[يس : 8] إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ
8 - (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا) بأن تضم إليها الأيدي لأن الغل يجمع اليد إلى العنق (فهي) الأيدي مجموعة (إلى الأذقان) جمع ذقن وهي مجتمع اللحيين (فهم مقمحون) رافعون رؤوسهم لا يستطيعون خفضها وهذا تمثيل والمراد أنهم لا يذعنون للإيمان ولا يخفضون رؤوسهم له
ك وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال قال أبو جهل لئن رأيت محمدا لأفعلن ولأفعلن فأنزل الله إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا إلى قوله لا يبصرون فكانوا يقولون هذا محمد فيقول أين هو أين هو ولا يبصر
يقول تعالى ذكره: إنا جعلنا أيمان هؤلاء الكفار مغلولة إلى أعناقهم بالأغلال، فلا تبسط بشيء من الخيرات، وهي في قراءة عبد الله فيما ذكر ( إنا جعلنا في أيمانهم أغلالاً فهي إلى الأذقان) وقوله " إلى الأذقان " يعني: فأيمانهم مجموعة بالأغلال في أعناقهم، فكني عن الأيمان، ولم يجر لها ذكر لمعرفة السامعين بمعنى الكلام، وأن الأغلال إذا كانت في الأعناق لم تكن إلا وأيدي المغلولين مجموعة بها إليها فاستغني بذكر كون الأغلال في الأعناق من ذكر الأيمان، كما قال الشاعر:
وما أدري إذا يممت وجهاً أريد الخير أيهما يليني
أأ لخير الذين أنا أبتغيه أم الشر الذي لا يأتليني
فكنى عن الشر، وإنما ذكر الخير وحده لعلم سامع ذلك بمعنى قائله، إذ كان الشر مع الخير يذكر.
والأذقان: جمع ذقن، والذقن: مجمع اللحيين.
وقوله " فهم مقمحون " والمقمح: هو المقنع، وهو أن يحدر الذقن حتى يصير في الصدر، ثم يرفع رأسه في قول بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة. وفي قول بعض الكوفيين: هو الغاض بصره، بعد رفع رأسه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله " إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون " قال: هو كقول الله ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) ( الإسراء: 29) يعني بذلك أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم، لا يستطيعون أن يبسطوها بخير.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله " فهم مقمحون " قال: رافعو رءوسهم، وأيديهم موضوعة على أفواههم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة " إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون ": أي فهم مغلولون عن كل خير.
وقوله " وجعلنا من بين أيديهم سدا " يقول تعالى ذكره وجعلنا من بين أيدي هؤلاء المشركين سداً، وهو الحاجز بين الشيئين، إذا فتح كان من فعل بني آدم، وإذا كان من فعل الله كان بالضم، وبالضم قرأ ذلك عامة قراء المدينة والبصرة وبضع الكوفيين. وقرأه بضع المكيين وعامة قراء الكوفيين بفتح السين " سدا " في الحرفين كلاهما، والضم أعجب القراءتين إلي في ذلك، وإن كانت الأخرى جائزة صحيحة.
فقال : " إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا " قيل : نزلت في أبي جهل ابن هشام وصاحبيه المخزوميين ، وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمداً يصلي ليرضخن رأسه بحجر ، فلما رآه ذهب فرفع حجراً ليرميه ، فلما أومأ إليه رجعت يده إلى عنقه ، والتصق الحجر بيده ، قاله ابن عباس و عكرمة وغيرهما ، فهو على هذا تمثيل أي هو بمنزلة من غلت يده إلى عنقه ، فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم بما رأى ، فقال الرجل الثاني وهو الوليد بن المغيرة : أنا أرضخ رأسه . فأتاه وهو يصلي على حالته ليرميه بالحجر فأعمى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه ، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقال : والله ما رأيته ولقد سمعت صوته . فقال الثالث : والله لأشدخن أنا رأسه . ثم أخذ الحجر وانطلق فرجع القهقرى ينكص على عقبيه حتى خر على قفاه مغشياً عليه . فقيل له : ما شأنك ؟ قال شأني عظيم ! رأيت الرجل فلما دنوت منه ، وإذا فحل يخطر بذنبه ما رأيت فحلاً قط أعظم منه حال بيني وبينه ، فواللات والعزى لو دنوت منه لأكلني . فأنزل الله تعالى : " إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون " وقرأ ابن عباس ( إنا جعلنا في أيمانهم ) . وقال الزجاج : وقرىء ( أنا جعلنا في أيديهم ) قال النحاس : وهذه القراءة تفسير ولا يقرأ بما خالف المصحف . وفي الكلام حذف على قراءة الجماعة ، التقدير : إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالاً فهي إلى الأذقان ، فهي كناية عن الأيدي لا عن الأعناق ، والعرب تحذف مثل هذا . ونظيره : " سرابيل تقيكم الحر " [ النحل :81 ] وتقديره وسرابيل تقيكم البرد فحذف ، لأن ما وقى من الحر وقى من البرد ، لأن الغل إذا كان في العنق فلا بد أن يكون في اليد ، ولا سيما وقد قال الله عز وجل : " فهي إلى الأذقان " فقد علم أنه يراد به الأيدي " فهم مقمحون " أي رافعوا رؤوسهم لا يستطيعون الإطراق ، لأن من غلت يده إلى ذقنه ارتفع رأسه . روى عبد الله بن يحيى : أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أراهم الإقماح ، فجعل يديه تحت لحيته والصقهما ورفع رأسه . قال النحاس ، وهذا أجل ما روي فيه وهو مأخوذ مما حكاه الأصمعي . قال : يقال : أقمحت الدابة إذا جذبت لجامها لترفع رأسها . قال النحاس : والقاف مبدلة من الكاف لقربها منها . كما يقال : قهرته وكهرته . قال الأصمعي : يقال أكمحت الدابة إذا جذبت عنانها حتى ينتصب رأسها . ومنه قول الشاعر :
والرأس مكمح
ويقال : أكمحتها وأكفحتها وكبحتها ، هذه وحدها بلا ألف عن الأصمعي . وقمح البعير قموحاً : إذا رفع رأسه عند الحوض وامتنع من الشرب ، فهو بعير قامح وقمح ، يقال : شرب فتقمح وانقمح بمعنى إذا رفع رأسه وترك الشرب رياً . وقد قامحت إبلك : إذا وردت ولم تشرب ، ورفعت رأسها من داء يكون بها أو برد . وهي إبل مقامحة ، وبعير مقامح ، وناقة مقامح أيضاً ، والجمع قماح على غير قياس ، قال بشر يصف سفينة :
ونحن على جوانبها قعود تغض الطرف كالإبل القماح
والإقماح : رفع الرأس وغض البصر ، يقال : أقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعاً من ضيقه . وشهرا قماح : أشد ما يكون من البرد ، وهما الكانونان سميا بذلك ، لأن الإبل إذا وردت آذاها برد الماء فقامحت رؤوسها ، ومنه قمحت السويق . وقيل : هو مثل ضربه الله تعالى لهم في امتناعهم من الهدى كامتناع المغلول ، قاله يحيى بن سلام و أبو عبيدة وكما يقال : فلان حمار ، أي لا يبصر الهدى . وكما قال :
لهم عن الرشد إغلال وأقياد
وفي الخبر : أن أبا ذؤيب كان يهوى امرأة في الجاهلية ، فلما أسلم راودته فأبى وأنشأ يقول :
فليس كعهد الدار يا أم مالك ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل سوى العدل شيئاً فاستراح العواذل
أراد منعنا بموانع الإسلام عن تعاطي الزنى والفسق . وقال الفراء أيضاً : هذا ضرب مثل ، أي حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله ، وهو كقوله تعالى : " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك " [ الإسراء : 29 ] وقاله الضحاك : وقيل : إن هؤلاء صاروا في الاستكبار عن الحق كمن جعل في يده غل فجمعت إلى عنقه ، فبقي رافعاً رأسه لا يخفضه ، وغاضا بصره لا يفتحه . والمتكبر يوصف بانتصاب العنق . وقال الأزهري : إن أيديهم لما غلت عند أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صعداً كالإبل ترفع رؤوسها . وهذا المنع بخلق الكفر في قلوب الكفار ، وعند قوم بسلبهم التوفيق عقوبة لهم على كفرهم . وقيل : الآية إشارة إلى ما يفعل بأقوام غداً في النار من وضع الأغلال في أعناقهم والسلاسل ، كما قال تعالى : " إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل " [ غافر : 71 ] وأخبر عنه بلفظ الماضي . " فهم مقمحون " تقدم تفسيره . قال مجاهد : مقمحون مغلون عن كل خير .
يقول تعالى: إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء نسبتهم إلى الوصول إلى الهدى كنسبة من جعل في عنقه غل, فجمع يديه مع عنقه تحت ذقنه, فارتفع رأسه فصار مقمحاً, ولهذا قال تعالى: "فهم مقمحون" والمقمح هو الرافع رأسه, كما قالت أم زرع في كلامها: وأشرب فأتقمح, أي أشرب فأروي, وأرفع رأسي تهنيئاً وتروياً, واكتفى بذكر الغل في العنق عن ذكر اليدين وإن كانتا مرادتين, كما قال الشاعر:
فما أدري إذا يممت أرضاً أريد الخير أيهما يليني
أألخير الذي أنا أبتغيه أم الشر الذي لا يأتليني ؟
فاكتفى بذكر الخير عن الشر, لما دل الكلام والسياق عليه, وهكذا هذا لما كان الغل إنما يعرف فيما جمع اليدين مع العنق, اكتفى بذكر العنق عن اليدين. قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: "إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون" قال: هو كقوله عز وجل: "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك" يعني بذلك أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم لا يستطيعون أن يبسطوها بخير. وقال مجاهد "فهم مقمحون" قال: رافعي رؤوسهم, وأيديهم موضوعة على أفواههم, فهم مغلولون عن كل خير.
وقوله تعالى: "وجعلنا من بين أيديهم سداً" قال مجاهد : عن الحق "ومن خلفهم سداً" قال مجاهد : عن الحق فهم يترددون. وقال قتادة : في الضلالات. وقوله تعالى: "فأغشيناهم" أي أغشينا أبصارهم عن الحق "فهم لا يبصرون" أي لا ينتفعون بخير ولا يهتدون إليه. قال ابن جرير : وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقرأ " فأغشيناهم " بالعين المهملة من العشا, وهو داء في العين, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : جعل الله تعالى هذا السد بينهم وبين الإسلام والإيمان, فهم لا يخلصون إليه, وقرأ " إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم " ثم قال: من منعه الله تعالى لا يستطيع.وقال عكرمة : قال أبو جهل : لئن رأيت محمداً لأفعلن ولأفعلن, فأنزلت " إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون * وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون " قال: وكانوا يقولون هذا محمد, فيقول: أين هو أين هو ؟ لا يبصره, رواه ابن جرير .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب قال: قال أبو جهل وهم جلوس: إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه كنتم ملوكاً فإذا متم بعثتم بعد موتكم, وكانت لكم جنان خير من جنان الأردن, وأنكم إن خالفتموه كان لكم منه ذبح, ثم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم نار تعذبون بها. وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك وفي يده حفنة من تراب, وقد أخذ الله تعالى على أعينهم دونه, فجعل يذرها على رؤوسهم ويقرأ " يس * والقرآن الحكيم " حتى انتهى إلى قوله تعالى " وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون " وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته, وباتوا رصداء على بابه حتى خرج عليهم بعد ذلك خارج من الدار, فقال: مالكم ؟ قالوا: ننتظر محمداً, قال: قد خرج عليكم فما بقي منكم من رجل إلا وضع على رأسه تراباً, ثم ذهب لحاجته, فجعل كل رجل منهم ينفض ما على رأسه من التراب. قال: وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قول أبي جهل فقال: "وأنا أقول ذلك إن لهم مني لذبحاً وإنه أحدهم".
وقوله تبارك وتعالى: " وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " أي فقد ختم الله عليهم بالضلالة فما يفيد فيهم الإنذار ولا يتأثرون به, وقد تقدم نظيرها في أول سورة البقرة, وكما قال تبارك وتعالى: " إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم " "إنما تنذر من اتبع الذكر" أي إنما ينتفع بإنذارك المؤمنون الذين يتبعون الذكر وهو القرآن العظيم "وخشي الرحمن بالغيب" أي حيث لا يراه أحد إلا الله تبارك وتعالى يعلم أن الله مطلع عليه وعالم بما يفعل "فبشره بمغفرة " أي لذنوبه "وأجر كريم" أي كثير واسع حسن جميل, كما قال تبارك وتعالى: "إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير" ثم قال عز وجل: "إنا نحن نحيي الموتى" أي يوم القيامة, وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يحيي قلب من يشاء من الكفار, الذين قد ماتت قلوبهم بالضلالة فيهديهم بعد ذلك إلى الحق, كما قال تعالى بعد ذكر قسوة القلوب: " اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون ".
وقوله تعالى: " ونكتب ما قدموا " أي من الأعمال, وفي قوله تعالى: "وآثارهم" قولان: (أحدهما) نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم, وآثارهم التي آثروها من بعدهم فنجزيهم على ذلك أيضاً إن خيراً فخير وإن شراً فشر, كقوله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها, وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً, ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً" رواه مسلم من رواية شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن المنذر بن جرير عن أبيه جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه, وفيه قصة مجتابي النمار المضريين, ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن يحيى بن سليمان الجعفي , عن أبي المحياة يحيى بن يعلى عن عبد الملك بن عمير عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه فذكر الحديث بطوله, ثم تلا هذه الأية "ونكتب ما قدموا وآثارهم" وقد رواه مسلم من رواية أبي عوانة عن عبدالملك بن عمير عن المنذر بن جرير عن أبيه فذكره.
وهكذا الحديث الاخر الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: من علم ينتفع به, أو ولد صالح يدعو له, أو صدقة جارية من بعده", وقال سفيان الثوري عن أبي سعيد رضي الله عنه, قال: سمعت مجاهداً يقول في قوله تعالى: "إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم" قال: ما أورثوا من الضلالة. وقال ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: "ونكتب ما قدموا وآثارهم" يعني ما أثروا, يقول: ما سنوا من سنة فعمل بها قوم من بعد موتهم, فإن كانت خيراً فلهم مثل أجورهم لاينقص من أجر من عمل به شيئاً, وإن كانت شراً فعليهم مثل أوزارهم ولا ينقص من أوزار من عمل بها شيئاً, ذكرهما ابن أبي حاتم , وهذا القول هو اختيار البغوي.
(والقول الثاني) أن المراد بذلك آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية, قال ابن أبي نجيح وغيره عن مجاهد "ما قدموا" أعمالهم "وآثارهم" قال: خطاهم بأرجلهم, وكذا قال الحسن وقتاده "وآثارهم" يعني خطاهم. وقال قتادة : لو كان الله عز وجل مغفلاً شيئاً من شأنك يا ابن آدم أغفل ما تعفي الرياح من هذه الاثار, ولكن أحصى على ابن آدم أثره وعمله كله حتى أحصى هذا الأثر فيما هو من طاعة الله تعالى أو من معصيته, فمن استطاع منكم أن يكتب أثره في طاعة الله تعالى فليفعل. وقد وردت في هذا المعنى أحاديث:
(الحديث الأول) قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد , حدثنا أبي , حدثنا الجريري عن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما, قال: خلت البقاع حول المسجد, فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد, فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال لهم: "إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد ؟ قالوا: نعم يارسول الله قد أردنا ذلك, فقال صلى الله عليه وسلم: يا بني سلمة, دياركم تكتب آثاركم, دياركم تكتب آثاركم", وهكذا رواه مسلم من حديث سعيد الجريري وكهمس بن الحسن , كلاهما عن أبي نضرة واسمه المنذر بن مالك بن قطعة العبدي , عن جابر رضي عنه به.
(الحديث الثاني) قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن الوزير الواسطي , حدثنا إسحاق الأزرق عن سفيان الثوري عن أبي سفيان عن أبي نضرة , عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, قال: كانت بنو سلمة في ناحية من المدينة, فأرادوا أن ينتقلوا إلى قريب من المسجد, فنزلت "إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم" فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "إن آثاركم تكتب" فلم ينتقلوا, تفرد بإخراجه الترمذي عند تفسيره هذه الاية الكريمة عن محمد بن الوزير به, ثم قال: حسن غريب من حديث الثوري , ورواه ابن جرير عن سليمان بن عمر بن خالد الرقي , عن ابن المبارك عن سفيان الثوري عن طريف ـ وهو ابن شهاب أبو سفيان السعدي ـ عن أبي نضرة به.
وقد روي من غير طريق الثوري فقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عباد بن زياد الساجي , حدثنا عثمان بن عمر , حدثنا شعبة عن سعيد الجريري عن أبي نضرة , عن أبي سعيد رضي الله عنه, قال: إن بني سلمة شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد منازلهم من المسجد, فنزلت" ونكتب ما قدموا وآثارهم " فأقاموا في مكانهم. وحدثنا محمد بن المثنى , حدثنا عبد الأعلى , حدثنا الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه, وفيه غرابة من حيث ذكر نزول هذه الاية, والسورة بكمالها مكية, فالله أعلم.
(الحديث الثالث) قال ابن جرير : حدثنا نصر بن علي الجهضمي , حدثنا أبو أحمد الزبيري , حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: كانت منازل الأنصار متباعدة من المسجد, فأرادوا أن ينتقلوا إلى المسجد,فنزلت " ونكتب ما قدموا وآثارهم " فقالوا: نثبت مكاننا, هكذا رواه, وليس فيه شيء مرفوع. ورواه الطبراني عن عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم عن محمد بن يوسف الفريابي عن إسرائيل , عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد, فأرادوا أن يتحولوا إلى المسجد, فنزلت "ونكتب ما قدموا وآثارهم" فثبتوا في منازلهم.
(الحديث الرابع) قال الإمام أحمد : حدثنا حسن , حدثنا ابن لهيعة , حدثني حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما, قال: " توفي رجل في المدينة فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم: وقال يا ليته مات في غير مولده , فقال رجل من الناس: ولم يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل إذا توفي في غير مولده, قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة", ورواه النسائي عن يونس بن عبد الأعلى وابن ماجه عن حرملة , كلاهما عن ابن وهب عن حيي بن عبد الله به. وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد , حدثنا أبو نميلة , حدثنا الحسين عن ثابت قال: مشيت مع أنس رضي الله عنه فأسرعت المشي فأخذ بيدي فمشينا رويداً, فلما قضينا الصلاة قال أنس : مشيت مع زيد بن ثابت فأسرعت المشي,فقال: يا أنس أما شعرت أن الاثار تكتب ؟ وهذا القول لا تنافي بينه وبين الأول, بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك بطريق الأولى والأحرى, فإنه إذا كانت هذه الاثار تكتب, فلأن تكتب تلك التي فيها قدوة بهم من خير أو شر بطريق الأولى, والله أعلم.
وقوله تعالى: "وكل شيء أحصيناه في إمام مبين" أي وجميع الكائنات مكتوب في كتاب مسطور مضبوط في لوح محفوظ, والإمام المبين ههنا هو أم الكتاب, قاله مجاهد وقتاده وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم , وكذا في قوله تعالى: " يوم ندعوا كل أناس بإمامهم " أي بكتاب أعمالهم الشاهد عليهم بما عملوه من خير أو شر, كما قال عز وجل: "ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء" وقال تعالى: " ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ".
وجملة 8- "إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً" تقرير لما قبلها مثلت حالهم بحال الذين غلت أعناقهم "فهي" أي الأغلال منتهية "إلى الأذقان" فلا يقدرون عند ذلك على الالتفات ولا يتمكنون من عطفها، وهو معنى قوله: "فهم مقمحون" أي رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم. قال الفراء والزجاج: المقمح: الغاض بصره بعد رفع رأسه، ومعنى الإقماح رفع الرأس وغض البصر، يقال أقمح البعير رأسه وقمح: إذا رفع رأسه ولم يشرب الماء.
قال الأزهري: أراد الله أن أيديهم لما غلت عند أعناقهم رفعت الأغلال إلى أذقانهم رؤوسهم صعداء، فهم مرفوعو الرؤوس برفع الأغلال إياها. وقال قتادة: معنى مقمحون: مغلولون، والأول أولى، ومنه قول الشاعر:
ونحن على جوانبها قعود نعض الطرف كالإبل القماح
قال الزجاج: قيل للكانونين شهرا قماح، لأن الإبل إذا وردت الماء رفعت رؤوسها لشدة البرد، وأنشد قول أبي زيد الهذلي:
فتى ما ابن الأغر إذا استوينا وجب الزاد في شهري قماح
قال أبو عبيدة: قمح البعير إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب. وقال أبو عبيدة أيضاً: هو مثل ضربه الله لهم في امتناعهم عن الهدى كامتناع المغلول، كما يقال فلان حمار: أي لا يبصر الهدى، وكما قال الشاعر:
لهم عن الرشد أغلال وأقياد
وقال الفراء: هذا ضرب مثل: أي حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله، وهو كقوله: "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك" وبه قال الضحاك. وقيل الآية إشارة إلى ما يفعل بقوم في النار من وضع الأغلال في أعناقهم كما قال تعالى: "إذ الأغلال في أعناقهم" وقرأ ابن عباس إنا جعلنا في أيمانهم أغلالاً قال الزجاج: أي في أيديهم. قال النحاس: وهذه القراءة تفسير ولا يقرأ بما خالف المصحف. قال: وفي الكلام حذف على قراءة الجماعة، التقدير: إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالاً فهي إلى الأذقان، فلفظ هي كناية عن الأيدي لا عن الأعناق، والعرب تحذف مثل هذا، ونظيره "سرابيل تقيكم الحر" وتقديره: وسرابيل تقيكم البرد، لأن ما وقى من الحر وقى من البرد، لأن الغل إذا كان في العنق فلا بدل أن يكون في اليد، ولا سيما وقد قال الله "فهي إلى الأذقان" فقد علم أنه يراد به الأيدي فهم مقمحون: أي رافعو رؤوسهم لا يستطيعون الإطراق، لأن من غلت يداه إلى ذقنه ارتفع رأسه. وروي عن ابن عباس أنه قرأ إنا جعلنا في أيديهم أغلالاً وعن ابن مسعود أنه قرأ إنا جعلنا في أيمانهم أغلالاً كما روي من قراءة ابن عباس.
8. " إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً "، نزلت في أبي جهل وصاحبيه المخزوميين، وذلك أن أبا جهل كان قد حلف لئن رأى محمداً يصلي ليرضخن رأسه، فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه، فلما رفعه أثبتت يده إلى عنقه ولزق الحجر بيده، فلما عاد إلى أصحابه فأخبرهم بما رأى سقط الحجر، فقال رجل من بني مخزوم: أنا أقتله بهذا الحجر، فأتاه وهو يصلي ليرميه بالحجر، فأعمى الله تعالى بصره، فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقالوا له: ما صنعت؟ فقال: ما رأيته، ولقد سمعت صوته وحال بيني وبينه شيء كهيئة الفحل يخطر بذنبه، لو دنوت منه لأكلني، فأنزل الله تعالى: " إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ".
قال أهل المعاني: هذا على طريق المثل، ولم يكن هناك غل، أراد: منعناهم عن الإيمان بموانع، فجعل الأغلال مثلاً لذلك. قال الفراء : معناه إنا حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله كقوله تعالى: " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك " (الإسراء-29) معناه: لا تمسكها عن النفقة.
" فهي إلى الأذقان "، (( هي )) كناية عن الأيدي - وإن لم يجر لها ذكر - لأن الغل يجمع اليد إلى العنق، معناه: إنا جعلنا في ايديهم وأعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان، " فهم مقمحون " والمقمح: الذي رفع رأسه وغض بصره، يقال: بعير قامح إذا روى من الماء، فأقمح إذا رفع رأسه وغض بصره. وقال الأزهري : أراد أن أيديهم لما غلت إلى أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم، فهم مرفوعو الرؤوس برفع الأغلال إياها.
8 -" إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً " تقرير لتصميمهم على الكفر والطبع على قلوبهم بحيث لا تغني عنهم الآيات والنذر ، بتمثيلهم بالذين غلت أعناقهم . " فهي إلى الأذقان " فالأغلال واصلة إلى أذقانهم فلا تخليهم يطأطئون رؤوسهم له . " فهم مقمحون " رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم في أنهم لا يلتفتون لفت الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطأطئون رؤوسهم له .
8. Lo! we have put on their necks carcans reaching unto the chins, so that they are made stiff necked.
8 - We have put yokes round their necks right up to their chins, so that their heads are forced up (and they cannot see).