[الروم : 1] الم
1 - (الم) الله أعلم بمراده في ذلك
أخرج الترمذي عن أبي سعيد قال لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين فنزلت آلم غلبت الروم إلى قوله بنصر الله يعني بفح الغين واخرج ابن جرير عن ابن مسعود ونحوه
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال بلغنا أن المشركين كانوا يجادلون المسلمين وهم بمكة قبل أن يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون الروم يشهدون أنهم أهل كتاب وقد غلبتهم المجوس وأنتم تزعمون أنكم ستغلبوننا بالكتاب الذي أنزل على نبيكم فكيف غلب المجوس الروم وهم أهل كتاب فسنغلبكم كما غلب فارس الروم فأنزل الله آلم غلبت الروم
وأخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة ويحيى بن يغمر وقتادة فالرواية الأولى على قراءة غلبت بالفتح لأنها نزلت يوم غلبتهم يوم بدر والثانية على قراءة الضم فيكون معناه وهم من بعد غلبتهم فارس سيغلبهم المسلمون حتى يصح معنى الكلام وإلا لم يكن له كبير معنى
قال أبو جعفر: قد بينا فيما مضى قبل معنى قوله " الم " وذكرنا ما فيه من أقوال أهل التأويل، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
( قال أبو جعفر : اختلفت تراجمة القرآن في تأويل قول الله تعالى ذكره: "الم"فقال بعضهم : هو اسم من أسماء القرآن. ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال: أخبرنا عبد الرزاق ، قال، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله: "الم"، قال: اسم من أسماء القرآن.
حدثني المثنى بن إبراهيم الآملي، قال: حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود ، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: "الم"، اسم من أسماء القرآن.
حدثنا القاسم بن الحسن ، قال: حدثنا الحسين بن داود ، قال: حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال:" الم "، اسم من أسماء القرآن.
وقال بعضهم: هو فواتح يفتح الله بها القرآن. ذكر من قال ذلك:
حدثني هرون بن إدريس الأصم الكوفي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال:" الم " ، فواتح يفتح الله بها القرآن.
حدثنا أحمد بن حازم الغفاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن مجاهد، قال:" الم "، فواتح .
حدثني المثنى بن إبراهيم قال: حدثنا إسحق بن الحجاج، عن يحيى بن آدم، عن سفيان، عن ابن نجيح، عن مجاهد، قال: " الم"، و " حم"، و "المص"، و" ص"، فواتح افتتح الله بها.
حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثل حديث هرون بن إدريس.
وقال آخرون: هواسم للسورة. ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أنبأنا عبدالله بن وهب، قال سألت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن قول الله:" الم * ذلك الكتاب"، و "الم * تنزيل"، و "المر تلك"، فقال: قال أبي: إنما هي أسماء السور.
وقال بعضهم: هواسم الله الأعظم. ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا شعبة ، قال: سألت السدي عن "حم" و " طسم" و" الم"، فقال: قال ابن عباس: هي اسم الله الأعظم.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثني أبو النعمان، قال: حدثنا شعبة، عن إسماعيل السدي، عن مرة الهمداني، قال: قال عبدالله: فذكر نحوه.
حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحق بن الحجاج، عن عبيدالله بن موسى، عن إسماعيل، عن الشعبي، قال: فواتح السور من أسماء الله.
وقال بعضهم: هو قسم أقسم الله به، وهو من أسمائه. ذكر من قال ذلك:
حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السهمي، قال: حدثنا عبدالله بن صالح، قال حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: هو قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله.
حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا خالد الحذاء، عن عكرمة، قال: " الم"، قسم.
وقال بعضهم: هو حروف مقطعة من أسماء وأفعال، كل حرف من ذلك لمعنى غير معنى الحرف الآخر. ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال حدثنا وكيع وحدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا أبي عن شريك، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، عن ابن عباس: "الم" قال: أنا الله أعلم.
حدثت عن أبي عبيد، قال: حدثنا أبو اليقظان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، قال: قوله: " الم"، قال: أنا الله أعلم.
حدثني موسى بن هرون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد القناد، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن إسمعيل السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " الم"، قال: أما " الم" فهو حرف اشتق من حروف هجاء أسماء الله جل ثناؤه.
حدثنا محمد بن معمر، قال: حدثنا عباس بن زياد الباهلي، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: " الم" و " حم" و "ن"، قال: اسم مقطع. وقال بعضهم هي حروف هجاء موضوع. ذكرمن قال ذلك:
حدثت عن منصور بن أبي نويرة، قال: حدثنا أبو سعيد المؤدب، عن خصيف، عن مجاهد، قال: فواتح السور كلها " ق" و " ص " و " حم" و " طسم " و " الر " وغير ذلك، هجاء موضوع. وقال بعضهم: هي حروف يشتمل كل حرف منها على معان شتى مختلفة. ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري، قال: حدثنا إسحق بن الحجاج، عن عبدالله بن أبي جعفر الرازي، قال: حدثني أبي، عن الربيع بن أنس، في قول الله تعالى ذكره: " الم "، قال: هذه الأحرف، من التسعة والعشرين حرفًا، دارت فيها الألسن كلها. ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه. وليس منها حرف إلا وهو في آلائه وبلائه، وليس منها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجالهم. وقال عيسى ابن مريم: وعجيب ينطقون في أسمائه، ويعيشون في رزقه، فكيف يكفرون؟. قال: الألف مفتاح اسمه: الله، واللام مفتاح اسمه: لطيف، والميم مفتاح اسمه:مجيد. الألف آلاء الله، واللام لطفه، والميم مجده. الألف سنة، واللام ثلاثون سنة، والميم أربعون سنة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن أبي جعفر، عن الربيع بنحوه.
وقال بعضهم: هي حروف من حساب الجمل كرهنا ذكر الذي حكي ذلك عنه، إذ كان الذي رواه ممن لا يعتمد على روايته ونقله. وقد مضت الرواية بنظير ذلك من القول عن الربيع بن أنس.
وقال بعضهم: لكل كتاب سر، وسر القرآن فواتحه.
وأما أهل العربية، فإنهم اختلفوا في معنى ذلك. فقال بعضهم: هي حروف من حروف المعجم، استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها، التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفًا كما استغنى المخبر عمن أخبر عنه أنه في حروف المعجم الثمانية والعشرين حرفًا بذكر (أ ب ت ث )، عن ذكر بواقي حروفها التي هي تتمة الثمانية والعشرين. قال: ولذلك رفع " ذلك الكتاب "، لأن معنى الكلام: الألف واللام والميم من الحروف المقطعة، ذلك الكتاب الذي أنزلته إليك مجموعًا لا ريب فيه.
فإن قال قائل: فإن (أ ب ت ث )، قد صارت كالاسم في حروف الهجاء، كما كان الحمد اسما لفاتحة الكتاب.
قيل له: لما كان جائزًا أن يقول القائل: ابني في ( ط ظ )، وكان معلومًا بقيله ذلك لو قاله أنه يريد الخبر عن ابنه أنه في الحروف المقطعة علم بذلك أن ( أ ب ت ث ) ليس لها باسم، وإن كان ذلك آثر في الذكر من سائرها.
قال: وإنما خولف بين ذكر حروف المعجم في فواتح السور، فذكرت في أوائلها مختلفة، وذكرها اذا ذكرت بأوائلها التي هي (أ ب ت ث) ، مؤتلفة، ليفصل بين الخبر عنها إذا أريد بذكر ما ذكر منها مختلفًا الدلالة على الكلام المتصل وإذا أريد بذكر ما ذكر منها مؤتلفًا الدلالة على الحروف المقطعة بأعيانها. واستشهدوا لإجازة قول القائل: ابني في ( ط ظ ) وما أشبه ذلك، من الخبر عنه أنه في حروف المعجم، وأن ذلك من قيله في البيان يقوم مقام قوله: ابني في (أ ب ت ث ) برجز بعض الرجاز من بني أسد:
لما رأيت أمرها في حطي وفنــكـت فــي كــذب ولــــط
أخذت منها بقرون شمـط فلم يزل صوبي بها ومعطي
حتى علا الرأس دم يغطي
فزعم أنه أراد بذلك الخبر عن المرأة أنها فى أبي جاد، فأقام قوله: لما رأيت أمرها في حطي مقام خبره عنها أنها في أبي جاد، إذ كان ذاك من قوله، يدل سامعه على ما يدله عليه قوله: لما رأيت أمرها في أبي جاد.
وقال اخرون: بل ابتدئت بذلك أوائل السور ليفتح لاستماعه أسماع المشركين إذ تواصوا بالإعراض عن القرآن حتى إذا استمعوا له، تلي عليهم المؤلف منه.
وقال بعضهم: الحروف التي هي فواتح السور حروف يستفتح الله بها كلامه.
فإن قيل: هل يكون من القرآن ما ليس له معنى؟
قيل: معنى هذا أنه افتتح بها ليعلم أن السورة التي قبلها قد انقضت، وأنه قد أخذ في أخرى، فجعل هذا علامة انقطاع ما بينهما. وذلك في كلام العرب، ينشد الرجل منهم الشعر فيقول:
بل، وبلدة ما الإنس من آهالها
ويقول:
لا بل، ما هاج أحزانًا وشجوًا قد شجا
وبل ليست من البيت ولا تعد في وزنه، ولكن يقطع بها كلامًا ويستأنف الآخر.
قال أبو جعفر: ولكل قول من الأقوال التي قالها الذين وصفنا قولهم في ذلك، وجه معروف.
فأما الذين قالوا: " الم"، اسم من أسماء القرآن، فلقولهم ذلك وجهان:
أحدهما: أن يكونوا أرادوا أن " الم " اسم للقرآن، كما الفرقان اسم له. وإذا كان معنى قائل ذلك كذلك، كان تأويل قوله " الم * ذلك الكتاب"، على معنى القسم. كأنه قال: والقرآن، هذا الكتاب لا ريب فيه.
والاخر منهما: أن يكونوا أرادوا أنه اسم من أسماء السورة التي تعرف به، كما تعرف سائر الأشياء بأسمائها التي هي لها أمارات تعرف بها، فيفهم السامع من القائل يقول: قرأت اليوم "المص" و " ن"، أي السور التي قرأها من سور القرآن، كما يفهم عنه إذا قال: لقيت اليوم عمرًا وزيدًا، وهما بزيد وعمرو عارفان من الذي لقي من الناس.
وإن أشكل معنى ذلك على امرىء فقال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك، ونظائر " الم " " الر" في القرآن جماعة من السور؟ وإنما تكون الأسماء أمارات إذا كانت مميزة بين الأشخاص، فأما إذا كانت غير مميزة فليست أمارات.
قيل: إن الأسماء وإن كانت قد صارت، لاشتراك كثير من الناس في الواحد منها، غير مميزة إلا بمعان أخر معها من ضم نسبة المسمى بها إليها أو نعته أو صفته، بما يفرق بينه وبين غيره من أشكالها فانها وضعت ابتداء للتمييز لا شك. ثم احتيج، عند الاشتراك، إلى المعاني المفرقة بين المسمين بها. فكذلك ذلك في أسماء السور، جعل كل اسم في قول قائل هذه المقالة أمارة للمسمى به من السور. فلما شارك المسمى به فيه غيره من سور القرآن، احتاج المخبر عن سورة منها أن يضم إلى اسمها المسمى به من ذلك، ما يفرق به السامع بين الخبر عنها وعن غيرها، من نعت وصفة أو غير ذلك. فيقول المخبر عن نفسه أنه تلا سورة البقرة، إذا سماها باسمها الذي هو " الم": قرأت الم البقرة. وفي آل عمران: قرأت الم آل عمران، و " الم * ذلك الكتاب "،
و" الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم ". كما لو أراد الخبر عن رجلين، اسم كل واحد منهما عمرو، غير أن أحدهما تميمي والآخر أزدي، للزمه أن يقول لمن أراد إخباره عنهما: لقيت عمرًا التميمي وعمرًا الأزدي، إذ كان لا يفرق بينهما وبين غيرهما ممن يشاركهما في أسمائهما، إلا نسبتهما كذلك. فكذلك ذلك في قول من تأول في الحروف المقطعة أنها أسماء للسور.
وأما الذين قالوا: ذلك فواتح يفتتح الله عز وجل بها كلامه، فإنهم وجهوا ذلك إلى نحو المعنى الذي حكينا عمن حكينا ذلك عنه من أهل العربية، أنه قال: ذلك أدلة على انقضاء سورة وابتداء في أخرى، وعلامة لانقطاع ما بينهما، كما جعلت بل في ابتداء قصيدة دلالة على ابتداء فيها، وانقضاء أخرى قبلها. كما ذكرنا عن العرب إذا أرادوا الابتداء في إنشاد قصيدة قالوا:
بل، ما هاج أحزانًا وشجوًا قد شجا
وبل ليست من البيت ولا داخلة في وزنه، ولكن ليدل به على قطع كلام وابتداء آخر.
وأما الذين قالوا: ذلك حروف مقطعة بعضها من أسماء الله عز وجل، وبعضها من صفاته، ولكل حرف من ذلك معنى غير معنى الحرف الآخر، فإنهم نحوا بتأويلهم ذلك نحو قول الشاعر:
قلنا لها: قفي لنا، قالت: قاف لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف
يعني بقوله:قالت قاف، قالت: قد وقفت. فدلت بإظهار القاف من وقفت، على مرادها من تمام الكلمة التي هي وقفت . فصرفوا قوله " الم" وما أشبه ذلك، إلى نحو هذا المعنى. فقال بعضهم: الألف ألف أنا، واللام لام الله ، والميم ميم أعلم ، وكل حرف منها دال على كلمة تامة. قالوا: فجملة هذه الحروف المقطعة إذا ظهر مع كل حرف منهن تمام حروف الكلمة، أنا الله أعلم . قالوا: وكذلك سائر جميع ما في أوائل سور القرآن من ذلك، فعلى هذا المعنى وبهذا التأويل، قالوا: ومستفيض ظاهر في كلام العرب أن ينقص المتكلم منهم من الكلمة الأحرف، إذا كان فيما بقي دلالة على ما حذف منها ويزيد فيها ما ليس منها، إذا لم تكن الزيادة ملبسة معناها على سامعها كحذفهم في النقص في الترخيم من حارث الثاء، فيقولون: يا حار، ومن مالك الكاف، فيقولون: يا مال، وما أشبه ذلك، وكقول راجزهم:
ما للظليم عال؟ كيف لايا ينقد عنه جلده إذا يا
كأنه أراد أن يقول: إذا يفعل كذا وكذا، فاكتفى بالياء من يفعل، وكما قال آخر منهم:
بالخير خيرات وإن شرًا فا
يريد: فشرًا.
ولا أريـد الشــر إلا أن تـــا
يريد: إلا أن تشاء، فاكتفى بالتاء والفاء في الكلمتين جميعًا، من سائر حروفهما، وما أشبه ذلك من الشواهد التي يطول الكتاب باستيعابه.
وكما حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، وابن عون، عن محمد، قال: لما مات يزيد بن معاوية قال لي عبدة: إني لا أراها إلا كائنة فتنة، فافزع من ضيعتك والحق بأهلك. قلت: فما تأمرني؟ قال: أحب إلي لك أن تا قال أيوب وابن عون بيده تحت خده الأيمن، يصف الاضطجاع حتى ترى أمرًا تعرفه.
قال أبو جعفر: يعني بـ تا تضطجع، فاجتزأ بالتاء من تضطجع. وكما قال الآخر في الزيادة على الكلام، على النحو الذي وصفت:
أقول إذ خرت على الكلكال يا ناقتي ما جلت من مجال
يريد: الكلكل، وكما قال الآخر:
إن شكلي وإن شكلك شتى فالزمي الخص واخفضي تبيضضي
فزاد ضادًا، وليست في الكلمة.
قالوا: فكذلك ما نقص من تمام حروف كل كلمة من هذه الكلمات التي ذكرنا أنها تتمة حروف " الم " ونظائرها نظير ما نقص من الكلام الذي حكيناه عن العرب في أشعارها وكلامها.
وأما الذين قالوا: كل حرف من " الم " ونظائرها، دال على معان شتى نحو الذي ذكرنا عن الربيع بن أنس فإنهم وجهوا ذلك إلى مثل الذي له وجهه إليه من قال: هو بتأويل أنا الله أعلم، في أن كل حرف منه بعض حروف كلمة تامة، استغني بدلالته على تمامه عن ذكر تمامه وإن كانوا له مخالفين في كل حرف من ذلك: أهو من الكلمة التي ادعى أنه منها قائلو القول الأول، أم من غيرها؟ فقالوا: بل الألف من " الم " من كلمات شتى، هي دالة على معاني جميع ذلك وعلى تمامه. قالوا: وإنما أفرد كل حرف من ذلك، وقصر به عن تمام حروف الكلمة، أن جميع حروف الكلمة لو أظهرت، لم تدل الكلمة التي تظهر التي بعض هذه الحروف المقطعة بعض لها إلا على معنى واحد لا على معنيين وأكثر منهما. قالوا: وإذ كان لا دلالة في ذلك، لو أظهر جميعها، إلا على معناها الذي هو معنى واحد، وكان الله جل ثناؤه قد أراد الدلالة بكل حرف منها على معان كثيرة لشيء واحد لم يجز إلا أن يفرد الحرف الدال على تلك المعاني، ليعلم المخاطبون به أن الله عز وجل لم يقصد قصد معنى واحد ودلالة على شيء واحد بما خاطبهم به، وأنه إنما قصد الدلالة به على أشياء كثيرة. قالوا: فالألف من " الم " مقتضية معاني كثيرة، منها تمام اسم الرب الذي هو الله، وتمام اسم نعماء الله التي هي آلاء الله، والدلالة على أجل قوم أنه سنة، إذ كانت الألف في حساب الجمل واحدًا. واللام مقتضية تمام اسم الله الذي هو لطيف، وتمام اسم فضله الذي هو لطف، والدلالة على أجل قوم أنه ثلاثون سنة. والميم مقتضية تمام اسم الله الذي هو مجيد، وتمام اسم عظمته التي هي مجد، والدلالة على أجل قوم أنه أربعون سنة. فكان معنى الكلام في تأويل قائلي القول الأول أن الله جل ثناؤه افتتح كلامه بوصف نفسه بأنه العالم الذي لا يخفى عليه شيء، وجعل ذلك لعباده منهجًا يسلكونه في مفتتح خطبهم ورسائلهم ومهنم أمورهم، وابتلاء منه لهم به ليستوجبوا به عظيم الثواب في دار الجزاء، كما افتتح بـ "الحمد لله رب العالمين"، و "الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض"، (الأنعام: 1)، وما أشبه ذلك من السور التي جعل مفاتحها الحمد لنفسه، وكما جعل مفاتح بعضها تعظيم نفسه وإجلالها بالتسبيح، كما قال جل ثناؤه: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا " (الإسراء: 1)، وما أشبه ذلك من سائر سور القرآن، التي جعل مفاتح بعضها تحميد نفسه، ومفاتح بعضها تمجيدها، ومفاتح بعضها تعظيمها وتنزيهها. فكذلك جعل مفاتح السور الاخر التي أوائلها بعض حروف المعجم، مدائح نفسه، أحيانًا بالعلم، وأحيانًا بالعدل والإنصاف، وأحيانًا بالإفضال والإحسان، بإيجاز واختصار، ثم اقتصاص الأمور بعد ذلك.
وعلى هذا التأويل يجب أن يكون الألف واللام والميم في أماكن الرفع، مرفوعًا بعضها ببعض، دون قوله " ذلك الكتاب "، ويكون " ذلك الكتاب " خبرًا مبتدأ منقطعًا عن معنى " الم ". وكذلك " ذلك " في تأويل قول قائل هذا القول الثاني، مرفوع بعضه ببعض، وإن كان مخالفًا معناه معنى قول قائلي القول الأول.
وأما الذين قالوا: هن حروف من حروف حساب الجمل دون ما خالف ذلك من المعاني، فإنهم قالوا: لا نعرف للحروف المقطعة معنى يفهم سوى حساب الجمل، وسوى تهجي قول القائل: " الم". قالوا: وغير جائز أن يخاطب الله جل ثناؤه عباده إلا بما يفهمون ويعقلون عنه. فلما كان ذلك كذلك وكان قوله "الم" لا يعقل لها وجه توجه إليه، إلا أحد الوجهين اللذين ذكرنا، فبطل أحد وجهيه، وهو أن يكون مرادًا بها تهجي "الم" صح وثبت أنه مراد به الوجه الثاني، وهو حساب الجمل، لأن قول القائل: "الم" لا يجوز أن يليه من الكلام "ذلك الكتاب "، لاستحالة معنى الكلام وخروجه عن المعقول، إن ولي " الم * ذلك الكتاب ".
واحتجوا لقولهم ذلك أيضًا بما:
حدثنا به محمد بن حميد الرازي، قال: حدثنا سلمة بن الفضل ، قال: حدثني محمد بن إسحق، قال: حدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابربن عبدالله بن رئاب، قال:" مر أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة "الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه "، فأتى أخاه حيي بن أخطب من يهود فقال: تعلمون والله، لقد سمعت محمدًا يتلو فيما أنزل الله عز وجل عليه "الم * ذلك الكتاب" فقالوا: أنت سمعته؟ قال: نعم! قال: فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، ألم يذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل عليك "الم * ذلك الكتاب"؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى. فقالوا: أجاءك بهذا جبريل من عند الله؟ قال: نعم قالوا: لقد بعث الله جل ثناؤه قبلك أنبياء، ما نعلمه بين لنبي منهم، ما مده ملكه وما أكل أمته غيرك! فقال حيي بن أخطب، وأقبل على من كان معه فقال لهم: الألف، واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة. أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأكل أمته إحدى وسبعون سنة؟ قال: ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، هل مع هذا غيره؟ قال: نعم قال: ماذا؟ قال: ( المص). قال: هذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه مئة وإحدى وستون سنة. هل مع هذا يا محمد غيره، قال: نعم قال: ماذا؟ قال: (الر). قال: هذه والله أثقل وأطول. الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مئتان، فهذه إحدى وثلاثون ومئتا سنة، فقال: هل مع هذا غيره يا محمد؟ قال: نعم، (المر) ، قال: فهذه والله أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مئتان، فهذه إحدى وسبعون ومئتا سنة. ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد، حتى ما ندري أقليلاً أعطيت أم كثيرًا؟ ثم قاموا عنه. فقال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب، ولمن معه من الأحبار: ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد، إحدى وسبعون، واحدى وستون ومئة، ومئتان وإحدى وثلاثون، ومئتان وإحدى وسبعون، فذلك سبعمئة سنة وأربع وثلاثون! فقالوا لقد تشابه علينا أمره! ويزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم: "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات" " (آل عمران: 7).
قالوا: فقد صرح هذا الخبر بصحة ما قلنا في ذلك من التأويل، وفساد ما قاله مخالفونا فيه. والصواب من القول عندي في تأويل مفاتح السور، التي هي حروف المعجم: أن الله جل ثناؤه جعلها حروفاً مقطعة ولم يصل بعضها ببعض فيجعلها كسائر الكلام المتصل الحروف لأنه عز ذكره أراد بلفظه الدلالة بكل حرف منه على معان كثيرة، لا على معنى واحد، كما قال الربيع بن أنس. وإن كان الربيع قد اقتصر به على معان ثلاثة، دون ما زاد عليها.
والصواب في تأويل ذلك عندي: أن كل حرف منه يحوي ما قاله الربيع، وما قاله سائر المفسرين غيره فيه سوى ما ذكرت من القول عمن ذكرت عنه من أهل العربية: أنه كان يوجه تأويل ذلك إلى أنه حروف هجاء، استغني بذكر ما ذكر منه في مفاتيح السور، عن ذكر تتمة الثمانية والعشرين حرفاً من حروف المعجم، بتأويل: أن هذه الحروف، ذلك الكتاب، مجموعة، لا ريب فيه، فإنه قول خطأ فاسد، لخروجه عن أقوال جميع الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين من أهل التفسير والتأويل. فكفى دلالة على خطئه، شهادة الحجة عليه بالخطأ، مع إبطال قائل ذلك قوله الذي حكينا عنه إذ صار إلى البيان عن رفع "ذلك الكتاب" بقوله مرة إنه مرفوع كل واحد منهما بصاحبه، ومرة أخرى إنه مرفوع بالراجع من ذكره في قوله "لا ريب فيه"، ومرة بقوله "هدى للمتقين ". وذلك ترك منه لقوله: إن "الم" رافعة "ذلك الكتاب"، وخروج من القول الذي ادعاه في تأويل " الم * ذلك الكتاب"، وأن تأويل ذلك: هذه الحروف ذلك الكتاب.
فإن قال لنا قائل: وكيف يجوز أن يكون حرف واحد شاملاً الدلالة على معان كثيرة مختلفة؟
قيل: كما جاز أن تكون كلمة واحدة تشتمل على معان كثيرة مختلفة، كقولهم للجماعة من الناس: أمة، وللحين من الزمان: أمة، وللرجل المتعبد المطيع لله: أمة، وللدين والملة: أنة. وكقولهم للجزاء والقصاص: دين، وللسلطان والطاعة: دين، وللتذلل: دين، وللحساب: دين، في أشباه لذلك كثيرة يطول الكتاب بإحصائها مما يكون من الكلام بلفظ واحد، وهو مشتمل جملى معان كثيرة. وكذلك قول الله جل ثناؤه: " الم" و "الر" و (المص) وما أشبه ذلك من حروف المعجم التي هي فواتح أوائل السور، كل حرف منها دال على معان شتى، شامل جميعها من أسماء الله عز وجل وصفاته ما قاله المفسرون من الأقوال التى ذكرنا عنهم. وهن، مع ذلك، فواتح السور، كما قاله من قال ذلك. وليس كون ذلك من حروف أسماء الله جل ثناؤه وصفاته، بمانعها أن تكون للسور فواتح. لأن الله جل ثناؤه قد افتتح كثيرًا من سور القرآن بالحمد لنفسه والثناء عليها، وكثيرًا منها بتمجيدها وتعظيمها، فغير مستحيل أن يبتدىء بعض ذلك بالقسم بها.
فالتي ابتدىء أوائلها بحروف المعجم، أحد معاني أوائلها: أنهن فواتح ما افتتح بهن من سور القرآن. وهن مما أقسم بهن، لأن أحد معانيهن أنهن من حروف أسماء الله تعالى ذكره وصفاته، على ما قدمنا البيان عنها، ولا شك في صحة معنى القسم بالله وأسمائه وصفاته. وهن من حروف حساب الجمل. وهن للسور التي افتتحت بهن شعار وأسماء. فذلك يحوي معاني جميع ما وصفنا، مما بينا، من وجوهه. لأن الله جل ثناؤه لو أراد بذلك، أو بشيء منه، الدلالة على معنى واحد مما يحتمله ذلك، دون سائر المعاني غيره، لأبان ذلك لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إبانة غير مشكلة. إذ كان جل ثناؤه إنما أنزل كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم ليبين لهم ما اختلفوا فيه. وفي تركه صلى الله عليه وسلم إبانة ذلك أنه مراد به من وجوه تأويله البعض دون البعض أوضح الدليل على أنه مراد به. جميع وجوهه التي هو لها محتمل. إذ لم يكن مستحيلاً في العقل وجه منها أن يكون من تأويله ومعناه، كما كان غير مستحيل اجتماع المعاني الكثيرة للكلمة الواحدة، باللفظ الواحد، في كلام واحد.
ومن أبى ما قلناه في ذلك، سئل الفرق بين ذلك، وبين سائر الحروف التي تأتي بلفظ واحد،مع اشتمالها على المعاني الكثيرة المختلفة، كالأمة والدين وما أشبه ذلك من الأسماء والأفعال. فلن يقول في واحد من ذلك قولاً إلا ألزم في الآخر مثله.
وكذلك يسأل كل من تأول شيئًا من ذلك على وجه دون الأوجه الأخر التي وصفنا عن البرهان على دعواه، من الوجه الذي يجب التسليم له. ثم يعارض بقول مخالفه في ذلك، ويسأل الفرق بينه وبينه: من أصل، أو مما يدل عليه أصل. فلن يقول قولاً إلا ألزم في الآخر مثله.
وأما الذي زعم من النحويين: أن ذلك نظير بل في قول المنشد شعرًا:
بل، ما هاج أحزانًا وشجوًا قد شجا
وأنه لا معنى له، وإنما هو زيادة في الكلام معناه الطرح فإنه أخطأ من وجوه شتى:
أحدها: أنه وصف الله تعالى ذكره بأنه خاطب العرب بغير ما هو من لغتها، وغير ما هو في لغة أحد من الآدميين. إذ كانت العرب وإن كانت قد كانت تفتتح أوائل إنشادها ما أنشدت من الشعر بـ بل فإنه معلوم منها أنها لم تكن تبتدىء شيئًا من كلامها بـ " الم " و " الر " و " المص "، بمعنى ابتدائها ذلك بـ بل. وإذ كان ذلك ليس من ابتدائها وكان الله جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم من القرآن، بما يعرفون من لغاتهم، ويستعملون بينهم من منطقهم، في جميع آيه فلا شك أن سبيل ما وصفنا من حروف المعجم، التي افتتحت بها أوائل السور، التي هن لها فواتح، سبيل سائر القرآن، في أنه لم يعدل بها عن لغاتهم التي كانوا بها عارفين، ولها بينهم في منطقهم مستعملين. لأن ذلك لو كان معدولاً به عن سبيل لغاتهم ومنطقهم، كان خارجًا عن معنى الإبانة التي وصف الله عز وجل بها القرآن، فقال تعالى ذكره: " نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين" (الشعراء: 193- 195). وأنى يكون مبينًا ما لا يعقله ولا يفهمه أحد من العالمين، في قول قائل هذه المقالة، ولا يعرف في منطق أحد من المخلوقين، في قوله؟ وفي إخبار الله جل ثناؤه عنه أنه عربي مبين، ما يكذب هذه المقالة، وينبىء عنه أن العرب كانوا به عالمين، وهو لها مستبين. فذلك أحد أوجه خطئه.
والوجه الثاني من خطئه في ذلك: إضافته إلى الله جل ثناؤه أنه خاطب عباده بما لا فائدة لهم فيه ولا معنى له، من الكلام الذي سواء الخطاب فيه به وترك الخطاب به. وذلك إضافة العبث الذي هو منفي في قول جميع الموحدين عن الله إلى الله تعالى ذكره.
والوجه الثالث من خطئه: أن بل في كلام العرب مفهوم تأويلها ومعناها، وأنها تدخلها في كلامها رجوعًا عن كلام لها قد تقضى، كقولهم: ما جاءني أخوك بل أبوك، وما رأيت عمرًا بل عبدالله، وما أشبه ذلك من الكلام، كما قال أعشى بني ثعلبة:
ولأشربن ثمانيًا وثمانيًا وثلاث عشرة واثنتين واربعا
ومضى في كلمته حتى بلغ قوله:
بالجلسان، وطيب أردانه بالون يضرب لي يكرالإصبعا
ثم قال:
بل عد هذا، في قريض غيره واذكر فتى سمح الخليقة اروعا
فكأنه قال: دع هذا وخذ في قريض غيره فـ بل إنما يأتي في كلام العرب على هذا النحو من الكلام، فأما افتتاحًا لكلامها مبتدأ بمعنى التطول والحذف، من غير أن يدل على معنى، فذلك مما لا نعلم أحدًا ادعاه من أهل المعرفة بلسان العرب ومنطقها، سوى الذي ذكرت قوله، فيكون ذلك أصلاً يشبه به حروف المعجم التي هي فواتح سور القرآن التي افتتحت بها لو كانت له مشبهة فكيف وهي من الشبه به بعيد؟ )
سورة الروم مكية كلها من غير خلاف ، وهي ستون آية
قوله تعالى: "الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض" روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين فنزلت: "الم" "غلبت الروم" "في أدنى الأرض" - إلى قوله - "يفرح المؤمنون" "بنصر الله". قال : ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس. قال: هذا حديث غريب من هذا الوجه. هكذا قرأ نصر بن علي الجهضمي غلبت الروم. ورواه أيضاً من حديث ابن عباس بأتم منه: قال ابن عباس في قول الله عز وجل: "الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض" قال: غلبت وغلبت، قال: كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب، فذكره لأبي بكر فذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما إنهم سيغلبون فذكره أبو بكر لهم فقالوا:اجعل بيننا وبينك أجلاً، فإن ظهرنا كان لنا كذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا فجعل أجل خمس سنين، فلم يظهروا، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا جعلته إلى دون - أراه قال العشر - قال: قال أبو سعيد: والبضع ما دون العشرة. قال: ثم ظهرت الروم بعد، قال: فذلك قوله: "الم * غلبت الروم"- إلى قوله - "ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله". قال سفيان: سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب. ورواه أيضاً عن نيار بن مكرم الأسلمي قال: لما نزلت: "الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين" وكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم لأنهم وإياهم أهل كتاب، وفي ذلك نزل قوله الله تعالى: "ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم" وكانت قريش تحب ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان يبعث، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه يصيح في نواحي مكة: "الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين". قال ناس من قريش لأبي بكر: فذلك بيننا وبينكم، زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين! أفلا نراهنك على ذلك ؟ قال: بلى. وذلك قبل تحريم الرهان، فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان. وقالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع ؟ ثلاث سنين إلى تسع سنين ؟ فسم بيننا وبينك وسطاً تنتهي إليه، قال فسمعوا بينهم ست سنين، قال: فمضت الست سنين قبل أن يظهروا، فأخذ المشركون رهن أبي بكر، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس، فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين، قال: لأن الله تعالى قال "في بضع سنين" قال: وأسلم عند ذلك ناس كثير. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب. وروى القشيري وابن عطية وغيرهما: أنه لما نزلت الآيات خرج أبو بكر بها إلى المشركين فقال: أسركم أن غلبت الروم ؟ فإن نبينا أخبرنا عن الله تعالى أنهم سيغلبون في بضع سنين. فقال له أبي بن خلف وأمية أخوه وقيل أبو سفيان بن حرب-: يا أبا فضيل ! - يعرضون بكنيته يا أبا بكر - فلنتناحب - أي نتراهن في ذلك فراهنم أبو بكر. قال قتادة: وذلك قبل أن يحرم قبل أن يحرم القمار، وجعلوا الرهان خمس قلائص والأجل ثلاث سنين. وقيل: جعلوا الرهان ثلاث قلائص. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال:
فهلا احتطت، فإن البضع ما بين الثلاث والتسع والعشر! ولكن ارجع فزدهم في الرهان واستزدهم في الأجل ففعل أبو بكر، فجعلوا القلائص مائة والأجل تسعة أعوام، فغلبت الروم في أثناء الأجل. وقال الشعبي: فظهروا في تسع سنين. القشيري: المشهور في الروايات أن ظهور الروم كان في السابعة من غلبة فارس للروم، ولعل رواية الشعبي تصحيف من السبع إلى التسع من بعض النقلة. وفي بعض الروايات: أنه جعل القلائص سبعاً إلى تسع سنين. ويقال: إنه آخر فتوح كسرى أبرويز فتح فيه القسطنطينية حتى بنى فيها بيت النار، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فساءه ذلك، فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين. وحكى النقاش وغيره: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما أراد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم تعلق به أبي بن خلف وقال له: أعطني كفيلاً بالخطر إن غلبت، فكفل به ابنه عبد الرحمن، فلما أراد أبي الخروج إلى أحد طلبه عبد الرحمن بالكفيل فأعطاه كفيلاً، ثم مات أبي بمكة من جرح جرحه النبي صلى الله عليه وسلم، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية على رأس تسع سنين من مناحبتهم. وقال الشعبي: لم تمض تلك المدة حتى غلبت الروم فارس، وربطوا خيلهم بالمدائن، وبنوا رومية، فقمر أبو بكر أبيا وأخذ مال الخطر من ورثته فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تصدق به فتصدق به. وقال المفسرون: إن سبب غلبة الروم فارس امرأة كانت في فارس لا تلد إلا الملوك والأبطال، فقال لها كسرى: أريد أن أستعمل أحد بنيك على جيش أجهزه إلى الروم، فقالت: هذا هرمز أروغ من ثعلب وأحذر من صقر، وهكذا فرخان أحد من سنان وأنفذ من نبل، وهذا شهر بزان أحلم من كذا، فاختر، قال فاختار الحليم وولاه، فسار إلى الروم بأهل فارس فظهر على الروم. قال عكرمة وغيره: إن شهر بزان لما غلب الروم خرب ديارها حتى بلغ الخليج، فقال أخوه فرخان لقد راتني جالسا علىسريركسرى،فكتب كسرى إلى شهر بزان أرسل إلي برأس فرحان فلم يفعل، فكتب كسرى إلى فارس: إني قد استعملت عليكم فرخان وعزلت شهر بزان، وكتب إلى فرخان إذا ولي أن يقتل شهر بزان، فأراد فرخان قتل شهر بزان فأخرج له شهر بزان ثلاث صحائف من كسرى يأمره بقتل فرخان، فقال شهر بزان لفرخان: إن كسرى كتب إلي أن أقتلك ثلاث صحائف وراجعته أبداً في أمرك، افتقتلني أنت بكتاب واحد ؟ فرد الملك إلى أخيه، وكتب شهر بزان إلى قيصر ملك الروم فتعاونا على كسر، فغلبت الروم فارس ومات كسرى. وجاء الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ففرح من معه من المسلمين، فذلك قوله تعالى: "الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض " يعني أرض الشام. عكرمة: باذرعات، وهي ما بين بلاد العرب والشام. وقيل: إن قيصر كان بعث رجلاً يدعى يحنس وبعث كسرى شهر بزان فالتقيا بأذرعات وبصرى وهي أدنى بلاد الشام إلى أرض العرب والعجم. مجاهد: وهو موضع بين العراق والشام. مقاتل: بالأردن وفلسطين. وأدنى معناه أقرب. قال أبو عطية: فإن كانت الواقعة بأذرعات فهي من أدنى الأرض بالقياس إلى مكة، وهي التي ذكرها امرؤ القيس في قوله:
تنورتها من أذرعات وأهلها بيثـرب أدنى دارها نظر عال
وإن كانت الواقعة بالجزيرة فهي أدنى بالقياس إلى أرض كسرى، وإن كانت بالأردن فهي أدنى إلى أرض الروم. فلما طرأ ذلك وغلبت الروم سر الكفار فبشر الله عباده بأن الروم سيغلبون وتكون الدولة لهم في الحرب.
وقد مضى الكلام في فواتح السور. وقرأ أبو سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن قرة غلبت الروم بفتح الغين واللام. وتأويل ذلك أن الذي طرأ يوم بدر إنما كانت الروم غلبت فعز ذلك على كفار قريش وسر بذلك المسلمون، فبشر الله تعالى عباده أنهم سيغلبون أيضاً في بضع سنين، ذكر هذا التأويل أبو حاتم. قال أبو جعفر النحاس: قراءة أكثر الناس غلبت الروم بضم الغين وكسر اللام. وروي عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري أنهما قرأ غلبت الروم وقرأ سيغلبون. وحكى أبو حاتم أن عصمة روى عن هارون: أن هذه قراءة أهل الشام، وأحمد بن حنبل يقول: إن عصمة هذا ضعيف، وأبو حاتم كثير الحكاية عنه، والحديث يدل على أن القراءة غلبت بضم الغين، وكان في هذا الإخبار دليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن الروم غلبتها فارس، فأخبر الله عز وجل نبيه محمداً صلى عليه وسلم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، وان المؤمنين يفرحون بذلك، لأن الروم أهل كتاب، فكان هذا من علم الغيب الذي أخبر الله عز وجل ما لم يكن علموه، وأمر أبا بكر أن يراهنهم على ذلك وأن يبالغ في الرهان. ثم حرم الرهان بعد ونسخ بتحريم القمار. قال ابن عطية: والقراءة بضم الغين أصح، وأجمع الناس على سيغلبون أنه بفتح الياء، يراد به الروم. ويروي عن ابن عمر أنه أيضاً بضم الياء في سيغلبون، وفي هذه القراءة قلب للمعنى الذي تظاهرت الروايات به. قال أبو جعفر النحاس: ومن قرأ سيغلبون فالمعنى عنده: وفارس من بعد غلبهم، أي من بعد أن غلبوا، سيغلبون. وروي أن إيقاع الروم بالفرس كان الروم بدر، كان في حديث أبي سعيد الخدري حديث الترمذي، وروي أن ذلك كان يوم الحديبية، وأن الخبر وصل يوم بيعة الرضوان، قاله عكرمة وقتادة. قال ابن عطية: وفي كلا اليومين كان نصر من الله للمؤمنين. وقد ذكر الناس أن سبب سرور المسلمين بغلبة الروم وهمهم أن تغلب إنما هو أن الروم أهل كتاب كالمسلمين، وفارس من أهل الأوثان، كما تقدم بيانه في الحديث. قال النحاس: وقول آخر وهو أولى - أن فرحهم إنما كان لإنجاز وعد الله تعالى، إذ كان فيه دليل على النبوة لأنه أخبر تبارك وتعالى بما يكون في بضع سنين فكان فيه.قال ابن عطية: ويسبه أن يعلل ذلك بما يقتضيه النظر من محبة أن يغلب العدو الأصغر لأنه أيسر مؤونة، ومتى غلب الأكبر كثر الخوف منه، فتأمل هذا المعنى، مع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجاه من ظهور دينه وشرع الله الذي بعثه به وغلبته على الأمم، وإرادة كفار مكة أن يرميه الله بملك يستأصله ويريحهم منه. وقيل: سرورهم إنما كان بنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين، لأن جبريل أخبر بذل النبي عليه السلام يوم بدر، حكاه القشيري.
قلت: ويحتمل أن يكون سرورهم بالمجموع من ذلك، فسروا بظهرهم على عدوهم وبظهور الروم أيضاً وبإيجاز وعد الله. وقرأ أبو حيوة الشامي ومحمد بن السميقع من بعد غلبهم بسكون اللام، وهما لغتان، مثل الطغن والطغن. وزعم الفراء أن الأصل من بعد غلبهم فحذفت التاء كما حذفت في قوله عز وجل: وإقام الصلاة وأصله وإقامة الصلاة. قال النحاس: وهذا غلط لا يخيل على كثير من أهل النحو، لأن إقام الصلاة مصدر قد حذف منه لاعتلال فعله، فجعلت التاء عوضاً من المحذوف، وغلب ليس بمعتل ولا حذف منه شئ. وقد حكى الأصمعي: طرد طرداً، وجلب جلباً، وحلب حلباً، وغلب غلباً، فأي حذف في هذا، وهل يجوز أن يقال في أكل أكلا وما أشبه-: حذف منه ؟ "في بضع سنين" حذفت الهاء من بضع فرقاً بين المذكر والمؤنث، وقد مضى الكلام فيه في يوسف. وفتحت النون من سنين لأنه جمع مسلم. ومن العرب من يقول في بضع سنين كما يقول في غسلين. وجاز أن يجمع سنة جمع من يعقل بالواو والنون والياء والنون، لأنه قد حذف منها شئ فجعل هذا الجمع عوضاً من النقص الذي في واحده، لأن أصل سنة سنهة أو سنوة، وكسرت السين منه دلالة على أن جمعه خارج عن قياسه ونمطه، هذا قول البصريين. ويلزم الفراء أن يضمها لأنه يقول: الضمة دليل على الواو وقد حذف من سنة واو في أحد القولين، ولا يضمها أحد علمناه.
قوله تعالى: "لله الأمر من قبل ومن بعد" أخبر تعالى بانفراده بالقدر وأن ما سفي العالم من غلبة وغيرها وإنما هن منه وبإرادته وقدرته فقال الله الأمر أي إنفاذ الأحكام. من قبل ومن بعد أي من قبل هذه الغلبة ومن بعدها. وقيل: من قبل كل شئ ومن بعد كل شئ. من قبل ومن بعد ظرفان بينا على الضم، لأنهما تعرفا بحذف ما أضيفا إليهما وصارا متضمنين ما حذف فخالفا تعريف الأسماء وأشبها الحروف في التضمين فبينا، وخصا الضم لشبههما بالمنادى المفرد في أنه إذا نكر وأضيف زال بناؤه، وكذلك هما فضما. ويقال: من قبل ومن بعد. وحكى الكسائي عن بعض بني أسد لله الأمر من قبل ومن بعد الأول مخفوض منون، والثاني مضموم بلا تنوين. وحكى الفراء من قبل ومن بعد مخفوضين بغير تنوين. وأنكره النحاس ورده. وقال الفراء في كتابه: في القرآن أشياء كثيرة، الغلط فيها بين، منها أنه زعم أنه يجوز من قبل ومن بعد وإنما بجوز من قبل ومن بعد على أنهما نكرتان. قال الزجاج: المعنى من متقدم ومن متأخر.
"ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله" تقدم ذكره. "ينصر من يشاء" يعني من أوليائه، لأن نصره مختص بغلبة أوليائه لأعدائه فأما غلبة أعدائه لأوليائه فليس بنصره، وإنما هو ابتلاء وقد يسمى ظفرا. "وهو العزيز" في نقمته "الرحيم" لأهل طاعته.
سورة الروم
بسم الله الرحمـن الرحيم
نزلت هذه الايات حين غلب سابور ملك الفرس على بلاد الشام وما والاها من بلاد الجزيرة وأقاصي بلاد الروم. واضطر هرقل ملك الروم حتى ألجأه إلى القسطنطينية وحاصره فيها مدة طويلة, ثم عادت الدولة لهرقل كما سيأتي. قال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو , حدثنا أبو إسحاق عن سفيان عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: " الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض " قال غلبت وغلبت, قال: كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم, لأنهم أصحاب أوثان, وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس, لأنهم أهل كتاب, فذكر ذلك لأبي بكر , فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم, " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم,أما إنهم سيغلبون فذكره أبو بكر لهم, فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلاً, فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا, وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا, فجعل أجلاً خمس سنين, فلم يظهروا, فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم, فقال :ألا جعلتها إلى دون ـ أراه قال العشر ـ" قال سعيد بن جبير : البضع ما دون العشر, ثم ظهرت الروم بعد قال: فذلك قوله " الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم " هكذا رواه الترمذي والنسائي جميعاً عن الحسين بن حريث عن معاوية بن عمرو , عن أبي إسحاق الفزاري عن سفيان بن سعيد الثوري به. وقال الترمذي : حسن غريب إنما نعرفه من حديث سفيان عن حبيب ورواه ابن أبي حاتم عن محمد بن اسحاق الصاغاني عن معاوية بن عمرو به ورواه ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى , حدثنا محمد بن سعيد أو سعيد الثعلبي , الذي يقال له أبو سعد من أهل طرسوس, حدثنا أبو إسحاق الفزاري فذكره, وعندهم قال سفيان : فبلغني أنهم غلبوا يوم بدر.
(حديث آخر) قال سليمان بن مهران الأعمش عن مسلم عن مسروق قال: قال عبد الله : خمس قد مضين, الدخان, واللزام, والبطشة, والقمر, والروم, أخرجاه. وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع , حدثنا المحاربي عن داود بن أبي هند , عن عامر ـ هو الشعبي ـ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان فارس ظاهراً على الروم, وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم. وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس, لأنهم أهل كتاب وهم أقرب إلى دينهم, فلما نزلت " الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين " قالوا: يا أبا بكر إن صاحبك يقول إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين ؟ قال: صدق. قالوا: هل لك أن نقامرك ؟ فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين, فمضت السبع ولم يكن شيء, ففرح المشركون بذلك, وشق على المسلمين, فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال "ما بضع سنين عندكم ؟ قالوا: دون العشر. قال اذهب فزايدهم, وازدد سنتين في الأجل قال: فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس, ففرح المؤمنون بذلك " , وأنزل الله تعالى: " الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم * وعد الله لا يخلف الله وعده ".
(حديث آخر) قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين , حدثنا أحمد بن عمر الوكيعي , حدثنا مؤمن عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: لما نزلت " الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون " قال المشركون لأبي بكر : " ألا ترى إلى ما يقول صاحبك يزعم أن الروم تغلب فارس ؟ قال: صدق صاحبي. قالوا: هل لك أن نخاطرك ؟ فجعل بينه وبينهم أجلاً, فحل الأجل قبل أن تغلب الروم فارس , فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فساءه ذلك وكرهه, وقال لأبي بكر : ما دعاك إلى هذا ؟ قال: تصديقاً لله ولرسوله. قال : تعرض لهم وأعظم الخطر واجعله إلى بضع سنين فأتاهم أبو بكر فقال لهم: هل لكم في العود, فإن العود أحمد ؟ قالوا: نعم, فلم تمض تلك السنون حتى غلبت الروم فارس, وربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا الرومية, فجاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا السحت, قال : تصدق به " .
(حديث آخر) قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا محمد بن إسماعيل , حدثنا إسماعيل بن أبي أويس , أخبرني ابن أبي الزناد عن عروة بن الزبير عن نيار بن مكرم الأسلمي قال: لما نزلت " الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين " فكانت فارس يوم نزلت هذه الاية قاهرين للروم, وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم, لأنهم وإياهم أهل كتاب, وفي ذلك قول الله: " ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم " وكانت قريش تحب ظهور فارس, لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب, ولا إيمان ببعث, فلما أنزل الله هذه الاية, خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة " الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين " " قال ناس من قريش لأبي بكر : فذاك بيننا وبينكم, زعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين,أفلا نراهنك على ذلك ؟ قال: بلى, وذلك قبل تحريم الرهان, فارتهن أبو بكر والمشركون, وتواضعوا الرهان وقالوا لأبي بكر : كم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين, فسم بيننا وبينك وسطاً ننتهي إليه ؟ قال: فسموا بينهم ست سنين, قال: فمضت ست السنين قبل أن يظهروا, فأخذ المشركون رهن أبي بكر , فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس: فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين, قال: لأن الله قال في بضع سنين, قال: فأسلم عند ذلك ناس كثير " . هكذا ساقه الترمذي , ثم قال: هذا حديث حسن صحيح, لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد .
وقد روي نحو هذا مرسلاً عن جماعة من التابعين مثل عكرمة والشعبي ومجاهد وقتادة والسدي والزهري وغيرهم, ومن أغرب هذه السياقات ما رواه الإمام سنيد بن داود في تفسيره حيث قال: حدثني حجاج عن أبي بكر بن عبد الله عن عكرمة قال: كان في فارس امرأة لا تلد إلا الملوك الأبطال, فدعاها كسرى فقال: إني أريد أن أبعث إلى الروم جيشاً وأستعمل عليهم رجلاً من بنيك, فأشيري علي أيهم أستعمل ؟! فقالت: هذا فلان وهو أروغ من ثعلب, وأحذر من صقر, وهذا فرخان وهو أنفذ من سنان, وهذا شهريراز وهو أحلم من كذا, تعني أولادها الثلاثة, فاستعمل أيهم شئت, قال: فإني استعملت الحليم, فاستعمل شهريراز فسار إلى الروم بأهل فارس, فظهر عليهم فقتلهم وخرب مدائنهم, وقطع زيتونهم, قال أبو بكر بن عبد الله : فحدثت بهذا الحديث عطاء الخرساني فقال: أما رأيت بلاد الشام ؟ قلت: لا, قال أما إنك لو رأيتها لرأيت المدائن التي خربت والزيتون الذي قطع, فأتيت الشام بعد ذلك فرأيته. قال عطاء الخراساني : حدثني يحيى بن يعمر أن قيصر بعث رجلاً يدعى قطمة بجيش من الروم, وبعث كسرى شهريراز فالتقيا بأذرعات وبصرى, وهي أدنى الشام إليكم, فلقيت فارس الروم فغلبتهم فارس, ففرحت بذلك كفار قريش, وكرهه المسلمون, قال عكرمة : ولقي المشركون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنكم أهل كتاب, والنصارى أهل كتاب, ونحن أميون, وقد ظهر إخواتكم من أهل فارس على إخواننا من أهل الكتاب, وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم, فأنزل الله تعالى: " الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء " فخرج أبو بكر الصديق إلى الكفار فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا, فلا تفرحوا ولا يقرن الله أعينكم, فوالله ليظهرن الله الروم على فارس, أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم, فقام إليه أبي بن خلف فقال: كذبت يا أبا فضيل, فقال له أبو بكر : أنت أكذب يا عدو الله, فقال: أناحبك عشر قلائص مني وعشر قلائص منك, فإن ظهرت الروم على فارس غرمت, وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين, ثم " جاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره, فقال :ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع, فزايده في الخطر وماده في الأجل فخرج أبو بكر فلقي أبيا, فقال: لعلك ندمت ؟ فقال: لا, تعال أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل, فاجعلها مائة قلوص لمائة قلوص إلى تسع سنين, قال: قد فعلت, فظهرت الروم على فارس قبل ذلك, فغلبهم المسلمون " . قال عكرمة : لما أن ظهرت فارس على الروم, جلس فرخان يشرب وهو أخو شهريراز, فقال: لأصحابه: لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى, فبلغت كسرى, فكتب كسرى إلى شهريراز: إذا أتاك كتابي فابعث إلي برأس فرخان, فكتب إليه: أيها الملك إنك لن تجد مثل فرخان له نكاية وصوت في العدو, فلا تفعل,فكتب إليه: إن في رجال فارس خلفاً منه, فعجل إلي برأسه. فراجعه, فغضب كسرى فلم يجبه, وبعث بريداً إلى أهل فارس: إني قد نزعت عنكم شهريراز واستعملت عليكم فرخان, ثم دفع إلى البريد صحيفة لطيفة صغيرة, فقال: إذا ولي فرخان الملك وانقاد إليه أخوه, فأعطه هذه, فلما قرأ شهريراز الكتاب قال: سمعاً وطاعة, ونزل عن سريره وجلس فرخان, ودفع إليه الصحيفة قال: ائتوني بشهريراز, وقدمه ليضرب عنقه, قال, لا تعجل حتى أكتب وصيتي, قال: نعم, فدعا بالسفط فأعطاه الصحائف, قال: كل هذا راجعت فيك كسرى وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد, فرد الملك إلى أخيه شهريراز, وكتب شهريراز إلى قيصر ملك الروم إن لي إليك حاجة لا تحملها البرد, ولا تحملها الصحف فالقني ولا تلقني إلا في خمسين رومياً, فإني ألقاك في خمسين فارسياً, فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي, وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق, وخاف أن يكون قد مكر به حتى أتاه عيونه أنه ليس معه إلا خمسون رجلاً, ثم بسط لهما والتقيا في قبة ديباج ضربت لهما, مع كل واحد منهما سكين فدعيا ترجماناً بينهما, فقال شهريراز: إن الذين خربوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا, وإن كسرى حسدنا وأراد أن أقتل أخي فأبيت, ثم أمر أخي أن يقتلني وقد خلعناه جميعاً, فنحن نقاتله معك. قال: قد أصبتما, ثم أشار أحدهما إلى صاحبه أن السر بين اثنين, فإذا جاوز اثنين فشا, قال: أجل, فقتلا الترجمان جميعاً بسكينيهما, فأهلك الله كسرى, وجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية, ففرح والمسلمون معه. فهذا سياق غريب وبناء عجيب.
ولنتكلم عن كلمات هذه الايات الكريمة, فقوله تعالى: " الم * غلبت الروم " قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور في أول سورة البقرة, وأما الروم فهم من سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم, وهم أبناء عم بني إسرائيل, ويقال لهم بنو الأصفر, وكانوا على دين اليونان, واليونان من سلالة يافث بن نوح أبناء عم الترك, وكانوا يعبدون الكواكب السيارة السبعة, ويقال لها المتحيرة, ويصلون إلى القطب الشمالي, وهو الذين أسسوا دمشق, وبنوا معبدها, وفيه محاريب إلى جهة الشمال, فكان الروم على دينهم إلى بعد مبعث المسيح بنحو من ثلثمائة سنة, وكان من ملك الشام مع الجزيرة منهم يقال له قيصر, فكان أول من دخل في دين النصارى من الملوك قسطنطين بن قسطس وأمه مريم الهيلانية الفدقانية من أرض حران, كانت قد تنصرت قبله, فدعته إلى دينها, وكان قبل ذلك فيلسوفاً فتابعها, يقال تقية, واجتمعت به النصارى وتناظروا في زمانه مع عبد الله بن أريوس, واختلفوا اختلافاً منتشراً متشتتاً لا ينضبط, إلا أنه اتفق من جماعتهم ثلثمائة وثمانية عشر أسقفاً, فوضعوا لقسطنطين العقيدة, وهي التي يسمونها الأمانة الكبيرة, وإنما هي الخيانة الحقيرة, ووضعوا له القوانين يعنون كتب الأحكام من تحريم وتحليل, وغير ذلك مما يحتاجون إليه, وغيروا دين المسيح عليه السلام, وزادوا فيه ونقصوا منه, فصلوا إلى المشرق, واعتاضوا عن السبت بالأحد, وعبدوا الصليب وأحلوا الخنزير, واتخذوا أعياداً أحدثوها كعيد الصليب والقداس والغطاس وغير ذلك من البواعيث والثعابين, وجعلوا له الباب, وهو كبيرهم, ثم البتاركة, ثم المطارنة, ثم الأساقفة والقساقسة, ثم الشمامسة, وابتدعوا الرهبانية, وبنى لهم الملك الكنائس والمعابد, وأسس المدينة المنسوبة إليه وهي القسطنطينية, يقال إنه بنى في أيامه اثني عشر ألف كنيسة, وبنى بيت لحم بثلاث محاريب, وبنت أمه القمامة, وهؤلاء هم الملكية يعنون الذين هم على دين الملك.
ثم حدثت بعدهم اليعقوبية أتباع يعقوب الأسكاف, ثم النسطورية أصحاب نسطورا, وهم فرق وطوائف كثيرة, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنهم افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة" والغرض أنهم استمروا على النصرانية, كلما هلك قيصر خلفه آخر بعده حتى كان آخرهم هرقل, وكان من عقلاء الرجال, ومن أحزم الملوك وأدهاهم, وأبعدهم غوراً, وأقصاهم رأياً, فتملك عليهم في رياسة عظيمة وأبهة كبيرة, فناوأه كسرى ملك الفرس وملك البلاد كالعراق وخراسان والري وجميع بلاد العجم, وهو سابور ذو الأكتاف, وكانت مملكته أوسع من مملكة قيصر, وله رياسة العجم, وحماقة الفرس, وكانوا مجوساً يعبدون النار, فتقدم عن عكرمة أنه: بعث إليه نوابه وجيشه فقاتلوه, والمشهور أن كسرى غزاه بنفسه في بلاده, فقهره وكسره وقصره, حتى لم يبق معه سوى مدينة قسطنطينية, فحاصره بها مدة طويلة, حتى ضاقت عليه, وكانت النصارى تعظمه تعظيماً زائداً, ولم يقدر كسرى على فتح البلد, ولا أمكنه ذلك لحصانتها لأن نصفها من ناحية البر, ونصفها الاخر من ناحية البحر, فكانت تأتيهم الميرة والمدد من هنالك, فلما طال الأمر, دبر قيصر مكيدة, ورأى في نفسه خديعة, فطلب من كسرى أن يقلع عن بلاده على مال يصالحه عليه ويشترط عليه ما شاء, فأجابه إلى ذلك, وطلب منه أموالاً عظيمة لايقدر عليها أحد من ملوك الدنيا من ذهب وجواهر وأقمشة وجوار وخدام وأصناف كثيرة, فطاوعه قيصر وأوهمه أن عنده جميع ما طلب, واستقل عقله لما طلب منه ما طلب, ولو اجتمع هو وإياه لعجزت قدرتهما عن جمع عشره, وسأل كسرى أن يمكنه من الخروج إلى بلاد الشام وأقاليم مملكته, ليسعى في تحصيل ذلك من ذخائره وحواصله ودفائنه, فأطلق سراحه, فلما عزم قيصر على الخروج من مدينة قسطنطينة فجمع أهل ملته وقال: إني خارج في أمر قد أبرمته في جند قد عينته من جيشي, فإن رجعت إليكم قبل الحول, فأنا ملككم, وإن لم أرجع إليكم قبلها, فأنتم بالخيار: إن شئتم استمررتم على بيعتي, وإن شئتم وليتم عليكم غيري, فأجابوه بأنك ملكنا مادمت حياً, ولو غبت عشرة أعوام, فلما خرج من القسطنطينية خرج جريدة في جيش متوسط هذا, وكسرى مخيم على القسطنطينية ينتظره ليرجع, فركب قيصر من فوره وسار مسرعاً حتى انتهى إلى بلاد فارس, فعاث في بلادهم قتلاً لرجالها ومن بها من المقاتلة أولاً فأولاً, ولم يزل يقتل حتى انتهى إلى المدائن وهي كرسي مملكة كسرى, فقتل من بها وأخذ جميع حواصله وأمواله, وأسر نساءه وحريمه, وحلق رأس ولده وركبه على حماره, وبعث معه من الأساورة من قومه في غاية الهوان والذلة, وكتب إلى كسرى يقول: هذا ما طلبت فخذه, فلما بلغ ذلك كسرى أخذه من الغم ما لا يحصيه إلا الله تعالى, واشتد حنقه على البلد, فاشتد في حصارها بكل ممكن, فلم يقدر على ذلك, فلما عجز ركب ليأخذ عليه الطريق من مخاضة جيحون التي لا سبيل لقيصر إلى القسطنطينية إلا منها, فلما علم قيصر بذلك, احتال بحيلة عظيمة لم يسبق إليها وهو أنه أرصد جنده وحواصله التي معه عند فم المخاضة, وركب في بعض الجيش, وأمر بأحمال من التبن والبعر والروث, فحملت معه, وسار إلى قريب من يوم في الماء مصعداً, ثم أمر بالقاء تلك الأحمال في النهر, فلما مرت بكسرى ظن وجنده أنهم قد خاضوا من هنالك, فركبوا في طلبهم فشغرت المخاضة عن الفرس, وقدم قيصر فأمرهم بالنهوض والخوض, فخاضوا وأسرعوا السير, ففاتوا كسرى وجنوده, ودخلوا القسطنطينية, فكان ذلك يوماً مشهوداً عند النصارى, وبقي كسرى وجيوشه حائرين لا يدرون ماذا يصنعون, لم يحصلوا على بلاد قيصر, وبلادهم قد خربتها الروم, وأخذوا حواصلهم, وسبوا ذراريهم, ونساءهم, فكان هذا من غلب الروم لفارس, وكان ذلك بعد تسع سنين من غلب الفرس للروم, وكانت الوقعة الكائنة بين فارس والروم حين غلبت الروم بين أذرعات وبصرى على ما ذكره ابن عباس وعكرمة وغيرهما, وهي طرف بلاد الشام مما يلي بلاد الحجاز, وقال مجاهد : كان ذلك في الجزيرة, وهي أقرب بلاد الروم من فارس, فالله أعلم.
ثم كان غلب الروم لفارس بعد بضع سنين وهي تسع, فإن البضع في كلام العرب ما بين الثلاث إلى التسع, وكذلك جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وابن جرير وغيرهما من حديث عبد الله بن عبد الرحمن الجمحي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر في مناحبة " الم * غلبت الروم " الاية "ألا احتطت يا أبا بكر, فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع ؟" ثم قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وروى ابن جرير عن عبد الله بن عمرو أنه قال ذلك,.
وقوله تعالى: "لله الأمر من قبل ومن بعد" أي من قبل ذلك ومن بعده, فبني على الضم لما قطع المضاف, وهو قوله قبل عن الإضافة ونويت " ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله " أي للروم أصحاب قيصر ملك الشام على فارس أصحاب كسرى, وهم المجوس, وكانت نصرة الروم على فارس يوم وقعة بدر في قوله طائفة كثيرة من العلماء, كابن عباس والثوري والسدي وغيرهم. وقد ورد في الحديث الذي رواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والبزار من حديث الأعمش عن عطية عن أبي سعيد قال: لما كان يوم بدر, ظهرت الروم على فارس, فأعجب ذلك المؤمنين ففرحوا به, وأنزل الله " ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ".
وقال الاخرون: بل كان نصر الروم على فارس عام الحديبية. قاله عكرمة والزهري وقتاده وغير واحد. ووجه بعضهم هذا القول بأن قيصر كان قد نذر لئن أظفره الله بكسرى ليمشين من حمص إلى إيليا وهو بيت المقدس, شكراً لله تعالى ففعل, فلما بلغ بيت المقدس لم يخرج منه حتى وافاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعثه مع دحية بن خليفة, فأعطاه دحية لعظيم بصرى, فدفعه عظيم بصرى إلى قيصر. فلما وصل إليه سأل من بالشام من عرب الحجاز, فأحضر له أبو سفيان صخر بن حرب الأموي في جماعة من كبار قريش, وكانوا بغزة, فجيء بهم إليه فجلسوا بين يديه. فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ فقال أبو سفيان: أنا, فقال لأصحابه وأجلسهم خلفه: إني سائل هذا عن هذا الرجل, فإن كذب فكذبوه, فقال أبو سفيان, فو الله لولا أن يأثروا علي الكذب لكذبت, فسأله هرقل عن نسبه وصفته, فكان فيما سأله أن قال: فهل يغدر ؟ قال: قلت لا, ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها, يعني بذلك الهدنة التي كانت قد وقعت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفار قريش عام الحديبية على وضع الحرب بينهم عشر سنين, فاستدلوا بهذا على أن نصر الروم على فارس كان عام الحديبية, لأن قيصر إنما وفى بنذره بعد الحديبية, والله أعلم.
ولأصحاب القول الأول أن يجيبوا عن هذا بأن بلاده كانت قد خربت وتشعثت, فما تمكن من وفاء نذره حتى أصلح ما ينبغي له إصلاحه وتفقد بلاده, ثم بعد أربع سنين من نصرته وفى بنذره, والله أعلم, والأمر في هذا سهل قريب, إلا أنه لما انتصرت فارس على الروم ساء ذلك المؤمنين, فلما انتصرت الروم على فارس, فرح المؤمنون بذلك, لأن الروم أهل كتاب في الجملة, فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس, كما قال تعالى: " لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون * وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ". وقال تعالى ههنا " ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ". وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة , حدثنا صفوان , حدثنا الوليد , حدثني أسيد الكلابي قال: سمعت العلاء بن الزبير الكلابي يحدث عن أبيه قال: رأيت غلبة فارس الروم, ثم رأيت غلبة الروم فارس ثم رأيت غلبة المسلمين فارس, والروم كل ذلك في خمس عشرة سنة.
وقوله تعالى: "وهو العزيز" أي في انتصاره وانتقامه من أعدائه "الرحيم" بعباده المؤمنين. وقوله تعالى: "وعد الله لا يخلف الله وعده" أي هذا الذي أخبرناك به يا محمد من أنا سننصر الروم على فارس وعد من الله حق, وخبر صدق لا يخلف ولا بد من كونه ووقوعه, لأن الله قد جرت سنته أن ينصر أقرب الطائفتين المقتتلين إلى الحق, ويجعل لها العاقبة "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" أي بحكم الله في كونه, وأفعاله المحكمة الجارية على وفق العدل.
وقوله تعالى: " يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون " أي أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وما فيها, فهم حذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها, وهم غافلون عما ينفعهم في الدار الاخرة كأن أحدهم مغفل لا ذهن له ولا فكرة, قال الحسن البصري : والله لبلغ من أحدهم بدنياه أن يقلب الدرهم على ظفره, فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي. وقال ابن عباس في قوله تعالى: " يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون " يعني الكفار يعرفون عمران الدنيا, وهم في أمر الدين جهال.
هي ستون آية، قال القرطبي كلها مكية بلا خلاف
وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس قال: نزلت سورة الروم بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج عبد الرزاق وأحمد. قال السيوطي بسند حسن عن رجل من الصحابة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح، فقرأ فيها سورة الروم. وأخرج البزار عن الإغر المدني مثله. وأخرج عبد الرزاق عن معمر بن عبد الملك بن عمير أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في الفجر يوم الجمعة بسورة الروم. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وأحمد وابن قانع من طريق عبد الملك بن عمير مثل حديث الرجل الذي من الصحابة، وزاد: يتردد فيها، فلما انصرف قال: إنما يلبس علينا في صلاتنا قوم يحضرون الصلاة بغير طهور، من شهد الصلاة فليحسن الطهور.
1- "الم" قد تقدم الكلام على فاتحة السورة في فاتحة سورة البقرة وتقدم الكلام على محلها من الإعراب ومحل أمثالها في غير موضع من موضع من فواتح السور.
1- "الم".
1 -" الم " .
Surah 30. Ar-Rum
1. Alif. Lam. Mim.
SURA 30: RUM
1 - A. L. M.