[آل عمران : 96] إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ
ونزل لما قالوا قبلتنا قبل قبلتكم (إن أول بيت وضع) مُتعَبدَّاً (للناس) في الأرض (للذي ببكة) بالباء لغة في مكة سميت بذلك لأنها تَبُكُّ أعناق الجبابرة أي تدقها ، بناه الملائكة قبل خلق آدم ووضع بعده الأقصى وبينهما أربعون سنة كما في حديث الصحيحين وفي حديث" أنه أول ما ظهر على وجه الماء عند خلق السماوات والأرض زبدة بيضاء فدحيت الأرض من تحته" (مباركاً) حال من الذي أي ذا بركة (وهدى للعالمين) لأنه قبلتهم
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: تأويله: إن أول بيت وضع للناس ، يعبد الله فيه مباركاً وهدىً للعالمين، الذي ببكة. قالوا: وليس هو أول بيت وضع في الأرض، لأنه قد كانت قبله بيوت كثيرة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن خالد بن عرعرة قال: قام رجل إلى علي فقال: ألا تخبرني عن البيت؟ أهو أول بيت وضع في الأرض؟ فقال: لا، ولكنه أول بيت وضع في البركة مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمناً.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن سماك قال: سمعت خالد بن عرعرة قال: سمعت علياً، وقيل له: "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة"، هو أول بيت كان في الأرض؟ قال: لا! قال: فأين كان قوم نوح؟ وأين كان قوم هود؟ قال: ولكنه أول بيت وضع للناس مباركاً وهدىً.
حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء قال: سأل حفص الحسن وأنا أسمع عن قوله: "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا"، قال: هو أول مسجد عبد الله فيه في الأرض.
حدثنا عبد الجبار بن يحيى الرملي قال، حدثنا ضمرة، عن ابن شوذب، عن مطر في قوله: "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة"، قال : قد كانت قبله بيوت، ولكنه أول بيت وضع للعبادة.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال ، حدثنا عباد، عن الحسن قوله: "إن أول بيت وضع للناس"، يعبد الله فيه، "للذي ببكة".
حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد: "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا"،، قال : وضع للعبادة.
وقال آخرون: بل هو أول بيت وضع للناس.
ثم اختلف قائلو ذلك في صفة وضعه أول.
فقال بعضهم: خلق قبل جميع الأرضين ، ثم دحيت الأرضون من تحته.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا شيبان، عن الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو قال: خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة، وكان -إذ كان عرشه على الماء- زبدةً بيضاء، فدحيت الأرض من تحته.
حدثني محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال ، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا خصيف قال: سمعت مجاهداً يقول: إن أول ما خلق الله الكعبة، ثم دحى الأرض من تحتها.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: "إن أول بيت وضع للناس"، كقوله: "كنتم خير أمة أخرجت للناس" [آل عمران: 110].
حدثني محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين"، أما "أول بيت"، فإنه يوم كانت الأرض ماء، كان زبدة على الأرض، فلما خلق الله الأرض خلق البيت معها، فهو أول بيت وضع في الأرض.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا"، قال: أول بيت وضعه الله عز وجل، فطاف به آدم ومن بعده.
وقال آخرون: موضع الكعبة، موضع أول بيت وضعه الله في الأرض.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ذكر لنا أن البيت هبط مع آدم حين هبط، قال: أهبط معك بيتي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي. فطاف حوله آدم ومن كان بعده من المؤمنين، حتى إذا كان زمن الطوفان، زمن أغرق الله قوم نوح، رفعه الله وطهره من أن يصيبه عقوبة أهل الأرض، فصار معموراً في السماء. ثم إن إبراهيم تتبع منه أثراً بعد ذلك، فبناه على أساس قديم كان قبله.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قال جل ثناؤه فيه: إن أول بيت مبارك وهدىً وضع للناس، للذي ببكة. ومعنى ذلك: "إن أول بيت وضع للناس"، أي: لعبادة الله فيه، "مباركا وهدى"، يعني بذلك: ومآباً لنسك الناسكين وطواف الطائفين، تعظيماً لله وإجلالاً له، "للذي ببكة"، لصحة الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك، ما:
حدثنا به محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، "عن أبي ذر قال، قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع أول؟ قال: المسجد الحرام. قال: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قال: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة".
فقد بين هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المسجد الحرام هو أول مسجد وضعه الله في الأرض، على ما قلنا. فأما في موضعه بيتاً، بغير معنى بيت للعبادة والهدى والبركة، ففيه من الاختلاف ما قد ذكرت بعضه في هذا الموضع، وبعضه في سورة البقرة وغيرها من سور القرآن، وبينت الصواب من القول في ذلك، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وأما قوله: "للذي ببكة مباركا"، فإنه يعني: للبيت الذي بمزدحم الناس لطوافهم في حجهم وعمرهم.
وأصل البك الزحم، يقال: منه : بك فلان فلاناً إذا زحمه وصدمه، فهو يبكه بكاً، وهم يتباكون فيه، يعني به: يتزاحمون ويتصادمون فيه. فكأن بكة فعلة من بك فلان فلاناً زحمه، سميت البقعة بفعل المزدحمين بها.
فإذا كانت بكة ما وصفنا، وكان موضع ازدحام الناس حول البيت ، وكان لا طواف يجوز خارج المسجد، كان معلوماً بذلك أن يكون ما حول الكعبة من داخل المسجد، وأن ما كان خارج المسجد فمكة، لا بكة. لأنه لا معنى خارجه يوجب على الناس التباك فيه. وإذ كان ذلك كذلك، كان بيناً بذلك فساد قول من قال: بكة اسم لبطن مكة ومكة اسم للحرم.
ذكر من قال في ذلك ما قلنا: من أن بكة موضع مزدحم الناس للطواف:
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك الغفاري في قوله: "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة"، قال: بكة موضع البيت، ومكة ما سوى ذلك.
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم مثله.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام ، عن عمرو، عن عطاء، عن أبي جعفر قال: مرت امرأة بين يدي رجل وهو يصلي وهي تطوف بالبيت، فدفعها. قال أبو جعفر: إنها بكة، يبك بعضها بعضاً.
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الصمد قال ، حدثنا شعبة قال ، حدثنا سلمة، عن مجاهد قال: إنما سميت بكة، لأن الناس يتباكون فيها، الرجال والنساء.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حماد، عن سعيد قال: قلت: لأي شيء سميت بكة؟ قال: لأنهم يتباكون فيها، قال: يعني: يزدحمون.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن الأسود بن قيس، عن أبيه ، عن ابن الزبير قال: إنما سميت بكة لأنهم يأتونها حجاجاً.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا"، فإن الله بك به الناس جميعاً، فيصلي النساء قدام الرجال، ولا يصلح ببلد غيره.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة: بكة، بك الناس بعضهم بعضاً، الرجال والنساء، يصلي بعضهم بين يدي بعض، لا يصلح ذلك إلا بمكة.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي قال: بكة، موضع البيت، ومكة، ما حولها.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني يحيى بن أزهر، عن غالب بن عبيد الله: أنه سأل ابن شهاب عن بكة، قال: بكة البيت والمسجد. وسأله عن مكة، فقال ابن شهاب: مكة، الحرم كله.
حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حجاج ، عن عطاء ومجاهد قالا: بكة، بك فيها الرجال والنساء.
حدثني عبد الجبار بن يحيى الرملي قال : قال ضمرة بن ربيعة: بكة المسجد، ومكة، البيوت.
وقال بعضهم بما:
حدثني به يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة"، قال: هي مكة.
وقيل: "مباركا"، لأن الطواف به مغفرة للذنوب.
فأما نصب قوله: "مباركا"، فإنه على الخروج من قوله: "وضع"، لأن في "وضع" ذكراً من البيت هو به مشغول، وهو معرفة، ومبارك نكرة، لا يصلح أن يتبعه في الإعراب.
وأما على قول من قال: هو أول بيت وضع للناس، على ما ذكرنا في ذلك قول من ذكرنا قوله، فإنه نصب على الحال من قوله: "للذي ببكة". لأن معنى الكلام على قولهم: إن أول بيت وضع للناس البيت الذي ببكة مباركاً. فـ البيت عندهم من صفته الذي ببكة، والذي بصلته معرفته، و المبارك نكرة، فنصب على القطع منه، في قول بعضهم، وعلى الحال في قول بعضهم، و"هدى" في موضع نصب على العطف على قوله: "مباركا".
فيه خمس مسائل :
الأولى : ثبت في صحيح مسلم " عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض قال : المسجد الحرام . قلت : ثم أي ؟ قال : المسجد الأقصى . قلت : كم بينهما ؟ قال : أربعون عاماً ثم الأرض لك مسجد فحيثما أدركتك الصلاة فصل " . قال مجاهد و قتادة : لم يوضع قبلة بيت . قال علي رضي الله عنه : كان قبل البيت بيوت كثيرة ، والمعنى أنه أول بيت وضع للعبادة . وعن مجاهد قال : تفاخر المسلمون واليهود فقالت اليهود : بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة ، لأنه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدسة . وقال المسلمون : بل الكعبة أفضل ، فأنزل الله هذه الآية . وقد مضى في البقرة بنيان البيت وأول من بناه . قال مجاهد : خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئاً من الأرض بألفي سنة ، وأن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى . وأما المسجد الأقصى فبناه سليمان عليه السلام ، كما خرجه النسائي بإسناد صحيح من " حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن سليمان بن داود عليه السلام لما بنى بيت المقدس سأل الله خلالاً ثلاثة : سأل الله عز وجل حكماً يصادف حكمه فأوتيه ، وسأل الله عز وجل ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه ، وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد ألا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه فأوتيه " فجاء إشكال بين الحديثين ، لأن بين إبراهيم وسليمان آماداً طويلة . قال أهل التواريخ : أكثر من ألف سنة فقيل : إن إبراهيم وسليمان عليهما السلام إنما جددا ما كان أسسه غيرهما . وقد روي أن أول من بنى البيت آدم عليه السلام كما تقدم . فيجوز أن يكون غيره من ولده وضع بيت المقدس من بعده بأربعين عاماً ، ويجوز أن تكون الملائكة أيضاً بنته بعد بنائها البيت بإذن الله ، وكل محتمل . والله أعلم . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أمر الله تعالى الملائكة ببناء بيت في الأرض وأن يطوفوا به ، وكان هذا قبل خلق آدم ، ثم إن آدم بنى منه ما بنى وطاف به ، ثم الأنبياء بعده ، ثم استتم بناءه إبراهيم عليه السلام .
الثانية : قوله تعالى : " للذي ببكة " خبر < إن > واللام توكيد . و < بكة > موضع البيت ، ومكة سائر البلد ، عن مالك بن أنس . وقال محمد بن شهاب : بكة المسجد ، ومكة الحرم كله ، تدخل فيه البيوت . قال مجاهد : بكة هي مكة . فالميم على هذا مبدلة من الباء ، كما قالوا : طين لازب ولازم . وقاله الضحاك و المؤرخ . ثم قيل : بكة مشتقة من البك وهو الازدحام . تباك القوم ازدحموا . وسميت بكة لازدحام الناس في موضع طوافهم . والبك دق العنق . وقيل : سميت بذلك لأنها كانت تدق رقاب الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم . قال عبد الله بن الزبير : لم يقصدها جبار قط بسوء إلا وقصه الله عز وجل . وأما مكة فقيل : إنها سميت بذلك لقلة مائها وقيل : سميت بذلك لأنها تمك المخ من العظم مما ينال قاصدها من المشقة ، من قولهم : مككت العظم إذا أخرجت ما فيه . ومك الفصيل ضرع أمه وامتكه إذا امتص كل ما فيه من اللبن وشربه ، قال الشاعر :
مكت فلم تبق في أجوافها درراً
وقيل : سميت بذلك لأنها تمك من ظلم فيها ، أي تهلكه وتنقصه . وقيل : سميت بذلك لأن الناس كانوا يمكون ويضحكون فيها ، من قوله : " وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية " [ الأنفال : 35 ] أي تصفيفاً وتصفيراً . وهذا لا يوجبه التصريف ، لأن < مكة > ثنائي مضاعف و < مكاء > ثلاثي معتل .
الثالثة : قوله تعالى : " مباركاً " جعله مباركاً لتضاعف العمل فيه ، فالبركة كثرة الخير ، ونصب على الحال من المضمر في < وضع > أو بالظرف من < بكة > ، المعنى : الذي استقر " ببكة مباركاً " ويجوز في غير القرآن < مبارك > ، على أن يكون خبراً ثانياً ، أو على البدل من الذي ، أو على إضمار مبتدأ . " وهدى للعالمين " عطف عليه ، ويكون بمعنى وهو هدى للعالمين . ويجوز في غير القرآن < مبارك > بالخفض يكون نعتاً للبيت .
يخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس أي لعموم الناس لعبادتهم ونسكهم, يطوفون به, ويصلون إليه, ويعتكفون عنده "للذي ببكة" يعني الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل عليه السلام الذي يزعم كل من طائفتي النصارى واليهود أنهم على دينه ومنهجه, ولا يحجون إلى البيت الذي بناه عن أمر الله له في ذلك ونادى الناس إلى حجه, ولهذا قال تعالى: "مباركاً" أي وضع مباركاً "وهدى للعالمين" وقد قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن الأعمش , عن إبراهيم التيمي , عن أبيه , عن أبي ذر رضي الله عنه, قال: " قلت يا رسول الله, أي مسجد وضع في الأرض أول ؟ قال المسجد الحرام. قلت: ثم أي ؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما ؟ قال: أربعون سنة. قلت: ثم أي ؟ قال: ثم حيث أدركت الصلاة فصل فكلها مسجد" وأخرجه البخاري ومسلم من حديث الأعمش به. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح , حدثنا سعيد بن سليمان , عن شريك , عن مجالد , عن الشعبي , عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى: "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً" قال: كانت البيوت قبله, ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله. وحدثنا أبي , حدثنا الحسن بن الربيع , حدثنا أبو الأحوص , عن سماك , عن خالد بن عرعرة , قال: قام رجل إلى علي رضي الله عنه, فقال: ألا تحدثني عن البيت, أهو أول بيت وضع في الأرض ؟ قال: لا, ولكنه أول بيت وضع فيه البركة مقام إبراهيم, ومن دخله كان آمناً, وذكر تمام الخبر في كيفية بناء إبراهيم البيت, وقد ذكرنا ذلك مستقصى في أول سورة البقرة فأغنى عن إعادته هنا, وزعم السدي أنه أول بيت وضع على وجه الأرض مطلقاً, والصحيح قول علي رضي الله عنه. فأما الحديث الذي رواه البيهقي في بناء الكعبة في كتابه دلائل النبوة من طريق ابن لهيعة , عن يزيد بن أبي حبيب , عن أبي الخير , عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً بعث الله جبريل إلى آدم وحواء, فأمرهما ببناء الكعبة, فبناه آدم, ثم أمر بالطواف به, وقيل له: أنت أول الناس, وهذا أول بيت وضع للناس فإنه كما ترى من مفردات ابن لهيعة وهو ضعيف. والأشبه. والله أعلم, أن يكون هذا موقوفاً على عبد الله بن عمرو , ويكون من الزاملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك من كلام أهل الكتاب.
وقوله تعالى: "للذي ببكة" بكة من أسماء مكة على المشهور, قيل: سميت بذلك لأنها تبك أعناق الظلمة والجبابرة بمعنى أنهم يذلون بها ويخضعون عندها وقيل: لأن الناس يتباكون فيها أي يزدحمون. قال قتادة : إن الله بك به الناس جميعاً, فيصلي النساء أمام الرجال ولا يفعل ذلك ببلد غيرها, وكذا روى عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعمرو بن شعيب ومقاتل بن حيان . وذكر حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس رضي الله عنه, قال: مكة من الفج إلى التنعيم, وبكة من البيت إلى البطحاء, وقال شعبة , عن المغيرة , عن إبراهيم: بكة البيت والمسجد, وكذا قال الزهري . وقال عكرمة , في رواية, و ميمون بن مهران : البيت وما حوله بكة, وما وراء ذلك مكة. وقال أبو صالح وإبراهيم النخعي وعطية العوفي ومقاتل بن حيان : بكة موضع البيت وما سوى ذلك مكة, وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة: مكة, وبكة, والبيت العتيق, والبيت الحرام, والبلد الأمين, والمأمون, وأم رحم, وأم القرى, وصلاح, والعرش على وزن بدر, والقادس لأنها تطهر من الذنوب, والمقدسة, والناسة بالنون, وبالباء أيضاً والحاطمة, والنساسة, والرأس, وكوثاء والبلدة, والبنية, والكعبة.
وقوله تعالى: "فيه آيات بينات" أي دلالات ظاهرة أنه من بناء إبراهيم, وأن الله عظمه وشرفه, ثم قال تعالى: "مقام إبراهيم" يعني الذي لما ارتفع البناء استعان به على رفع القواعد منه والجدران, حيث كان يقف عليه ويناوله إسماعيل, وقد كان ملتصقاً بجدار البيت حتى أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إمارته إلى ناحية الشرق بحيث يتمكن الطواف منه, ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف, لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده حيث قال: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقد قدمنا الأحاديث في ذلك فأغنى عن إعادتها ههنا, و لله الحمد والمنة. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله "فيه آيات بينات مقام إبراهيم" أي فمنهن مقام إبراهيم والمشعر. وقال مجاهد : أثر قدميه في المقام آية بينة, وكذا روى عن عمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وغيرهم, وقال أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة:
وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافياً غير ناعل
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد وعمرو الأودي , قالا: حدثنا وكيع , حدثنا سفيان عن ابن جريج , عن عطاء , عن ابن عباس , في قوله تعالى: "مقام إبراهيم" قال: الحرم كله مقام إبراهيم, ولفظ عمرو : الحجر كله مقام إبراهيم, وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: الحج مقام إبراهيم هكذا رأيته في النسخة, ولعله الحجر كله مقام إبراهيم, وقد صرح بذلك مجاهد . وقوله تعالى: "ومن دخله كان آمنا" يعني حرم مكة إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء, وكذلك كان الأمر في حال الجاهلية, كما قال الحسن البصري وغيره: كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة ويدخل الحرم, فيلقاه ابن المقتول فلا يهيجه حتى يخرج. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج , حدثنا أبو يحيى التيمي , عن عطاء , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس في قوله تعالى "ومن دخله كان آمنا" قال: من عاذ بالبيت أعاذه البيت, ولكن لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى, فإذا خرج أخذ بذنبه, وقال الله تعالى: "أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم" الاية, وقال تعالى: " فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف " وحتى إنه من جملة تحريمها حرمة اصطياد صيدها وتنفيره عن أوكاره, وحرمة قطع شجرها وقلع حشيشها, كما ثبتت الأحاديث والاثار في ذلك عن جماعة من الصحابة مرفوعاً وموقوفاً. ففي الصحيحين واللفظ لمسلم عن ابن عباس رضي الله عنه, قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فتح مكة "لا هجرة ولكن جهاد ونية, وإذا استنفرتم فانفروا" وقال يوم الفتح فتح مكة إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض, فهو حرام بحرمة الله, إلى يوم القيامة, وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي, ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار, فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه, ولا ينفر صيده, ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها, ولا يختلى خلاها فقال العباس : يا رسول الله, إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم, فقال إلا الإذخر" , ولهما عن أبي هريرة مثله أو نحوه, ولهما واللفظ لمسلم أيضاً عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح سمعته أذناي ووعاه قلبي, وأبصرته عيناي حين تكلم به, إنه حمد الله وأثنى عليه, ثم قال "إن مكة حرمها الله, ولم يحرمها الناس, فلا يحل لامريء يؤمن با لله واليوم الاخر أن يسفك بها دماً, ولا يعضد بها شجرة, فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم, وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار, وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب". فقيل لأبي شريح : ما قال لك عمرو ؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح , إن الحرم لا يعيذ عاصياً, ولا فاراً بدم, ولا فاراً بخزية, وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يحل لأحد كم أن يحمل بمكة السلاح" رواه مسلم . وعن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بالحزورة بسوق مكة, يقول "والله إنك لخير أرض الله, وأحب أرض الله إلى الله, ولولا أني أخرجت منك ما خرجت". رواه الإمام أحمد , وهذا لفظه, و الترمذي والنسائي وابن ماجه , وقال الترمذي : حسن صحيح, وكذا صحح من حديث ابن عباس نحوه وروى أحمد عن أبي هريرة نحوه. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا بشر بن آدم ابن بنت أزهر السمان , حدثنا أبو عاصم , عن زريق بن مسلم الأعمى مولى بني مخزوم , حدثني زياد ابن أبي عياش , عن يحيى بن جعدة بن هبيرة في قوله تعالى: "ومن دخله كان آمنا" قال: آمناً من النار. وفي معنى هذا القول الحديث الذي رواه البيهقي : أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان , حدثنا أحمد بن عبيد , حدثنا محمد بن سليمان الواسطي , حدثنا سعيد بن سليمان , حدثنا ابن المؤمل عن ابن محيصن , عن عطاء , عن عبد الله بن عباس , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من دخل البيت دخل في حسنة, وخرج من سيئة, وخرج مغفوراً له" ثم قال: تفرد به عبد الله بن المؤمل , وليس بالقوي. وقوله "و لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً" هذه آية وجوب الحج عند الجمهور. وقيل: بل هي قوله "وأتموا الحج والعمرة لله", والأول أظهر. وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده, وأجمع المسلمون على ذلك إجماعاً ضرورياً, وإنما يجب على المكلف في العمر مرة واحدة بالنص والإجماع. قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يزيد بن هارون , حدثنا الربيع بن مسلم القرشي , عن محمد بن زياد , عن أبي هريرة , قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال "أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا فقال رجل: أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم, وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم, وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه", ورواه مسلم عن زهير بن حرب عن يزيد بن هارون به نحوه. وقد روى سفيان بن حسين وسليمان بن كثير وعبد الجليل بن حميد ومحمد بن أبي حفصة عن الزهري , عن أبي سنان الدؤلي واسمه يزيد بن أمية , عن ابن عباس رضي الله عنه, قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فقام الأقرع بن حابس , فقال: يا رسول الله أفي كل عام ؟ فقال لو قلتها لوجبت ولو وجبت لم تعملوا بها ولم تستطيعوا أن تعملوا بها, الحج مرة فمن زاد فهو تطوع" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه, والحاكم من حديث الزهري به, ورواه شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس بنحوه. وروي من حديث أسامة بن يزيد .
قال الإمام أحمد : حدثنا منصور بن وردان عن علي بن عبد الأعلىلا , عن أبيه , عن أبي البختري , عن علي رضي الله عنه, قال: لما نزلت "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً " قالوا: " يا رسول الله في كل عام ؟ فسكت, قالوا: يا رسول الله في كل عام ؟ قال لا, ولو قلت نعم لوجبت", فأنزل الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم" وكذا رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث منصور بن وردان به, ثم قال الترمذي , حسن غريب, وفيما قال نظر, لأن البخاري قال: لم يسمع أبو البختري من علي . وقال ابن ماجه : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير , حدثنا محمد بن أبي عبيدة عن أبيه , عن الأعمش , عن أبي سفيان , عن أنس بن مالك , قال: قالوا: " يا رسول الله, الحج في كل عام ؟ قال لو قلت نعم لوجبت, ولو وجبت لم تقوموا بها, ولو لم تقوموا بها, لعذبتم". وفي الصحيحين من حديث ابن جريج عن عطاء , عن جابر , عن سراقة بن مالك , " قال يا رسول الله, متعتنا هذه لعامنا هذا, أم للأبد ؟ قال لا, بل للأبد". وفي رواية "بل لأبد أبد".
وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود من حديث واقد بن أبي واقد الليثي عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال لنسائه في حجته " هذه ثم ظهور الحصر ـ يعني ثم الزمن ظهور الحصر ـ ولا تخرجن من البيوت" وأما الاستطاعة فأقسام: تارة يكون الشخص مستطيعاً بنفسه, وتارة بغيره كما هو مقرر في كتب الأحكام, قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا عبد بن حميد, حدثنا عبد الرزاق , أخبرنا إبراهيم بن يزيد , قال: سمعت محمد بن عباد بن جعفر يحدث عن ابن عمر رضي الله عنهما, " قال قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من الحاج يا رسول الله ؟ قال: الشعث التفل, فقام آخر فقال: أي الحج أفضل يا رسول الله ؟ قال: العج والثج, فقام آخر فقال: ما السبيل يا رسول الله ؟ قال: الزاد والراحلة " , وهكذا رواه ابن ماجه من حديث إبراهيم بن يزيد وهو الخوزي , قال الترمذي : ولا نعرفه إلا من حديثه, وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه, كذا قال ههنا وقال في كتاب الحج: هذا حديث حس. لا يشك أن هذا الإسناد رجاله كلهم ثقات سوى الخوزي هذا, وقد تكلموا فيه من أجل هذا الحديث, لكن قد تابعه غيره, فقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا عبد العزيز بن عبد الله العامري , حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي , عن محمد بن عباد بن جعفر , قال: جلست إلى عبد الله بن عمر , قال: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ما السبيل ؟ قال :الزاد والراحلة" وهكذا رواه ابن مردويه من رواية محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير به ثم قال ابن أبي حاتم : وقد روي عن ابن عباس وأنس والحسن ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك, وقد روي هذا الحديث من طرق أخرى من حديث أنس وعبد الله بن عباس وابن مسعود وعائشة كلها مرفوعة, ولكن في أسانيدها مقال كما هو مقرر في كتاب الأحكام, والله أعلم. وقد اعتنى الحافظ أبو بكر بن مردويه بجمع طرق هذا الحديث, ورواه الحاكم من حديث قتادة عن حماد بن سلمة , عن قتادة , عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " سئل عن قول الله عز وجل "من استطاع إليه سبيلاً" فقيل: ما السبيل ؟ قال :الزاد والراحلة", ثم قال: صحيح على شرط مسلم , ولم يخرجاه. وقال ابن جرير : حدثني يعقوب , حدثنا ابن علية عن يونس , عن الحسن , " قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً" فقالوا: يا رسول الله ما السبيل ؟ قال :الزاد والراحلة", ورواه وكيع في تفسيره عن سفيان , عن يونس به. وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق , أنبأنا الثوري , عن إسماعيل وهو أبو إسرائيل الملائي , عن فضيل , يعني ابن عمرو , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجلوا إلى الحج ـ يعني الفريضة ـ فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له". وقال أحمد أيضاً: حدثنا أبو معاوية , حدثنا الحسن بن عمرو الفقيمي , عن مهران بن أبي صفوان , عن ابن عباس , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أراد الحج فليتعجل " ورواه أبو داود عن مسدد عن أبي معاوية الضرير به. وقد روى ابن جبير عن ابن عباس في قوله "من استطاع إليه سبيلاً" قال: من ملك ثلاثمائة درهم فقد استطاع إليه سبيلاً, وعن عكرمة مولاه أنه قال: السبيل الصحة وروى وكيع بن الجراح عن أبي جناب يعني الكلبي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس , قال "من استطاع إليه سبيلاً" قال الزاد والبعير وقوله تعالى: "ومن كفر فإن الله غني عن العالمين" قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: أي ومن جحد فريضة الحج فقد كفر والله غني عنه. وقال سعيد بن منصور عن سفيان , عن ابن أبي نجيح , عن عكرمة , قال: لما نزلت "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه" قالت اليهود: فنحن مسلمون, قال الله عز وجل: فاخصمهم فحجهم, يعني " فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم إن الله فرض على المسلمين حج البيت من استطاع إليه سبيلاً فقالوا: لم يكتب علينا وأبوا أن يحجوا ", قال الله تعالى: "ومن كفر فإن الله غني عن العالمين" وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد نحوه. وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر , حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود , حدثنا مسلم بن إبراهيم , وشاذ بن فياض , قالا: حدثنا هلال أبو هاشم الخراساني , حدثنا أبو إسحاق الهمداني عن الحارث , عن علي رضي الله عنه,قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ملك زاداً وراحلة ولم يحج بيت الله, فلا يضره مات يهودياً أو نصرانياً, ذلك بأن الله قال: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " " ورواه ابن جرير من حديث مسلم بن إبراهيم به, وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي زرعة الرازي : حدثنا هلال بن فياض , حدثنا هلال أبو هاشم الخراساني , فذكره بإسناده مثله, ورواه الترمذي عن محمد بن يحيى القطعي عن مسلم بن إبراهيم , عن هلال بن عبد الله مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي به, وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه, وفي إسناده مقال, و هلال مجهول, و الحارث يضعف في الحديث. وقال البخاري : هلال هذا منكر الحديث. وقال ابن عدي : هذا الحديث ليس بمحفوظ. وقد روى أبو بكر الإسماعيلي الحافظ من حديث أبي عمرو الأوزاعي : حدثني إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر , حدثني عبد الرحمن بن غنم أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: من أطاق الحج فلم يحج, فسواء عليه يهودياً مات أو نصرانياً, وهذا إسناد صحيح إلى عمر رضي الله عنه . وروى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري , قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جدة فلم يحج, فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين, ما هم بمسلمين.
هذا شروع في بيان شيء آخر مما جادلت فيه اليهود بالباطل، وذلك أنهم قالوا: إن بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لكونه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدسة فرد الله ذلك عليهم بقوله 96- "إن أول بيت وضع للناس" الآية، فقوله "وضع" صفة لبيت وخبر إن قوله "للذي ببكة" فنبه تعالى بكونه أول متعبد على أنه أفضل من غيره، وقد اختلف في الباني له في الابتداء، فقيل الملائكة، وقيل آدم، وقيل إبراهيم ويجمع بين ذلك بأول من بناه الملائكة ثم جدده آدم، ثم إبراهيم. وبكة علم للبلد الحرام وكذا مكة وهما لغتان، وقيل: إن بكة اسم لموضع البيت، ومكة اسم للبلد الحرام، وقيل: بكة للمسجد، ومكة للحرم كله، قيل: سميت بكة لازدحام الناس في الطواف، يقال بك القوم: ازدحموا، وقيل البك: دق العنق، سميت بذلك لأنها كانت تدق أعناق الجبابرة. وأما تسميتها بمكة، فقيل: سميت بذلك لقلة مائها وقيل: لأنها تمك المخ من العظم بما ينال ساكنها من المشقة، ومنه مككت العظم: إذا أخرجت ما فيه، ومك الفصيل ضرع أمه، وامتكه: إذا امتصه، وقيل: سميت بذلك لأنها تمك من ظلم فيها: أي تهلكه. قوله: "مباركاً" حال من الضمير في وضع، أو من متعلق الظرف لأن التقدير للذي استقر ببكة مباركاً والبركة: كثرة الخير الحاصل لمن يستقر فيه أو يقصده، أي: الثواب المتضاعف. والآيات البينات والواضحات: منها الصفا والمروة، ومنها أثر القدم في الصخرة الصماء، ومنها أن الغيث إذا كان بناحية الركن اليماني كان الخصب في اليمن، وإن كان بناحية الشامي كان الخصب بالشام، وإذا عم البيت كان الخصب في جميع البلدان، ومنها انحراف الطيور عن أن تمر على هوائه في جميع الأزمان، ومنها هلاك من يقصده من الجبابرة وغير ذلك.
قوله تعالى :" إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً" سبب (نزول هذه الآية) أن اليهود قالوا للمسلمين : بيت المقدس قبلتنا ، وهو أفضل من الكعبة وأقدم وهو مهاجر الأنبياء ،ب وقال المسلمون بل الكعبة أفضل ، فانزل الله تعالى :" إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين".
" فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمناً" ، وليس شئ من هذه الفضائل لبيت المقدس.
واختلف العلماء في قوله تعالى :" إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة" ، فقال بعضهم : هو أول بيت ظهر على وجه الماء عد خلق ( السماء) والأرض، خلقه الله قبل الأرض بألفي عام ، وكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحته ، هذا قول عبد الله بن عمر ومجاهد وقتادة والسدي.
وقال بعضهم : هو أول بيت بني في الأرض ، روي عن علي بن الحسين : أن الله تعالى وضع تحت العرض بيتاً وهو البيت المعمور ، وأمر الملائكة ان يطوفوا به ، ثم امر الملائكة الذين هم سكان الارض ان بينوا في الارض بيتاً على مثاله وقدرة ، فبنوا واسمه الضراح ن وأمر من في الارض ان يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور.
وروي أن الملائكة بنوه قب لخلق آم بألفي عام، وكانوا يحجونه ، فلما حجه آدم قالت الملائكة : بر حجك يا آدم ، حججنا هذا البيت قبلك بألف عام ، ويروى عن ابن عباس رضي اله عنه انه قال: أراد به أنه أول عن علي بن أبي طالب ، قال الضحاك : أول بيت وضع فيه البركة ، وقيل: أول بيت وضع للناس يحج اليه . وقيل: أول بيت جعل قبلة للناس . وقال الحسن والكلبي : معناه : أول مسجد ومتعبد وضع للناس يعبد الله فيه كما قال الله تعالى : ( في بيوت إذن الله أن ترفع ) يعني المساجد.
اخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل اخبرنا موسى بن إسماعيل اخبرنا عبد الواحد أنا الأعمش أخبرنا إبراهيم بن يزيد التيمي عن أبيه قال سمعت أبا ذر يقول : "قلت يارسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولاً ؟ قال:المسجد الحرام ، قلت ثم أي ؟ قال: المسجد الأقصى ، قلت : كم كان بينهما ؟ قال : أربعون سنة ، ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصل فإن الفضل فيه".
قوله تعالى :"للذي ببكة" قال جماعة : هي مكة نفسها ، وهو قول الضحاك ، والعرب تعاقب بين الباء والميم ، فتقول : سبد رأسه وسمده ، وضربه لازب ولازم ، وقال الآخرون : بكة موضع البيت ومكة اسم البلد كله.
وقيل : بكة موضع البيت والمطاق ، سميت بكة : لأن الناس يتباكون فيها ، أي يزدحمون يبك بعضهم بعضاظً ويصلي بعضهم بين يدي بعض ويمر بعضهم بين يدي بعض.
وقال عبد الله بن الزبير سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة ، أي تدقها فل يقصدها جبار بسور الا قصمه الله.
وأما مكة سميت بذلك لقلة مائها ، من قول العرب : مك الفصيل ضرع أمه وأمتكه إذا امتص كل مافيه من اللبن ، وتدعى أم رحم لأن الرحمة تنزل بهاز
"مباركاً" نصب على الحال ، أي : ذا بركة " وهدى للعالمين" لأنه قبلة المؤمنين " فيه آيات بينات " قرأ ابن عباس" آية بينة " على الوحدان ، وأراد مقام إبراهيم وحده ، وقرأ الاخرون " آيات بينات" بالجمع، فذكر منها مقام إبراهيم (وهو الحجر) الذي قام عليه إبراهيم ، وكان أثر قدميه فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي ، ومن تلك الآيات : الحجر السود والحطيم وزمزم والمشاعر كلها ، وقيل: مقام إبراهيم جميع الحرم ، ومن الآيات في البيت أن الطير تطير فلا تعلو فوقه ، وأن الجارحة إذا قصدت صيداً فإذا دخل الصيد الحرم كفت عنه ، وإنه بلد صدر إليه الأنبياء والمرسلون والأولياء والأبرار ، وإن الطاعة والصدقة فيها تضاعف بمائة الف.
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أبو محمد الحسن بن احمد المخلدي ، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحق السراج ن أخبرنا أبو مصعب احمد بن أبي بكر الزهري انا مالك بن أنس عن زيد بن رباح وعبيد الله بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله الأغر عن ابي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة ، فيما سواه إلا المسجد الحرام".
قوله عز وجل:" ومن دخله كان آمناً" من ان يحاج فيه ن وذلك بدعاء ابراهيم عليه السلام حيث قال : رب اجعل هذا بداً آمناً ، وكانت العرب في الجاهلية يقتل بعضهم بعضاً ويغير بعضهم على بعض ومن دخل الحرم امن من القتل والغارة وهو المراد من الآية على قول الحسن وقتادة وأكثر المفسرين قال الله تعالى :" أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمنا ويتخطف الناس من حولهم " سورة العنكبون الآية 67)، وقيل : المراد به أن من دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان آمناً ، كما قال تعالى " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين" (سورة الفتح، الآية 27) وقيل: هو خبر بمعنى الأمر تقديره : ومن دخله فأمنوه ، كقوله تعالى" فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج " البقرة -197) ، أي : لا ترفثوا ولا تفسقوا ، حتى ذهب بعض أهل العلم إلى أن من وجب عليه القتل قصاصاً او حداً فالتجأ إلى الحرم فلا يستوفى منه فيه ولكنه ( لا يطعم ) ولا يبايع ولا يشارى حتى يخرج منه ، فيقتل ، قاله ابن عباس ، وبه قال أبو حنيفه ، وذهب قوم الى أن القتل الواجب بالشرع يستوفى فيه أما اذا ارتكب الجريمة في الحرم يستوفي فيه عقوبته بالانفاق.
وقيل: معناه ومن دخله معظماً له متقرباً إلى الله عز وجل كان آمناً يوم القيامة من العذاب
قوله عز وجل
96" إن أول بيت وضع للناس " أي وضع للعبادة وجعل متعبداً لهم، والواضع هو الله تعالى. ويدل عليه أنه قرىء على البناء للفاعل. " للذي ببكة " للبيت الذي " ببكة "، وهي لغة في مكة كالنبيط والنميط، وأمر راتب وراتم ولازب ولازم، وقيل هي موضع المسجد. ومكة البلد من بكة إذا زحمه، أو من بكه إذا دقه فإنها تبك أعناق الجبابرة روي: "أنه عليه السلام سئل عن أول بيت وضع للناس فقال: المسجد الحرام، ثم بيت المقدس. وسئل كم بينهما فقال أربعون سنة". وقيل أول من بناه إبراهيم ثم هدم فبناه قوم من جرهم، ثم العمالقة، ثم قريش. وقيل هو أول بيت بناه آدم فانطمس في الطوفان، ثم بناه إبراهيم. وقيل: كان في موضعه قبل آدم بيت يقال له الضراح يطوف به الملائكة، فلما هبط آدم أمر بأن يحجه ويطوف حوله ورفع في الطوفان إلى السماء الرابعة تطوف به ملائكة السموات وهو لا يلائم ظهر الآية. وقيل المراد أنه أول بيت بالشرف لا بالزمان. "مباركاً" كثير الخير والنفع لمن حجه و اعتمره واعتكف دونه وطاف حوله، حال من المستكن في الظرف "وهدى للعالمين" لأنه قبلتهم ومتعبدهم، ولأن فيه آيات عجيبة كما قال:
96. Lo! the first Sanctuary appointed for mankind was that at Mecca, a blessed place, a guidance to the peoples;
96 - The first house (of worship) appointed for men was that at Bakka: full of blessing and of guidance for all kinds of beings: