[الزمر : 6] خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ
6 - (خلقكم من نفس واحدة) أي آدم (ثم جعل منها زوجها) حواء (وأنزل لكم من الأنعام) الإبل والبقر والغنم والضأن والمعز (ثمانية أزواج) من كل زوجين ذكرا وأنثى كما بين في سورة الأنعام (يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق) أي نطفا ثم علقا ثم مضغا (في ظلمات ثلاث) هي ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة (ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون) عن عبادته إلى عبادة غيره
يقول تعالى ذكره : "خلقكم" أيها الناس "من نفس واحدة" يعني من آدم "ثم جعل منها زوجها" يقول : ثم جعل من آدم زوجه حواء، وذلك أن الله خلقها من ضلع من أضلاعه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة، قوله "خلقكم من نفس واحدة" يعني آدم ، ثم خلق منها زوجها حواء، خلقها من ضلع من أضلاعه . فإن قال قائل : وكيف قيل : خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها، وإنما خلق ولد آدم من آدم وزوجته ولا شك أن الوالدين قبل الولد؟ فإن في ذلك أقوالاً : أحدها أن يقال : قيل ذلك لأنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لما خلق آدم مسح ظهره ، فأخرج كل نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة، ثم أسكنه بعد ذلك الجنة، وخلق بعد ذلك حواء من ضلع من أضلاعه فهذا قول. والآخر: أن العرب ربما أخبر الرجل منهم عن رجل بفعلين ، فيرد الأول منهما في المعنى بثم ، إذا كان من خبر المتكلم ، كما يقال : قد بلغني ما كان منك اليوم ، ثم ما كان منك أمس أعجب ، فذلك نسق من خبر المتكلم. والوجه الآخر: أن يكون خلقه الزوج مردوداً على واحدها، كأنه قيل : خلقكم من نفس وحدها ثم جعل منها زوجها ، فيكون في واحدة معنى : خلقها وحدها ، كما قال الراجز:
أعددته للخصم ذي التعدي
كوحته منك بدون الجهد
بمعنى : الذي إذا تعدى كوحته ، ومعنى : كوحته : غلبته.
والقول الذي يقوله أهل العلم أولى بالصواب ، وهو القول الأول الذي ذكرت أنه يقال : إن الله أخرج ذرية آدم من صلبه قبل أن يخلق حواء، وبذلك جاءت الرواية عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : والقولان الآخران على مذاهب أهل العربية.
وقوله "أنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج" يقول تعالى ذكره : وجعل لكم من الأنعام ثمانية أزواج من الإبل زوجين ، ومن البقر زوجين ، ومن الضأن اثنين ، ومن المعز أثنين ، كما قال جل ثناؤه "ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين" [الأنعام : 143 ].
كما حدثني محمد بن عمرو، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد، قوله "من الأنعام ثمانية أزواج" قال : من الإبل والبقر والضان والمعز.
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة، قوله "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج" من الإبل اثنين ، ومن البقر اثنين ، ومن الضأن اثنين ، ومن المعز اثنين ، من كل واحد زوج.
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج" يعني من المعز اثنين ، ومن الضأن اثنين ، ومن البقر اثنين ، ومن الإبل اثنين . وقوله "يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق" يقول تعالى ذكره : يبتدئ خلقكم أيها الناس في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق ، وذلك أنه يحدث فيها نطفة، ثم يجعلها علقة، ثم مضنة، ثم عظاماً، ثم يكسو العظام لحماً، ثم ينشئه خلقاً آخر، تبارك الله وتعالى، فذلك خلقه إياه خلقاً بعد خلق.
كما حدثنا ابن بشار، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن سماك ، عن عكرمة "يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق" قال : نطفة، ثم علقة، ثم مضغة.
حدثني محمد بن عمرو، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد، قوله "خلقا من بعد خلق" قال : نطفة، ثم ما يتبعها حتى ثم خلقه.
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة "يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق" نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاماً، ثم لحماً، ثم أنبت الشعر، أطوار الخلق.
حدثنا هناد بن السري ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة في قوله "يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق" قال : يعني بخلق بعد الخلق : علقة، ثم مضغة، ثم عظاماً.
حدثنا محمد، قال : ثنا أحمد، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، في قوله "يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق" قال : يكونون نطفاً، ثم يكونون علقاً، ثم يكونون مضغاً، ثم يكونون عظاماً، ثم ينفخ فيهم الروح.
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله "في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق" خلق نطفة، ثم علقة، ثم مضغة.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : يخلقكم في بطون أمهاتكم من بعد خلقه إياكم في ظهر آدم ، قالوا : فذلك هو الخلق من بعد الخلق.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد "يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق" قال : خلقاً في البطون من بعد الخلق الأول الذي خلقهم في ظهر آدم.
وأولى القولين في ذلك بالصواب ، القول الذي قاله عكرمة ومجاهد، ومن قال في ذلك مثل قولهما، لأن الله جل وعز أخبر أنه يخلقنا خلقاً من بعد خلق في بطون أمهاتنا في ظلمات ثلاث ، ولم يخبر أنه يخلفنا في بطون أمهاتنا من بعد خلقنا في ظهر آدم ، وذلك نحو قوله "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين" ثم جعلناه نطفة في قرار مكين "ثم خلقنا النطفة علقة" [المؤمنون :12-14] الآية .
وقوله "في ظلمات ثلاث" يعني : في ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد بن السري ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة "في ظلمات ثلاث" قال : الظلمات الثلاث : البطن ، والرحم ، والمشيمة.
حدثنا ابن بشار، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن سماك ، عن عكرمة "في ظلمات ثلاث" قال : البطن ، والمشيمة ، والرحم.
حدثني محمد بن سعد، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس "في ظلمات ثلاث" قال : يعني بالظلمات الثلاث : بطن أمه ، والرحم ، والمشيمة.
حدثني محمد بن عمرو، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد، قوله "في ظلمات ثلاث" قال : البطن ، والرحم ، والمشيمة.
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة "في ظلمات ثلاث" المشيمة، والرحم ، والبطن.
حدثنا محمد، قال : ثنا أحمد، قال : ثنا أسباط ، عن السدي "في ظلمات ثلاث" قال : ظلمة المشيمة، وظلمة الرحم ، وظلمة البطن.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد، في قوله "في ظلمات ثلاث" قال : المشيمة في الرحم ، والرحم في البطن.
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله "في ظلمات ثلاث": الرحم ، والمشيمة، والبطن ، والمشيمة التي تكون على الولد إذا خرج ، وهي من الدواب السلى.
وقوله "ذلكم الله ربكم" يقول تعالى ذكره : هذا الذي فعل هذه الأفعال أيها الناس هو ربكم ، لا من لا يجلب لنفسه نفعاً، ولا يدفع عنها ضراً، ولا يسوق إليكم خيراً، ولا يدفع عنكم سوءاً من أوثانكم وآلهتكم.
وقوله إله الملك يقول جل وعز: لربكم أيها الناس الذي صفته ما وصف لكم ، وقدرته ما بين لكم الملك ، ملك الدنيا والآخرة وسلطانهما لا لغيره ، فأما ملوك الدنيا فإنما يملك أحدهم شيئاً دون شيء ، فإنما له خاص من الملك. وأما الملك التام الذي هو الملك بالإطلاق فلله الواحد القهار.
وقوله "لا إله إلا هو فأنى تصرفون" يقول تعالى ذكره : لا ينبغي أن يكون معبود سواه ، ولا تصلح العبادة إلا له "فأنى تصرفون" يقول تعالى ذكره : فأنى تصرفون أيها الناس فتذهبون عن عبادة ربكم ، الذي هذه الصفة صفته ، إلى عبادة من لا ضر عنده لكم ولا نفع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة "فأنى تصرفون"قال.كقوله "تؤفكون".
حدثنا محمد، قال : ثنا أحمد، قال : ثنا أسباط ، عن السدي "فأنى تصرفون" قال للمشركين : أنى تصرف عقولكم عن هذا؟.
قوله تعالى : " خلقكم من نفس واحدة " يعني آدم عليه السلام " ثم جعل منها زوجها " يعني ليحصل التناسل وقد مضى هذا في ( الأعراف ) وغيرها . " وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج " أخبر عن الأزواج بالنزول ، لأنها تكونت بالنبات والنبات بالماء المنزل . هذا يسمى التدريج ، ومثله قوله تعالى : " قد أنزلنا عليكم لباسا " [ الأعراف : 26] الآية . وقيل : أنزل أنشأ وجعل . وقال سعيد بن جبير : خلق . وقيل : إن الله تعالى خلق هذه الأنعام في الجنة ثم أنزلها إلى الأرض ، كما قيل في قوله تعالى : " وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد " [الحديد : 25] فإن آدم لما هبط إلى الأرض أنزل معه الحديد . وقيل : " وأنزل لكم من الأنعام " أي أعطاكم . وقيل : جعل الخلق إنزالاً ، لأن الخق إنما يكون بأمر ينزل من السماء . فالمعنى : خلق لكم كذا بأمره النازل . قال قتادة من الإبل اثنين ومن البقر اثنين ومن الضأن اثنين ومن المعز اثنين كل واحد زوج وقد تقدم هذا " يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق " قال قتادة و السدي : نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً ثم لحماً . ابن زيد : ( خلق من بعد خلق) خلقا في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهر آدم . وقيل : في ظهر الأب ثم خلقا في بطن الأم ثم خلقا بعد الوضع . ذكره الماوردي . " في ظلمات ثلاث " ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة . قاله ابن عباس و عكرمة و مجاهد و قتادة و الضحاك . وقال ابن جبير : ظلمة المشيمة وظلمة الرحم وظلمة الليل . والقول الأصح. وقيل : ظلمة صلب الرجل وظلمة بطن المرأة وظلمة الرحم . وهذا مذهب أبي عبيدة . أي لا تمنعه الظلمى كما تمنع المخلوقين . " ذلكم الله " أي الذي خلق هذه الأشاء " ربكم له الملك لا إله إلا هو " . " فأنى تصرفون " أي كيف تنقلبون وتنصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره . وقرأ حمزة : ( إمهاتكم ) بكسر الهمزة وفتح الميم .و الكسائي بكسر الهمزة وتفح الميم . الباقون بضم الهمزة .
يخبر تعالى أنه الخالق لما في السموات والأرض وما بين ذلك من الأشياء وبأنه مالك الملك المتصرف فيه يقلب ليله ونهاره "يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل" أي سخرهما يجريان متعاقبين لا يفتران كل منهما يطلب الاخر طلباً حثيثاً كقوله تبارك وتعالى: "يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً" هذا معنى ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة والسدي وغيرهم. وقوله عز وجل: "وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى" أي إلى مدة معلومة عند الله تعالى ثم ينقضي يوم القيامة "ألا هو العزيز الغفار" أي مع عزته وعظمته وكبريائه وهو غفار لمن عصاه ثم تاب أو أناب إليه.
وقوله جلت عظمته: "خلقكم من نفس واحدة" أي خلقكم مع اختلاف أجناسكم وأصنافكم وألسنتكم وألوانكم من نفس واحدة وهو آدم عليه الصلاة والسلام "ثم جعل منها زوجها" وهي حواء عليها السلام كقوله تعالى: " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء " وقوله تعالى: "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج" أي خلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية أزواج وهي المذكورة في سورة الأنعام, ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين وقوله عز وجل: "يخلقكم في بطون أمهاتكم" أي قدركم في بطون أمهاتكم "خلقاً من بعد خلق" يكون أحدكم أولاً نطفة ثم يكون علقة ثم يكون مضغة ثم يخلق فيكون لحماً وعظماً وعصباً وعروقاً وينفخ فيه الروح فيصير خلقاً آخر "فتبارك الله أحسن الخالقين".
وقوله جل وعلا: "في ظلمات ثلاث" يعني في ظلمة الرحم وظلمة المشيمة التي هي كالغشاوة والوقاية على الولد وظلمة البطن. كذا قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة وأبو مالك والضحاك وقتادة والسدي وابن زيد. وقوله جل جلاله: "ذلكم الله ربكم" أي هذا الذي خلق السموات والأرض وما بينهما وخلقكم وخلق آباءكم هو الرب له الملك والتصرف في جميع ذلك "لا إله إلا هو" أي الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له "فأنى تصرفون" أي فكيف تعبدون معه غيره ؟ أين يذهب بعقولكم ؟
ثم لما ذكر سبحانه كونه منزهاً عن الولد بكونه إلهاً واحداص قهاراً ذكر ما يدل على ذلك من صفاته فقال: 6- "خلق السموات والأرض بالحق" أي لم يخلقهما باطلاً لغير شيء، ومن كان هذا الخلق العظيم خلقه استحال أن يكون له شريك أو صاحبة أو ولد. ثم بين كيفية تصرفه في السموات والأرض فقال "يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل" التكوير في اللغة طرح الشيء بعضه على بعض. يقال كور المتاع: إذا ألقى بعضه على بعض، ومنه كور العمام، فمعنى تكوير الليل على النهار تغشيته إياه حتى يذهب ضوؤه، ومعنى تكوير النهار على الليل: تغشيته إياه حتى تذهب ظلمته، وهو معنى قوله تعالى: " يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا " هكذا قال قتادة وغيره. وقال الضحاك: أي يلقى هذا على هذا، وهذا على هذا، وهو مقارب للقول الأول. وقيل معنى الآية: أن ما نقص من الليل دخل في النهار، وما نقص من النهار دخل في الليل، وهو معنى قوله: "يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل" وقيل المعنى: إن هذا يكر على هذا وهذا يكر على هذا كروراً متتابعاً. قال الراغب: تكوير الشيء إدارته وضم بعضه إلى بعض ككور العمامة اهـ. والإشارة بهذا التكوير المذكور في الآية إلى جريان الشمس في مطالعها وانتقاص الليل والنهار وازديادهما. قال الرازي: إن النور والظلمة عسكران عظيمان، وفي كل يوم يغلب هذا ذاك، وذاك هذا، ثم ذكر تسخيره لسلطان النهار وسلطان الليل، وهما الشمس والقمر فقال: "وسخر الشمس والقمر" أي جعلهما منقادين لأمره بالطلوع والغروب لمنافع العباد، ثم بين كيفية هذا التسخير فقال: "كل يجري لأجل مسمى" أي يجري في فلكه إلى أن تنصرم الدنيا، وذلك يوم القيامة وقد تقدم الكلام على الأجل المسمى لجريهما مستوفى في سورة يس "ألا هو العزيز الغفار" ألا حرف تنبيه، والمعنى: تنبهوا أيها العباد، فالله هو الغالب الساتر لذنونب خلقه بالمغفرة. ثم بين سبحانه نوعاً آخر من قدرته وبديع صنعه، فقال: "خلقكم من نفس واحد" وهي نفس آدم "ثم جعل منها زوجها" جاء بثم للدلالة على ترتيب خلق حواء على خلق آدم، وتراخيه عنه لأنها خلقت منه، والعطف: إما على مقدر هو صفة لنفس. قال الفراء والزجاج التقدير خلقكم من نفس خلقها واحدة ثم جعل منها زوجها. ويجوز أن يكون العطف على معنى واحدة: أي من نفس انفردت ثم جعل إلخ، والتعبير بالجعل دون الخلق مع العطف بثم للدلالة على أن خلق حواء من ضلع آدم أدخل في كونه آية باهرة دالة على كمال القدرة، لأن خلق آدم هو على عادة الله المستمرة في خلقه، وخلقها على الصفة المذكورة لم تجر به عادة لكونه لم يخلق سبحانه أنثى من ضلع رجل غيرها، وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى في سورة الأعراف. ثم بين سبحانه نوعاً آخر من قدرته الباهرة فقال: "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج" وهو معطوف على خلقكم، وعبر بالإنزال لما يروى أنه خلقها في الجنة ثم أنزلها، فيكون الإنزال حقيقة، ويحتمل أن يكون مجازاً لأنها لم تعش إلا بالنبات، والنبات إنما يعي بالماء والماء منزل من السماء، كانت الأنعام كأنها منزلة، لأن سبب سببها منزل كما أطلق على السبب في قوله:
إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
وقيل إن أنزل بمعنى أنشأ وجعل، أو بمعنى أعطى، وقيل جعل الخلق إنزالاً، لأن الخلق إنما يكون بأمر ينزل من السماء، والثمانية الأزواج هي ما في قوله: " من الضأن اثنين ومن المعز اثنين " "ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين" ويعني بالاثنين في الأربعة المواضع الذكر والأنثى، وقد تقدم تفسير الآية في سورة الأنعام. ثم بين سبحانه نوعاً آخر من قدرته البديعة فقال: "يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق" والجملة استئنافية لبيان ما تضمنته من الأطوار المختلفة في خلقهم، وخلقاً مصدر مؤكد للفعل المذكور، و"من بعد خلق" صفة له: أي خلقاً كائناً من بعد خلق. قال قتادة والسدي: نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً ثم لحماً. وقال ابن زيد: خلقكم خلقاً في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهر آدم، وقوله: "في ظلمات ثلاث" متعلق بقوله يخلقكم وهذه الظلمات الثلاث هي: ظلمة البطن، وظلمة الرحم،وظلمة المشيمة قاله مجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك. وقال سعيد بن جبير: ظلمة المشيمة، وظلمة الرحم، وظلمة الليل. وقال أبو عبيدة: ظلمة صلب الرجل، وظلمة بطن المرأة، وظلمة الرحم، والإشارة بقوله: "ذلك الله" إليه سبحانه باعتبار أفعاله السابقة، والاسم الشريف خبره "ربكم" خبر آخر "له الملك" الحقيقي في الدنيا والآخرة لا شركة لغير فيه، وهو خبر ثالث، وقوله: "لا إله إلا هو" خبر رابع "فأنى تصرفون" أي فكيف تنصرفون عن عبادته وتنقلبون عنها إلى عبادة غيره. قرأ حمزة " أمهاتكم " بكسر الهمزة والميم. وقرأ الكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم. وقرأ الباقون بضم الهمزة وفتح الميم.
وقد أخرج ابن مردويه عن يزيد الرقاشي أن رجلاً قال: "يا رسول الله إنا نعطي أموالنا التماس الذكر فهل لنا في ذلك من أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:لا، قال: يا رسول الله إنما نعطي التماس الأجر والذكر فهل لنا أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يقبل إلا ما أخلص له، ثم تلا هذه الآية "ألا لله الدين الخالص"". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "يكور الليل" قال: يحمل الليل. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "خلقاً من بعد خلق" قال: علقة ثم مضغة ثم عظاماً "في ظلمات ثلاث" البطن والرحم والمشيمة.
6. " خلقكم من نفس واحدة "، يعني: آدم، " ثم جعل منها زوجها "، يعني حواء، " وأنزل لكم من الأنعام "، معنى الإنزال هاهنا: الإحداث والإنشاء، كقوله تعالى: " أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم " (الأعراف-26).
وقيل: إنه أنزل الماء الذي هو سبب نبات القطن الذي يكون منه اللباس، وسبب النبات الذي تبقى به الأنعام.
وقيل: " وأنزل لكم من الأنعام " جعلها لكم نزلاً ورزقاً. " ثمانية أزواج "، أصناف، تفسيرها في سورة الأنعام " يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق "، نطفة ثم علقة ثم مضغة، كما قال الله تعالى: " وقد خلقكم أطواراً " (نوح-14)، " في ظلمات ثلاث "، قال ابن عباس: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، " ذلكم الله "، الذي خلق هذه الأشياء، " ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون "، عن طريق الحق بعد هذا البيان.
6-" خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها " استدلال آخر بما أوجده في العالم السفلي مبدوء به من خلق الإنسان لأنه أقرب وأكثر دلالة وأعجب ، وفيه ما ذكره ثلاث دلالات : خلق آدم أولاً من غير أب و أم ، ثم خلق حواء من قصيراه ، ثم تشعيب الخلق الفائت للحصر منهما . و " ثم " للعطف على محذوف هو صفة " نفس " مثل خلقها أو على معنى واحدة أي من نفس وحدت ثم جعل منها زوجها فشفعها بها ، أو على " خلقكم " لتفاوت ما بين الآيتين ، فإن الأولى عادة مستمرة دون الثانية . وقيل أخرج من ظهره ذريته كالذر ثم خلق منها حواء . " وأنزل لكم " وقضى أو قسم لكم ، فإن قضاياه وقسمه توصف بالنزول من السماء حيث كتبت في اللوح المحفوظ ، أو أحدث لكم بأسباب نازلة كأشعة الكواكب والأمطار . " من الأنعام ثمانية أزواج " ذكر و أنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز . " يخلقكم في بطون أمهاتكم " بيان لكيفية ما ذكر من الأناسي والأنعام إظهاراً لما فيها من عجائب القدرة ، غير أنه غلب أولي العقل أو خصهم بالخطاب لأنهم المقصودون . " خلقاً من بعد خلق " حيواناً سوياً من بعد عظام مكسوة لحماً من بعد عظام عارية من بعد مضغ من بعد علق من بعد نطف . " في ظلمات ثلاث " ظلمة البطن والرحم والمشيمة ، أو الصلب والرحم والبطن . " ذلكم " الذي هذه أفعاله " الله ربكم " هو المستحق لعبادتكم والمالك " له الملك لا إله إلا هو " إذ لا يشاركه في الخلق غيره " فأنى تصرفون " يعدل بكم عن عبادته إلى الإشراك .
6. He created you from one being, then from that (being) He made its mate; and He hath provided for you of cattle eight kinds. He created you in the wombs of your mothers, creation after creation, in a threefold gloom. Such is Allah, your Lord. His is the Sovereignty. There is no God save Him. How then are ye turned away?
6 - He created you (all) from a single Person: then created, of like nature, his mate; and He sent down for you eight head of cattle in pairs: He makes you, in the wombs of your mothers, in stages, one after another, in three veils of darkness. Such is God, your Lord and Cherisher: to Him belongs (all) dominion. There is no god but He: then how are ye turned away (from your true Centre)?