[الصافات : 102] فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ
102 - (فلما بلغ معه السعي) أي أن يسعى معه ويعينه قيل بلغ سبع سنين وقيل ثلاث عشرة سنة (قال يا بني إني أرى) أي رأيت (في المنام أني أذبحك) ورؤيا الأنبياء حق وأفعالهم بأمر الله تعالى (فانظر ماذا ترى) من الرأي شاوره ليأنس بالذبح وينقاد للأمر به (قال يا أبت) التاء عوض عن ياء الإضافة (افعل ما تؤمر) به (ستجدني إن شاء الله من الصابرين) على ذلك
وقوله : "فلما بلغ معه السعي" يقول : فلما بلغ الغلام الذي بشر به إبراهيم مع إبراهيم العمل ، وهو السعي ، وذلك حين أطاق معونته على عمله.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح : قال : ثنا معاوية، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : "فلما بلغ معه السعي" يقول : العمل.
حدثني محمد بن عمرو، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد، في قوله : "فلما بلغ معه السعي" قال : لما شب حتى أدرك سعيه سعي إبراهيم في العمل.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد، مثله ، إلا أنه قال : لما شب حين أدرك سعيه.
حدثنا ابن المثنى، قال : ثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة، عن الحكم ، عن مجاهد "فلما بلغ معه السعي" قال : سعي إبراهيم.
حدثنا ابن المثنى، قال : ثنا سهل بن يوسف ، عن شعبة، عن الحكم ، عن مجاهد "فلما بلغ معه السعي": لسعي إبراهيم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد، في قوله : "فلما بلغ معه السعي" قال : السعي هاهنا العبادة.
وقال آخرون : معنى ذلك : فلما مشى مع إبراهيم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة "فلما بلغ معه السعي": أي لما مشى مع أبيه.
وقوله: "قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك" يقول تعالى ذكره : قال إبراهيم خليل الرحمن لابنه : "يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك" وكان فيما ذكر أن إبراهيم أنذر حين بشرته الملائكة بإسحاق ولداً أن يجعله إذا ولدته سارة لله ذبيحاً، فلما بلغ إسحاق مع أبيه السعي أري إبراهيم في المنام ، فقيل له : أوف لله بنذرك ، ورؤيا الأنبياء يقين ، فلذلك مضى لما رأى في المنام ، وقال له ابنه إسحاق ما ذكر من قال ذلك:
حدثنا موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو بن حماد، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : قال جبرائيل لسارة : أبشري بولد اسمه إسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب ، فضربت جبهتها عجباً، فذلك قوله "فصكت وجهها" [الذاريات : 29] (وقالت يا ويلتي ، أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب) [هود :72] إلى قوله : (حميد مجيد) [هود : 73] قالت سارة لجبريل : ما آية ذلك؟ فأخذ بيده عوداً يابساً ، فلواه بين أصابعه ، فاهتز أخضر، فقال إبراهيم ، هو لله إذن ذبيح فلما كبر إسحاق أتي إبراهيم في النوم ، فقيل له : أوف بنذرك الذي نذرت ، إن الله رزقك غلاماً من سارة أن تذبحه ، فقال لإسحاق : انطلق نقرب قرباناً إلى الله ، وأخذ سكيناً وحبلاً، ثم انطلق معه حتى إذا ذهب به بين الجبال قال له الغلام : يا أبت أين قربانك؟ "قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين" فقال له إسحاق : يا أبت اشدد رباطي حتى لا أضطرب ، واكفف عني ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء فتراه سارة فتحزن ، وأسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون للموت علي ، فإذا أتيت سارة فاقرأ عليها مني السلام ، فأقبل عليه إبراهيم يقبله وقد ربطه وهو يبكي وإسحاق يبكي ، حتى استنقع الدموع تحت خد إسحاق ، ثم إنه جر السكين على حلقه ، فلم تحك السكين ، وضرب الله صفيحة من نحاس على حلق إسحاق؟ فلما رأى ذلك ضرب به على جبينه ، وحز من قفاه ، فذلك قوله : "فلما أسلما" يقول : سلما لله الأمر "وتله للجبين" فنودي يا إبراهيم "قد صدقت الرؤيا" بالحق فالتفت فإذا بكبش ، فأخذه وخلى عن ابنه ، فأكب على ابنه يقبله ، وهو يقول : اليوم يا بني وهبت لي ، فلذلك يقول الله : "وفديناه بذبح عظيم" فرجع إلى سارة فأخبرها الخبر، فجزعت سارة وقالت : يا إبراهيم أردت أن تذبح ابني ولا تعلمني.
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة، قوله : "يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك" قال : رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا في المنام شيئاً فعلوه.
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال ؟ ثنا يزيد، قال : ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبيد بن عمير، قال : رؤيا الأنبياء وحي ، ثم تلا هذه الآية "إني أرى في المنام أني أذبحك".
قوله : "فانظر ماذا ترى": اختلفت القراء في قراءة قوله : "ماذا ترى"، فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة، وبعض قراء أهل الكوفة "فانظر ماذا ترى" بفتح التاء، بمعنى : أي شيء تأمر، أو فانظر ما الذي تأمر، وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة ماذا ترى بضم التاء، بمعنى : ماذا تشير، وماذا ترى من صبرك أو جزعك من الذبح؟.
والذي هو أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه "ماذا ترى" بفتح التاء، بمعنى : ماذا ترى من الرأي.
فإن قال قائل : أو كان إبراهيم يؤمر ابنه في المضي لأمر الله ، والانتهاء إلى طاعته؟ قيل : لم يكن ذلك منه مشاورة لابنه في طاعة الله ، ولكنه كان منه ليعلم ما عند ابنه من العزم : هل هو من الصبر على أمر الله على مثل الذي هو عليه ، فيسر بذلك أم لا، وهو في الأحوال كلها ماض لأمر الله.
وقوله : "قال يا أبت افعل ما تؤمر" يقول تعالى ذكره : قال إسحاق لأبيه : يا أبت افعل ما يأمرك به ربك من ذبحي "ستجدني إن شاء الله من الصابرين" يقول : ستجدني إن شاء الله صابراً من الصابرين لما يأمرنا به ربنا.
وقال : افعل ما تؤمر، ولم يقل : ما تؤمر به ، لأن المعنى : افعل الأمر الذي تؤمره ، وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : إني أرى في المنام : افعل ما أمرت به.
فيها سبع عشرة مسألة :
الأولى - قوله تعالى : " فلما بلغ معه السعي " أي فوهبنا له الغلام ، فلما بلغ معه المبلغ الذي يسعى مع أبيه في أمور الدنيا معيناً على أعماله < قال يا بني إني أرى في المنام إني أذبحك > وقال مجاهد : < فلما بلغ معه السعي > أي شب وأدرك سعيه سعي إبراهيم . وقال الفراء : كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة . وقال ابن عباس : هو الاحتلام . قتادة : مشى مع أبيه . الحسن و مقاتل : هو سعي العقل الذي تقوم به الحجة . ابن زيد : هو السعي في العبادة ابن عباس : صام وصلى ، ألم تسمع الله عز وجل يقول : " وسعى لها سعيها " [ الإسراء : 19 ] .
واختلف العلماء في المأمور بذبحه . فقال أكثرهم : الذبيح إسحاق . وممن قال بذلك العباس بن عبد المطلب وابنه عبدالله وهو الصحيح عنه . روى الثوري و ابن جريح يرفعانه إلى ابن عباس قال : الذبيح اسحاق . وهو الصحيح عن عبد الله بن مسعود أن رجلاً قال له : يا بن الأشياخ الكرام . فقال عبد الله : وذلك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله صلى الله عليهم و سلم -" وقد روى حماد بن زيد يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلى الله عليه وسلم " وروى أبو الزبير عن جابر قال : الذبيح إسحاق . وذلك مروي أيضاً عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه . وعن عبد الله بن عمر : أن الذبيح إسحاق وهو قول عمر رضي الله عنه . فهؤلاء سبعة من الصحابة . وقال من التابعين وغيرهم علقمة و الشعبي و مجاهد و سعيد بن جبير و كعب الأحبار و قتادة و مسروق و عكرمة و القاسم بن ابي بزة و عطاء و مقاتل و عبد الرحمن بن سابط و الزهري و السدي و عبد الله بن أبي الهذيل و مالك بن أنس ، كلهم قالوا : الذبيح إسحاق . وعليه أهل الكتابين اليهود والنصارى ، واختاره غير واحد منهم النحاس و الطبري وغيرهما . قال سعيد بن جبير : أري إبراهيم ذبح إسحاق في المنام ، فسار به مسيرة شهر في غداة واحدة ، حتى أتى به المنحر من منى ، فلما صرف الله عنه الذبح وأمر ه أن يذبح الكبش فذبحه ، وسار به مسيرة شهر في روحه واحدة طويت له الأودية والجبال . وهذا القول أقوى في النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين . وقال آخرون : هو إسماعيل . وممن قال ذلك هريرة و أبو الطفيل عامر بن واثلة . وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس ايضاً ، ومن التابعين سعيد بن المسيب و الشعبي و يوسف بن مهران و مجاهد و الربيع بن أنس و محمد بن كعب القرظي و الكلبي و علقمة . وسئل أبو سعيد الضرير عن الذبيح فأنشد :
إن الذبيح هديت إسمعيل نطق الكتاب بذاك والتنزيل
شرف به خص الإله نبينا وأتى به التفسير والتأويل
إن كنت أمته فلا تنكر له شرفاً به قد خصه التفضيل
وعن الأصمعي قال : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح ، فقال : يا أصمعي أين عزب عنك عقلك ! ومتى كان إسحاق بمكة ؟ وإنما كان إسماعيل بمكة ، وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة . " وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الذبيح إسماعيل والأول أكثر عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وعن التابعين " واحتجوا بأن الله عز وجل قد أخبر إبراهيم حين فارق قومه ، فهاجر إلى الشام مع امرأته سارة وابن أخيه لوط فقال : " إني ذاهب إلى ربي سيهدين " [ الصافات : 99 ] أنه دعا فقال : < رب هب لي من الصالحين > فقال تعالى : " فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب " [ مريم : 49 ] ، ولأن الله قال : < وفديناه بذبح عظيم > فذكر أن الفداء في الغلام الحليم الذي بشر به إبراهيم وإنما بشر بإسحاق ، لأنه قال : " وبشرناه بإسحاق " ، وقال هنا : < بغلام حليم > وذلك قبل أن يتزوج هاجر وقبل أن يولد له إسماعيل ، وليس في القرآن أنه بشر بولد إلا إسحاق . احتج من قال إنه إسماعيل : بأن الله تعالى وصفه بالصبر دون إسحاق في قوله تعالى : " وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين " [ الأنبياء : 85 ] وهو صبره على الذبح ، ووصفه بصدق الوعد في قوله : " إنه كان صادق الوعد " [ مريم : 54 ] ، لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به ، ولأن الله تعالى قال : " وبشرناه بإسحاق نبيا " فكيف يأمره بذبحه وقد وعده أن يكون نبياً ، وأيضاً فإن الله تعالى قال : " فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " [ هود : 71 ] فكيف يؤمر بذبح إسحق قبل إنجاز الوعد في يعقوب . وأيضاً ورد في الأخبار تعليق قرن الكبيش في الكعبة ، فدل على أن الذبيح إسماعيل ، ولو كان إسحاق لكان الذبيح يقع ببيت المقدس . وهذا الاستدلال كله ليس بقاطع ، إما قولهم : كيف يأمره بذبحه وقد وعده بأن يكون نبياً ، فإنه يحتمل أن يكون المعنى : وبشرناه بنبوته بعد أ كان من أمره ما كان ، قاله ابن عباس . وسيأتي . ولعله أمر بذبح إسحاق بعد أن ولد لإسحق يعقوب . ويقال : لم يرد في القرآن أن يعقوب يولد من أسحق . وأما قولهم : ولو كان الذبيح إسحق لكان الذبح يقع ببيت المقدس ، فالجواب عنه ما قاله سعيد بن جبير على ما تقدم . وقال الزجاج : الله أعلم أيهما الذبيح . وهذا مذهب ثالث .
الثانية - قوله تعالى : " قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى " قال مقاتل : رأى ذلك إبراهيم عليه السلام ثلاث ليال متتابعات . وقال محمد بن كعب : كانت الرسل يأتيهم الوحي من الله تعالى أيقاظاً ورقوداً ، فإن الأنبياء لا تنام قلوبهم . وهذا ثابت في الخبر المرفوع ، " قال صلى الله عليه وسلم : إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا " . وقال ابن عباس : رؤيا الأنبياء وحي واستدل بهذه الآية . وقال السدي : لما بشر إبراهيم بإسحاق قبل أن يولد قال هو إذا لله ذبيح . فقيل له في منامه : قد نذرت نذراً فف بنذرك . ويقال : إن إبراهيم رأى في ليلة التروية كأن قائلاً يقول : إن الله يأمرك بذبح ابنك ، فلما أصبح روى في نفسه أي فكر أهذا الحلم من الله أم من الشيطان ؟ فسمي يوم التروية . فلما كانت الليلة الثانية رأى ذلك أيضاً وقيل له الوعد ، فلما أصبح عرف أن ذلك من الله فسمي يوم عرفة . ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي بيوم النحر . وروي أنه لما ذبحه قال جبريل : الله أكبر الله أكبر . فقال الذبيح : لا إله إلا الله والله أكبر . فقال إبراهيم : الله والحمد لله ، فبقي سنة . وقد اختلف الناس في وقوع هذا الأمر وهي :
الثالثة - فقال أهل السنة : إن نفس الذبح لم يقع ، وإنما وقع الأمر بالذبح قبل أن يقع الذبح ، ولو وقع لم يتصور رفعه ، فكان هذا من باب النسخ قبل الفعل ، لأنه لو حصل الفراغ من امتثال الأمر بالذبح ما تحقق الفداء . وقوله تعالى : " قد صدقت الرؤيا " : أي حققت ما نبهناك عليه ، وفعلت ما أمكنك ثم امتنعت لما منعناك . هذا أصح ما قيل به في هذا الباب . وقالت طائفة : ليس هذا مما ينسخ بوجه ، لأن معنى ذبحت الشيء قطعته . واستدل على هذا بقول مجاهد : قال إسحاق لإبراهيم لا تنظرب إلي فترحمني ، ولكن اجعل وجهي إلى الأرض ، فأخذ إبراهيم السكين فأمرها على حلقه فانقلبت . فقال له مالك ؟ قال : انقلبت السكين . قال أطعني بها طعناً . وقال بعضهم : كان كلما قطع جرءاً التأم . وقال طائفة : وجد حلقة نحاساً أو مغشى بنحاس ، وكان كلما أراد قطعاً وجد منعاً . وهذا كله جائز في القدرة الإلهية ، لكنه يفتقر إلى نقل صحيح ، فإنه أمر لا يدرك بالنظر وإنما طريقه الخبر . ولو كان قد جرى ذلك لبينه الله تعالى تعظيماً لرتبة إسماعيل وإبراهيم صلوات الله عليهما ، وكان أولى بالبيان من الفداء . وقال بعضهم : إن إبراهيم ما أمر بالذبح الحقيقي الذي هو فري الأوداج وإنها الدم ، وإنما رأى أنه أضجعه للذبح فتوهم أنه أمر بالذبح الحقيقي ، فلما أتى بما أمر به من الإضجاع قيل له : < قد صدقت الرؤيا > وهذا كله خارج عن المفهوم . ولا يظن بالخليل والذبيح أن يفهما من هذا الأمر ما ليس له حقيقة حتى يكون منهما التوهم . وأيضاً لو صحت الأشياء لما احتيج إلى الفداء .
الرابعة - قوله تعالى : " فانظر ماذا ترى " قرأ أهل الكوفة غير عاصم < ماذا تري > بضم التاء وكسر الراء من اري يرى . قال الفراء : أي فانظر ماذا ترى من صبرك وجزعك . قال الزجاج : لم يقل هذا أحد غيره ، وإنما قال العلماء ماذا تشير ، أي ما تريك نفسك من الرأي . وأنكر أبو عبيد : < تري > وقال : إنما يكون من رؤية العين وغيرها وهو مشهور ، يقال : أريت فلاناً الصواب ، وأريته رشده ، وهذا ليس من رؤية العين . الباقون < ترى > مضارع رأيت وقد روي عن الضحاك و الأعمش < ترى > غير مسمى الفاعل . ولم يقل له ذلك على وجه المؤامرة في أمر الله ، وإنما شاوره ليعلم صبره لأمر الله ، أو لتقر عينه إذا رأى من ابنه طاعة في أمر الله فـ " قال يا أبت افعل ما تؤمر " أي ما تؤمر به فحذف الجار كما حذف من قوله :
* أمرتك الخير فافعل ما أمرت به *
فوصل الفعل إلى الضمير فصار تؤمره ثم حذفت الهاء ، كقوله : " وسلام على عباده الذين اصطفى " [ النمل : 59 ] أي اصطفاهم على ما تقدم . و < ما > بمعنى الذي . " ستجدني إن شاء الله من الصابرين " قال بعض أهل الإشارة : لما استثنى وفقه الله للصبر . وقد مضى الكلام في < يا أبت > وكذلك في < يا بني > في < يوسف > وغيرها .
يقول تعالى مخبراً عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه بعد ما نصره الله تعالى على قومه وأيس من إيمانهم بعد ما شاهدوا من الايات العظيمة هاجر من بين أظهرهم وقال "إني ذاهب إلى ربي سيهدين * رب هب لي من الصالحين" يعني أولاداً مطيعين عوضاً من قومه وعشيرته الذين فارقهم, قال الله تعالى: "فبشرناه بغلام حليم" وهذا الغلام هو إسماعيل عليه السلام فإنه أول ولد بشر به إبراهيم عليه السلام وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين وأهل الكتاب بل في نص كتابهم أن إسماعيل عليه السلام ولد ولإبراهيم عليه السلام ست وثمانون سنة وولد إسحاق وعمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام تسع وتسعون سنة, وعندهم أن الله تبارك وتعالى أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده وفي نسخة أخرى بكره فأقحموا ههنا كذباً وبهتاناً إسحاق ولا يجوز هذا لأنه مخالف لنص كتابه وإنما أقحموا إسحاق لأنه أبوهم وإسماعيل أبو العرب فحسدوهم فزادوا ذلك وحرفوا وحيدك بمعنى الذي ليس عندك غيره فإن إسماعيل كان ذهب به وبأمه إلى مكة وهو تأويل وتحريف باطل فإنه لا يقال وحيدك إلا لمن ليس له غيره, وأيضاً فإن أول ولد له معزة ما ليس لمن بعده من الأولاد فالأمر بذبحه أبلغ في الابتلاء والاختبار. وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق وحكي ذلك عن طائفة من السلف حتى نقل عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أيضاً وليس ذلك في كتاب ولا سنة وما أظن ذلك تلقي إلا عن أحبار أهل الكتاب وأخذ ذلك مسلم من غير حجة وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل فإنه ذكر البشارة بغلام حليم وذكر أنه الذبيح ثم قال بعد ذلك "وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين" ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا "إنا نبشرك بغلام عليم". وقال تعالى: " فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " أي يولد له في حياتهم ولد يسمى يعقوب فيكون من ذريته عقب ونسل وقد قدمنا هناك أنه لا يجوز بعد هذا أن يؤمر بذبحه وهو صغير لأن الله تعالى قد وعدهما بأنه سيعقب ويكون له نسل فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيراً وإسماعيل وصف ههنا بالحليم لأنه مناسب لهذا المقام ؟ وقوله تعالى: "فلما بلغ معه السعي" أي كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه وقد كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام يذهب في كل وقت يتفقد ولده وأم ولده ببلاد فاران وينظر في أمرهما وقد ذكر أنه كان يركب على البراق سريعاً إلى هناك والله أعلم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء الخراساني وزيد بن أسلم وغيرهم "فلما بلغ معه السعي" بمعنى شب وارتجل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل "فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى" قال عبيد بن عمير رؤيا الأنبياء وحي ثم تلا هذه الاية "قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى". وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد حدثنا أبو عبد الملك الكرندي حدثنا سفيان بن عيينة عن إسرائيل بن يونس عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رؤيا الأنبياء في المنام وحي" ليس هو في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه وليختبر صبره وجلده وعزمه في صغره على طاعة الله تعالى وطاعة أبيه "قال يا أبت افعل ما تؤمر" أي امض لما أمرك الله من ذبحي "ستجدني إن شاء الله من الصابرين" أي سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عز وجل وصدق صلوات الله وسلامه عليه فيما وعد ولهذا قال الله تعالى: "واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً * وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضياً". وقال تعالى: "فلما أسلما وتله للجبين" أي فلما تشهدا وذكرا الله تعالى إبراهيم على الذبح والولد شهادة الموت وقيل أسلما يعني استسلما وانقادا, إبراهيم امتثل أمر الله تعالى وإسماعيل طاعة لله ولأبيه قاله مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وابن إسحاق وغيرهم ومعنى تله للجبين أي صرعه على وجهه ليذبحه من قفاه ولا يشاهد وجهه عند ذبحه ليكون أهون عليه. قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة "وتله للجبين" أكبه على وجهه. وقال الإمام أحمد حدثنا سريج ويونس قالا حدثنا حماد بن سلمة عن أبي عاصم الغنوي عن أبي الطفيل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لما أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالمناسك عرض له الشيطان عند السعي فسابقه فسبقه إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم ذهب به جبريل عليه الصلاة والسلام إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات ثم تله للجبين وعلى إسماعيل عليه الصلاة والسلام قميص أبيض فقال يا أبت إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره فاخلعه حتى تكفنني فيه فعالجه ليخلعه فنودي من خلفه " أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا " فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أبيض أقرن أعين قال ابن عباس لقد رأيتنا نتتبع ذلك الضرب من الكباش, وذكر هشام الحديث في المناسك بطوله. ثم رواه أحمد بطوله من يونس عن حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره إلا أنه قال إسحاق فعن ابن عباس رضي الله عنهما في تسمية الذبيح روايتان والأظهر عنه إسماعيل لما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقال محمد بن إسحاق عن الحسن بن دينار عن قتادة عن جعفر بن إياس عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تبارك وتعالى: "وفديناه بذبح عظيم" قال خرج عليه كبش من الجنة قد رعى قبل ذلك أربعين خريفاً فأرسل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ابنه واتبع الكبش فأخرجه إلى الجمرة الأولى فرماه بسبع حصيات ثم أفلته عندها فجاء إلى الجمرة الوسطى فأخرجه عندها فرماه بسبع حصيات ثم أفلته فأدركه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات فأخرجه عندها ثم أخذه فأتى به المنحر من منى فذبحه فو الذي نفس ابن عباس بيده لقد كان أول الإسلام وأن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة حتى وحش يعني يبس. وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري أخبرنا القاسم قال اجتمع أبو هريرة وكعب فجعل أبو هريرة رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم فجعل كعب يحدث عن الكتب فقال أبو هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي دعوة مستجابة وإني قد خبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة" فقال له كعب أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال نعم قال فداك أبي وأمي ـ أو فداه أبي وأمي ـ أفلا أخبرك عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ؟ إنه لما أري ذبح ابنه إسحاق قال الشيطان إن لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهم أبداً فخرج إبراهيم عليه الصلاة والسلام بابنه ليذبحه فذهب الشيطان فدخل على سارة فقال أين ذهب إبراهيم بابنك ؟ قالت غدا به لبعض حاجته قال فإنه لم يغد به لحاجة إنما ذهب به ليذبحه قالت ولم يذبحه ؟ قال زعم أن ربه أمره بذلك قالت فقد أحسن أن يطيع ربه فذهب الشيطان في أثرهما فقال للغلام أين يذهب بك أبوك, قال لبعض حاجته قال فإنه لا يذهب بك لحاجة ولكنه يذهب بك ليذبحك قال ولم يذبحني ؟ قال يزعم أن ربه أمره بذلك قال فو الله لئن كان الله تعالى أمره بذلك ليفعلن قال فيئس منه فتركه ولحق بإبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال أين غدوت بابنك, قال لحاجة قال فإنك لم تغد به لحاجة وإنما غدوت به لتذبحه قال ولم أذبحه ؟ قال تزعم أن ربك أمرك بذلك قال فوالله لئن كان الله تعالى أمرني بذلك لأفعلن قال فتركه ويئس أن يطاع وقد رواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن يونس عن ابن يزيد عن ابن شهاب قال إن عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن جارية الثقفي أخبره أن كعباً قال لأبي هريرة فذكره بطوله وقال في آخره وأوحى الله تعالى إلى إسحاق أني أعطيتك دعوة استجبت لك فيها قال إسحاق اللهم إني أدعوك أن تستجيب لي أيما عبد لقيك من الأولين والاخرين لا يشرك بك شيئاً فأدخله الجنة. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله تبارك وتعالى خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي وبين أن يجيب شفاعتي فاخترت شفاعتي ورجوت أن تكون أعم لأمتي ولولا الذي سبقني إليه العبد الصالح لتعجلت فيها دعوتي إن الله تعالى لما فرج عن إسحاق كرب الذبح قيل له يا إسحاق سل تعط فقال أما والذي نفسي بيده لأتعجلنها قبل نزغات الشيطان, اللهم من مات لا يشرك بك شيئاً فاغفر له وأدخله الجنة" هذا حديث غريب منكر وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف الحديث وأخشى أن يكون في الحديث زيادة مدرجة وهي قوله إن الله تعالى لما فرج عن إسحاق إلى آخره والله أعلم فهذا إن كان محفوظاً فالأشبه أن السياق إنما هو عن إسماعيل وإنما حرفوه بإسحاق حسداً منهم كما تقدم وإلا فالمناسك والذبائح إنما محلها بمنى من أرض مكة حيث كان إسماعيل لا إسحاق فإنه إنما كان ببلاد كنعان من أرض الشام. وقوله تعالى: " وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا " أي قد حصل المقصود من رؤياك واضجاعك ولدك للذبح وذكر السدي وغيره أنه أمر السكين على رقبته فلم تقطع شيئاً بل حال بينها وبينه صفحة من نحاس ونودي إبراهيم عليه الصلاة والسلام عند ذلك "قد صدقت الرؤيا". وقوله تعالى: "إنا كذلك نجزي المحسنين" أي هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد ونجعل لهم من أمرهم فرجاً ومخرجاً كقوله تعالى: " ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا " وقد استدل بهذه الاية والقصة جماعة من علماء الأصول على صحة النسخ قبل التمكن من الفعل خلافاً لطائفة من المعتزلة والدلالة من هذه ظاهرة لأن الله تعالى شرع لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ذبح ولده ثم نسخه عنه وصرفه إلى الفداء وإنما كان المقصود من شرعه أولاً إثابة الخليل على الصبر على ذبح ولده وعزمه على ذلك ولهذا قال تعالى: "إن هذا لهو البلاء المبين" أي الاختبار الواضح الجلي حيث أمر بذبح ولده فسارع إلى ذلك مستسلماً لأمر الله تعالى منقاداً لطاعته ولهذا قال تعالى: "وإبراهيم الذي وفى". وقوله تعالى: "وفديناه بذبح عظيم" قال سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن أبي الطفيل عن علي رضي الله عنه "وفديناه بذبح عظيم" قال بكبش أبيض أعين أقرن قد ربط بسمرة قال أبو الطفيل: وجدوه مربوطاً بسمرة في ثبير, وقال الثوري أيضاً عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفاً. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار حدثنا داود العطار عن ابن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال الصخرة التي بمنى بأصل ثبير هي الصخرة التي ذبح عليها إبراهيم فداء إسحاق ابنه هبط عليه من ثبير كبش أعين أقرن له ثغاء فذبحه وهو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه فكان مخزوناً حتى فدي به إسحاق وروي أيضاً عن سعيد بن جبير أنه قال كان الكبش يرتع في الجنة حتى فدي به إسحاق, وروي أيضاً عن سعيد بن جبير أنه قال كان الكبش يرتع في الجنة حتى شقق عنه ثبير وكان عليه عهن أحمر, وعن الحسن البصري أنه قال كان اسم كبش إبراهيم عليه الصلاة والسلام جرير وقال ابن جريج قال عبيد بن عمير ذبحه بالمقام وقال مجاهد ذبحه بمنى عند المنحر. وقال هشيم عن سيار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما كان أفتى الذي جعل عليه نذراً أن ينحر نفسه فأمره بمائة من الإبل. ثم قال بعد ذلك لو كنت أفتيه بكبش لأجزأه أن يذبح كبشاً فإن الله تعالى قال في كتابه: "وفديناه بذبح عظيم" والصحيح الذي عليه الأكثرون أنه فدي بكبش. وقال الثوري عن رجل عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: "وفديناه بذبح عظيم" قال وعل وقال محمد بن إسحاق عن عمرو بن عبيد عن الحسن أنه كان يقول ما فدي إسماعيل عليه السلام إلا بتيس من الأروى أهبط عليه من ثبير. وقد قال الإمام أحمد حدثنا سفيان حدثني منصور عن خاله مسافع عن صفية بنت شيبة قالت: أخبرتني امرأة من بني سليم ولدت عامة أهل دارنا أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن طلحة رضي الله عنه, وقالت مرة أنها سألت عثمان لم دعاك النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي" قال سفيان لم يزل قرنا الكبش معلقين في البيت حتى احترق البيت فاحترقا وهذا دليل مستقل على أنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام فإن قريشاً توارثوا قرني الكبش الذي فدى به إبراهيم خلفاً عن سلف وجيلاً بعد جيل إلى أن بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
(فصل) في ذكر الاثار الورادة عن السلف في أن الذبيح من هو
(ذكر من قال هو إسحاق عليه الصلاة والسلام) قال حمزة الزيات عن أبي ميسرة رحمه الله قال: قال يوسف عليه الصلاة والسلام للملك في وجهه ترغب أن تأكل معي وأنا والله يوسف بن يعقوب نبي الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله, وقال الثوري عن أبي سنان عن ابن أبي الهذيل أن يوسف عليه السلام قال للملك كذلك أيضاً وقال سفيان الثوري عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه قال: قال موسى عليه الصلاة والسلام يا رب يقولون بإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب فبم قالوا ذلك ؟ قال: "إن إبراهيم لم يعدل بي شيء قط إلا اختارني عليه, وإن إسحاق جاد لي بالذبح وهو بغير ذلك أجود, وإن يعقوب كلما زدته بلاء زادني حسن ظن". وقال شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص قال افتخر رجل عند ابن مسعود رضي الله عنه فقال: أنا فلان بن فلان بن الأشياخ الكرام, فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله. وهذا صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه, وكذا روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه إسحاق, وعن أبيه العباس وعن علي بن أبي طالب مثل ذلك, وكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وعبيد بن عمير وأبو ميسرة وزيد بن أسلم وعبد الله بن شقيق والزهري والقاسم بن أبي برزة ومكحول وعثمان بن حاضر والسدي والحسن وقتادة وأبو الهذيل وابن سابط وهذا اختيار ابن جرير, وتقدم روايته عن كعب الأحبار أنه إسحاق, وهكذا روى ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن الزهري عن أبي سفيان ابن العلاء بن حارثة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن كعب الأحبار أنه قال هو إسحاق وهذه الأقوال والله أعلم كلها مأخوذة عن كعب الأحبار فإنه لما أسلم في الدولة العمرية جعل يحدث عمر رضي الله عنه عن كتبه قديماً فربما استمع له عمر رضي الله عنه فترخص الناس في استماع ما عنده ونقلوا ما عنده عنه غثها وسمينها وليس لهذه الأمة والله أعلم حاجة إلى حرف واحد مما عنده وقد حكى البغوي القول بأنه إسحاق عن عمر وعلي وابن مسعود والعباس رضي الله عنهم ومن التابعين عن كعب الأحبار وسعيد بن جبير وقتادة ومسروق وعكرمة وعطاء ومقاتل والزهري والسدي قال وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد ورد في ذلك حديث لو ثبت لقلنا به على الرأس و العين ولكن لم يصح سنده. قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا زيد بن حباب عن الحسن بن دينار عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره قال هو إسحاق ففي إسناده ضعيفان وهما الحسن بن دينار البصري متروك وعلي بن زيد بن جدعان منكر الحديث. وقد رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن مسلم بن إبراهيم عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان به مرفوعاً, ثم قال قد رواه مبارك بن فضالة عن الحسن عن الأحنف عن العباس رضي الله عنه وهذا أشبه وأصح والله أعلم.
(ذكر الاثار الواردة بأنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام وهو الصحيح المقطوع به) قد تقدمت الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه إسحاق عليه الصلاة والسلام والله تعالى أعلم وقال سعيد بن جبير وعامر الشعبي ويوسف بن مهران ومجاهد وعطاء وغير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما هو إسماعيل عليه الصلاة والسلام وقال ابن جرير حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن قيس عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أنه قال المفدى إسماعيل عليه السلام وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود, وقال إسرائيل عن ثور عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال الذبيح إسماعيل وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد هو إسماعيل عليه السلام وكذا قال يوسف بن مهران وقال الشعبي هو إسماعيل عليه الصلاة والسلام وقد رأيت قرني الكبش في الكعبة. وقال محمد بن إسحاق عن الحسن بن دينار وعمرو بن عبيد عن الحسن البصري أنه كان لايشك في ذلك أن الذي أمر بذبحه من ابني إبراهيم إسماعيل عليه السلام قال ابن إسحاق وسمعت محمد بن كعب القرظي وهو يقول إن الذي أمر الله تعالى إبراهيم بذبحه من ابنيه إسماعيل وإنا لنجد ذلك في كتاب الله تعالى وذلك أن الله تعالى حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال الله تعالى: "وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين" ويقول الله تعالى: "فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب" يقول بابن وابن ابن فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق وله فيه الموعد بما وعده وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل قال ابن إسحاق سمعته يقول ذلك كثيراً, وقال ابن إسحاق عن بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي عن محمد بن كعب القرظي أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو خليفة إذ كان معه بالشام فقال له عمر إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه, وإني لأراه كما قلت ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهودياً فأسلم وحسن إسلامه وكان يرى أنه من علمائهم فسأله عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن ذلك قال محمد بن كعب وأنا عند عمر بن عبد العزيز فقال له عمر أي ابني إبراهيم أمر بذبحه فقال إسماعيل والله يا أمير المؤمنين وإن يهود لتعلم بذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه والفضل الذي ذكر الله تعالى منه لصبره لما أمر به فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق لكون إسحاق أباهم والله أعلم أيهما كان وكل قد كان طاهراً طيباً مطيعاً لله عز وجل وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله سألت أبي عن الذبيح هل هو إسماعيل أو إسحاق فقال إسماعيل ذكره في كتاب الزهد. وقال ابن أبي حاتم وسمعت أبي يقول الصحيح أن الذبيح إسماعيل عليه الصلاة والسلام قال وروي عن علي وابن عمر وأبي هريرة وأبي الطفيل وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد والشعبي ومحمد بن كعب القرظي وأبي جعفر محمد بن علي وأبي صالح رضي الله عنهم أنهم قالوا الذبيح إسماعيل. وقال البغوي في تفسيره وإليه ذهب عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب والسدي والحسن البصري ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وهو رواية عن ابن عباس وحكاه أيضاً عن أبي عمرو بن العلاء وقد روى ابن جرير في ذلك حديثاً غريباً فقال حدثني محمد بن عمار الرازي حدثنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة حدثنا عمر بن عبد الرحيم الخطابي عن عبيد الله بن محمد العتبي من ولد عتبة بن أبي سفيان عن أبيه حدثني عبد الله بن سعيد عن الصنابحي قال كنا عند معاوية بن أبي سفيان فذكروا الذبيح إسماعيل أو إسحاق فقال على الخبير سقطتم: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال: يارسول الله عد علي مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له يا أمير المؤمنين وما الذبيحان ؟ فقال إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله إن سهل الله له أمرها عليه ليذبحن أحد ولده قال فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا افد ابنك بمائة من الإبل ففداه بمائة من الإبل والثاني إسماعيل. وهذا حديث غريب جداً وقد رواه الأموي في مغازيه حدثنا بعض أصحابنا أخبرنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة حدثنا عمرو بن عبد الرحمن القرشي حدثنا عبيد الله بن محمد العتبي من ولد عتبة بن أبي سفيان حدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا الصنابحي قال حضرنا مجلس معاوية رضي الله عنه فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق وذكره, كذا كتبته من نسخة مغلوطة وإنما عول ابن جرير في اختياره أن الذبيح إسحاق على قوله تعالى: "فبشرناه بغلام حليم" فجعل هذه البشارة هي البشارة بإسحاق في قوله تعالى: "وبشروه بغلام عليم" وأجاب عن البشارة بيعقوب بأنه قد كان بلغ معه السعي أي العمل, ومن الممكن أنه قد كان ولد له أولاد مع يعقوب أيضاً قال وأما القرنان اللذان كانا معلقين بالكعبة فمن الجائز أنهما نقلا من بلاد الشام قال وقد تقدم أن من الناس من ذهب إلى أنه ذبح إسحاق هناك هذا ما اعتمد عليه في تفسيره وليس ما ذهب إليه بمذهب ولا لازم بل هو بعيد جداً والذي استدل به محمد بن كعب القرظي على أنه إسماعيل أثبت وأصح وأقوى والله أعلم. وقوله تعالى: "وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين" لما تقدمت البشارة بالذبيح وهو إسماعيل عطف بذكر البشارة بأخيه إسحاق وقد ذكرت في سورتي هود والحجر, وقوله تعالى: "نبياً" حال مقدرة أي سيصير منه نبي صالح. وقال ابن جرير حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن داود عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما الذبيح إسحاق قال وقوله تعالى: "وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين" قال بشر بنبوته قال وقوله تعالى: "ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً" قال كان هارون أكبر من موسى ولكن أراد وهب له نبوته. وحدثنا ابن عبد الأعلى حدثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت داود يحدث عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الاية "وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين" قال إنما بشر به نبياً حين فداه الله عز وجل من الذبح ولم تكن البشارة بالنبوة عند مولده. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان الثوري عن داود عن عكرمة عن ابن عباس "وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين" قال بشر به حين ولد وحين نبىء وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى: "وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين" قال بعد ما كان من أمره لما جاد لله تعالى بنفسه وقال الله عز وجل "وباركنا عليه وعلى إسحاق" وقوله تعالى: "وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين" كقوله تعالى: "قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم".
102- "فلما بلغ معه السعي" في الكلام حذف كما تشعر به هذه الفاء الفصيحة والتقدير: فوهبنا له الغلام فنشأ حتى صار إلى السن التي يسعى فيها مع أبيه في أمور دنياه. قال مجاهد: "فلما بلغ معه السعي" أي شب وأدرك سعيه سعي إبراهيم. وقال مقاتل: لما مشى معه. قال الفراء كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة. وقال الحسن: هو سعي العقل الذي تقوم به الحجة. وقال ابن زيد: هو السعي في العبادة، وقيل هو الاحتلام "قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك" قال إبراهيم لابنه لما بلغ معه ذلك المبلغ: إني رأيت في المنام هذه الرؤيا. قال مقاتل: رأى إبراهيم ذلك ثلاث ليال متتابعات. قال قتادة: رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا شيئاً فعلوه.
وقد اختلف أهل العلم في الذبيح؟ هل هو إسحاق أو إسماعيل. قال القرطبي: فقال أكثرهم: الذبيح إسحاق وممن قال بذلك العباس بن عبد المطلب وابن عبد الله، وهو الصحيح عن عبد الله بن مسعود، ورواه أيضاً عن جابر وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وعمر بن الخطاب، قال: فهؤلاء سبعة من الصحابة. قال: ومن التابعين وغيرهم علقمة والشعبي ومجاهد وسعيد بن جبير وكعب الأحبار وقتادة ومسروق وعكرمة والقاسم بن أبي برزة وعطاء ومقاتل وعبد الرحمن بن سابط والزهري والسدي وعبد الله بن أبي الهذيل ومالك بن أنس كلهم قالوا الذبيح إسحاق، وعليه أهل الكتابين اليهود والنصارى، واختاره غير واحد، منهم النحاس وابن جرير الطبري وغيرهما. قال وقال آخرون: هو إسماعيل، وممن قال بذلك أبو هريرة وأبو الطفيل عامر بن واثلة، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس أيضاً، ومن التابعين سعيد بن المسيب والشعبي ويوسف بن مهران ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وعلقمة، وعن الأصمعي قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال: يا أصمعي أين عزب عنك عقلك، ومتى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة. قال ابن كثير في تفسيره: وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكي ذلك عن طائفة من السلف حتى يقال عن بعض الصحابة وليس في ذلك كتاب ولا سنة، وما أظن ذلك تلقي إلا عن أخبار أهل الكتاب، وأخذ مسلماً من غير حجة، وكتاب الله شاهد مرشد إلى أنه إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم، وذكر أنه الذبيح، وقال بعد ذلك "وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين" اهـ.
واحتج القائلون بأنه إسحاق بأن الله عز وجل قد أخبرهم عن إبراهيم حين فارق قومه، فهاجر إلى الشام مع امرأته سارة وابن أخيه لوط فقال: "إني ذاهب إلى ربي سيهدين" أنه دعا فقال: "رب هب لي من الصالحين" فقال تعالى "فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب" ولأن الله قال: "وفديناه بذبح عظيم" فذكر أنه في الغلام الحليم الذي بشر به إبراهيم، وإنما بشر بإسحاق، لأنه قال: "وبشرناه بإسحاق" وقال هنا "بغلام حليم" وذلك قبل أن يعرف هاجر، وقبل أن يصير له إسماعيل، وليس في القرآن أنه بشر بولد إلى إسحاق. قال الزجاج الله أعلم أيهما الذبيح اهـ، وما استدل به الفريقان يمكن الجواب عنه والمناقشة له.
ومن جملة ما احتج به من قال إنه إسماعيل بأن الله وصفه بالصبر دون إسحاق كما في قوله: "وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين" وهو صبره على الذبح، ووصفه بصدق الوعد في قوله: "إنه كان صادق الوعد" لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح، فوفى به، ولأن الله سبحانه قال: "وبشرناه بإسحاق نبياً" فكيف يأمره بذبحه، وقد وعده أن يكون نبياً، وأيضاً فإن الله قال: "فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب" فكيف يؤمر بذبح إسحاق قبل إنجاز الوعد في يعقوب، وأيضاً ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة، فدل على أن الذبيح إسماعيل، ولو كان إسحاق لكان الذبح واقعاً ببيت المقدس وكل هذا أيضاً يحتمل المناقشة "فانظر ماذا ترى" قرأ حمزة والكسائي "تري" بضم الفوقية وكسر الراء، والمفعولان محذوفان: أي انظر ماذا تريني إياه من صبرك واحتمالك. وقرأ الباقون من السبعة بفتح التاء والراء من الرأي، وهو مضارع رأيت، وقرأ الضحاك والأعمش، ترى بضم التاء وفتح الراء مبنياً للمفعول: أي ماذا يخيل إليك ويسنح لخاطرك. قال الفراء في بيان معنى القراءة الأولى: انظر ماذا ترى من صبرك وجزعك. قال الزجاج: لم يقل هذا أحد غيره، وإنما قال العلماء ماذا تشير: أي ما تريك نفسك من الرأي، وقال أبو عبيد: إنما يكون هذا من رؤية العين خاصة وكذا قال أبو حاتم، وغلطهما النحاس وقال: هذا يكون من رؤية العين وغيرها، ومعنى القراءة الثانية ظاهر واضح، وإنما شاوره ليعلم صبره لأمر الله، وإلا فرؤيا الأنبياء وحي، وامتثالها لازم لهم متحتم عليهم "قال يا أبت افعل ما تؤمر" أي ما تؤمر به مما أوحي إليك من ذبحي، وما موصولة، وقيل مصدرية على معنى افعل أمرك، والمصدر مضاف إلى المفعول، وتسمية المأمور به أمراً، والأول أولى "ستجدني إن شاء الله من الصابرين" على ما ابتلاني به من الذبح، والتعليق بمشيئة الله سبحانه تبركاً بها منه.
102. " فلما بلغ معه السعي "،قال ابن عباس و قتادة : يعني المشي معه إلى الجبل. وقال مجاهد عن ابن عباس: لما شب حتى بلغ سعيه سعي إبراهيم، والمعنى: بلغ أن يتصرف معه ويعينه في عمله. قال الكلبي : يعني العمل لله تعالى، وهو قول الحسن و مقاتل بن حيان و ابن زيد ، قالوا: هو العبادة لله تعالى.
واختلفوا في سنه، قيل: كان ابن ثلاث عشرة سنة. وقيل: كان ابن سبع سنين.
" قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك "، واختلف العلماء من المسلمين في هذا الغلام الذي أمر إبراهيم بذبحه بعد اتفاق أهل الكتابين على أنه إسحاق، فقال قوم: هو إسحاق وإليه ذهب من الصحابة: عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، ومن التابعين وأتباعهم: كعب الأحبار، و سعيد بن جبير ، و قتادة ، و مسروق ، و عكرمة ، و عطاء ، و مقاتل ، و الزهري ، و السدي ، وهي رواية عكرمة و سعيد بن جبير [عن ابن عباس، وقالوا: كانت هذه القصة بالشام].
وروي عن سعيد بن جبير قال: أري إبراهيم ذبح إسحاق في المنام، فسار به مسيرة شهر في غداة واحدة حتى أتى به المنحر بمنى، فلما أمره الله تعالى بذبح الكبش، ذبحه وسار به مسيرة شهر في روحة واحدة وطويت له الأودية والجبال.
وقال آخرون: هو إسماعيل، وإليه ذهب عبد الله بن عمر، وهو قول سعيد بن المسيب ، و الشعبي ،و الحسن البصري ، و مجاهد ، و الربيع بن أنس، و محمد بن كعب القرظي ، و الكلبي ، وهي رواية عطاء بن أبي رباح ، ويوسف بن ماهك عن ابن عباس، قال: المفدى إسماعيل.
وكلا القولين يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذهب إلى أن الذبيح إسحاق احتج من القرآن بقوله: " فبشرناه بغلام حليم * فلما بلغ معه السعي " (الصافات-101) أمره بذبح من بشره به، وليس في القرآن أنه بشر بولد سوى إسحاق، كما قال في سورة هود: " فبشرناها بإسحاق " (هود-71).
ومن ذهب إلى أنه إسماعيل احتج بأن الله تعالى ذكر البشارة بإسحاق بعد الفراغ من قصة المذبوح فقال: " وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين " (الصافات-112)، دل على أن المذبوح غيره، وأيضاً قال الله تعالى في سورة هود: " فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " (هود-71)، فكما بشره بإسحاق بشره بابنه يعقوب، فكيف يأمره بذبح إسحاق وقد وعده بنافلة منه.
قال القرظي : سأل عمر بن عبد العزيز رجلاً كان من علماء اليهود أسلم وحسن إسلامه: أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: إسماعيل، ثم قال: يا أمير المؤمنين إن اليهود لتعلم ذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله تعالى بذبحه، ويزعمون أنه إسحاق.
ومن الدليل عليه: أن قرني الكبش كانا منوطين بالكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت واحترق لاقرنان في أيام الزبير والحجاج.
قال الشعبي : رأيت قرني الكبش منوطين بالكعبة.
وعن ابن عباس قال: والذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام وأن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة، قد وحش، يعني يبس.
قال الأصمعي : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح إسحاق كان أو إسماعيل؟ فقال: يا صميع أين ذهب عقلك متى كان إسحاق بمكة؟ إنما كان إسماعيل بمكة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه.
وأما قصة الذبح قال السدي : لما دعا إبراهيم فقال: رب هب لي من الصالحين، وبشر به، قال: هو إذاً لله ذبيح، فلما ولد وبلغ معه السعي قيل له: أوف بنذرك، هذا هو السبب في أمر الله تعالى إياه بذبح ابنه، فقال عند ذلك، لإسحاق: انطلق فقرب قرباناً لله تعالى فأخذ سكيناً وحبلاً وانطلق معه حتى ذهب به بين الجبال، فقال له الغلام: يا ابت أين قربانك؟ فقال: (( يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر )).
وقال محمد بن إسحاق : كان إبراهيم إذا زار هاجر وإسماعيل حمل على البراق فيغدو من الشام فيقبل بمكة، ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام، تى إذا بلغ إسماعيل معه السعي، وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يأمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته، أمر في المنام أن يذبحه، وذلك أنه رأى ليلة التروية كأن قائلاً يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا، فلما أصبح روي في نفسه أي: فكر من الصباح إلى الرواح، أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان؟ فمن ثم سمي يوم التروية فلما أمسى رأى في المنام ثانياً، فلما أصبح عرف أن ذلك من الله عز وجل، فمن ثم سمي يوم عرفة.
قال مقاتل : رأى ذلك إبراهيم ثلاث ليال متواليات، فلما تيقن ذلك أخبر به ابنه، فقال: (( يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى )).
قرأ حمزة و الكسائي : (( تري )) بضم التاء وكسر الراء - ماذا تشير، وإنما أمره ليعلم صبره على أمر الله تعالى، وعزيمته على طاعته.
وقرأ العامة بفتح التاء والراء إلا أبا عمرو فإنه يميل الراء.
قال له ابنه: " يا أبت افعل ما تؤمر "، وقال ابن اسحاق وغيره: فلما أمر إبراهيم بذلك قال لابنه: يا بني خذ الحبل والمدية ننطلق إلى هذا الشعب نحتطب، فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب ثبير أخبره بما أمر، " قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ".
102-‌" فلما بلغ معه السعي " أي جد وبلغ أن يسعى معه في أعماله ، و " معه " متعلق بمحذوف دل عليه " السعي " لا به لأن صلة المصدر لا تتقدمه ولا يبلغ فإن بلوغهما لم يكن معاً كأنه لما قال " فلما بلغ معه السعي " فقيل مع من فقيل " معه " ، وتخصيصه لأن الأب أكمل في الرفق والاستصلاح له فلا يستسعيه قبل أوانه ، أو لأنه استوهبه لذلك وكان له يومئذ ثلاث عشرة سنة . " قال يا بني " وقرأ حفص بفتح الياء . " إني أرى في المنام أني أذبحك " يحتمل أنه رأى ذلك وأنه رأى ما هو تعبيره ، وقيل إنه رأى ليلة التروية أن قائلاً يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك ، فلما أصبح روي أنه من الله أو من الشيطان ، فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله ، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره وقال له ذلك ، ولهذا سميت الأيام الثلاثة الأولى بالتروية وعرفة والنحر ، والأظهر أن المخاطب إسماعيل عليه السلام لأنه الذي وهب له أثره الهجرة ولأن البشارة بإسحاق بعد معطوفة على البشارة بهذا الغلام ، ولقوله عليه الصلاة والسلام أنا ابن الذبيحين . فأحدهما جده إسماعيل والآخر أبوه عبدالله ، فإن جده عبد المطلب نذر أن يذبح ولداً إن سهل الله له حفر زمزم أو بلغ بنوه عشرة ، فلما سهل أقرع فخرج السهم على عبد الله ففداه بمائة من الإبل ، ولذلك سنت الدية مائة ولأن ذلك كان بمكة وكان قرنا الكبش معلقين بالكعبة حتى احترقا معها في أيام ابن الزبير ، ولم يكن إسحاق ثمة ولأن البشارة كانت مقرونة بولادة يعقوب منه فلا يناسبها الأمر بذبحه مراهقاً ، وما روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل أي النسب أشرف فقال : يوسف صديق الله بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن خليل الله ، فالصحيح أنه قال : فقال : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم والزوائد من الراوي . وما روي أن يعقوب كتب إلى يوسف مثل ذلك لم يثبت . وقرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو بفتح الياء فيهما " فانظر ماذا ترى " من الرأي ، وإنما شاوره فيه وهو حتم ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله فيثبت قدمه إن جزع ، ويأمن عليه إن سلم وليوطن نفسه عليه فيهون ويكتسب المثوبة بالانقياد له قبل نزوله ، وقرأ حمزة و الكسائي ماذا ترى بضم التاء وكسر الراء خالصة ، والباقون بفتحها و أبو عمرو يميل فتحة الراء وورش بين بين والباقون بإخلاص فتحها . " قال يا أبت " وقرأ ابن عامر بفتح التاء . " افعل ما تؤمر " أي ما تؤمر به فحذفا دفعة ، أو على الترتيب كما عرفت أو أمرك على إرادة المأمور به والإضافة إلى المأمور ، أو لعله فهم من كلامه أنه رأى أنه يذبحه مأموراً به ، أو علم أن رؤيا الأنبياء حق وأن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر ، ولعل الأمر في المنام دون اليقظة لتكون مبادرتها إلى الامتثال أدل على كمال الانقياد والإخلاص ، وإنما ذكر بلفظ المضارع لتكرر الرؤيا . " ستجدني إن شاء الله من الصابرين " على الذبح أو على قضاء الله ، وقرأ نافع بفتح الياء .
102. And when (his son) was old enough to walk with him, (Abraham) said: O my dear son, I have seen in a dream that I must sacrifice thee. So look, what thinkest thou? He said: O my father! Do that which thou art commanded. Allah willing, thou shalt find me of the steadfast.
102 - Then, when (the son) reached (the age of) (serious) work with him he said: O my son I see in vision that I offer thee in sacrifice now see what is thy view (the son) said: O my father Do as thou art commanded: thou will find me, if God So wills one practising Patience and constancy.