[الزمر : 56] أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ
فبادروا قبل (أن تقول نفس يا حسرتى) أي ندامتي (على ما فرطت في جنب الله) طاعته (وإن) مخففة من الثقيلة وإني (كنت لمن الساخرين) بدينه وكتابه
يقول تعالى ذكره : وأنيبوا إلى ربكم ، وأسلموا له " أن تقول نفس " بمعنى : لئلا تقول نفس : " يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله " ، وهو نظير قوله : " وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم " [ النحل : 15 ] بمعنى : أن لا تميد بكم ، فإن إذ كان ذلك معناه في موضع نصب .
وقوله : " يا حسرتى" يعني أن تقول : يا ندما .
كما حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثني أحمد بن المفضل ، قال: ثنا أسباط ، عن السدي ، في قوله : " يا حسرتى" هي كناية المتكلم ، وإنما أريد : يا حسرتي ولكن العرب تحول الياء في كناية اسم المتكلم في الاستغاثة ألفاً ، فتقول : يا ويلتا ، ويا ندما ، فيخرجون ذلك على لفظ الدعاء ، وربما قيل : يا حسرة على العباد ، كما قيل : يا لهف ، ويا لهفا عليه ، وذكر الفراء أن أبا ثروان أنشده :
تزورونها ولا أزور نساءكم ألهف لأولاد الإماء الحواطب
خفضاً كما يخفض في النداء إذا أضافه المتكلم إلى نفسه ، وربما أدخلوا الهاء بعد هذه الألف ، فيخفضونها أحياناً ، ويرفعونها أحياناً ، وذكر الفراء أن بعض بني أسد أنشد :
يا رب يا رباه إياك أسل عفراء يا رباه من قبل الأجل
خفضاً ، قال : والخفض أكثر في كلامهم ، إلا في قولهم : يا هناه ، ويا هنتاه ، فإن الرفع فيهما أكثر من الخفض ، لأنه كثير في الكلام ، حتى صار كأنه حرف واحد .
وقوله : " على ما فرطت في جنب الله " يقول : على ما ضيعت من العمل بما أمرني الله به ، وقصرت في الدنيا في طاعة الله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد ، في قوله : " يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله " يقول : في أمر الله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : " على ما فرطت في جنب الله " قال : في أمر الله .
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، في قوله : " على ما فرطت في جنب الله " قال : ما تركت من أمر الله .
وقوله : " وإن كنت لمن الساخرين " يقول : وإن كنت لمن المستهزئين بأمر الله وكتابه ورسوله والمؤمنين به .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين " قال : فلم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى جعل يسخر بأهل طاعة الله ، قال : هذا قول صنف منهم .
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي " وإن كنت لمن الساخرين " يقول : من المستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالكتاب ، وبما جاء به .
قوله تعالى : " أن تقول نفس يا حسرتى " ( أن ) موضع نصب أي كراهة ( أن تقول ) وعند الكوفين لئلا تقول وعند البصريين حذر ( أن تقول ) وقيل :أي من قبل ( أن تقول نفس ) لأنه قال قبل هذا : " من قبل أن يأتيكم العذاب " [الزمر : 54] الزمخشري : فإن قلت لم تكرت ؟ قلت : لأن المراد بها بعض الأنفس وهي نفس الكافر . ويجوز أن يريد نفساً متميزة من الأنفس ،إما بلجاج في الكفر شديد ، أو بعقاب عظيم . ويجوز أن يراد التكثير كما قال الأعشى :
ورب بقيع لو هتفت بجوه أتاني كريم ينفض الرأس مغضبا
وهو يريد أفواجاً من الكرام ينصررونه لا كريماً واحداً ن ونظيره : رب بلد قطعت ، ورب بطل قارعت ، ولا يقصد إلا التكثير . ( يا حسرتا ) والأصل ( يا حسرتي ) فأبدل من الياء ألف ، لأنها أخف وأمكن في الا ستغاثة بمد الصوت ، وربما ألحقوا بها الهاء ، أنشد الفراء :
يا مرحباه بحمار ناجيه إذا أتى قربته للسانيه
وربما ألحقوا بها الياء بعد الألف ، لتدل على الإضافة . وكذلك قرأها أبو جعفر : ( يا حسرتاي ) والحسرة الندامة . " على ما فرطت في جنب الله " قال الحسن : في طاعة الله . وقال الضحاك : أي في ذكر الله عز وجل . قال : يعني القرآن والعمل به . وقال أبو عبيدة : ( في جنب الله ) أي في ثواب الله . وقال الفراء : الجنب القرب والجوار ، يقال فلان يعيش في جنب فلان أي في جواره ، ومنه " والصاحب بالجنب " [ النساء : 36] أي على ما تفرطت في طلب جواره وقربه وهو الجنة . وقال الزجاج : أي على ما فرطت في الطريق الذي هو طريق الله الذي دعاني إليه . والعرب تسمي السبب والطريق إلى الشيء جنباً ، تقول : تجرعت في جنبك غصصاً ، أي لأجلك وسببك ولأجل مرضاتك . وقيل : ( في جنب الله ) أي في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله عز وجل وثوابه ، والعرب تسمي الجانب جنباً ، قال الشاعر:
قسم مجهوداً لذاك القلب الناس جنب والأمير جنب
يعني الناس من جانب والأمير من جانب . وقال بان عررفة : أي تركت من أمر الله ، يقال ما فعلت ذلك في جنب حاجتي ، قال كثير :
ألا تتقين الله في جنب عاشق له كبد حرى عليك تقطع وكذا قال مجاهد ، أي ضيعت من أمر الله . ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما جلس رجل مجلساً ولا مشى ممشى ولا اضطجع مضطجعاً لم يذكر الله عز وجل فيه إلا كان عليه ترة يوم القيامة " أي حسرة ، حسرة ، خرجه أبو داود بمعناه . وقال إبراهيم التيمي : من الحسرات يوم القيامة أن يرى الرجل ماله الذي آتاه الله في الدنيا يوم القيامة في ميزان غيره ، وقد ورثه وعمل فيه بالحق ، كان له أجره وعلى الآ9خر وزره ، ومن الحسرات أن يرى الرجل عبده الذي خوله الله إياه في الدنيا أقرب منزلة من الله عز وجل ، أو يرى رجلاً يعرفه أعمى في الدنيا قد أبصر يوم القيامة وعمي هو . " وإن كنت لمن الساخرين " أي وما كنت إلا من المستهزئين بالقرآن وبالرسول في الدنيا وبأولياء الله [ تعالى ] : قال قتادة : لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخهر من أهلها . ومحل ( إن كنت ) النصب على الحال ، كأنه قال : فرطت وأنا ساخر ، أي فرطت في حال سخريتي . وقيل وما كنت إلا في سخرية ولعب وباطل ، أي ما كان سعيي إلا في عبادة غير الله تعالى .
هذه الاية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة وإخبار بأن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب منها ورجع عنها وإن كانت مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر, ولا يصح حمل هذه على غير توبة لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه. قال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم قال يعلى إن سعيد بن جبير أخبره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا, وزنوا فأكثروا, فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون" ونزل "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله" وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث ابن جريج عن يعلى بن مسلم المكي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما به. والمراد من الاية الأولى قوله تعالى: "إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً" الاية. وقال الإمام أحمد حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا أبو قبيل قال: سمعت أبا عبد الرحمن المزني يقول: سمعت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الاية "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم" إلى آخر الاية فقال رجل يا رسول الله فمن أشرك ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: ألا ومن أشرك" ثلاث مرات تفرد به الإمام أحمد. وقال الإمام أحمد أيضاً حدثنا سريج بن النعمان حدثنا نوح بن قيس عن أشعث بن جابر الحداني عن مكحول عن عمرو بن عنبسة رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيخ كبير يدعم على عصا له فقال: يا رسول الله لي غدارت وفجرات فهل يغفر لي ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ألست تشهد أن لا إله إلا الله ؟ قال: بلى وأشهد أنك رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: قد غفر لك غدراتك وفجراتك" تفرد به أحمد.
وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: "إنه عمل غير صالح" وسمعته صلى الله عليه وسلم يقول: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً" ولا يبالي "إنه هو الغفور الرحيم" ورواه أبو داود والترمذي من حديث ثابت به. فهذه الأحاديث كلها دالة على أن المراد أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة ولا يقنطن عبد من رحمة الله وإن عظمت ذنوبه وكثرت فإن باب الرحمة والتوبة واسع قال الله تعالى: "ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده" وقال عز وجل: "ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً" وقال جل وعلا في حق المنافقين: "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً * إلا الذين تابوا وأصلحوا" وقال جل جلاله: "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم" ثم قال جلت عظمته: "أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم" وقال تبارك وتعالى: "إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا" قال الحسن البصري رحمة الله عليه انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة والايات في هذا كثيرة جداً. وفي الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً ثم ندم وسأل عابداً من عباد بني إسرائيل هل له من توبة, فقال: لا فقتله وأكمل به مائة ثم سأل عالماً من علمائهم هل له من توبة فقال ومن يحل بينك وبين التوبة. ثم أمره بالذهاب إلى قرية يعبد الله فيها فقصدها فأتاه الموت في أثناء الطريق فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأمر الله عز وجل أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أقرب فهو منها فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها فقبضته ملائكة الرحمة, وذكر أنه نأى بصدره عند الموت وأن الله تبارك وتعالى أمر البلدة الخيرة أن تقترب وأمر تلك البلدة أن تتباعد, هذا معنى الحديث وقد كتبناه في موضع آخر بلفظه. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً" إلى آخر الاية قال قد دعا الله تعالى إلى مغفرته من زعم أن المسيح هو الله ومن زعم أن المسيح هو ابن الله ومن زعم أن عزيراً ابن الله ومن زعم أن الله فقير ومن زعم أن يد الله مغلولة ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة يقول الله تعالى لهؤلاء: "أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم" ثم دعا إلى التوبة من هو أعظم قولاً من هؤلاء, من قال أنا ربكم الأعلى وقال: "ما علمت لكم من إله غيري" قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من آيس عباد الله من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله عز وجل, ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه وروى الطبراني من طريق الشعبي عن سنيد بن شكل أنه قال سمعت ابن مسعود يقول إن أعظم آية في كتاب الله "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" وإن أجمع آية في القرآن بخير وشر "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" وإن أكثر آية في القرآن فرحاً في سورة الزمر "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله" وإن أشد آية في كتاب الله تفويضاً " ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب " فقال له مسروق صدقت. وقال الأعمش عن أبي سعيد عن أبي الكنود قال مر عبد الله يعني ابن مسعود رضي الله عنه على قاص وهو يذكر الناس فقال يا مذكر لم تقنط الناس من رحمة الله ؟ ثم قرأ "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله" رواه ابن أبي حاتم رحمه الله.
(ذكر أحاديث فيها نفي القنوط)
قال الإمام أحمد: حدثنا سريج بن النعمان حدثنا أبو عبيدة عبد المؤمن بن عبيد الله حدثني حسن السدوسي قال: دخلت على أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتم الله تعالى لغفر لكم, والذي نفس محمد صلى الله عليه وسلم بيده لو لم تخطئوا لجاء الله عز وجل بقوم يخطئون ثم يستغفرون الله فيغفر لهم" تفرد به أحمد. وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى حدثني الليث حدثني محمد بن قيس قاص عمر بن عبد العزيز عن أبي صرمة عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال حين حضرته الوفاة قد كنت كتمت منكم شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لولا أنكم تذنبون لخلق الله عز وجل قوماً يذنبون فيغفر لهم" هكذا رواه الإمام أحمد وأخرجه مسلم في صحيحه والترمذي جميعاً عن قتيبة عن الليث بن سعد به. ورواه مسلم من وجه آخر به عن محمد بن كعب القرظي عن أبي صرمة وهو الأنصاري صحابي عن أبي أيوب رضي الله عنهما به. وقال الإمام أحمد حدثنا أحمد بن عبد الملك الحراني حدثنا يحيى بن عمرو بن مالك البكري قال سمعت أبي يحدث عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفارة الذنب الندامة" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو لم تذنبوا لجاء الله تعالى بقوم يذنبون فيغفر لهم" تفرد به أحمد. وقال عبد الله بن الإمام أحمد حدثني عبد الأعلى بن حماد القرشي حدثنا داود بن عبد الرحمن حدثنا أبو عبد الله مسلمة بن عبد الله الرازي عن أبي عمرو البجلي عن عبد الملك بن سفيان الثقفي عن أبي جعفر محمد بن علي عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يحب العبد المفتن التواب" ولم يخرجوه من هذا الوجه.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا ثابت وحميد عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: إن إبليس لعنه الله تعالى قال يا رب إنك أخرجتني من الجنة من أجل آدم وإني لا أستطيعه إلا بسلطانك قال فأنت مسلط, قال يا رب زدني, قال لا يولد له ولد إلا ولد لك مثله, قال يا رب زدني قال أجعل صدورهم مساكن لكم وتجرون منهم مجرى الدم قال يا رب زدني قال أجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً, فقال آدم عليه الصلاة والسلام يا رب قد سلطته علي وإني لا أمتنع إلا بك قال تبارك وتعالى لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظه من قرناء السوء, قال يا رب زدني قال الحسنة عشر أو أزيد والسيئة واحدة أو أمحوها قال يا رب زدني قال باب التوبة مفتوح ما كان الروح في الجسد قال يا رب زدني قال: "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم" وقال محمد بن إسحاق قال نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر رضي الله عنهما في حديثه قال وكنا نقول ما الله بقابل ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة, عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم قال وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم قال فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم * وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون * واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون" قال عمر رضي الله عنه فكتبتها بيدي في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاص رضي الله عنه قال: فقال هشام لما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى أصعد بها فيه وأصوت ولا أفهمها حتى قلت اللهم أفهمنيها فألقى الله عز وجل في قلبي أنها إنما نزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة, ثم استحث تبارك وتعالى عباده إلى المسارعة إلى التوبة فقال: "وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له" الخ, أي ارجعوا إلى الله واستسلموا له "من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون" أي بادروا بالتوبة والعمل الصالح قبل حلول النقمة "واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم" وهو القرآن العظيم "من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون" أي من حيث لا تعلمون ولا تشعرون ثم قال عز وجل: " أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله " أي يوم القيامة يتحسر المجرم المفرط في التوبة والإنابة ويود لو كان من المحسنين المخلصين المطيعين لله عز وجل, وقوله تبارك وتعالى: "وإن كنت لمن الساخرين" أي إنما كان عملي في الدنيا عمل ساخر مستهزىء غير موقن مصدق " أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين * أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين " أي تود لو أعيدت إلى الدنيا لتحسن العمل. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخبر الله سبحانه وتعالى ما العباد قائلون قبل أن يقولوه وعملهم قبل أن يعملوه. وقال تعالى: "ولا ينبئك مثل خبير" " أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين * أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين * أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين " وقد قال الإمام أحمد حدثنا أسود حدثنا أبو بكر عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول لو أن الله هداني فتكون عليه حسرة, قال وكل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول لولا أن الله هداني قال فيكون له الشكر" ورواه النسائي من حديث أبي بكر بن عياش به. ولما تمنى أهل الجرائم العود إلى الدنيا وتحسروا على تصديق آيات الله واتباع رسله وقال الله سبحانه وتعالى: "بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين" أي قد جاءتك أيها العبد النادم على ما كان منه آياتي في الدار الدنيا وقامت حججي عليك فكذبت بها واستكبرت عن اتباعها وكنت من الكافرين بها الجاحدين لها.
56- " أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله " قال البصريون: أي حذراً أن تقول. وقال الكوفيون: لئلا تقول. قال المبرد: بادروا خوف أن تقول، أو حذراً من أن تقول نفس. وقال الزجاج: خوف أن تصيروا إلى حال تقولون فيها: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، قيل والمراد بالنفس هنا النفس الكافرة، وقيل المراد به التكثير كما في قوله: "علمت نفس ما أحضرت" قرأ الجمهرو " يا حسرتى " بالألف بدلاً من الياء المضاف إليها، والأصل يا حسرتي، وقرأ ابن كثير " يا حسرتنا " بهاء السكت وقفاً، وقرأ أبو جعفر يا حسرتي بالياء على الأصل. والحسرة: الندامة، ومعنى "على ما فرطت في جنب الله" على ما فرطت في طاعة الله، قاله الحسن. وقال الضحاك: على ما فرطت في ذكر الله، ويعني به القرآن والعمل به. وقال أبو عبيدة "في جنب الله" أي في ثواب الله. وقال الفراء: الجنب القرب والجوار: أي في قرب الله وجواره، ومنه قوله: "والصاحب بالجنب" والمعنى على هذا القول، على ما فرطت في طلب جنب الله: أي في طلب جواره وقربه وهو الجنة، وبه قال ابن الأعرابي وقال الزجاج: أي فرطت في الطريق الذي هو طريق الله من توحيده والإقرار بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالجنب بمعنى الجانب: أي قصرت في الجانب الذيب يؤدي إلى رضى الله، ومنه قول الشاعر:
للناس جنب والأمير جنب
أي الناس من جانب والأمير من جانب "وإن كنت لمن الساخرين" أي وما كنت إلا من المستهزئين بدين الله في الدنيا، ومحل الجملة النصب على الحال. قال قتادة: لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها.
56. " أن تقول نفس "، يعني: لئلا تقول نفس، كقوله: " وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم " (النحل-15)، أي: لئلا تميد بكم، قال المبرد : أي بادروا واحذروا أن تقول نفس. وقال الزجاج : خوف أن تصيروا إلى حال تقولون هذا القول، " يا حسرتى " يا ندامتا، والتحسر الاغتمام على ما فات، وأراد: يا حسرتي، على الإضافة، لكن العرب تحول ياء الكناية ألفاً في الاستغاثة، فتقول: ياحسرتا وياندامتا، وربما ألحقوا بها الياء بعد الألف ليدل على افضافة، وكذلك قرأ أبو جعفر (ياحسرتاي)، وقيل: معنى قوله: (( يا حسرتا )) يا أيتها الحسرة هذا وقتك، " على ما فرطت في جنب الله "، قال الحسن : قصرت في طاعة الله. وقال مجاهد : في أمر الله. وقال سعيد بن جبير : في حق الله. وقيل: ضيعت في ذات الله. وقيل: معناه قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضاء الله. والعرب تسمي الجنب جانباً. " وإن كنت لمن الساخرين "، المستهزئين بدين الله وكتابه ورسوله والمؤمنين قال قتادة : لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى جعل يسخر بأهل طاعته.
56-" أن تقول نفس " كراهة أن تقول وتنكير " نفس " لأن القائل بعض الأنفس أو للتكثير كقول الأعشى :
ورب بقيع لو هتفت بجوه أتاني كريم ينفض الرأس مغضبا
" يا حسرتى " وقرئ بالياء على الأصل " على ما فرطت " بما قصرت " في جنب الله " في جانبه أي في حقه وهو طاعته . قال سابق البربري :
أما تتقين الله في جنب وامق له كبد حرى عليك تقطع
وهو كناية فيها مبالغة كقوله :
إن السماحة والمروءة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج
وقيل في ذاته على تقدير مضاف كالطاعة وقيل في قربه من قوله تعالى : " والصاحب بالجنب " وقرئ في ذكر الله " وإن كنت لمن الساخرين " المستهزئين بأهله ومحل " إن كنت " نصب على الحال كأنه قال فرطت وأنا ساخر .
56. Lest any soul should say Alas, my grief that I was unmindful of Allah, and I was indeed among the scoffers!
56 - Lest the soul should (then) say: Ah. woe is me. in that I neglected (my Duty) towards God, and was but among those who mocked.