين يخونون أنفسهم، والمجادلة مأخوذة من الجدل وهو الفتل، وقيل: مأخوذة من الجدالة وهي وجه الأرض لأن كل واحد من الخصمين يريد أن يلقي صاحبه عليها، وسمي ذلك خيانة لأنفسهم، لأن ضرر معصيتهم راجع إليهم. والخوان: كثير الخيانة، والأثيم: كثير الإثم، وعدم المحبة كناية عن البغض.
107-"ولا تجادل" لا تخاصم،"عن الذين يختانون أنفسهم"،أي: يظلمون أنفسهم بالخيانة والسرقة"إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً"يريد خواناً في الدرع،أثيماً في رمية اليهودي، قيل:إنه خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به غيره، كقوله تعالى::"فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك"،والاستغفار في حق الأنبياء بعد النبوة على أحد الوجوه الثلاثة :إما لذنب تقدم على النبوة او لذنوب امته وقرابته ،أو لمباح جاء الشرع بتحرية فيتركه بالاستغفار، فالاستغفار يكون معناه: السمع والطاعة لحكم الشرع.
107" ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم " يخونونها فإن وبال خيانتهم يعود عليها، أو جعل المعصية خيانة لها كما جعلت ظلما عليها، والضمير لطعمة وأمثاله أو له ولقومه فإنهم شاركوه في الإثم حيث شهدوا على براءته وخاصموا عنه. " إن الله لا يحب من كان خوانا " مبالغا في الخيانة مصرا عليها. " أثيما " منهمكا فيها. روي: أن طعمة هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطا بها ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله.
107. And plead not on behalf of (people) who deceive themselves. Lo! Allah loveth not one who is treacherous and sinful.
107 - Contend not on behalf of such as betray their own souls; for God loveth not one given to perfidy and crime;