[السجدة : 6] ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
6 - (ذلك) الخالق المدبر (عالم الغيب والشهادة) أي ما غاب عن الخلق وما حضر (العزيز) المنيع في ملكه (الرحيم) بأهل طاعته
يقول تعالى ذكره: هذا الذي يفعل ماوصفت لكم في هذه الآيات، هو عالم الغيب، يعني عالم ما يغيب عن أبصاركم أيها الناس، فلا تبصرونه مما تكنه الصدور، وتخفيه النفوس، وما لم يكن بعد مما هو كائن، والشهادة: يعني ما شاهدته الأبصار فأبصرته وعاينته وما هو موجود " العزيز " يقول: الشديد في انتقامه ممن كفر به وأشرك معه غيره، وكذب رسله " الرحيم " بمن تاب من ضلالته، ورجع إلى الإيمان به وبرسوله، والعمل بطاعته، أن يعذبه بعد التوبة.
وقوله " الذي أحسن كل شيء خلقه " اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعض قراء مكة والمدينة والبصرة ( أحسن كل شيء خلقه) بسكون اللام. وقرأه بعض المدنيين وعامة الكوفيين " أحسن كل شيء خلقه " بفتح اللام.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء صحيحتا المعنى، وذلك أن الله أحكم خلقه، وأحكم كل شيء خلقه، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: أتقن كل شيء وأحكمه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني العباس بن أبي طالب، قال: ثنا الحسين بن إبراهيم إشكاب، قال: ثنا شريك، عن خصيف عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله " الذي أحسن كل شيء خلقه " قال: أما إن است القرد ليست بحسنة، ولكن أحكم خلقها.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو النضر، قال: ثنا أبو سعيد المؤدب، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه كان يقرؤها " الذي أحسن كل شيء خلقه " قال: أما إن است القرد ليست بحسنة، ولكنه أحكمها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد " أحسن كل شيء خلقه " قال: أتقن كل شيء خلقه.
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عبد الله بن موسى، قال: ثنا إسرائيل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( أتقن كل شيء): أحصى كل شيء.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: الذي حسن خلق كل شيء.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد. عن قتادة، قوله " الذي أحسن كل شيء خلقه " حسن على نحو ما خلق.
وذكر عن الحجاج، عن ابن جريج، عن الأعرج، عن مجاهد قال: هو مثل ( أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) ( طه: 50) قال: فلم يجعل خلق البهائم في خلق الناس، ولا خلق الناس في خلق البهائم ولكن خلق كل شيء فقدره تقديراً.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أعلم كل شيء خلقه، كأنهم وجهوا تأويل الكلام إلى أنه ألهم خلقه ما يحتاجون إليه، وأن قوله " أحسن " إنما هو قول القائل فلان يحسن كذا إذا كان يعلمه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن شريك، عن خصيف، عن مجاهد " أحسن كل شيء خلقه " قال: أعطى كل شيء خلقه، قال: الإنسان إلى الإنسان، والفرس للفرس، والحمار للحمار. وعلى هذا القول، الخلق والكل منصوبان بوقوع أحسن عليهما.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب على قراءة من قرأه " الذي أحسن كل شيء خلقه " بفتح اللام قول من قال: معناه أحكم وأتقن، لأنه لا معنى لذلك إذ قرىء كذلك إلا أحد وجهين: إما هذا الذي قلنا من معنى الإحكام والإتقان أو معنى التحسين الذي هو في معنى الجمال والحسن، فلما كان في خلقه ما لا يشك في قبحه وسماجته، علم أنه لم يعن به أنه أحسن كل ما خلق، ولكن معناه أنه أحكمه وأتقن صنعته. وأما على القراءة الأخرى التي هي بتسكين اللام، فإن أولى تأويلاته به قول من قال: معنى ذلك أعم وألهم كل شيء خلقه، هو أحسنهم، كما قال ( الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) ( طه: 50) لأن ذلك أظهر معانيه. وأما الذي وجه تأويل ذلك إلى أنه بمعنى: الذي أحسن خلق كل شيء، فإنه جعل الخلق نصباً بمعنى التفسير، كأنه قال: الذي أحسن كل شيء خلقاً منه. وقد كان بعضهم يقول: هو من المقدم الذي معناه التأخير، ويوجهه إلى أنه نظير قول الشاعر:
وظعني إليك لليل حضنيه أنني لتلك إذا هاب الهدان فعول
يعني: وظعني حضني الليل إليك، ونظير قول الآخر:
كأن هنداً ثناياها وبهجتها يوم التقينا على أدحال دباب
أي كأن ثنايا هند وبهجتها.
وقوله " وبدأ خلق الإنسان من طين " يقول تعالى ذكره: وبدأ خلق آدم من طين
قوله تعالى: "ذلك عالم الغيب والشهادة" أي علم ما غاب عن الخلق وما حضرهم. وذلك بمعنى أنا حسبما تقدم بيانه في أول البقرة. وفي الكلام معنى التهديد والوعيد، أي أخلصوا أفعالكم وأقوالكم فإني أجازي عليها.
يخبر تعالى أنه خالق للأشياء فخلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام, ثم استوى على العرش, وقد تقدم الكلام على ذلك "ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع" أي بل هو المالك لأزمة الأمور, الخالق لكل شيء, المدبر لكل شيء, القادر على كل شيء, فلا ولي لخلقه سواه, ولا شفيع إلا من بعد إذنه "أفلا تتذكرون" يعني أيها العابدون غيره المتوكلون على من عداه, تعالى وتقدس وتنزه أن يكون له نظير أو شريك أو وزير أو نديد أو عديل, لا إله إلا هو ولا رب سواه.
وقد أورد النسائي ههنا حديثاً فقال: حدثنا إبراهيم بن يعقوب , حدثني محمد بن الصباح , حدثنا أبو عبيدة الحداد , حدثنا الأخضر بن عجلان عن أبي جريج المكي عن عطاء عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيدي فقال :إن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام, ثم استوى على العرش في اليوم السابع, فخلق التربة يوم السبت, والجبال يوم الأحد, والشجر يوم الاثنين, والمكروه يوم الثلاثاء, والنور يوم الأربعاء, والدواب يوم الخميس, وآدم يوم الجمعة في آخر ساعة من النهار بعد العصر, وخلقه من أديم الأرض: أحمرها وأسودها وطيبها وخبيثها, من أجل ذلك جعل الله من بني آدم الطيب والخبيث" هكذا أورد هذا الحديث إسناداً ومتنا, وقد أخرج مسلم والنسائي أيضاً من حديث حجاج بن محمد الأعور , عن ابن جريج عن إسماعيل بن أمية , عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من هذا السياق وقد علله البخاري في كتاب التاريخ الكبير فقال: وقال بعضهم: أبو هريرة عن كعب الأحبار وهو أصح, وكذا علله غير واحد من الحفاظ, والله أعلم.
قوله تعالى: "يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه" أي يتنزل أمره من أعلى السماوات إلى أقصى تخوم الأرض السابعة, كما قال تعالى: " الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن " الاية, وترفع الأعمال إلى ديوانها فوق سماء الدنيا ومسافة ما بينها وبين الأرض مسيرة خمسمائة سنة وسمك السماء خمسمائة سنة وقال مجاهد وقتادة والضحاك : النزول من الملك في مسيرة خمسمائة عام وصعوده في مسيرة خمسمائة عام, ولكنه يقطعها في طرفة عين, ولهذا قال تعالى: "في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون * ذلك عالم الغيب والشهادة" أي المدبر لهذه الأمور, الذي هو شهيد على أعمال عباده, يرفع إليه جليلها وحقيرها وصغيرها وكبيرها, هو العزيز الذي قد عز كل شيء فقهره وغلبه, ودانت له العباد والرقاب, الرحيم بعباده المؤمنين, فهو عزيز في رحمته رحيم في عزته.
والإشارة بقوله: 6- "ذلك" إلى الله سبحانه باعتبار اتصافه بتلك الأوصاف، وهو مبتدأ وخبره "عالم الغيب والشهادة" أي العالم بما غاب عن الخلق وما حضرهم. وفي هذا معنى التهديد لأنه سبحانه إذا علم بما يغيب وما يحضر، فهو مجاز لكل عامل بعمله. أو فهو يدبر الأمر بما تقتضيه حكمته "العزيز" القاهر الغالب "الرحيم" بعباده، وهذه أخبار لذلك المبتدأ.
6- "ذلك عالم الغيب والشهادة"، يعني: ذلك الذي صنع ما ذكره من خلق السموات والأرض/ عالم ما غاب عن الخلق وما حضر، "العزيز الرحيم".
6ـ " ذلك عالم الغيب والشهادة " فيدبر أمرها على وفق الحكمة . " العزيز " الغالب على أمره . " الرحيم " على العبادة في تدبيره ، وفيه إيماء بأنه سبحانه يراعي المصالح تفضلاً وإحساناً .
6. Such is the Knower of the invisible and the visible, the Mighty, the Merciful,
6 - Such is He, the Knower of all things, hidden and open, the Exalted (in power), the Merciful;