[ص : 34] وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ
34 - (ولقد فتنا سليمان) ابتليناه بسلب ملكه وذلك لتزوجه بامرأة عشقها وكانت تعبد الصنم في داره من غير علمه وكان ملكه في خاتمه فنزعه مرة عند إرادة الخلاء ووضعه عند امرأته المسماة بالأمنية على عادته فجاءها جني في صورة سليمان فأخذه منها (وألقينا على كرسيه جسدا) هو ذلك الجني وهو صخر أو غيره جلس على كرسي سليمان وعكفت عليه الطير وغيرها فخرج سليمان في غير هيئته فرآه على كرسيه وقال للناس أنا سليمان فأنكروه (ثم أناب) رجع إلى ملكه بعد أيام بأن وصل إلى الخاتم فلبسه وجلس على كرسيه
يقول تعالى ذكره : ولقد ابتلينا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً شيطاناً متمثلاً بإنسان ، ذكروا أن اسمه صخر: وقيل : إن اسمه اصف . وقيل : إن اسمه آصر. وقيل : إن اسمه حبقيق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس، قوله "وألقينا على كرسيه جسدا" قال : هو صخر الجني تمثل على كرسيه جسداً.
حدثني محمد بن سعد، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس، قوله : "ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب" قال : الجسد : الشيطان الذي كان دفع إليه سليمان خاتمه ، فقذفه في البحر، وكان ملك سليمان في خاتمه ، وكان اسم الجني صخراً.
حدثنا ابن بشار، قال : ثنا أبو داود، قال: ثنا مبارك، عن الحسن "وألقينا على كرسيه جسدا" قال : شيطاناً.
حدثنا ابن بشار، قال : ثنا أبو داود، قال : ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير "وألقينا على كرسيه جسدا" قال : شيطانا.
حدثنا ابن بشار، قال : ثنا أبو داود، قال : ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد "وألقينا على كرسيه جسدا" قال : شيطانا يقال له آصر.
حدثني محمد بن عمرو، قال : ثنا أبو عاصم، قال : ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال : ثنا الحسن، قال : ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله : "على كرسيه جسدا" قال : شيطاناً لم يقال له آصف ، فقال له سليمان : كيف تفتنون الناس ؟ قال : أرني خاتمك أخبرك ، فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر، فساح سليمان وذهب ملكه ، وقعد آصف على كرسيه ، ومنعه الله نساء سليمان ، فلم يقربهن ، وأنكرنه، قال : فكان سليمان يستطعم فيقول : أتعرفوني أطعموني أنا سليمان ، فيكذبونه ، حتى أعطته امرأة يوماً حوتاً يطيب بطنه ، فوجد خاتمه في بطنه ، فرجع إليه ملكه ، وفر آصف فدخل البحر فاراً.
حدثني الحارث، قال : ثنا الحسن، قال : ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه ، غير أنه قال في حديثه ، فيقول : لو تعرفوني أطعمتموني.
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة، قوله : "ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب" قال : حدثنا قتادة أن سليمان أمر ببناء بيت المقدس ، فقيل له : ابنه ولا يسمع فيه صوت حديد، قال : فطلب ذلك فلم يقدر عليه ، فقيل له : إن شيطاناً في البحر يقال له صخر شبه المارد، قال : فطلبه ، وكانت عين في البحر يردها في كل سبعة أيام مرة، فنزح ماؤها وجعل فيها خمر، فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر، فقال : إنك لشراب طيب ، إلا أنك تصبين الحليم ، وتزيدين الجاهل جهلاً، قال : ثم رجع حتى عطش عطشاً شديداً، ثم أتاها فقال : إنك لشراب طيب ، إلا أنك تصبين الحليم ، وتزيدين الجاهل جهلاً، قال : ثم شربها حتى غلبت على عقله ، قال : فم ري الخاتم أو ختم به بين كتفيه ، فذل ، قال : فكان ملكه في خاتمه ، فأتي به سليمان ، فقال : إنا قد أمرنا ببناء هذا البيت ، وقيل لنا: لا يسمعن فيه صوت حديد، قال : فأتي ببيض الهدهد، فجعل عليه زجاجة، فجاء الهدهد، فدار حولها، فجعل يرى بيضه ولا يقدر عليه ، فذهب فجاء بالماس ، فوضعه عليه ، فقطعها به حتى أفضى إلى بيضه . فأخذ الماس ، فجعلوا يقطعون به الحجارة، فكان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو الحمام لم يدخلها بخاتمه، فانطلق يوماً إلى الحمام ، وذلك الشيطان صخر معه ، وذلك عند مقارفة ذنب قارف فيه بعض نسائه ، قال : فدخل الحمام ، وأعطى الشيطان خاتمه ، فألقاه في البحر، فالتقمته سمكة، ونزع ملك سليمان منه ، وألقي على الشيطان شبه سليمان، قال : فجاء فقعد على كرسيه وسريره ، وسلط على ملك سليمان كله غير نسائه، قال : فجعل يقضي بينهم ، وجعلوا ينكرون منه أشياء حتى قالوا: لقد فتن نبي الله ، وكان فيهم رجل يشبهونه بعمر بن الخطاب في القوة، فقال : والله لأجربنه، قال : فقال له : يا نبي الله ، وهو لا يرى إلا أنه نبي الله ، أحدنا تصيبه الجنابة في الليلة الباردة، فيدع الغسل عمداً حتى تطلع الشمس ، أترى عليه بأساً؟ قال : لا. قال : فبينا هو كذلك أربعين ليلة حتى وجد نبي الله خاتمه في بطن سمكة، فاقبل فجعل لا يستقبله جني ولا ير إلا سجد له ، حتى انتهى إليهم. "وألقينا على كرسيه جسدا" قال : هو الشيطان صخر.
حدثنا محمد بن الحسين، قال : ثنا أحمد، ثنا أسباط، عن السدي، في قوله : "ولقد فتنا سليمان" قال : لقد ابتلينا "وألقينا على كرسيه جسدا" قال : الشيطان حين جلس على كرسيه أربعين يوماً، قال : كان لسليمان مائة امرأة، وكانت امرأة منهن يقال لها جرادة، وهي آثر نسائه عنده ، وآمنهن عنده ، وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نزع خاتمه ، ولم يأتمن عليه أحداً من الناس غيرها، فجاءته يوماً من الأيام ، فقالت : إن أخي بينه وبين فلان خصومة، وأنا أحب أن تقضي له إذا جاءك ، فقال لها: نعم ، ولم يفعل ، فابتلي وأعطاها خاتمه ، ودخل المخرج ، فخرج الشيطان في صورته ، فقال لها : هاتي الخاتم ، فأعطته ، فجاء حتى جلس على مجلس سليمان ، وخرج سليمان بعد، فسألها أن تعطيه خاتمه ، فقالت ألم تأخذه قبل ؟ قال : لا، وخرج مكانه تائها؟ قال : ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوماً. قال : فأنكر الناس أحكامه ، فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم ، فجاءوا حتى دخلوا على نسائه ، فقالوا إنا قد أنكرنا هذا، فإن كان سليمان فقد ذهب عقله ، وأنكرنا أحكامه . قال : فبكى النساء عند ذلك ، قال : فأقبلوا يمشون حتى أتوه ، فأحدقوا به ، ثم نشروا التوراة، فقرءوا، قال : فطار من بين أيديهم حتى وقبر على شرفة والخاتم معه ، ثم طار حتى ذهب إلى البحر، فوقع الخاتم منه في البحر، فابتلعه حوت من حيتان البحر. قال : وأقبل سليمان في حاله التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع ، وقد اشتد جوعه ، فاستطعمهم من صيدهم ، قال : إني أنا سليمان ، فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجه ، فجعل يغسل دمه وهو على شاطىء البحر، فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه ، فقالوا : بئس ما صنعت حيث ضربته ، قال : إنه زعم أنه سليمان . قال : فأعطوه سمكتين مما قد مذر عندهم ، ولم يشغله ما كان به من الضرر، حتى قام إلى شط البحر، فشق بطونهما، فجعل يغسل. فوجد خاتمه في بطن إحداهما، فأخذه فلبسه ، فرد الله عليه بهاءه وملكه ، وجاءت الطير حتى حامت عليه ، فعرف القوم أنه سليمان ، فقام القوم يعتذرون مما صنعوا، فقال : ما أحمدكم على عذركم ، ولا ألومكم على ما كان منكم ، كان هذا الأمر لا بد منه ، قال : فجاء حتى أتى ملكه ، فأرسل إلى الشيطان فجيء به ، وسخر له الريح والشياطين يومئذ، ولم تكن سخرت له قبل ذلك ، وهو قوله : "وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب" قال : وبعث إلى الشيطان ، فأتي به ، فأمر به فجعل في صندوق من حديد، ثم أطبق عليه فأقفل عليه بقفل ، وختم عليه بخاتمه ، ثم أمر به فألقي في البحر، فهو فيه حتى تقوم الساعة، وكان اسمه حبقيق.
وقوله : "ثم أناب" سليمان ، فرجع إلى ملكه من بعد ما زال عنه ملكه فذهب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
حدثت عن المحاربي، عن عبد الرحمن، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله : "ثم أناب" قال : دخل سليمان على امرأة تبيع السمك ، فاشترى منها سمكة، فشق بطنها، فوجد خاتمه ، فجعل لا يمر على شجر ولا حجر ولا شيء إلا سجد له ، حتى أتى ملكه وأهله ، فذلك قوله : "ثم أناب" يقول: ثم رجع .
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة "ثم أناب" وأقبل، يعني سليمان.
قوله تعالى : " ولقد فتنا سليمان " قيل : فتن سليمان بعد ما ملك عشرين سنة ، وملك بعد الفتنة عشرين سنة ، ذكره الزمخشري . و < فتنا > أي ابتلينا وعاقبنا . وسبب ذلك ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : اختصم إلى سليمان عليه السلام فريقان أحدهما من أهل جرادة امرأة سليمان ، وكان يحبها فهوي أن يقع القضاء لهم ، ثم قضى بينهما بالحق ، فأصابه الذي أصابه عقوبة لذلك الهوى . وقال سعيد بن المسيب :إن سليمان عليه السلام احتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يقضي بين أحد ، ولا ينصف مظلوماً من ظالم ، فأوحى الله تعالى إليه : إني لم استخلفك لتحتجب عن عبادي ، ولكن لتقضي بينهم وتنصف مظلومهم . وقال شهر بن حوشب و وهب بن منبه : إن سليمان عليه السلام سبى بنت ملك غزاه في البحر ، في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون . فألقيت عليه محبتها وهي تعرض عنه ، ولا تنظر إليه إلا شزراً ، ولا تكلمه إلا نزرا ، وكان لا يرقأ لها دمع حزنا على أبيها ، وكانت في غاية من الجمال ، ثم إنها سألته أن يصنع لها تمثالاً على صورة أبيها حتى تنظر إليه ، فأمر فصنع لها فعظمته وسجدت له ، وسجدت معها جواريها ، وصار صنماً معبوداً في داره وهو لا يعلم ، حتى مضت أربعون ليلة ، وفشا خبره في بني إسرائيل وعلم به سليمان فكسره ، وحرقه ثم ذراه في البحر . وقيل : إن سليمان لما أصاب ابنة ملك صيدون واسمها جرادة - فيما ذكر الزمخشري - أعجب بها ، فعرض عليها الإسلام فأبت ، فخوفها فقالت : اقتلني ولا أسلم ، فتزوجها وهي مشركة ، فكانت تعبد صنماً لها من ياقوت أربعين يوماً في خفية من سليمان ، إلى أن أسلمت فعوقب سليمان بزوال ملكه أربعين يوماً . وقال كعب الأحبار : إنه لما ظلم الخيل بالقتل سلب ملكه . وقال الحسن : إنه قارب بعض نسائه في شيء من حيض أو غيره . وقيل : إنه أمر ألا يتزوج امرأة إلا من بني إسرائيل ، فتزوج امرأة من غيرهم ، فعوقب على ذلك ، والله أعلم .
قوله تعالى : " وألقينا على كرسيه جسداً " قيل : شيطان في قول أكثر أهل التفسير ، ألقى الله شبه سليمان عليه السلام عليه ، واسمه صخر بن عمير صاحب البحر ، وهو الذي دل سليمان على الماس حين أمر سليمان ببناء بيت المقدس ، فصوتت الحجارة لما صنعب بالحديد ، فأخذوا الماس فجعلوا يقطعون به الحجارة والفصوص وغيرها ولا تصوت . قال ابن عباس : كان مارداً لا يقوى عليه جميع الشياطين ، ولم يزل يحتال حتى ظفر بخاتم سليمان بن دواد ، وكان سليمان لا يدخل الكنيف بخاتمه ، فجاء صخر في صورة سليمان حتى أخذ الخاتم من امرأة من نساء سليمان أم ولد له يقال لها الأمينة ، قاله شهر و وهب . وقال ابن عباس و ابن جبير : اسمها جرادة . فقام أربعين يوماً على ملك سليمان وسليمان هارب ، حتى رد الله عليه الخاتم والملك . وقال سعيد بن المسيب : كان سليمان قد وضع خاتمه تحت فراشه ، فأخذه الشيطان من تحته . وقال مجاهد : أخذه الشيطان من يد سليمان ، لأن سليمان سأل الشيطان وكان اسمه آصف : كيف تضلون الناس ؟ فقال له الشيطان : أعطني خاتمك حتى أخبرك . فأعطاه خاتمه ، فلما أخذ الشيطان الخاتم جلس على كرسي سليمان ، متشبهاً بصورته ، داخلاً على نسائه ، يقضي بغير الحق ، ويأمر بغير الصواب . واختلف في إصابته لنساء سليمان فحكي عن ابن عباس و وهب بن منبه : أنه كان يأتيهن في حيضهن . وقال مجاهد : منع من إتيانهن . وزال عن سليمان ملكه فخرج هارباً إلى ساحل البحر يتضيف الناس ، ويحمل سموك الصيادين بالأجر ، وإذا أخبر الناس أنه سليمان أكذبوه . قال قتادة : ثم إن سليمان بعد أن استنكر بنو إسرائيل حكم الشيطان أخذ حوته من صياد . قيل : إنه استطعمها . وقال ابن عباس : أخذها أجرة في حمل حوت . وقيل : إن سليمان صادها فلما شق بطنها وجد خاتمه فيها ، وذلك بعد أربعين يوماً من زوال ملكه ، وهي عدد الأيام التي عبد فيها الصنم في داره ، وإنما وجد الخاتم في بطن الحوت ، لأن الشيطان الذي أخذه ألقاه في البحر . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : بينما سليمان على شاطيء البحر وهو يعبث بخاتمه ، إذ سقط منه في البحر وكان ملكه في خاتمه . " وقال جابر بن عبد الله : قال النبي صلى الله عليه وسلم : كان نقش خاتم سليمان بن داود لا إله إلا الله محمد رسول الله " وحكى يحيى بن أبي عمرو السيباني أن سليمان وجد خاتمه بعسقلان ، فمشى منها إلى بيت المقدس تواضعاً لله تعالى . قال ابن عباس وغيره : ثم إن سليمان لما رد الله عليه ملكه ، أخذ صخراً الذي أخذ خاتمه ، ونقر له صخرة وأدخله فيها ، وسد عليه بأخرى وأوثقها بالحديد والرصاص ، وختم عليها بخاتمه وألقاها في البحر ،وقال : هذا محبسك إلى يوم القيامة . وقال علي رضي الله عنه : لما أخذ سليمان الخاتم ، أقبلت إليه الشياطين والجن والإنس والطير والوحش والريح ، وهرب الشيطان الذي خلف في أهله ، فأتى جزيرة في البحر ، فبعث إليه الشياطين فقالوا : لا نقدر عليه ، ولكنه يرد عينا في الجزيرة في كل سبعة أيام يوماً ، ولا نقدر عليه حتى يسكر ! قال : فنزح سليمان ماءها وجعل فيها خمراً ، فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر ، فقال : والله إنك لشراب طيب إلا أنك تطيشين الحليم ، وتزيدين الجاهل جهلاً . ثم عطش عطشاً شديداً ثم أتاه فقال : مثل مقالته ، ثم شربها فغلبت على عقله ، فأروه الخاتم فقال : سمعاً وطاعة . فأتوا به سليمان فأوثقه وبعث به إلى جبل ، فذكروا أنه جبل الدخان فقالوا : إن الدخان الذي ترون من نفسه ، والماء الذي يخرج من الجبل من بوله . وقال مجاهد : اسم ذلك الشيطان آصف . وقال السدي اسمه حبقيق ، فالله أعلم . وقد ضعف هذا القول من حيث إن الشيطان لا يتصور بصورة الأنبياء ، ثم من المحال أن يلتبس على أهل مملكة سليمان الشيطام بسليمان حتى يظنوا أنهم مع نبيهم في حق ، وهم مع الشيطان في باطل . وقيل : إن الجسد ولد ولد لسليمان ، وأنه لما ولد اجتمعت الشياطين ، وقال بعضهم لبعض : إن عاش له ابن لم ننفك مما نحن فيه من البلاء والسخرة ، فتعالوا نقتل ولده أو نخبله . فعلم سليمان بذلك فأمر الريح حتى حملته إلى السحاب ، وغدا ابنه في السحاب خوفاً من مضرة الشياطين ، فعاقبه الله بخوفه من الشياطين ، فلم يشع إلا وقد وقع على كرسيه ميتاً . قال معناه الشعبي . فهو الجسد الذي قال الله تعالى : " وألقينا على كرسيه جسداً " .
وحكى النقاش وغيره : إن أكثر ما وطىء سليمان جواربه طلباً للولد ، فولد له نصف إنسان ، فهو كان الجسد الملقى على كرسيه جاءت به القابلة فألقته هناك . وفي صحيح البخاري و مسلم " عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال سليمان لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ، فقال له صاحبه قل إن شاء الله ، فلم يقل إن شاء الله فطاف عليهن جميعاً فلم تحمل منهن إلى امرأة واحدة جاءت بشق رجل ، وأيم الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون " وقيل : إن الجسد هو آصف بن برخيا الصديق كاتب سليمان ، وذلك أن سليمان لما فتن سقط الخاتم من يده وكان فيه ملكه ، فأعاده إلى يده فسقط فأيقن بالفتنة ، فقال له آصف : إنك مفتون ولذلك لا يتماسك في يدك ، ففر إلى الله تعالى تائباً من ذلك ، وأنا أقوم مقامك في عالمك إلى أن يتوب الله عليك ، ولك من حين فتنت أربعة عشر يوماً . ففر سليمان هارباً إلى ربه ، وأخذ آصف الخاتم فوضعه في يده فثبت ، وكان عنده علم من الكتاب . وقام آصف في ملك سليمان وعياله ، يسير بسيره ويعمل بعمله ، إلى أن رجع سليمان إلى منزله تائباً إلى الله تعالى ، ورد الله عليه ملكه ، فأقام آصف في مجلسه ، وجلس على كرسيه وأخذ الخاتم . وقيل : إن الجسد كان سليمان نفسه ، وذلك أنه مرض مرضاً شديداً حتى صار جسداً . وقد يوصف به المريض المضنى فيقال : كالجسد الملقى .
صفة كرسي سليمان وملكه
روى عن ابن عباس قال : كان سليمان يوضع له ستمائة كرسي ، يم يجيء أشراف الناس فيجلسون مما يليه ، ثم يأتي أشراف الجن فيجلسون مما يلي الإنس ، ثم يدعو الطير فتظلهم ، ثم يدعو الريح فتقلهم ، وتسير بالغداة الواحدة مسيرة شهر . وقال وهب و كعب وغيرهما : إن سليمان عليه السلام لما ملك بعد أبيه ، أمر باتخاذ كرسي ليجلس عليه للقضاء ، وأمر أن يعمل بديعاً مهولاً بحيث إذا رآه مبطل أو شاهد زور ارتدع وتهيب ، فأمر أن يعمل من أثياب الفيلة مفصصة بالدر والياقوت والزبرجد ، وأن يحف بنخيل الذهب ، فحف بأربع نخلات من ذهب ، شماريخها الياقوت الأحمر والزمرد الأخضر ، على رأس نخلتين منهما طاووسان من ذهب ، وعلى رأس نخلتين نسران من ذهب بعضها مقابل لبعض ، وجعلوا من جنبي الكرسي أسدين من ذهب ، على رأس كل واحد منهما عمود من الزمرد الأخضر . وقد عقدوا على النخلات أشجار كروم من الذهب الأحمر ، واتخذوا عناقيدها من الياقوت الأحمر ، بحيث أظل عريش الكروم النخل والكرسي . وكان سليمان عليه السلام إذا أراد صعوده وضع قدميه على الدرجة السفلى ، فيستدير الكرسي كله بما فيه دوران الرحى المسرعة ، وتنشر تلك النسور والطواويس أجنحتها ، ويبسط الأسدان أيديهما ، ويضربان الأرض بأذنابهما . وكذلك يفعل في كل درجة يصعدها سليمان ، فإذا استوى بأعلاه أخذ النسران اللذان على النخلتين تاج سليمان فوضعاه على رأسه ، ثم يستدير الكرسي بما فيه ، ويدور معه النسران والطاووسان والأسدان مائلان برؤوسهما إلى سليمان ، وينضحن عليه من أجوافهن المسك والعنبر ، ثم تناوله حمامة من ذهب قائمة على عمود من أعمدة الجواهر فوق الكرسي التوراة ، فيفتحها سليمان عليه السلام ويقرؤها على الناس ويدعوهم إلى فصل القضاء . قالوا : ويجلس عظماء بني إسرائيل على كراسي الذهب المفصصة بالجواهر ، وهي ألف كرسي عن يمينه ، ويجلس عظماء الجن على كراسي الفضة عن يساره وهي ألف كرسي ، ثم تحف بهم الطير تظلهم ، ويتقدم الناس لفصل القضاء . فإذا تقدمت الشهود للشهادات ، دار الكرسي بما فيه وعليه دوران الرحى المسرعة ، ويبسط الأسدان أيديهما ويضربان الأرض بأذنابهما ، وينشر النسران والطاووسان أجنحتهما ، فتفزع الشهود فلا يشهدون إلا بالحق . وقيل : إن الذي كان يدور بذلك الكرسي تنين من ذهب ذلك الكرسي عليه ، وهو عظم مما عمله له صخر الجني ، فإذا أحست بدورانه تلك النسور والأسد والطواويس التي في أسفل الكرسي إلى أعلاه درن معه ، فإذا وقفن وقفن كلهن على رأس سليمان وهو جالس ، ثم ينضحن جميعاً على رأسه ما في أجوافهن من المسك والعنبر . فلما توفي سليمان بعث بختنصر فأخذ الكرسي فحمله إلى أنطاكية ، فأراد أن يصعد إليه ولم يكن له علم كيف يصعد إليه ، فلما وضع رجله ضرب الأسد رجله فكسرها ، وكان سليمان إذا صعد وضع قدميه جميعاً . ومات بختنصر وحمل الكرسي إلى بيت المقدس ، فلم يستطع قط ملك أن يجلس عليه ، ولكن لم يدر أحد عاقبة أمره ، ولعله رفع .
قوله تعالى : " ثم أناب " أي رجع إلى الله وتاب . وقد تقدم .
يقول تعالى: "ولقد فتنا سليمان" أي اختبرناه بأن سلبناه الملك "وألقينا على كرسيه جسداً" قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم يعني شيطاناً "ثم أناب" أي رجع إلى ملكه وسلطانه وأبهته. قال ابن جرير, وكان اسم ذلك الشيطان صخراً قاله ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة وقيل آصف قاله مجاهد وقيل صرد قاله مجاهد أيضاً وقيل حقيق قاله السدي وقد ذكروا هذه القصة مبسوطة ومختصرة, وقد قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال أمر سليمان عليه الصلاة والسلام ببناء بيت المقدس فقيل له ابنه ولا يسمع فيه صوت حديد, قال فطلب ذلك فلم يقدر عليه فقيل إن شيطاناً في البحر يقال له صخر شبه المارد قال فطلبه وكانت في البحر عين يردها في كل سبعة أيام مرة فنزح ماءها وجعل فيها خمراً فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر فقال: إنك لشراب طيب إلا أنك تصبين الحليم وتزيدين الجاهل جهلاً, قال ثم رجع حتى عطش عطشاً شديداً ثم أتاها فقال: إنك لشراب طيب إلا أنك تصبين الحليم وتزيدين الجاهل جهلاً, قال ثم شربها حتى غلب على عقله قال فأري الخاتم أو ختم به بين كتفيه فذل, قال وكان ملكه في خاتمه فأتى به سليمان عليه الصلاة والسلام فقال إنا قد أمرنا ببناء هذا البيت وقيل لنا لا يسمعن فيه صوت حديد قال فأتى ببيض الهدهد فجعل عليه زجاجة فجاء الهدهد فدار حولها فجعل يرى بيضه ولا يقدر عليه فذهب فجاء بالماس فوضعه عليها فقطعها به حتى أفضى إلى بيضه فأخذ الماس فجعلوا يقطعون به الحجارة وكان سليمان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يدخل الخلاء أو الحمام لم يدخل بالخاتم فانطلق يوماً إلى الحمام, وذلك الشيطان صخر معه وذلك عند مقارفة قارف فيها بعض نسائه قال فدخل الحمام وأعطى الشيطان خاتمه فألقاه في البحر فالتقمته سمكة ونزع ملك سليمان منه وألقي على الشيطان شبه سليمان قال فجاء فقعد على كرسيه وسريره وسلط على ملك سليمان كله غير نسائه فجعل يقضي بينهم وجعلوا ينكرون منه أشياء حتى قالوا فتن نبي الله وكان فيهم رجل يشبهونه بعمر بن الخطاب رضي الله عنه في القوة فقال والله لأجربنه قال: فقال يا نبي الله وهو لا يرى إلا أنه نبي الله أحدنا تصيبه الجنابة في الليلة الباردة فيدع الغسل عمداً حتى تطلع الشمس أترى عليه بأساً قال: لا فبينما هو كذلك أربعين ليلة إذ وجد نبي الله خاتمه في بطن سمكة فأقبل فجعل لا يستقبله جني ولا طير إلا سجد له حتى انتهى إليهم "وألقينا على كرسيه جسداً" قال هو الشيطان صخر.
وقال السدي "ولقد فتنا سليمان" أي ابتلينا سليمان "وألقينا على كرسيه جسداً" قال شيطاناً جلس على كرسيه أربعين يوماً قال كان لسيمان عليه الصلاة والسلام مائة امرأة وكانت امرأة منهم يقال لها جرادة وهي آثر نسائه وآمنهن عنده وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نزع خاتمه ولم يأمن عليه أحداً من الناس غيرها فأعطاها يوماً خاتمه ودخل الخلاء, فخرج الشيطان في صورته فقال هاتي الخاتم فأعطته فجاء حتى جلس على مجلس سليمان عليه الصلاة والسلام وخرج سليمان بعد ذلك فسألها أن تعطيه خاتمه فقالت: ألم تأخذه قبل ؟ قال: لا وخرج وكأنه تائه ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوماً قال فأنكر الناس أحكامه فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم فجاءوا حتى دخلوا على نسائه فقالوا لهن إنا قد أنكرنا هذا فإن كان سليمان فقد ذهب عقله وأنكرنا أحكامه قال فبكى النساء عند ذلك قال فأقبلوا يمشون حتى أتوه فأحدقوا به ثم نشروا يقرءون التوارة قال فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه ثم طار حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت من حيتان البحر وقال وأقبل سليمان عليه الصلاة والسلام في حاله التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع وقد اشتد جوعه فسألهم من صيدهم وقال إني أنا سليمان فقام إليه بعضهم فضربه بعصى فشجه فجعل يغسل دمه وهو على شاطىء البحر فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه فقالوا بئس ما صنعت حيث ضربته قال إنه زعم أنه سليمان, قال فأعطوه سمكتين مما قد مذر عندهم ولم يشغله ما كان به من الضرب حتى قام إلى شاطىء البحر فشق بطونهما فجعل يغسل فوجد خاتمه في بطن إحداهما فأخذه فلبسه فرد الله عليه بهاءه وملكه فجاءت الطير حتى حامت عليه فعرف القوم أنه سليمان عليه الصلاة والسلام فقام القوم يعتذرون مما صنعوا فقال ما أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم كان هذا الأمر لا بد منه قال فجاء حتى أتى ملكه وأرسل إلى الشيطان فجيء به فأمر به فجعل في صندوق من حديد ثم أطبق عليه وقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه ثم أمر به فألقي في البحر فهو فيه حتى تقوم الساعة وكان اسمه حقيق قال وسخر الله له الريح ولم تكن سخرت له قبل ذلك وهو قوله: "وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب".
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تبارك وتعالى: "وألقينا على كرسيه جسداً" قال شيطاناً يقال له آصف فقال له سليمان عليه الصلاة والسلام كيف تفتنون الناس ؟ قال أرني خاتمك أخبرك فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر فساح سليمان عليه الصلاة والسلام وذهب ملكه وقعد آصف على كرسيه ومنعه الله تبارك وتعالى من نساء سليمان فلم يقربهن ولم يقربنه وأنكرنه قال فكان سليمان عليه الصلاة والسلام يستطعم فيقول أتعرفوني ؟ أطعموني أنا سليمان فيكذبونه حتى أعطته امرأة يوماً حوتاً ففتح بطنه فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه وفر آصف فدخل البحر. وأرى هذه كلها من الإسرائيليات, ومن أنكرها ما قاله ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة وعلي بن محمد قالوا: حدثنا أبو معاوية أخبرنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: "وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب" قال أراد سليمان عليه الصلاة والسلام أن يدخل الخلاء فأعطى الجرادة خاتمه وكانت الجرادة امرأته وكانت أحب نسائه إليه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها هاتي خاتمي فأعطته إياه فلما لبسه دانت له الإنس والجن والشياطين فلما خرج سليمان عليه السلام من الخلاء قال لها هاتي خاتمي قالت أعطيته سليمان قال أنا سليمان قال كذبت ما أنت بسليمان فجعل لا يأتي أحداً يقول له أنا سليمان إلا كذبه حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة فلما رأى ذلك سليمان عرف أنه من أمر الله عز وجل قال وقام الشيطان يحكم بين الناس فلما أراد الله تبارك وتعالى أن يرد على سليمان سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان قال فأرسلوا إلى نساء سليمان فقالوا لهن: أتنكرن من سليمان شيئاً, قلن نعم إنه يأتينا ونحن حيض وما كان يأتينا قبل ذلك فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن أمره قد انقطع فكتبوا كتباً فيها سحر وكفر فدفنوها تحت كرسي سليمان ثم أثاروها وقرءوها على الناس وقالوا بهذا كان يظهر سليمان على الناس ويغلبهم فأكفر الناس سليمان عليه الصلاة والسلام فلم يزالوا يكفرونه وبعث ذلك الشيطان بالخاتم فطرحه في البحر فتلقته سمكة فأخذته, وكان سليمان عليه السلام يحمل على شط البحر بالأجر فجاء رجل فاشترى سمكاً فيه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فدعا سليمان عليه الصلاة والسلام فقال: تحمل لي هذا السمك ؟ فقال نعم قال بكم ؟ قال بسمكة من هذا السمك قال فحمل سليمان عليه الصلاة والسلام السمك ثم انطلق إلى منزله فلما انتهى الرجل إلى بابه أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فأخذها سليمان عليه الصلاة والسلام فشق بطنها فإذا بالخاتم في جوفها فأخذه فلبسه, قال فلما لبسه دانت له الجن والإنس والشياطين وعاد إلى حاله وهرب الشيطان حتى لحق بجزيرة من جزائر البحر فأرسل سليمان عليه الصلاة والسلام في طلبه وكان شيطاناً مريداً فجعلوا يطلبونه ولا يقدرون عليه حتى وجدوه يوماً نائماً فجاؤوا فبنوا عليه بنياناً من رصاص فاستيقظ فوثب فجعل لا يثب في مكان من البيت إلا انماط معه من الرصاص, قال فأخذوه فأوثقوه وجاؤوا به إلى سليمان عليه الصلاة والسلام فأمر به فنقر له تخت من رخام ثم أدخل في جوفه ثم سد بالنحاس ثم أمر به فطرح في البحر فذلك قوله تبارك وتعالى: "ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب" يعني الشيطان الذي كان سلط عليه, إسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قوي, ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما إن صح عنه من أهل الكتاب وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه الصلاة والسلام فالظاهر أنهم يكذبون عليه, ولهذا كان في السياق منكرات من أشدها ذكر النساء فإن المشهور عن مجاهد وغير واحد من أئمة السلف أن ذلك الجني لم يسلط على نساء سليمان بل عصمهن الله عز وجل منه تشريفاً وتكريماً لنبيه عليه السلام. وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف رضي الله عنهم كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
قال يحيى بن أبي عروبة الشيباني: وجد سليمان خاتمه بعسقلان فمشى في خرقة إلى بيت المقدس تواضعاً لله عز وجل, رواه ابن أبي حاتم. وقد روى ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار في صفة كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام خبراً عجيباً فقال حدثنا أبي رحمه الله حدثنا أبو صالح كاتب الليث أخبرني أبو إسحاق المصري عن كعب الأحبار أنه لما فرغ من حديث إرم ذات العماد قال له معاوية: يا أبا إسحاق أخبرني عن كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام وما كان عليه ومن أي شيء هو, فقال كان كرسي سليمان من أنياب الفيلة مرصعاً بالدر والياقوت والزبرجد واللؤلؤ, وقد جعل له درجة منها مفصصاً بالدر والياقوت والزبرجد ثم أمر بالكرسي فحف من جانبيه بالنخل نخل من ذهب شماريخها من ياقوت وزبرجد ولؤلؤ, وجعل على رؤوس النخل التي على يمين الكرسي طواويس من ذهب ثم جعل على رؤوس النخل التي على يسار الكرسي نسوراً من ذهب مقابلة الطواويس, وجعل على يمين الدرجة الأولى شجرتي صنوبر من ذهب وعلى يسارها أسدان من ذهب وعلى رؤوس الأسدين عمودان من زبرجد, وجعل من جانبي الكرسي كرم من ذهب قد أظلتا الكرسي وجعل عناقيدهما دراً وياقوتاً أحمر, ثم جعل فوق درج الكرسي أسدان عظيمان من ذهب مجوفان محشوان مسكاً وعنبراً, فإذا أراد سليمان عليه السلام أن يصعد على كرسيه استدار الأسدان ساعة ثم يقعان فينضحان ما في أجوافهما من المسك والعنبر حول كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام ثم يوضع منبران من ذهب واحد لخليفته والاخر لرئيس أحبار بني إسرائيل ذلك الزمان, ثم يوضع أمام كرسيه سبعون منبراً من ذهب عليها سبعون قاضياً من بني إسرائيل وعلمائهم وأهل الشرف منهم والطول, ومن خلف تلك المنابر كلها خمسة وثلاثون منبراً من ذهب ليس عليها أحد فإذا أراد أن يصعد على كرسيه وضع قدميه على الدرجة السفلى فاستدار الكرسي كله بما فيه وما عليه ويبسط الأسد يده اليمنى وينشر النسر جناحه الأيسر ثم يصعد سليمان عليه الصلاة والسلام على الدرجة الثانية فيبسط الأسد يده اليسرى وينشر النسر جناحه الأيمن فإذا استوى سليمان عليه الصلاة والسلام على الدرجة الثالثة وقعد على الكرسي أخذ نسر من تلك النسور عظيم تاج سليمان عليه الصلاة والسلام فوضعه على رأسه فإذا وضعه على رأسه استدار الكرسي بما فيه كما تدور الرحى المسرعة, فقال معاوية رضي الله عنه: وما الذي يديره يا أبا إسحاق ؟ قال: تنين من ذهب ذلك الكرسي عليه وهو عظيم مما عمله صخر الجني فإذا أحست بدورانه دارت تلك الأسود والنسور والطواويس التي في أسفل الكرسي درن إلى أعلاه فإذا وقف وقفن كلهن منكسات رؤوسهن على رأس سليمان عليه الصلاة والسلام وهو جالس ثم ينضحن جميعاً ما في أجوافهن من المسك والعنبر على رأس سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام. ثم تتناول حمامة من ذهب واقفة على عمود من جوهر التوارة فتجعلها في يده فيقرؤها سليمان عليه الصلاة والسلام على الناس. وذكر تمام الخبر وهو غريب جداً "قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب" قال بعضهم لا ينبغي لأحد من بعدي أي لا يصلح لأحد أن يسلبنيه بعدي كما كان من قضية الجسد الذي ألقي على كرسيه لا أنه يحجر على من بعده من الناس والصحيح أنه سأل من الله تعالى ملكاً لا يكون لأحد من بعده من البشر مثله وهذا هو ظاهر السياق من الاية وبذلك وردت الأحاديث الصحيحة من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري عند تفسير هذه الاية: حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا روح ومحمد بن جعفر عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عفريتاً من الجن تفلت علي البارحة ـ أو كلمة نحوها ـ ليقطع علي الصلاة فأمكنني الله تبارك وتعالى منه وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان عليه الصلاة والسلام "رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي" قال روح فرده خاسئاً "وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث شعبة به. وقال مسلم في صحيحه حدثنا محمد بن سلمة المرادي حدثنا عبد الله بن وهب عن معاوية بن صالح حدثني ربيعة بن زيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فسمعناه يقول: "أعوذ بالله منك ـ ثم قال ـ ألعنك بلعنة الله ثلاثاً وبسط يده كأنه يتناول شيئاً فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله سمعناك تقول في الصلاة شيئاً لم نسمعك تقوله قبل ذلك ورأيناك بسطت يدك قال صلى الله عليه وسلم: إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت أعوذ بالله منك ثلاث مرات ثم قلت ألعنك بلعنة الله التامة فلم يتأخر ثلاث مرات ثم أردت أن آخذه والله لولا دعوة سليمان لأصبح موثقاً يلعب به صبيان أهل المدينة".
وقال الإمام أحمد حدثنا أبو أحمد حدثنا ميسرة بن معبد حدثنا أبو عبيد حاجب سليمان قال رأيت عطاء بن يزيد الليثي قائماً يصلي فذهبت أمر بين يديه فردني ثم قال حدثني أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يصلي صلاة الصبح وهو خلفه فقرأ فالتبست عليه القراءة فلما فرغ من صلاته قال: "لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين ـ الإبهام والتي تليها ـ ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطاً بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل" وقد روى أبو داود منه "من استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل" عن أحمد بن أبي سريج عن أبي أحمد الزبيري به.
وقال الإمام أحمد حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري حدثنا الأوزاعي حدثني ربيعة بن يزيد بن عبد الله الديلمي قال دخلت على عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وهو في حائط له بالطائف يقال له الوهط وهو مخاصر فتى من قريش يزن بشرب الخمر فقلت بلغني عنك حديث أنه "من شرب شربة من الخمر لم يقبل الله عز وجل له توبة أربعين صباحاً, وإن الشقي من شقي في بطن أمه, وإنه من أتى البيت المقدس لا ينهزه إلا الصلاة فيه خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه" فلما سمع الفتى ذكر الخمر اجتذب يده من يده ثم انطلق فقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما إني لا أحل لأحد أن يقول علي ما لم أقل سمعت رسول الله يقول: "من شرب الخمر شربة لا تقبل له صلاة أربعين صباحاً فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد كان حقاً على الله تعالى أن يسقيه من طينة الخبال يوم القيامة" قال وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله عز وجل" وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن سليمان عليه السلام سأل الله تعالى ثلاثاً فأعطاه اثنتين ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة, سأله حكماً يصادف حكمه فأعطاه إياه وسأله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده, فأعطاه إياه وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه فنحن نرجو أن يكون الله عز وجل قد أعطانا إياها" وقد روى هذا الفصل الأخير من هذا الحديث النسائي وابن ماجه من طرق عن عبد الله بن فيروز الديلمي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: "إن سليمان عليه الصلاة والسلام لما بنى بيت المقدس سأل ربه عز وجل خلالاً ثلاثاً" وذكره وقد روي من حديث رافع بن عمير رضي الله عنه بإسناد وسياق غريبين. فقال الطبراني حدثنا محمد بن الحسن بن قتيبة العسقلاني حدثنا محمد بن أيوب بن سويد حدثني أبي حدثنا إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي الزاهرية عن رافع بن عمير قال سمعت رسول الله يقول: "قال الله عز وجل لداود عليه الصلاة والسلام ابن لي بيتاً في الأرض فبنى داود بيتاً لنفسه قبل البيت الذي أمر به فأوحى الله إليه يا داود نصبت بيتك قبل بيتي قال يا رب هكذا قضيت من ملك استأثر ثم أخذ في بناء المسجد فلما تم السور سقط ثلاثاً فشكا ذلك إلى الله عز وجل فقال يا داود إنك لا تصلح أن تبني لي بيتاً قال ولم يارب ؟ قال لما جرى على يديك من الدماء, قال يا رب أو ما كان ذلك في هواك ومحبتك ؟ قال بلى ولكنهم عبادي وأنا أرحمهم فشق ذلك عليه فأوحى الله إليه لا تحزن فإني سأقضي بناءه على يدي ابنك سليمان فلما مات داود أخذ سليمان في بنائه ولما تم قرب القرابين وذبح الذبائح وجمع بني إسرائيل فأوحى الله إليه قد أرى سرورك ببنيان بيتي فسلني أعطك قال أسألك ثلاث خصال حكماً يصادف حكمك وملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي ومن أتى هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أما الثنتان فقد أعطيهما وأنا أرجو أن يكون قد أعطي الثالثة" وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد حدثنا عمر بن راشد اليمامي حدثنا إياس بن سلمة الأكوع عن أبيه رضي الله عنه قال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلا استفتحه بـ "سبحان الله ربي العلي الأعلى الوهاب" وقد قال أبو عبيد: حدثنا علي بن ثابت عن جعفر بن برقان عن صالح بن سمار قال لما مات نبي الله داود عليه السلام أوحى الله تبارك وتعالى إلى ابنه سليمان عليه الصلاة والسلام أن سلني حاجتك قال أسألك أن تجعل لي قلباً يخشاك كما كان قلب أبي وأن تجعل قلبي يحبك كما كان قلب أبي فقال الله عز وجل: أرسلت إلى عبدي وسألته حاجته فكانت حاجته أن أجعل قلبه يخشاني وأن أجعل قلبه يحبني, لأهبن له ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده.
قال الله جلت عظمته: "فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب" والتي بعدها قال فأعطاه ما أعطاه وفي الاخرة لا حساب عليه هكذا أورده أبو القاسم بن عساكر في ترجمة سليمان عليه الصلاة والسلام في تاريخه, وروي عن بعض السلف أنه قال بلغني عن داود عليه الصلاة والسلام أنه قال: إلهي كن لسليمان كما كنت لي, فأوحى الله عز وجل إليه: أن قل لسليمان أن يكون لي كما كنت لي أكن له كما كنت لك. وقوله تبارك وتعالى: "فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب" قال الحسن البصري رحمه الله لما عقر سليمان عليه الصلاة والسلام الخيل غضباً لله عز وجل عوضه الله تعالى ما هو خير منها وأسرع, الريح التي غدوها شهر ورواحها شهر.
وقوله جل وعلا: "حيث أصاب" أي حيث أراد من البلاد. وقوله جل جلاله: "والشياطين كل بناء وغواص" أي منهم ما هو مستعمل في الأبنية الهائلة من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات إلى غير ذلك من الأعمال الشاقة التي لا يقدر عليها البشر, وطائفة غواصون في البحار يستخرجون ما فيها من اللالىء والجواهر والأشياء النفيسة التي لا توجد إلا فيها "وآخرين مقرنين في الأصفاد" أي موثقون في الأغلال والأكبال ممن قد تمرد وعصى وامتنع من العمل وأبى, أو قد أساء في صنيعه واعتدى.
وقوله عز وجل: "هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب" أي هذا الذي أعطيناك من الملك التام والسلطان الكامل كما سألتنا فأعط من شئت واحرم من شئت لا حساب عليك أي مهما فعلت فهو جائز لك احكم بما شئت فهو صواب وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خير بين أن يكون عبداً رسولاً ـ وهو الذي يفعل ما يؤمر به وإنما هو قاسم يقسم بين الناس كما أمره الله تعالى به ـ وبين أن يكون نبياً ملكاً يعطي من يشاء ويمنع من يشاء بلا حساب ولا جناح, اختار المنزلة الأولى بعدما استشار جبريل عليه الصلاة والسلام فقال له تواضع فاختار المنزلة الأولى لأنها أرفع قدراً عند الله عز وجل وأعلى منزلة في المعاد وإن كانت المنزلة الثانية وهي النبوة مع الملك عظيمة أيضاً في الدنيا والاخرة, ولهذا لما ذكر تبارك وتعالى ما أعطى سليمان عليه الصلاة والسلام في الدنيا نبه تعالى على أنه ذو حظ عند الله يوم القيامة أيضاً فقال تعالى: "وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب" أي في الدنيا والاخرة.
قوله: 34- "ولقد فتنا سليمان" أي ابتليناه واختبرناه. قال الواحدي. قال أكثر المفسرين: تزوج سليمان امرأة من بنات الملوك، فعبدت الصنم في داره ولم يعلم بذلك سليمان، فامتحن بسبب غفلته عن ذل. وقيل إن سبب الفتنة أنه تزوج سليمان امرأة يقال لها جرادة وكان يحبها حباً شديداً، فاختصم إليه فريقان: أحدهما من أهل جرادة، فأحب أن يكون القضاء لهم، ثم قضى بينهم بالحق. وقيل إن السبب أنه احتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يقضي بين أحد. وقيل إنه تزوج جرادة هذه وهي مشركة لأنه عرض عليها الإسلام فقالت: اقتلني ولا أسلم. وقال كعب الأحبار: إنه لما ظلم الخيل بالقتل سلب ملكه. وقال الحسن: إنه قارب بعض نسائه في شيء من حيض أو غيره. وقيل إنه أمر أن لا يتزوج امرأة إلا من بني إسرائيل فتزوج امرأة من غيرهم. وقيل إن سبب فتنته ما ثبت في الحديث الصحيح أنه قال: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تأتي كل واحدة بفارس يقاتل في سبيل الله، ولم يقل إن شاء الله. وقيل غير ذلك. ثم بين سبحانه ما عاقبه به فقال: "وألقينا على كرسيه جسداً" انتصاب جسداً على أنه مفعول ألقينا، وقيل انتصابه على الحال على تأويله بالمشتق: أي ضعيفاً أو فارغاً، والأول أولى. قال أكثر المفسرين: هذا الجسد الذي ألقاه الله على كرسي سليمان هو شيطان اسمه صخر، وكان متمرداً عليه غير داخل في طاعته، ألقى الله شبه سليمان عليه وما زال يحتال حتى ظفر بخاتم سليمان، وذلك عند دخول سليمان الكنيف لأنه كان يلقيه إذا دخل الكنيف، فجاء صخر في صورة سليمان فأخذ الخاتم من امرأة من نساء سليمان، فقعد على سرير سليمان وأقام أربعين يوماً على ملكه وسليمان هارب. وقال مجاهد: إن شيطاناً قال له سليمان: كيف تفتنون الناس؟ قال: أرني خاتمك أخبرك، فلما أعطاه إياه نبذه في البحر، فذهب ملكه وقعد الشيطان على كرسيه ومنعه الله نساء سليمان فلم يقربهن، وكان سليمان يستطعم فيقول: أتعرفونني أطعموني؟ فيكذبوه حتى أعطته امرأة يوماً حوتاً فشق بطنه فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه، وهو معنى قوله: "ثم أناب" أي رجع إلى ملكه بعد أربعين يوماً. وقيل معنى أناب: رجع إلى الله بالتوبة من ذنبه، وهذا هو الصواب.
34. قوله عز وجل: " ولقد فتنا سليمان "، اختبرناه وابتليناه بسلب ملكه.
وكان سبب ذلك ما ذكر محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه قال: سمع سليمان عليه السلام بمدينة في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون، بها ملك عظيم الشأن، لم يكن للناس إليه سبيلاً لمكانه في البحر، وكان الله قد آتى سليمان في ملكه سلطاناً لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر، إنما يركب إليه الريح، فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء، حتى نزل بها بجنوده من الجن والإنس، فقتل ملكها واستولى واستفاء وسبى ما فيها، وأصاب فيما أصاب بنتاً لذلك الملك، يقال لها: جرادة، لم ير مثلها حسناً وجمالاً، فاصطفاها لنفسه، ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على جفاء منها وقلة فقه، وأحبها حباً لم يحبه شيئاً من نسائه، وكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنها ولا يرقأ دمعها، فشق ذلك على سليمان فقال لها: ويحك ما هذا الحزن الذي لا يذهب، والدمع الذي لا يرقأ؟ قالت: إن أبي أذكره وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصابه فيحزنني ذلك، قال سليمان: فقد أبدلك الله به ملكاً هو أعظم من ملكه، وسلطاناً هو أعظم من سلطانه، وهداك للإسلام وهو خير من ذلك كله، قالت: إن ذلك كذلك، ولكني إذا ذكرته أصابني ما ترى من الحزن، فلو أنك أمرت الشياطين، فصوروا صورته في داري التي أنا فيها أراها بكرة وعشياً لرجوت أن يذهب ذلك حزني، وان يسلي عني بعض ما أجد في نفسي، فأمر سليمان الشياطين، فقال: مثلوا لها صورة أبيها في دارها حتى لا تنكر منه شيئاً، فمثلوه لها حتى نظرت إلى أبيها بعينه إلا أنه لا روح فيه، فعمدت إليه حين صنعوه فأزرته وقمصته وعممته وردته بمثل ثيابه التي كان يلبس، ثم كانت إذا خرج سليمان [من دارها] تغدو عليه في ولائدها حتى تسجد له، ويسجدن له كما كانت تصنع به في ملكه، وتروح كل عشية بمثل ذلك وسليمان لا يعلم بشيء من ذلك أربعين صباحاً، وبلغ ذلك آصف بن برخيا، وكان صديقاً، وكان لا يرد عن أبواب سليمان، أي ساعة أراد دخول شيء من بيوته دخل، حاضراً كان سليمان أو غائباً، فأتاه فقال: يا نبي الله كبر سني، ورق عظمي، ونفد عمري، وقد حان مني الذهاب، فقد أحببت أن أقوم مقاماً قبل الموت أذكر فيه من مضى من أنبياء الله
وأثني عليهم بعلمي فيهم، وأعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم، فقال: افعل، فجمع له سليمان الناس، فقام فيهم خطيباً فذكر من مضى من أنبياء الله تعالى، فأثنى على كل نبي بما فيه، فذكر ما فضله الله حتى انتهى إلى سليمان، فقال: ما أحلمك في صغرك، وأورعك في صغرك، وأفضلك في صغرك، وأحكم أمرك في صغرك، وأبعدك من كل ما تكره في صغرك، ثم انصرف، فوجد سليمان عليه السلام في نفسه من ذلك حتى ملأه غضباً، فلما دخل سليمان داره أرسل إليه، فقال: يا آصف ذكرت من مضى من أنبياء الله، فأثنيت عليهم خيراً في كل زمانهم، وعلى كل حال من أمرهم، فلما ذكرتني جعلت تثني علي بخير في صغري، وسكت عما سوى ذلك من أمري في كبري؟ فما الذي أحدثت في آخر أمري؟ فقال: إن غير الله ليعبد في دارك منذ أربعين صباحاً في هوى امرأة، فقال: في داري؟ فقال: في دارك، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد عرفت أنك ما قلت الذي قلت إلا عن شيء بلغك، ثم رجع سليمان إلى داره وكسر ذلك الصنم، وعاقب تلك المرأة وولائدها، ثم أمر بثياب الطهرة فأتى بها وهي ثياب لا يغزلها إلا الأبكار، ولا ينسجها إلا الأبكار، ولا يغسلها إلا الأبكار، لم تمسسها امرأة قد رأت الدم، فلبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده، فأمر برماد ففرش له، ثم أقبل تائباً إلى الله عز وجل، حتى جلس على ذلك الرماد وتمعك فيه بثيابه تذللاً لله تعالى، وتضرعاً إليه يبكي ويدعو، ويستغفر مما كان في داره، فلم يزل كذلك يومه حتى أمسى، ثم رجع إلى داره، وكانت له أم ولد يقال لها الأمينة، كان إذا دخل مذهبه أو أراد إصابة امرأة من نسائه وضع خاتمة عندها حتى يتطهر، وكان لا يمس خاتمه إلا وهو طاهر، وكان ملكه في خاتمه فوضعه يوماً عندها، ثم دخل مذهبه فأتاها الشيطان صاحب البحر، وإسمه صخر، على صورة سليمان لا تنكر منه شيئاً، فقال: خاتمي أمينة! فناولته إياه، فجعله في يده ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان، وعكفت عليه الطير والجن والإنس، وخرج سليمان فأتى الأمينة وقد غيرت حاله، وهيئته عند كل من رآه، فقال: يا أمينة خاتمي، قالت: من أنت؟ قال: أنا سليمان بن داود، قالت: كذبت فقد جاء سليمان فأخذ خاتمه وهو جالس على سرير ملكه، فعرف سليمان أن خطيئته قد أدركته، فخرج فجعل يقف على الدار من دور بني إسرائيل فيقول: أنا سليمان بن داود، فيحثون عليه التراب ويسبونه، ويقولون انظروا إلى هذا المجنون أي شيء يقول يزعم أنه سليمان، فلما رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر، فكان ينقل الحيتان لأصحاب البحر إلى السوق فيعطونه كل يوم سمكتين، فإذا أمسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة وشوى الأخرى فأكلها، فمكث بذلك أربعين صباحاً عدة ما كان عبد الوثن في داره، فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم عدو الله الشيطان في تلك الأربعين، فقال آصف: يا معشر بني إسرائيل هل رأيتم اختلاف حكم ابن داود ما رأيت؟ قالوا: نعم، قال: أمهلوني حتى أدخل على نسائه فأسألهن هل أنكرتن منه في خاصة أمره ما أنكرناه في عامة الناس وعلانيته، فدخل على نسائه، فقال: ويحكن هل أنكرتن من أمر ابن داود ما أنكرنا؟ فقلن: أشده ما يدع منا امرأة في دمها ولا يغتسل من الجنابة، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون إن هذا لهو البلاء المبين ثم خرج على بني إسرائيل فقال: ما في الخاصة أعظم مما في العامة، فلما مضى أربعون صباحاً طار الشيطان عن مجلسه، ثم مر بالبحر فقذف الخاتم فيه، فبلعته سمكة فأخذها بعض الصيادين، وقد عمل له سليمان صدر يومه ذلك، حتى إذا كان العشي أعطاه سمكتيه وأعطاه السمكة التي أخذت الخاتم، وخرج سليمان بسمكتيه، فباع التي ليس في بطنها الخاتم بالأرغفة، ثم عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويها فاستقبله خاتمه في جوفها، فأخذه فجعله في يده، ووقع ساجداً، وعكفت عليه الطير والجن، وأقبل عليه الناس، وعرف الذي كان قد دخل عليه لما كان حدث في داره، فرجع إلى ملكه وأظهر التوبة من ذنبه، وأمر الشياطين فقال: ائتوني بصخر فطلبته الشياطين حتى أخذته، فأتي به وجاؤوا له بصخرة فنقرها فأدخله فيها ثم شد عليه بأخرى، ثم أوثقها بالحديد والرصاص، ثم أمر به فقذف في البحر. هذا حديث وهب .
وقال الحسن : ما كان الله ليسلط الشيطان على نسائه.
وقال السدي : كان سبب فتنة سليمان أنه كان له مائة امرأة، وكانت امرأة منهن يقال لها جرادة هي آثر نسائه وآمنهن عنده، وكان يأتمنها على خاتمه إذا أتى حاجته، فقالت له يوماً: إن أخي كان بينه وبين فلان خصومة، وأنا أحب أن تقضي له إذا جاءك، فقال: نعم، ولم يفعل فابتلي بقوله، فأعطاه خاتمه ودخل المخرج، فجاء الشيطان في صورته فأخذه وجلس على مجلس سليمان، وخرج سليمان عليه السلام فسألها خاتمه فقالت: ألم تأخذه؟ قال: لا، وخرج مكانه ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوماً، فأنكر الناس حكمه، فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم حتى دخلوا على نسائه، فقالوا: إنا قد أنكرنا هذا، فإن كان سليمان فقد ذهب عقله، فبكى النساء عند ذلك فأقبلوا حتى أحدقوا به، ونشروا التوراة فقرؤوها فطار من بين أيديهم، حتى وقع على شرفة، والخاتم معه، ثم طار حتى ذهب إلى البحر، فوقع الخاتم منه في البحر، فابتلعه حوت، وأقبل سليمان حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع قد اشتد جوعه، فاستطعمه من صيده، وقال: إني أنا سليمان، فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجه، فجعل يغسل دمه على شاطئ البحر، فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه، وأعطوه سمكتين مما قد مذر عندهم، فشق بطونها وجعل يغسلهما، فوجد خاتمه في بطن إحداهما، فلبسه فرد الله عليه ملكه وبهاءه.
وحامت عليه الطير فعرف القوم أنه سليمان، فقاموا يعتذرون مما صنعوا، فقال: ما أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم، هذا أمر كائن لا بد منه، ثم جاء حتى أتى مملكته وأمر حتى أتي بالشيطان الذي أخذ خاتمه وجعله في صندوق من حديد، وأطبق عليه بقفل، وختم عليه بخاتمه، وأمر به فالقي في البحر وهو حي كذلك حتى الساعة.
وفي بعض الروايات: أن سليمان لما افتتن سقط الخاتم من يده، وكان فيه ملكه فأعاده سليمان إلى يده فسقط فأيقن سليمان بالفتنة، فأتى آصف فقال لسليمان: إنك مفتون بذنبك، والخاتم لا يتماسك في يدك [أربعة عشر يوماً]، ففر إلى الله تائباً، فإني أقوم مقامك، وأسير بسيرتك إلى أن يتوب الله عليك، فقر سليمان هارباً إلى ربه، وأخذ آصف الخاتم، فوضعه في أصبعه فثبت فهو الجسد الذي قال الله تعالى: (( وألقينا على كرسيه جسداً )) فأقام آصف في ملكه يسير بسيرته أربعة عشر يوماً إلى أن رد الله على سليمان ملكه، فجلس على كرسيه وأعاد الخاتم في يده فثبت.
وروي عن سعيد بن المسيب قال: احتجب سليمان عن الناس ثلاثة أيام، فأوحى الله إليه احتجبت عن الناس ثلاثة أيام؟ فلم تنظر في أمور عبادي؟ فابتلاه الله عز وجل. فذكر حديث الخاتم وأخذ الشيطان إياه كما روينا.
وقيل: قال سليمان يوماً لأطوفن الليلة على نسائي كلهن، فتأتي كل واحدة بابن يجاهد في سبيل الله، ولم يستثن، فجامعهن فما خرج له منهن إلا شق مولود، فجاءت به القابلة فألقته على كرسيه، فذلك قوله تعالى: " وألقينا على كرسيه جسداً ".
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال سليمان: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل إن شاء الله، فلم يقل إن شاء الله فطاف عليهن جميعاً، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل، وايم الله الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون ".
وقال طاووس عن أبي هريرة: لأطوفن الليلة بمائة امرأة، قال له الملك: قل إن شاء الله، فلم يقل ونسي. وأشهر الأقاويل أن الجسد الذي ألقي على كرسيه هو صخر الجني، فذلك قوله عز وجل: " وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب "، أي رجع إلى ملكه بعد أربعين يوماً فلما رجع
34-" ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب " وأظهر ما قيل فيه ما روي مرفوعاً " أنه قال : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله ، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة جاءت بشق رجل ، فوالذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا فرساناً " . وقيل ولد له ابن فاجتمعت الشياطين على قتله فعلم ذلك ، فكان يغدوه في السحاب فما شعر به إلا أن ألقي على كرسيه ميتاً فتنبه على خطئه بأن لم يتوكل على الله . وقيل إنه غزا صيدون من الجزائر فقتل ملكها وأصاب ابنته جرادة ، فأحبها وكان لا يرقأ دمعها على أبيها ، فأمر الشياطين فمثلوا لها صورته فكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدن لها كعادتهن في ملكه ، فأخبره آصف فكسر الصورة وضرب المرأة وخرج إلى الفلاة باكياً متضرعاً ، وكانت له أم ولد اسمها أمينة إذا دخل للطهارة أعطاها خاتمه وكان ملكه فيه ، فأعطاها يوماً فتمثل لها بصورته شيطان اسمه صخر وأخذ الخاتم وتختم به وجلس على كرسيه ، فاجتمع عليه الخلق ونفذ حكمه في كل شيء إلا في نسائه وغير سليمان عن هيئته ، فأتاها لطلب الخاتم فطردته فعرف أن الخطيئة قد أدركته ، فكان يدور على البيوت يتكفف حتى مضى أربعون يوماً عدد ما عبدت الصورة في بيته ، فطار الشيطان وقذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة فوقعت في يده فبقر بطنها فوجد الخاتم فتختم به وخر ساجداً وعاد إليه الملك ، فعلى هذا الجسد صخر سمي به وهو جسم لا روح فيه لأنه كان متمثلاً بما لم يكن كذلك ، والخطيئة تغافله عن حال أهله لأن اتخاذ التماثيل كان جائزاً حينئذ ، وسجود بغير علمه لا يضره .
34. And verily We tried Solomon, and set upon his throne a (mere) body. Then did he repent.
34 - And We did try Solomon: We placed on his throne a body (without life) but he did turn (to Us in true devotion):