[آل عمران : 99] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
(قل يا أهل الكتاب لم تصدون) تصرفون (عن سبيل الله) أي دينه (من آمن) بتكذيبكم النبي وكتم نعمته (تبغونها) أي تطلبون السبيل (عِوَجاً) مصدر بمعنى معوجة أي مائلة عن الحق (وأنتم شهداء) عالمون بأن الدين المرضي القيم دين الإسلام كما في كتابكم (وما الله بغافل عما تعملون) من الكفر والتكذيب وإنما يؤخركم إلى وقتكم ليجازيكم
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا معشر يهود بني إسرائيل وغيرهم ممن ينتحل التصديق بكتب الله: "لم تصدون عن سبيل الله"، يقول: لم تضلون عن طريق الله ومحجته التي شرعها لأنبيائه وأوليائه وأهل الإيمان، "من آمن"، يقول : من صدق بالله ورسوله وما جاء به من عند الله، "تبغونها عوجا"، يعني: تبغون لها عوجاً.
والهاء والألف اللتان في قوله: "تبغونها" عائدتان على السبيل، وأنثها لتأنيث السبيل.
ومعنى قوله: تبغون لها عوجاً، من قول الشاعر، وهو سحيم عبد بني الحسحاس:
بغاك، وما تبغيه حتى وجدته كأنك قد واعدته أمس موعدا
يعني: طلبك وما تطلبه. يقال: ابغني كذا، يراد ابتغه لي. فإذا أرادوا أعني على طلبه وابتغه معي قالوا: أبغني بفتح الألف. وكذلك يقال: احلبني بمعنى: اكفني الحلب، وأحلبني أعني عليه. وكذلك جميع ما ورد من هذا النوع، فعلى هذا.
وأما العوج فهو الأود والميل. وإنما يعني بذلك: الضلال عن الهدى.
يقول جل ثناؤه : لم تصدون عن دين الله من صدق الله ورسوله تبغون دين الله اعوجاجاً عن سننه واستقامته؟
وخرج الكلام على السبيل، والمعنى لأهله. كأن المعنى: تبغون لأهل دين الله ، ولمن هو على سبيل الحق ، عوجاً، يقول: ضلالاً عن الحق ، وزيغاً عن الاستقامة على الهدى والمحجة.
والعوج بكسر أوله : الأود في الدين والكلام. والعوج بفتح أوله : الميل في الحائط والقناة وكل شيء منتصب قائم.
وأما قوله: "وأنتم شهداء". فإنه يعني : شهداء على أن الذي تصدون عنه من السبيل حق، تعلمونه وتجدونه في كتبكم ، "وما الله بغافل عما تعملون"، يقول : ليس الله بغافل عن أعمالكم التي تعملونها مما لا يرضاه لعباده وغير ذلك من أعمالكم، حتى يعاجلكم بالعقوبة عليها معجلة، أو يؤخر ذلك لكم حتى تلقوه فيجازيكم عليها.
وقد ذكر أن هاتين الآيتين من قوله: "يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله" والآيات بعدهما إلى قوله: "وأولئك لهم عذاب عظيم"، نزلت في رجل من اليهود حاول الإغراء بين الحيين من الأوس والخزرج بعد الإسلام، ليراجعوا ما كانوا عليه في جاهليتهم من العداوة والبغضاء. فعنفه الله بفعله ذلك ، وقبح له ما فعل ووبخه عليه ، ووعظ أيضاً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف، وأمرهم بالاجتماع والائتلاف.
ذكر الرواية بذلك:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحق قال ، حدثني الثقة، عن زيد بن أسلم، قال: مر شأس بن قيس ، وكان شيخاً قد عسا في الجاهلية، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم ، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج ، في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه. فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد! لا والله ما لنا معهم، إذا اجتمع ملأهم بها، من قرار! فأمر فتى شاباً من يهود وكان معه، فقال: اعمد إليهم ، فاجلس معهم، وذكرهم يوم بعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار -وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج- ففعل. فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب: أوس بن قيظي ، أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس- وجبار بن صخر، أحد بني سلمة من الخزرج. فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها الآن جذعةً! وغضب الفريقان ، وقالوا : قد فعلنا، السلاح السلاح! موعدكم الظاهرة -والظاهرة : الحرة- فخرجوا إليها. وتحاوز الناس . فانضمت الأوس بعضها إلى بعض، والخزرج بعضها إلى بعض ، على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ، بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم ، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً؟ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان ، وكيد من عدوهم ، فألقوا السلاح من أيديهم، وبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شأس بن قيس وما صنع. فأنزل الله في شأس بن قيس وما صنع: "قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون * قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا" الآية. وأنزل الله عز وجل في أوس بن قيظي وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا عما أدخل عليهم شأس بن قيس من أمر الجاهلية: "يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين"، إلى قوله: "أولئك لهم عذاب عظيم".
وقيل أنه عنى بقوله: "قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله"، جماعة يهود بني إسرائيل الذين كانوا بين أظهر مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام نزلت هذه الآيات، والنصارى، وأن صدهم عن سبيل الله كان بإخبارهم من سألهم عن أمر نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم: هل يجدون ذكره في كتبهم؟ أنهم لا يجدون نعته في كتبهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: "قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا"، كانوا إذا سألهم أحد: هل تجدون محمداً؟ قالوا: لا! فصدوا عنه الناس، وبغوا محمداً عوجاً، هلاكاً.
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله"، يقول: لم تصدون عن الإسلام وعن نبي الله، من آمن بالله، وأنتم شهداء فيما تقرأون من كتاب الله : أن محمداً رسول الله ، وأن الإسلام دين الله الذي لا يقبل غيره ولا يجزي إلا به، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع، نحوه.
حدثنا محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر قال ، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله: "قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله"، قال: هم اليهود والنصارى، نهاهم أن يصدوا المسلمين عن سبيل الله ، ويريدون أن يعدلوا الناس إلى الضلالة.
قال أبو جعفر: فتأويل الآية على ما قاله السدي: يا معشر اليهود، لم تصدون عن محمد، وتمنعون من اتباعه المؤمنين به، بكتمانكم صفته التي تجدونها في كتبكم؟ و محمد على هذا القول هو السبيل، "تبغونها عوجا"، تبغون محمداً هلاكاً.
وأما سائر الروايات غيره والأقوال في ذلك، فإنه نحو التأويل الذي بيناه قبل: من أن معنى السبيل التي ذكرها في هذا الموضع: الإسلام ، وما جاء به محمد من الحق من عند الله.
قوله تعالى : " قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله " أي تصرفون عن دين الله " من آمن " . وقرأ الحسن < تصدون > بضم التاء وكسر الصاد وهما لغتان : صد وأصد ، مثل صل اللحم وأصل إذا أنتن ، وخم وأخم أيضاً إذا تغير . " تبغونها عوجا " تطلبون لها ،فحذف اللام ، مثل " وإذا كالوهم " [ المطففين : 3 ] . يقال : بغيت له كذا أي طلبته . وأبغيته كذا أي أعنته . والعوج : الميل والزيغ < بكسر العين > في الدين والقول والعمل وماخرج عن طريق الاستواء . و < بالفتح > في الحائط والجدار وكل شخص قائم ، عن أبي عبيدة وغيره . ومعنى قوله تعالى : " يتبعون الداعي لا عوج له " [ طه : 108 ] أي لا يقدرون أن يعوجوا عن دعائه . وعاج بالمكان وعوج أقام ووقف . والعائج الواقف ، قال الشاعر :
هل أنتم عائجون بنا لعنا نرى العرصات أو أثر الخيام
والرجل الأعوج : السيء الخلق ، وهو بين العوج . والعوج من الخيل التي في أرجلها تحنيب والأعوجية من الخيل تنسب إلى فرس كان في الجاهلية سابقاً . ويقال : فرس محنب إذا كان بعيد ما بين الرجلين بغير فحج ، وهو مدح . ويقال : الحنب اعوجاج في الساقين . قال الخليل التحنيب يوصف في الشدة ، وليس ذلك باعوجاج .
قوله تعالى : " وأنتم شهداء " أي عقلاء . وقيل : شهداء أن في التوراة مكتوباً أن دين الله الذي لا يقبل غيره الإسلام ، إذ فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم .
هذا تعنيف من الله تعالى للكفرة أهل الكتاب على عنادهم للحق, وكفرهم بآيات الله, وصدهم عن سبيل الله من أراده من أهل الإيمان بجهدهم وطاقتهم, مع علمهم بأن ما جاء به الرسول حق من الله, بما عندهم من العلم عن الأنبياء الأقدمين والسادة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجميعن, وما بشروا به ونوهوا به من ذكر النبي الأمي الهاشمي العربي المكي سيد ولد آدم, وخاتم الأنبياء, ورسول رب الأرض والسماء, وقد توعدهم الله على ذلك, وأخبر بأنه شهيد على صنيعهم ذلك بما خالفوا ما بأيديهم عن الأنبياء ومعاملتهم الرسول المبشر به بالتكذيب والجحود والعناد, فأخبر تعالى أنه ليس بغافل عما يعملون, أي وسيجزيهم على ذلك "يوم لا ينفع مال ولا بنون".
والاستفهام في قوله 99- "لم تصدون" يفيد ما أفاده الاستفهام الأول. وقرأ الحسن "تصدون" من أصد، وهما لغتان: مثل صد اللحم وأصد: إذا تغير وأنتن، وسبيل الله دينه الذي ارتضاه لعباده، وهو دين الإسلام، والعوج: الميل والزيغ، يقال: عوج بالكسر إذا كان في الدين والقول والعمل، وبالفتح في الأجسام كالجدار ونحوه، روي ذلك عن أبي عبيدة وغيره، ومحل قوله "يبغونها عوجاً" النصب على الحال. والمعنى: تطلبون لها اعوجاجاً وميلاً عن القصد والاستقامة بإبهامكم على الناس بأنها كذلك تثقيفاً لتحريفكم وتقويماً لدعاويكم الباطلة. وقوله "وأنتم شهداء" جملة حالية: أي كيف تطلبون ذلك بملة الإسلام والحال أنكم تشهدون أنها دين الله الذي لا يقبل غيره الإسلام، وأن فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: المراد "وأنتم شهداء" أي: عقلاء، وقيل: المعنى وأنتم شهداء بين أهل دينكم مقبولون عندهم، فكيف تأتون بالباطل الذي يخالف ما أنتم عليه بين أهل دينكم؟ ثم توعدهم سبحانه بقوله "وما الله بغافل عما تعملون".

99-" قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله " أي: لم تصرفون عن دين الله " من آمن تبغونها"تطلبونها،"عوجاً" زيغاً و ميلاً، يعني : لم تصدون عن سبيل الله باغين لها عوجاً؟ قال ابو عبيدة : العوج- بالكسر - في الدين والقول والعمل ، والعوج - بالفتح - في الجدار ، وكل شخص قائم ، " وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون " ،(أن في التوراة مكتوباً) نعت محمد صلى الله عليه وسلم وإن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام .
99" قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن " كرر الخطاب والاستفهام مبالغة في التقريع ونفي العذر لهم، وإشعاراً بأن كل واحد من الأمرين مستقبح في نفسه مستقل باستجلاب العذاب، وسبيل الله في دينه الحق المأمور بسلوكه وهو الإسلام. قيل كانوا يفتنون المؤمنين ويحرشون بينهم حتى أتوا الأوس والخزرج فذكروهم وما بينهم في الجاهلية من التعادي والتحارب ليعودوا لمثله ويحتالون لصدهم عنه. "تبغونها عوجاً" حال من الواو أي باغين طالبين لها اعوجاجاً بأن تلبسوا على الناس وتوهموا أن فيه عوجاً عن الحق، بمنع النسخ وتغيير صفة رسول الله صلى الله عله وسلم ونحوهما، أو بأن تحرشوا بين المؤمنين لتختلف كلمتهم ويختل أمر دينهم. "وأنتم شهداء" إنها سبيل الله تعالى والصد عنها ضلال وإضلال، أو أنتم عدول عند أهل ملتكم يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في القضايا. "وما الله بغافل عما تعملون" وعيد لهم، ولما كان المنكر في الآية الأولى كفرهم وهم يجهرون به ختمها بقوله: "والله شهيد على ما تعملون". ولما كان في هذه الآية صدهم للمؤمنين عن الإسلام وكانوا يخفونه ويحتالون فيه قال "وما الله بغافل عما تعملون".
99. Say: O People of the Scripture! Why drive ye hack believers from the way of Allah, seeking to make it crooked, when ye are witnesses (to Allah's guidance)? Allah is not unaware of what ye do.
99 - Say: O ye people of the book why obstruct ye those who believe, from the path of God, seeking to make it crooked, while ye were yourselves witnesses (to God's covenant)? but God is not unmindful of all that ye do.