[فاطر : 32] ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ
32 - (ثم أورثنا) أعطينا (الكتاب) القرآن (الذين اصطفينا من عبادنا) وهم أمتك (فمنهم ظالم لنفسه) بالتقصير في العمل به (ومنهم مقتصد) يعمل به أغلب الأوقات (ومنهم سابق بالخيرات) يضم إلى العلم التعليم والإرشاد إلى العمل (بإذن الله) بإرادته (ذلك) أي إيراثهم الكتاب (هو الفضل الكبير)
اختلف أهل التأويل في معنى الكتاب الذي ذكر الله في هذه الآية أنه أورثه الذين اصطفاهم من عباده، ومن المصطفون من عباده، والظالم لنفسه، فقال بعضهم: الكتاب: هو الكتاب التي أنزلها الله من قبل الفرقان، والمصطفون من عباده: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والظالم لنفسه: أهل الإجرام منهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله " ثم أورثنا الكتاب " إلى قوله " لفضل الكبير " هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورثهم الله كل كتاب أنزله، فظالمهم يغفر له، ومقتصدهم يحاسب حساباً يسيراً، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو بن قيس، عن عبد الله بن عيسى، عن يزيد بن الحارث، عن شقيق، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة: ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً، وثلث يجيئون بذنوب عظام، حتى يقول: ما هؤلاء، وهو أعلم تبارك وتعالى، فتقول الملائكة: هؤلاء جاءوا بذنوب عظام إلا أنهم لم يشركوا بك، فيقول الرب: أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي، وتلا عبد الله هذه الآية " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ".
حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا عون، قال: ثنا عبد الله بن الحارث بن نوفل، قال: ثنا كعب الأحبار أن الظالم لنفسه من هذه الأمة، والمقتصد، والسابق بالخيرات: كلهم في الجنة، ألم تر أن الله قال " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا " ... إلى قوله: " كل كفور ".
حدثني علي بن سعيد الكندي، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن عوف، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، قال: سمعت كعباً يقول " فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله " قال: كلهم في الجنة، وتلا هذه الآية ( جنات عدن يدخلونها) ( فاطر: 33).
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا مروان بن معاوية الفزازي، عن عوف بن أبي جبلة، قال: ثنا عبد الله بن الحارث بن نوفل، قال: ثنا كعب أن الظالم من هذه الأمة، والمقتصد، والسابق بالخيرات كلهم في الجنة، ألم تر ان الله قال " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا " .. إلى قوله " لغوب " والذين كفروا لهم نار جهنم، قال: قال كعب: فهؤلاء أهل النار.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن عوف، قال: سمعت عبد الله بن الحارث يقول: قال كعب: إن الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات من هذه الأمة: كلهم في الجنة، ألم تر أن الله يقول: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا " ... حتى بلغ قوله " جنات عدن يدخلونها ".
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا حميد، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث عن أبيه، أن ابن عباس سأل كعباً عن قوله تعالى " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا " ... إلى قوله " بإذن الله " فقال: تماست مناكبهم ورب الكعبة، ثم أعطوا الفضل بأعمالهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو بن قيس، عن أبي إسحاق السبيعين في هذه الآية " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا " قال: قال أبو إسحاق: أما ما سمعت منذ ستين سنة، فكلهم ناج.
قال: ثنا عمرو، عن محمد ابن الحنفية، قال: إنها أمة مرحومة، الظالم مغفور له، والمقتصد في الجنات عند الله، والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله.
وقال آخرون: الكتاب الذي أورث هؤلاء القوم، هو شهادة أن لا إله إلا الله، والمصطفون هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والظالم لنفسه منهم هو المنافق، وهو في النار، والمقتصد والسابق بالخيرات في الجنة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث المروزي، قال: ثنا الفضل بن موسى، عن حسين بن واقد، عن يزيد، عن عكرمة، عن عبد الله " فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات " قال: اثنان في الجنة، وواحد في النار.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا " ... إلى آخر الآية، قال: جعل أهل الإيمان على ثلاثة منازل، كقوله ( وأصحاب الشمال من أصحاب الشمال) ( الواقعة: 41) ( وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين) ( الواقعة: 27)، ( والسابقون السابقون * أولئك المقربون) ( الواقعة: 10 - 11) فهم على هذا المثال.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة " فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد " ... الآية، قال: الاثنان في الجنة، وواحد في النار، وهي بمنزلة التي في الواقعة ( وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين) ( الواقعة:27)، ( وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال) ( الواقعة: 41)، ( والسابقون السابقون) ( الواقعة:10).
حدثنا سهل بن موسى، قال: ثنا عبد المجيد، عن ابن جريج، عن مجاهد، في قوله " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه " قال هم أصحاب المشأمة " ومنهم مقتصد " قال: هم أصحاب الميمنة " ومنهم سابق بالخيرات " قال: هم السابقون من الناس كلهم.
حدثنا الحسن بن عرفة قال: ثنا مروان بن معاوية، قال: قال عوف، قال الحسن: أما الظالم لنفسه فإنه هو المنافق، سقط هذا. وأما المقتصد والسابق بالخيرات، فهما صاحبا الجنة.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن عوف، قال: قال الحسن: الظالم لنفسه: المنافق.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا " شهادة أن لا إله إلا الله " فمنهم ظالم لنفسه " هذا المنافق في قول قتادة والحسن " ومنهم مقتصد " قال: هذا صاحب اليمين " ومنهم سابق بالخيرات " قال: هذا المقرب، قال قتادة: كان الناس ثلاث منازل في الدنيا، وثلاث منازل عند الموت، وثلاث منازل في الآخرة. أما الدنيا، فكانوا: مؤمن، ومنافق، ومشرك. وأما عند الموت، فإن الله قال ( فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنة نعيم * وأما إن كان من أصحاب اليمين * فسلام لك من أصحاب اليمين * وأما إن كان من المكذبين الضالين * فنزل من حميم * وتصلية جحيم) ( الواقعة: 88 - 94). وأما في الآخرة فكانوا أزواجاً ثلاثة، ( فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة * وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة * والسابقون السابقون * أولئك المقربون) ( الواقعة: 8 - 11).
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه " قال: هم أصحاب المشأمة " ومنهم مقتصد " قال: أصحاب الميمنة، " ومنهم سابق بالخيرات " قال: فهم السابقون من الناس كلهم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه " قال: سقط هذا " ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله " قال: سبق هذا بالخيرات، وهذا مقتصد على أثره.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب تأويل من قال: عني بقوله " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا " الكتب التي أنزلت من قبل الفرقان.
فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يكون ذلك معناه، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يتلون غير كتابهم، ولا يعملون إلا بما فيه من الأحكام والشرائع؟ قيل: إن معنى ذلك على غير الذي ذهبت إليه، وإنما معناه: ثم أورثنا الإيمان بالكتاب الذين اصطفينا، فمنهم مؤمنون بكل كتاب أنزله الله من السماء قبل كتابهم وعاملون به، لأن كل كتاب أنزل من السماء قبل الفرقان، فإنه يأمر بالعمل بالفرقان عند نزوله، وباتباع من جاء به، وذلك عمل من أقر بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به، وعمل بما دعاه إليه بما في القرآن، وبما في غيره من الكتب التي أنزلت قبله.
وإنما قيل: عني بقوله " ثم أورثنا الكتاب " الكتب التي ذكرنا لأن الله جل ثناؤه قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم " والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه " ثم أتبع ذلك قوله " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا " فكان معلوماً إذ كان معنى الميراث إنما هو انتقال معنى من قوم إلى آخرين ولم تكن أمة على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم انتقل إليهم كتاب من قوم كانوا قبلهم غير أمته أن ذلك معناه. وإذ كان ذلك كذلك، فبين أن المصطفين من عباده هم مؤمنو أمته، وأما الظالم لنفسه، فإنه لأن يكون من أهل الذنوب والمعاصي التي هي دون النفاق والشرك عندي أشبه بمعنى الآية من أن يكون المنافق أو الكافر، وذلك أن الله تعالى ذكره أتبع هذه الآية قوله " جنات عدن يدخلونها " فعم بدخول الجنة جميع الأصناف الثلاثة.
فإن قال قائل: فإن قوله " يدخلونها " إنما عني به المقتصد والسابق. قيل له: وما برهانك على أن ذلك كذلك من خبر أو عقل، فإن قال: قيام الحجة أن الظالم من هذه الأمة سيدخل النار، ولو لم يدخل النار من هذه الأصناف الثلاثة أحد وجب أن لا يكون لأهل الإيمان وعيد. قيل: إنه ليس في الآية خبر أنهم لا يدخلون النار، وإنما فيها إخبار من الله تعالى ذكره أنهم يدخلون جنات عدن، وجائز أن يدخلها الظالم لنفسه بعد عقوبة الله إياه على ذنوبه التي أصابها في الدنيا، وظلمه نفسه فيها بالنار، أو بما شاء من عقابه، ثم يدخله الجنة، فيكون ممن عمه خبر الله جل ثناؤه بقوله " جنات عدن يدخلونها ".
وقد وري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي قلنا في ذلك أخبار وإن كان في أسانيدها نظر مع دليل الكتاب على صحته على النحو الذي بينت.
ذكر الرواية الواردة بذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان عن الأعمش، قال: ذكر أبو ثابت أنه دخل المسجد، فجلس إلى جنب أبي الدرداء، فقال: اللهم آنس وحشتي، وارحم غربتي، ويسر لي جليساً صالحاً، فقال أبو الدرداء: لئن كنت صادقاً لأنا أسعد به منك، سأحدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أحدث به منذ سمعته ذكر هذه الآية " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات "، فأما السابق بالخيرات، فيدخلها بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً، وأما الظالم لنفسه فيصيبه في ذلك المكان من الغم والحزن، فذلك قوله ( الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن) ( فاطر: 34).
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة عن الوليد بن المغيرة، أنه سمع رجلاً من ثقيف حدث عن رجل من كنانة، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية " " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله "، قال: هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة، وكلهم في الجنة. وعنى بقوله " الذين اصطفينا من عبادنا ": الذين اخترناهم لطاعتنا واجتبيناهم. وقوله " فمنهم ظالم لنفسه " يقول: فمن هؤلاء الذين اصطفينا من عبادنا، من يظلم نفسه بركوبه المآثم، واجترامه المعاصي، واقترافه الفواحش " ومنهم مقتصد " وهو غير المبالغ في طاعة ربه، وغير المجتهد فيما ألزمه من خدمة ربه، حتى يكون عمله في ذلك قصداً " ومنهم سابق بالخيرات " وهو المبرز الذي قد تقدم المجتهدين في خدمة ربه، وأداء ما لزمه من فرائضه، فسبقهم بصالح الأعمال، وهي الخيرات التي قال الله جل ثناؤه " بإذن الله " يقول: بتوفيق الله إياه لذلك ".
وقوله " ذلك هو الفضل الكبير " يقول تعالى ذكره: سبوق هذا السابق من سبقه بالخيرات بإذن الله، هو الفضل الكبير الذي فضل به من كان مقصراً عن منزلته في طاعة الله من المقتصد والظالم لنفسه.
فيه أربع مسائل :
الأولى : هذه الآية مشكلة ، لأنه قال جل وعز : " اصطفينا من عبادنا " ثم قال " فمنهم ظالم لنفسه " وقد تكلم العلماء فيها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم . قال النحاس : فمن أصح ما روي في ذلك ما روي عن ابن عباس (( فمنهم ظالم لنفسه )) قال : الكافر ، رواه ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس أيضا . وعن ابن عباس أيضا (( فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات )) قال : نجت فرقتان ، ويكون التقدير في العربية : فمنهم من عبادنا ظالم لنفسه ، أي كافر . يقال الحسن : أي فاسق . ويكون الضمير الذي في (( يدخلونها )) يعود على المقتصد والسابق لا على الظالم . وعن عكرمة و قتتادة و الضحاك و الفراء أن المقتصد المؤمن العاصي ، والسابق التقي على الإطلاق . قالوا : وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة الواقعة : " وكنتم أزواجا ثلاثة " . قالوا وبعيد أن يكون ممن يصطفى ظالم . ورواه مجاهد عن ابن عباس . قال مجاهد : (( فمنهم ظالم لنفسه )) أصحاب المشأمة ، (( ومنهم مقتصد )) أصحاب الميمنة ، (( ومنهم سابق بالخيرات )) السابقون من الناس كلهم . وقيل : الضمير في (( يدخلونها )) يعود على الثلاثة الأصناف ، على ألا يكون الظالم هاهنا كافرا ولا فاسقا . وممن روي عنه هذا القول عمر وعثمان وأبو الدرداء ، وابن مسعود وعقبة بن عمرو وعائشة ، والتقدير على هذا القول : أين يكون الظالم لنفسه الذي عمل الصغائر و( المقتصد ) قال محمد بن يزيد : هو الذي يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها ، فيكون (( جنات عدن يدخلونها )) عائدا على الجميع على هذا الشرح والتبيين ، وروي عن أبي سعيد الخدري . وقال كعب الأحبار : استوت مناكبهم - ورب الكعبة - وتفاضلوا بأعمالهم . وقال أبو إسحاق و السبيعي : أما الذي سمعت منذ ستين سنة فكلهم ناج . و" روى أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال : (( كلهم في الجنة )) " . وقرأ عمر بن الخطاب هذه الآية ثم قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له )) " . فعلى هذا القول يقدر مفعول الاصطفاء من قوله : " أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا " مضافا حذف كما حذف المضاف في " واسأل القرية " أي اصطفينا دينهم ، فبقي اصطفيناهم ، فحذف العائد إلى الموصول كما حذف في قوله : " ولا أقول للذين تزدري أعينكم " أي تزدريهم ، فالاصطفاء إذا موجه إلى دينهم ، كما قال تعالى : " إن الله اصطفى لكم الدين " . قال النحاس : وقول ثالث : يكون الظالم صاحب الكبائر ، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته ، فيكون : " جنات عدن يدخلونها " للذين سبقوا بالخيرات لا غير . وهذا قول جماعة من أهل النظر ، لأن الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى .
قلت : القول الوسط أولاها وأصحها إن شاء الله ، لأن الكافر والمنافق لم يصطفوا بحمد الله ، ولا اصطفى دينهم . وهذا قول ستة من الصحابة ، وحسبك . وسنزيده بيانا وإيضاحا في باقي الآية .
الثانية : قوله تعالى : " أورثنا الكتاب " أي أعطينا . والميراث عطاء حقيقة أو مجازا ، فإنه يقال فيما صار للإنسان بعد موت آخر . و(( الكتاب )) هاهنا يريد به معاني الكتاب وعلمه وأحكامه وعقائده ، وكأن الله تعالى لما أعطى أمة محمد صلى الله عليه وسلم القرآن وهو قد تضمن معاني الكتب المنزلة ، فكأنه ورث أمة محمد عليه السلام الكتاب الذي كان في الأمم قبلنا . " اصطفينا " أي اخترنا . واشتقاقه من الصفو ، وهو الخلوص من شوائب الكدر . وأصله اتفونا ، فأبدلت التاء طاء والواو ياء . " من عبادنا " قيل المراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس وغيره . وكان اللفظ يحتمل جميع المؤمنين من كل أمة ، إلا أن عبارة توريث الكتاب لم تكن إلا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والأول لم يرثوه . وقيل : المصطفون الأنبياء ، توارثوا الكتاب بمعنى أنه انتقل عن بعضهم إلى آخر ، قال الله تعالى : " وورث سليمان داود " ، وقال : " يرثني ويرث من آل يعقوب " فإذا جاز أن تكون النبوة موروثة فكذلك الكتاب . " فمنهم ظالم لنفسه " من وقعت في صغيرة . قال ابن عطية : وهذا قول مردود من غير ما وجه . قال الضحاك : معنى " فمنهم ظالم لنفسه " أي من ذريتهم ظالم لنفسه وهو المشرك . الحسن : من أممهم ، على ما تقدم ذكره من الخلاف في الظالم . والآية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وقد اختلفت عبارات أرباب القلوب في الظالم والمقتصد والسابق ، فقال سهل بن عبد الله : السابق العالم ، والمقتصد المتعلم ، والظالم الجاهل . وقال ذو النون المصري : الظالم الذاكر الله بلسانه فقط ، والمقتصد الذاكر بقلبه ، والسابق الذي لا ينساه . وقال الأنطاكي : الظالم صاحب الأقوال ، والمقتصد صاحب الأفعال ، والسابق صاحب الأحوال . وقال ابن عطاء : الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا ، والمقتصد الذي يحبه من أجل العقبى ، والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحق . وقيل : الظالم الذي يعبد الله خوفا من النار ، والمقتصد الذي يعبد الله طمعا في الجنة ، والسابق الذي بعبد الله لوجهه لا لسبب . وقيل : الظالم الزاهد في الدنيا ، لأنه ظلم نفسه فترك لها حظا وهي المعرفة والمحبة ، والمقتصد العارف ، والسابق المحب . وقيل : الظالم الذي يجزع عند البلاء ، والمقتصد الصابر على البلاء ، والسابق المتلذذ بالبلاء . وقيل : الظالم الذي يعبد الله على الغفلة والعادة ، والمقتصد الذي يعبده على الرغبة والرهبة ، والسابق الذي يعبده على الهيبة . وقيل : الظالم الذي أعطي فمنع ، والمقتصد الذي أعطي فبذل ، والسابق الذي منع فشكر وآثر . يورى أن عابدين التقيا فقال : كيف حال إخوانكم بالبصرة ؟ قال : بخير ، إن أعطوا شكروا وإن منعوا صبروا . فقال : هذه حالة الكلاب عندنا ببلخ ‍! عبادنا إن منعوا شكروا وإن أعطوا آثروا . وقيل : الظالم من استغنى بماله ، والمقتصد من استغنى بدينه ، والسابق من استغنى بربه . وقيل : الظالم التالي للقرآن ولا يعمل به ، والمقتصد التالي للقرآن ويعمل به ، والسابق القارئ للقرآن العالم به والعامل به . وقيل : السابق الذي يدخل المسجد قبل تأذين المؤذن ، والمقتصد الذي يدخل المسجد وقد أذن ، والظالم الذي يدخل المسجد وقد أقيمت الصلاة ، لأنه ظلم نفسه الأجر فلم يحصل لها ما حصله غيره . وقال بعض أهل العلم في هذا : بل السابق الذي يدرك الوقت والجماعة فيدرك الفضيلتين ، والمقتصد الذي إن فاتته الجماعة لم يفرط في الوقت ، والظالم الغافل عن الصلاة حتى يفوت الوقت والجماعة ، فهو أولى بالظلم . وقيل : الظالم الذي يحب نفسه ، والمقتصد الذي يحب دينه ، والسابق الذي يحب ربه . وقيل : الظالم الذي ينتصف ولا ينصف ، والمقتصد الذي ينتصف وينصف ، والسابق الذي ينصف ولا ينتصف . وقالت عائشة رضي الله عنها : السابق الذي أسلم قبل الهجرة . والمعتصد من أسلم بعد الهجرة ، والظالم من لم يسلم إلا بالسيف ، وهم كلهم مغفور لهم .
قلت : ذكر هذا الأقوال وزيادة عليها الثعلبي في تفسيره . وبالجملة فهم طرفان وواسطة ، وهو المقتصد الملازم للقصد وهو ترك الميل ، ومنه قول جابر بن حني التغلبي :
نعاطي الملوك السلم ما قصدوا لنا وليس علينا قتلهم بمحرم
أي نعاطيهم الصلح ما ركبوا بنا القصد ، أي ما لم يجوروا ، وليس قتلهم بمحرم علينا إن جاروا ، فلذلك كان المقتصد منزلة بين المنزلتين ، فهو فوق الظالم لنفسه ودون السابق بالخيرات . " ذلك هو الفضل الكبير " يعني إتياننا الكتاب لهم .
وقيل : ذلك الاصطفاء مع علمنا بعيوبهم هو الفضل الكبير . وقيل : وعد الجنة لهؤلاء الثلاثة فضل كبير .
الثالثة : وتكلم الناس في تقديم الظالم على المقتصد والسابق فقيل : التقديم في الذكر لا يقتضي تشريفا ، كقوله تعالى : " لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة " وقيل : قدم الظالم لكثرة الفاسقين منهم وغلبتهم ، وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم ، والسابقين أقل من القليل ، ذكره الزمخشري ولم يذكره غيره . وقيل : قدم الظالم لتأكيد الرجاء في حقه ، إذ ليس له شيء يتكل عليه إلا رحمة ربه . واتكل المقتصد على حسن ظنه ، والسابق علىطاعته . وقيل : قدم الظالم لئلا ييئس من رحمة الله ، وأخر السابق لئلا يعجب بعمله . وقال جعفر بن محمد بن علي الصادق رضي الله عنه : قدم الظالم ليخبر أنه لا يتقرب إليه إلا بصرف رحمته وكرمه ، وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفائية إذا كانت ثم عناية ، ثم ثنى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف و الرجاء ، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكرالله ، وكلهم في الجنة بحرمة كلمة الإخلاص : (( لا إله إلا الله محمد رسول الله )) . وقال محمد بن علي الترمذي : جمعهم في الاصطفاء ، إزالة للعلل عن العطاء ، لأن الاصطفاء يوجب الإرث ، لا الإرث يوجب الاصطفاء ، ولذلك قيل في الحكمة : صحح النسبة ثم ادع في الميراث . وقيل : أخر السابق ليكون أقرب إلى الجنات والثواب ، كما قدم الصوامع والبيع في (( سورة الحج )) على المساجد ، لتكون الصوامع أقرب إلى الهدم والخراب ، وتكون المساجد أقرب إلى ذككر الله . وقيل : إن الملوك إذا أرادوا الجمع بين الأشياء بالذكر قدموا الأدنى ، كقوله تعالى :" لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم " وقوله : " يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور " وقوله : " لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة " .
قلت : ولقد أحسن من قال :
وغاية هذا الجود أنت وإنما يوافي إلى الغايات في آخر الأمر
يقول تعالى: ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم المصدق لما بين يديه من الكتب الذين اصطفينا من عبادنا وهم هذه الأمة, ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع, فقال تعالى: "فمنهم ظالم لنفسه" وهو المفرط في فعل بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات "ومنهم مقتصد" وهو المؤدي للواجبات, التارك للمحرمات, وقد يترك بعض المستحبات ويفعل بعض المكروهات, "ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله" وهو الفاعل للواجبات والمستحبات, التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا" قال: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم, ورثهم الله تعالى كل كتاب أنزله, فظالمهم يغفر له, ومقتصدهم يحاسب حساباً يسيراً, وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب. وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح وعبد الرحمن بن معاوية العتبي قالا: حدثنا أبو الطاهر بن السرح , حدثنا موسى بن عبد الرحمن الصنعاني . حدثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ذات يوم: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي". قال ابن عباس رضي الله عنهما: "السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب, والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله, والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم, وكذا روي عن غير واحد من السلف أن الظالم لنفسه من هذه الأمة من المصطفين على ما فيه من عوج وتقصير. وقال آخرون: بل الظالم لنفسه ليس من هذه الأمة ولا من المصطفين الوارثين للكتاب.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا علي بن هاشم بن مرزوق , حدثنا ابن عيينة عن عمرو عن ابن عباس رضي الله عنهما فمنهم ظالم لنفسه قال هو الكافر وكذا روى عنه عكرمة , وبه قال عكرمة أيضاً فيما رواه ابن جرير . وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: "فمنهم ظالم لنفسه" قال: هم أصحاب المشأمة. وقال مالك عن زيد بن أسلم والحسن وقتاده : هو المنافق, ثم قد قال ابن عباس والحسن وقتاده : وهذه الأقسام الثلاثة كالأقسام الثلاثة المذكورة في أول سورة الواقعة وآخرها, والصحيح أن الظالم لنفسه من هذه الأمة, وهذا اختيار ابن جرير , كما هو ظاهر الأية, وكما جاءت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق يشد بعضها بعضاً ونحن إن شاء الله تعالى نورد منها ما تيسر.
(الحديث الأول) قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر , حدثنا شعبة عن الوليد بن العيزار أنه سمع رجلاً من ثقيف يحدث عن رجل من كنانة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الأية "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله" قال "هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة, وكلهم في الجنة" هذا حديث غريب من هذا الوجه, وفي إسناده من لم يسم, وقد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث شعبه به نحوه. ومعنى قوله بمنزلة واحدة, أي في أنهم من هذه الأمة, وأنهم من أهل الجنة وإن كان بينهم فرق في المنازل في الجنة.
(الحديث الثاني) قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى , حدثنا أنس بن عياض الليثي أبو ضمرة عن موسى بن عقبة , عن علي بن عبد الله الأزدي عن أبي الدرداء رضي الله عنه, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "قال الله تعالى: "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله" فأما الذين سبقوا فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب, وأما الذين اقتصدوا فأولئك الذين يحاسبون حساباً يسيراً وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك الذي يحبسون في طول المحشر, ثم هم الذين تلاقاهم الله برحمته, فهم الذين يقولون " الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور * الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب ".
(طريق أخرى) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أسيد بن عاصم , حدثنا الحسين بن حفص , حدثنا سفيان عن الأعمش , عن رجل , عن أبي ثابت , عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ثم أورثنا الكتاب اصطفينا من عبادنا, فمنهم ظالم لنفسه ـ قال ـ فأما الظالم لنفسه فيحبس حتى يصيبه الهم والحزن, ثم يدخل الجنة" ورواه ابن جرير من حديث سفيان الثوري عن الأعمش قال: ذكر أبو ثابت أنه دخل المسجد, فجلس إلى جنب أبي الدرداء رضي الله عنه, فقال: اللهم آنس وحشتي, وارحم غربتي ويسر لي جليساً صالحاً, فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: لئن كنت صادقاً لأنا أسعد بك منك, سأحدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أحدث به منذ سمعته منه وذكر هذه الاية "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات", فأما السابق بالخيرات فيدخلها بغير حساب, وأما المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً, وأما الظالم لنفسه فيصيبه في ذلك المكان من الغم والحزن, وذلك قوله تعالى: "وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن".
(الحديث الثالث) قال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس , حدثنا ابن مسعود , أخبرنا سهل بن عبد ربه الرازي , حدثنا عمرو بن أبي قيس عن ابن أبي ليلى عن أخيه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى , عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما "فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله" الاية, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلهم من هذه الأمة".
(الحديث الرابع) قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عزيز , حدثنا سلامة عن عقيل عن ابن شهاب عن عوف بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أمتي ثلاثة أثلاث: فثلث يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب, وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ثم يدخلون الجنة, وثلث يمحصون ويكشفون, ثم تأتي الملائكة فيقولون وجدناهم يقولون: لا إله إلا الله وحده, يقول الله تعالى صدقوا لا إله إلا أنا أدخلوهم الجنة بقولهم لا إله إلا الله وحده, واحملوا خطاياهم على أهل النار " , وهي التي قال الله تعالى: "وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم" وتصديقها في التي فيها ذكر الملائكة, قال الله تعالى: "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا" فجعلهم ثلاثة أنواع, وهم أصناف كلهم, فمنهم ظالم لنفسه, فهذا الذي يمحص ويكشف غريب جداً.
(أثر عن ابن مسعود ) رضي الله عنه. قال ابن جرير : حدثني ابن حميد , حدثنا الحكم بن بشير عن عمرو بن قيس عن عبد الله بن عيسى رضي الله عنه عن يزيد بن الحارث , عن شقيق أبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " إن هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة: ثلث يدخلون الجنة بغير حساب, وثلث يحاسبون حساباً يسيراً, وثلث يجيئون بذنوب عظام حتى يقول الله عز وجل: ما هؤلاء ؟ وهو أعلم تبارك وتعالى فتقول الملائكة: هؤلاء جاؤوا بذنوب عظام إلا أنهم لم يشركوا بك شيئاً, فيقول الرب عز وجل: أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي " وتلا عبد الله رضي الله عنه هذه الأية "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا" الاية.
(أثر آخر) قال أبو داود الطيالسي عن الصلت بن دينار بن الأشعث عن عقبة بن صهبان الهنائي قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله تعالى: "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه" الاية, فقالت لي: " يا بني هؤلاء في الجنة, أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحياة والرزق, وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به, وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم, قال: فجعلت نفسها رضي الله عنها معنا " , وهذا منها رضي الله عنها من باب الهضم والتواضع, وإلا فهي من أكبر السابقين بالخيرات لأن فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام. وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه في قوله تبارك وتعالى: "فمنهم ظالم لنفسه" قال: هي لأهل بدونا ومقتصدنا أهل حضرنا, وسابقنا أهل الجهاد, رواه ابن أبي حاتم .
وقال عوف الأعرابي : حدثنا عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: حدثنا كعب الأحبار رحمة الله عليه, قال: إن الظالم لنفسه من هذه الأمة والمقتصد والسابق بالخيرات كلهم في الجنة, ألم تر أن الله تعالى قال: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير * جنات عدن يدخلونها " إلى قوله عز وجل " والذين كفروا لهم نار جهنم " قال: فهؤلاء أهل النار, رواه ابن جرير من طرق عن عوف به ثم قال: حدثني يعقوب بن إبراهيم , حدثنا ابن علية , أخبرنا حميد عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث عن أبيه قال: إن ابن عباس رضي الله عنهما سأل كعباً عن قوله تعالى: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله " قال: تماست مناكبهم ورب كعب, ثم أعطوا الفضل بأعمالهم.
ثم قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد , حدثنا الحكم بن بشير , حدثنا عمرو بن قيس عن أبي إسحاق السبيعي في هذه الأية "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا" الاية, قال أبو إسحاق : أما ما سمعت من ذي ستين سنة فكلهم ناج, ثم قال: حدثنا ابن حميد , حدثنا الحكم , حدثنا عمرو عن محمد بن الحنفية رضي الله عنه قال: إنها أمة مرحومة, الظالم مغفور له, والمقتصد في الجنان عند الله, والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله. ورواه الثوري عن إسماعيل بن سميع عن رجل عن محمد بن الحنفية رضي الله عنه بنحوه.
وقال أبو الجارود : سألت محمد بن علي ـ يعني الباقر ـ رضي الله عنهما عن قول الله تعالى "فمنهم ظالم لنفسه" فقال: هو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً. فهذا ما تيسر من إيراد الأحاديث والاثار المتعلقة بهذا المقام. وإذا تقرر هذا, فإن الاية عامة في جميع الأقسام الثلاثة في هذه الأمة, فالعلماء أغبط الناس بهذه النعمة, وأولى الناس بهذه الرحمة, فإنهم كما قال الإمام أحمد رحمه الله حدثنا محمد بن يزيد , حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة عن قيس بن كثير قال: قدم رجل من أهل المدينة إلى أبي الدرداء رضي الله عنه وهو بدمشق, فقال: ما أقدمك أي أخي ؟ قال: حديث بلغني أنك تحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: أما قدمت لتجارة ؟ قال: لا, قال: أما قدمت لحاجة ؟ قال: لا, قال: أما قدمت إلا في طلب هذا الحديث ؟ قال: نعم. قال رضي الله عنه: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سلك طريقاً يطلب فيها علماً, سلك الله تعالى به طريقاً إلى الجنة, وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم, وإنه ليستغفر للعالم من في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء, وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب, إن العلماء هم ورثة الأنبياء, وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً, وإنما ورثوا العلم, فمن أخذ به أخذ بحظ وافر" وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث كثير بن قيس , ومنهم من يقول قيس بن كثير عن أبي الدرداء رضي الله عنه وقد ذكرنا طرقه واختلاف الرواة فيه في شرح كتاب العلم من صحيح البخاري , ولله الحمد والمنة, وقد تقدم في أول سورة طه حديث ثعلبة بن الحكم رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى يوم القيامة للعلماء: إني لم أضع علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي".
32- "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا" المفعول الأول لأورثنا الموصول، والمفعول الثاني الكتاب، وإنما قدم المفعول الثاني لقصد التشريف والتعظيم للكتاب، والمعنى: ثم أورثنا الذين اصطفيناهم من عبادنا الكتاب، وهو القرآن: أي قضينا وقدرنا بأن نورث العلماء من أمتك يا محمد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك، ومعنى اصطفائهم اختيارهم واستخلاصهم، ولا شك أن علماء هذه الأمة من الصحابة فمن بعدهم قد شرفهم الله على سائر العباد وجعلهم أمة وسطاً ليكونوا شهداء على الناس، وأكرمهم بكونهم أمة خير الأنبياء وسيد ولد آدم. قال مقاتل: يعني قرآن محمد جعلناه ينتهي إلى الذي اصطفينا من عبادنا. وقيل إن المعنى: أورثناه من الأمم السالفة: أي أخرناه عنهم وأعطيناه الذين اصطفينا، والأول أولى. ثم قسم سبحانه هؤلاء الذي أورثهم كتابه واصطفاهم من عباده إلى ثلاثة أقسام فقال: "فمنهم ظالم لنفسه" قد استشكل كثير من أهل العلم معنى هذه الآية، لأنه سبحانه جعل هذا القسم الظالم لنفسه من ذلك المقسم، وهو من اصطفاهم من العباد، فكيف يكون من اصطفاه الله ظالماً لنفسه؟ فقيل إن التقسيم هو راجع إلى العباد: أي فمن عبادنا ظالم لنفسه، وهو الكافر، ويكون ضمير يدخلونها عائداً إلى المقتصد والسابق. وقيل المراد بالظالم لنفسه هو المقصر في العمل به، وهو المرجأ لأمر الله، وليس من ضرورة ورثة الكتاب مراعاته حق رعايته، لقوله: "فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب" وهذا فيه نظر، لأن ظلم النفس لا يناسب الاصطفاء. وقيل الظالم لنفسه: هو الذي عمل الصغائر، وقدروي هذا القول عن عمر وعثمان وابن مسعود وأبي الدرداء وعائشة، وهذا هو الراجح، لأن عمل الصغائر لا ينافي الاصطفاء ولا يمنع من دخول صاحبه مع الذين يدخلون الجنة يحلون فيها من أساور من ذهب إلى آخر ما سيأتي. ووجه كونه ظالماً لنفسه أنه نقصها من الثواب بما فعل من الصغائر المغفورة له، فإنه لو عمل مكان تلك الصغائر طاعات لكان لنفسه فيها من الثواب حظاً عظيماً، وقيل الظالم لنفسه هو صاحب الكبائر.
وقد اختلف السلف في تفسير السابق والمقتصد، فقال عكرمة وقتادة والضحاك: إن المقتصد المؤمن العاصي، والسابق التقي على الإطلاق، وبه قال الفراء، وقال مجاهد في تفسير الآية: فمنهم ظالم لنفسه أصحاب المشأمة "ومنهم مقتصد" أصحاب الميمنة "ومنهم سابق بالخيرات" السابقون من الناس كلهم. وقال المبرد: إن المقتصد هو الذي يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها. وقال الحسن: الظالم الذي ترجح سيئاته على حسناته، والمقتصد الذي استوت حسناته وسيئاته، والسابق من رجحت حسناته على سيئاته. وقال مقاتل: الظالم لنفسه أصحاب الكبائر من أهل التوحيد، والمقتصد الذي لم يصب كبيرة، والسابق الذي سبق إلى الأعمال الصالحة. وحكى النحاس أن الظالم صاحب الكبائر، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته، فتكون جنات عدن يدخلونها للذين سبقوا بالخيرات لا غير، قال: وهذا قول جماعة من أهل النظر، لأن الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى. وقال الضحاك. فيهم ظالم لنفسه: أي من ذريتهم ظالم لنفسه. وقال سهل بن عبدالله: السابق العالم، والمقتصد المتعلم والظالم لنفسه الجاهل. وقال ذو النون المصري: الظالم لنفسه الذاكر لله بلسانه فقط، والمقتصد الذاكر بقلبه، والسابق الذي لا ينساه. وقال الأنطاكي: الظالم صاحب الأقوال، والمقتصد صاحب الأفعال، والسابق صاحب الأحوال. وقال ابن عطاء: الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا، والمقتصد الذي يحب الله من أجل العقبى، والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحق. وقيل الظالم الذي يعبد الله خوفاً من النار، والمقتصد الذي يعبده طمعاً في الجنة، والسابق الذي يعبده لا لسبب. وقيل الظالم الذي يحب نفسه، والمقتصد الذي يحب دينه، والسابق الذي يحب ربه. وقيل الظالم الذي ينتصف ولا ينصف، والمقتصد الذي ينتصف وينصف، والسابق الذي ينصف ولا ينتصف. وقد ذكر الثعلبي وغيره أقوالاً كثيرة، ولا شك أن المعاني اللغوية للظالم والمقتصد والسابق معروفة، وهو يصدق على الظلم للنفس بمجرد إحرامها للحظ وتفويت ما هو خير هلا، فتارك الاستكثار من الطاعات قد ظلم نفسه باعتبار ما فوتها من الثواب، وإن كان قائماً بما أوجب الله عليه تاركاً لما نهاه الله عنه، فهو من هذه الحيثية ممن اصطفاه الله ومن أهل الجنة فلا إشكال في الآية، ومن هذا قول آدم "ربنا ظلمنا أنفسنا" وقول يونس "إني كنت من الظالمين" ومعنى المقتصد هو من يتوسط في أمر الدين ولا يميل إلى جانب الإفراط ولا إلى جانب التفريط وهذا من أهل الجنة، وأما السابق فهو الذي سبق غيره في أمور الدين، وهو خير الثلاثة.
وقد استشكل تقديم الظالم على المقتصد وتقديمهما على السابق مع كون المقتصد أفضل من الظالم لنفسه والسابق أفضل منهم، فقيل إن التقديم لا يقتضي التشريف كما في قوله: "لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة" ونحوها من الآيات القرآنية التي فيها تقديم أهل الشر على أهل الخير وتقديم المفضولين علىالفاضلين. وقيل وجه التقديم هنا أن المقتصدين بالنسبة إلى أهل العاصي قليل والسابقين بالنسبة إلى الفريقين أقل قليل، فقدم الأكثر على الأقل، والأول أولى فإن الكثرة يمجردها لا تقتضي تقديم الذكر، وقد قيل في وجه التقديم غير ما ذكرنا مما لا حاجة إلى التطويل به، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى توريث الكتاب والاصطفاء، وقيل إلى السبق بالخيرات، والأول أولى، وهو مبتدأ وخبره "هو الفضل الكبير" أي الفضل الذي لا يقادر قدره.
32- "ثم أورثنا الكتاب"، يعني: الكتاب الذي أنزلناه إليك الذي ذكر في الآية الأولى، وهو القرآن، جعلناه ينتهي إلى، "الذين اصطفينا من عبادنا".
ويجوز أن يكون ثم بمعنى الواو، أي: وأورثنا، كقوله: "ثم كان من الذين آمنوا" (البلد-17)، أي: وكان من الذين آمنوا، ومعنى أورثنا أعطينا، لأن الميراث عطاء، قاله مجاهد.
وقيل: أورثنا أي: أخرنا، ومنه الميراث لأنه أخر عن الميت، ومعناه: أخرنا القرآن عن الأمم السالفة وأعطيناكموه، وأهلكناكم له.
"الذين اصطفينا من عبادنا"، قال ابن عباس: يريد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قسمهم ورتبهم فقال:
"فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات"، "روي عن أسامة بن زيد في قوله عز وجل: "فمنهم ظالم لنفسه" الآية، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: كلهم من هذه الأمة".
أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه، أخبرنا محمد بن علي بن الحسين القاضي، أخبرنا بكر بن محمد المرزوي، أخبرنا أبو قلابة، حدثنا عمرو بن الحصين، عن الفضل بن عميرة، عن ميمون الكردي، "عن أبي عثمان النهدي قال: سمعت عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا"، الآية، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له"، قال أبو قلابة فحدثت به يحيى بن معين فجعل يتعجب منه.
واختلف المفسرون في معنى الظالم والمقتصد والسابق.
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو سعيد محمد بن عيسى الصيرفي، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار، حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي، حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن الأعمش، عن رجل، "عن أبي ثابت أن رجلاً دخل المسجد فقال: اللهم ارحم غربتي، وآنس وحشتي، وسق إلي جليساً صالحاً، فقال أبو الدرداء: لئن كنت صادقاً لأنا أسعد بك منك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات" فقال: أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهم، ثم يدخل الجنة، ثم قرأ هذه الآية: "وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور"".
وقال عقبة بن صهبانسألت عائشة عن قول الله عز وجل: "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا" الآية، فقالت: يا بني كلهم في الجنة، أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم، فجعلت نفسها معنا.
وقال مجاهد، والحسن، وقتادة: فمنهم ظالم لنفسه وهم أصحاب المشئمة، ومنهم مقتصد وهم أصحاب الميمنة، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله هم السابقون المقربون من الناس كلهم.
وعن ابن عباس قال: السابق: المؤمن المخلص، والمقتصد: المرائي، والظالم: الكافر نعمة الله غير الجاحد لها، لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة فقال: "جنات عدن يدخلونها".
وقال بعضهم: يذكر ذلك عن الحسن، قال: السابق من رجحت حسناته على سيئاته، والمقتصد من استوا حسناته وسيئاته، والظالم من رجحت سيئاته على حسناته.
وقيل: الظالم من كان ظاهره خيراً من باطنه، والمقتصد الذي يستوي ظاهره وباطنه، والسابق الذي باطنه خير من ظاهره.
وقيل: الظالم من وحد الله بلسانه ولم يوافق فعله قوله، والمقتصد من وحد الله بلسانه وأطاعه بجوارحه، والسابق من وحد الله بلسانه وأطاعه بجوارحه وأخلص له عمله.
وقيل: الظالم التالي للقرآن، والمقتصد القارئ له العالم به، والسابق القارئ له العالم به العامل بما فيه.
وقيل: الظالم أصحاب الكبائر والمقتصد أصحاب الصغائر، والسابق الذي لم يرتكب كبيرة ولا صغيرة.
وقال سهل بن عبد الله: السابق العالم، والمقتصد المتعلم، والظالم الجاهل.
قال جعفر الصادق: بدأ بالظالمين إخباراً أنه لا يتقرب إليه إلا بكرمه، وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفاء، ثم ثنى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكره، وكلهم في الجنة.
وقال أبو بكر الوراق: رتبهم هذا الترتيب على مقامات الناس، لأن أحوال العبد ثلاثة: معصية وغفلة ثم توبة ثم قربة، فإذا عصى دخل في حيز الظالمين، وإذا تاب دخل في جملة المقتصدين، وإذا صحت التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة دخل في عداد السابقين.
وقال بعضهم: المراد بالظالم الكافر ذكره الكلبي.
وقيل: المراد منه المنافق، فعلى هذا لا يدخل الظالم في قوله: "جنات عدن يدخلونها". وحمل هذا القائل الاصطفاء على الاصطفاء في الخلقة وإرسال الرسول إليهم وإنزال الكتاب والأول هو المشهور أن المراد من جميعهم المؤمنون، وعليه عامة أهل العلم.
قوله: "ومنهم سابق بالخيرات"، أي: سابق إلى الجنة، أو إلى رحمة الله بالخيرات، أي: بالأعمال الصالحات، "بإذن الله"، أي: أمر الله وإرادته، "ذلك هو الفضل الكبير"، يعني: إيراثهم الكتاب.
32 -" ثم أورثنا الكتاب " حكمنا بتوريثه منك أو نورثه فعبر عنه بالماضي لتحققه ، أو أورثناه من الأمم السالفة ، والعطف على " إن الذين يتلون " " والذي أوحينا إليك " اعتراض لبيان كيفية التوريث . " الذين اصطفينا من عبادنا " يعني علماء الأمة من الصحابة ومن بعدهم ، أو الأمة بأسرهم فإن الله اصطفاهم على سائر الأمم . " فمنهم ظالم لنفسه " بالتقصير في العمل به . " ومنهم مقتصد " يعمل له في غالب الأوقات . " ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله " بضم التعليم والإرشاد إلى العمل ، وقيل الظالم الجاهل والمقتصد المتعلم والسابق العالم . وقيل الظالم المجرم والمقتصد الذي خلط الصالح بالسيئ والسابق الذي ترجحت حسناته بحيث صارت سيئاته مكفرة ، وهو معنى " قوله عليه الصلاة والسلام : أما الذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ، وأما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حساباً يسيراً ، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم يتلقاهم الله برحمته " . وقيل الظالم الكافر على أن الضمير للعباد ، وتقديمه لكثرة الظالمين ولأن الظلم بمعنى الجهل والركون إلى الهوى مقتضى الجبلة والاقتصاد والسبق عارضان . " ذلك هو الفضل الكبير " إشارة إلى التوريث أو الاصطفاء أو السبق .
32. Then We gave the Scripture as inheritance unto those whom We elected of our bondmen. But of them are some who wrong themselves and of them are some who are lukewarm and of them are some who outstrip (others) through good deeds, by Allah's leave. That is the great favor!
32 - Then We have given the Book for inheritance to such of Our servants as We have chosen: but there are among them some who wrong their own souls; some who follow a middle course; and some who are, by God's leave, foremost in good deeds; That is the highest Grace.