[ص : 70] إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ
70 - (إن) ما (يوحى إلي إلا أنما أنا) أي أني (نذير مبين) بين الانذار
وقوله "إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لمشركي قريش : ما يوحي الله إلي علم ما لا علم لي به ، من نحو العلم بالملأ الأعلى واختصامهم في أمر آدم إذ أراد خلقه ، إلا لأني إنما أنا نذير مبين ف أنما علىأهذا التأويل في موضع خفض على قول من كان يرى أن مثل هذا الحرف الذي ذكرنا لا بد له من حرف خافض ، فسواء إسقاط خافضه منه وإثباته. وأما على قول من رأى أن مثل هذا ينصب إذا أسقط منه الخافض، فإنه على مذهبه نصب، وقد بينا ذلك فيما مض بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقد يتجه لهذا الكلام وجه آخر، وهو أن يكون معناه : ما يوحي الله إلي إلا إنذاركم . وإذا وجه الكلام إلى هذا المعنى ، كانت أنما في موضع رفع ، لأن الكلام يصير حينئذ بمعنى : ما يوحي إلي إلا الإنذار.
قوله "إلا أنما أنا نذير مبين" يقول : إلا أفي نذير لكم فبين لكم إنذاره إياكم . وقيل : إلا أنما أنا، ولم يقل : إلا أنما أنك ، والخبر من محمد عن الله ، لأن الوحي قول ، فصار في معنى الحكاية، كما يقال في الكلام : أخبروني أني مسيء ، وأخبروني أنك مسيء بمعنى واحد، كما قال الشاعر:
رجلان من ضبة أخبرانا أنا رأينا رجلاً عريانا
بمعنى : أخبرانا أنهما رأيا، وجاز ذلك لأن الخبر أصله حكاية.
" إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين " أي إن يوحى إلي إلا الإنذار . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع < إلا إنما > بكسر الهمزة ، لأن الوحي قول ، كأنه قال : يقال لي إنما أنت نذير مبين ، ومن فتحها جعلها في موضع رفع ، لأنها اسم ما لم يسم فاعله . قال الفراء :كأنك قلت ما يوحى إلي إلا الإنذار ، النحاس : ويجوز أن تكون في موضع نصب بمعنى إلا لأنما . والله أعلم .
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار بالله المشركين به المكذبين لرسوله إنما أنا منذر لست كما تزعمون "وما من إله إلا الله الواحد القهار" أي هو وحده قد قهر كل شيء وغلبه "رب السموات والأرض وما بينهما" أي هو مالك جميع ذلك ومتصرف فيه "العزيز الغفار" أي غفار مع عظمته وعزته "قل هو نبأ عظيم" أي خبر عظيم وشأن بليغ وهو إرسال الله تعالى إياي إليكم "أنتم عنه معرضون" أي غافلون, قال مجاهد وشريح القاضي والسدي في قوله عز وجل: "قل هو نبأ عظيم" يعني القرآن.
وقوله تعالى: " ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون " أي لولا الوحي من أين كنت أدري باختلاف الملأ الأعلى ؟ يعني في شأن آدم عليه الصلاة والسلام وامتناع إبليس من السجود له ومحاجته ربه في تفضيله عليه. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا أبو سعيد مولى بني هشام حدثنا جهضم اليمامي عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن أبي سلام عن أبي سلام عن عبد الرحمن بن عائش عن مالك بن يخامر عن معاذ رضي الله عنه قال: احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة من صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى قرن الشمس فخرج صلى الله عليه وسلم سريعاً فثوب بالصلاة فصلى وتجوز في صلاته فلما سلم قال صلى الله عليه وسلم: "كما أنتم" ثم أقبل إلينا فقال: "إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استيقظت فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة فقال: يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى, قلت لا أدري يا رب ـ أعادها ثلاثاً ـ فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري فتجلى لي كل شيء وعرفت فقال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت: في الكفارات. قال: وما الكفارات ؟ قلت: نقل الأقدام في الجماعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء عند الكريهات. قال: وما الدرجات ؟ قلت: إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة والناس نيام, قال: سل, قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني, وإذا أردت فتنة بقوم فتوفني غير مفتون, وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك ـ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ إنها حق فادرسوها وتعلموها" فهو حديث المنام المشهور, ومن جعله يقظة فقد غلط وهو في السنن من طرق, وهذا الحديث بعينه قد رواه الترمذي من حديث جهضم بن عبد الله اليمامي به, وقال الحسن صحيح وليس هذا الاختصام هو الاختصام المذكور في القرآن فإن هذا قد فسر, وأما الاختصام الذي في القرآن فقد فسر بعد هذا وهو في قوله تعالى:
وجملة 70- "إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين" معترضة بين اختصامهم المجمل وبين تفصيله بقوله: "إذ قال ربك للملائكة". والمعنى: ما يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين. قال الفراء: المعنى ما يوحى إلي ألا أنني نذير مبين أبين لكم ما تأتون من الفرائض والسنن وما تدعون من الحرام والمعصية. قال: كأنك قلت ما يوحى إلي إلا الإنذار. قال النحاس: ويجوز أن تكون في محل نصب بمعنى ما يوحى إلي إلا لأنما أنا نذير مبين. قرأ الجمهور بفتح همزة أنما على أنها وما في حيزها في محل رفع لقيامها مقام الفاعل: أي ما يوحى إلي إلا الإنذار، أو إلا كوني نذيراً مبيناً، أو في محل نصب، أو جر بعد إسقاط لام العلة، والقائم مقام الفاعل على سبيل الحكاية، كأنه قيلما يوحى إلي إلا هذه الجملة المتضمنة لهذا الإخبار، وهو أن أقول لكم إنما أنا نذير مبين. وقيل إن الضمير في يختصمون عائد إلى قريش، يعني قول من قال منهم: الملائكة بنات الله، والمعنى: ما كان لي علم بالملائكة إذ تختصم فيهم قريش، والأول أولى.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "وغساق" قال: الزمهرير "وآخر من شكله" قال: من نحوه "أزواج" قال: ألوان من العذاب. وأخرج أحمد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن دلواً من غساق يهرق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا". قال الترمذي بعد إخراجه: لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد. قلت: ورشدين فيه مقال معروف. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود في قوله: "فزده عذاباً ضعفاً في النار" قال: أفاعي وحيات. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "بالملإ الأعلى" قال: الملائكة حين شوروا في خلق آدم فاختصموا فيه، وقالوا: لا تجعل في الأرض خليفة. وأخرج محمد بن نصر في كتاب الصلاة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: " ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون " قال: هي الخصومة في شأن آدم حيث قالوا "أتجعل فيها من يفسد فيها". وأخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن نصر في كتاب الصلاة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني الليلة ربي في أحسن صورة، أحسبه قال في المنام، قال: يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت لا، فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي أو في نحري، فعلمت ما في السموات والأرض، ثم قال لي: يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت نعم في الكفارات، والكفارات: المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإبلاغ الوضوء في المكاره" الحديث. وأخرج الترمذي وصححه ومحمد بن نصر والطبراني والحاكم وابن مردويه من حديث معاذ بن جبل نحوه بأطول منه، وقال "وإسباغ الوضوء في السبرات". وأخرج الطبراني وابن مردويه من حديث جابر بن سمرة نحوه بأخصر منه. وأخرجا أيضاً من حديث أبي هريرة نحوه، وفي الباب أحاديث.
70. " إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين "، قال الفراء : إن شئت جعلت ((أنما)) في موضع رفع، أي: ما يوحى إلي إلا الإنذار، وإن شئت جعلت المعنى: ما يوحى إلي إلا أني نذير مبين.
وقرأ أبو جعفر : ((إنما)) بكسر الألف، لأن الوحي قول.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، حدثنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال مر بنا خالد بن اللجلاج، فدعاه مكحول فقال: يا إبراهيم حدثنا حديث عبد الرحمن بن عائش: قال: سمعت عبد الرحمن بن عائش الحضرمي يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " رأيت ربي عز وجل في أحسن صورة، فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: أنت أعلم أي رب، مرتين، قال: فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما في السماء والأرض))، قال: ثم تلا هذه الآية " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين " (الأنعام:75)، ثم قال: فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: في الكفارات؟ قال: وما هن؟ قلت: المشي على الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد خلف الصلوات، وإبلاغ الوضوء أماكنه في المكاره، قال: ومن يفعل ذلك يعش بخير ويمت بخير، ويكن من خطيئته كيوم ولدته أمه، ومن الدرجات إطعام الطعام، وبذل السلام، وأن يقوم الليل والناس نيام، قال: قل اللهم إني أسألك الطيبات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي، وترحمني، وتتب علي، وإذا أردت فتنةً في قوم فتوفني غير مفتون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعلموهن فوالذي نفس محمد بيده إنهن لحق ".

70-" إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين " أي لأنما كأنه لما جوز أن الوحي يأتيه بين بذلك ما هو المقصود به تحقيقاً لقوله " إنما أنا منذر " ويجوز أن يرتفع بإسناد يوحى إليه ، وقرئ إنما بالكسر على الحكاية .
70. It is revealed unto me only that I may be a plain warner.
70 - Only this has been revealed to me: that I am to give warning plainly and publicly