[آل عمران : 7] هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ
7 - (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات) واضحات الدلالة (هن أم الكتاب) أصله المعتمد عليه في الأحكام (وأخر متشابهات) لا تفهم معانيها كأوائل السور وجعله كله محكما في قوله {أحكمت آياته} بمعنى أيه ليس فيه عيب ، ومتشابها في قوله {كتابا متشابها} بمعنى أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن والصدق (فأما الذين في قلوبهم زيغ) ميل عن الحق (فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء) طلب (الفتنة) لجهالهم بوقوعهم في الشبهات واللبس (وابتغاء تأويله) تفسيره (وما يعلم تأويله) تفسيره (إلا الله) وحده (والراسخون) الثابتون المتمكنون (في العلم) مبتدأ خبره (يقولون آمنا به) أي بالمتشابه أنه من عند الله ولا نعلم معناه (كل) من المحكم والمتشابه (من عند ربنا وما يذَّكر) بإدغام التاء في الأصل في الذال أي يتعظ (إلا أولوا الألباب) أصحاب العقول ويقولون أيضا إذا رأوا من يتبعه:
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "هو الذي أنزل عليك الكتاب"، إن الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، هو الذي أنزل عليك الكتاب، يعني بـ"الكتاب"، القرآن.
وقد أتينا على البيان فيما مضى عن السبب الذي من أجله سمي القرآن كتاباً بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وأما قوله: "منه آيات محكمات" فإنه يعني: من الكتاب آيات. يعني بـ الآيات آيات القرآن.
وأما المحكمات، فإنهن اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل، وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جعلن أدلة عليه من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، وأمر وزجر، وخبر ومثل، وعظة وعبر، وما أشبه ذلك.
ثم وصف جل ثناؤه هؤلاء الآيات المحكمات، بأنهن: "هن أم الكتاب". يعني بذلك: أنهن أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين والفرائض والحدود، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم، وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم وآجلهم.
وإنما سماهن "أم الكتاب"، لأنهن معظم الكتاب، وموضع مفزع أهله عند الحاجة إليه. وكذلك تفعل العرب، تسمي الجامع معظم الشيء أماً له. فتسمي راية القوم التي تجمعهم في العساكر: أمهم، والمدبر معظم أمر القرية والبلدة: أمها.
وقد بينا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
ووحد "أم الكتاب"، ولم يجمع فيقول: هن أمهات الكتاب، وقد قال: "هن"، لأنه أراد جميع الآيات المحكمات "أم الكتاب"، لا أن كل آية منهن "أم الكتاب". ولو كان معنى ذلك أن كل آية منهن "أم الكتاب"، لكان لا شك قد قيل: هن أمهات الكتاب. ونظير قول الله عز وجل: "هن أم الكتاب" على التأويل الذي قلنا في توحيد الأم وهي خبر "هن"، قوله تعالى ذكره: "وجعلنا ابن مريم وأمه آية" [المؤمنون: 50] ولم يقل: آيتين، لأن معناه: وجعلنا جميعهما آية. إذ كان المعنى واحداً فيما جعلا فيه للخلق عبرة. ولو كان مراداً الخبر عن كل واحد منهما على انفراده، بأنه جعل للخلق عبرة، لقيل: وجعلنا ابن مريم وأمه آيتين، لأنه قد كان في كل واحد منهما لهم عبرة. وذلك أن مريم ولدت من غير رجل، ونطق ابنها فتكلم في المهد صبياً، فكان في كل واحد منهما للناس آية.
وقد قال بعض نحويي البصرة: إنما قيل: "هن أم الكتاب"، ولم يقل: هن أمهات الكتاب على وجه الحكاية، كما يقول الرجل: ما لي أنصار، فتقول: أنا أنصارك، أو: ما لي نظير، فتقول: نحن نظيرك. قال وهو شبيه: دعني من تمرتان، وأنشد لرجل من فقعس:
تعرضت لي بمكان حل تعرض المهرة في الطول
تعرضاً لم تأل عن قتلاً لي
حل أي: يحل به. على الحكاية، لأنه كان منصوباً قبل ذلك، كما يقول: نودي: الصلاة الصلاة، يحكي قول القائل: الصلاة الصلاة.
وقال: قال بعضهم: إنما هي: أن قتلاً لي، ولكنه جعله عيناً، لأن أن في لغته تجعل موضعها عن، والنصب على الأمر، كأنك قلت: ضرباً لزيد.
قال أبو جعفر: وهذا قول لا معنى له. لأن كل هذه الشواهد التي استشهدها، لا شك أنهن حكايات حاكيهن، بما حكى عن قول غيره وألفاظه التي نطق بهن، وأن معلوماً أن الله جل ثناؤه لم يحك عن أحد قوله: "أم الكتاب"، فيجوز أن يقال: أخرج ذلك مخرج الحكاية عمن قال ذلك كذلك.
وأما قوله: "وأخر" فإنها جمع أخرى.
ثم اختلف أهل العربية في العلة التي من أجلها لم يصرف أخر.
فقال بعضهم: لم يصرف أخر من أجل أنها نعت، واحدتها أخرى كما لم تصرف جمع و كنع، لأنهن نعوت.
وقال آخرون: إنما لم تصرف الأخر، لزيادة الياء التي في واحدتها، وأن جميعها مبني على واحدها في ترك الصرف. قالوا: وإنما ترك صرف أخرى، كما ترك صرف حمراء و بيضاء، في النكرة والمعرفة، لزيادة المدة فيها والهمزة بالواو. ثم افترق جمع حمراء و أخرى، فبني جمع أخرى على واحدته فقيل: فعل و أخر، فترك صرفها كما ترك صرف أخرى، وبني جمع حمراء و بيضاء على خلاف واحدته فصرف، فقيل: حمر و بيض، فلاختلاف حالتهما في الجمع، اختلف إعرابهما عندهم في الصرف. ولاتفاق حالتيهما في الواحدة، اتفقت حالتاهما فيها.
وأما قوله: "متشابهات"، فإن معناه: متشابهات في التلاوة، مختلفات في المعنى، كما قال جل ثناؤه: "وأتوا به متشابها" [البقرة: 25]، يعني في المنظر، مختلفاً في المطعم- وكما قال مخبراً عمن أخبر عنه من بني إسرائيل أنه قال: "إن البقر تشابه علينا" [البقرة: 70]، يعنون بذلك: تشابه علينا في الصفة، وإن اختلفت أنواعه.
فتأويل الكلام إذاً: إن الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، هو الذي أنزل عليك يا محمد القرآن، منه آيات محكمات بالبيان، هن أصل الكتاب الذي عليه عمادك وعماد أمتك في الدين، وإليه مفزعك ومفزعهم فيما افترضت عليك وعليهم من شرائع الإسلام، وآيات أخر، هن متشابهات في التلاوة، مختلفات في المعاني.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات"، وما المحكم من آي الكتاب، وما المتشابه منه؟
فقال بعضهم: المحكمات من آي القرآن، المعمول بهن، وهن الناسخات أو المثبتات الأحكام، والمتشابهات من آيه، المتروك العمل بهن، المنسوخات.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا العوام، عمن حدثه، عن ابن عباس في قوله: "منه آيات محكمات"، قال: هي الثلاث الآيات من ههنا: "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم" [الأنعام: 151، 152]، إلى ثلاث آيات، والتي في بني إسرائيل: " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " [الإسراء: 23-39]، إلى آخر الآيات.
حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب"، المحكمات: ناسخه، وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه، وما يؤمن به ويعمل به، قال: "وأخر متشابهات"، والمتشابهات: منسوخه، ومقدمه ومؤخره، وأمثاله وأقسامه، وما يؤمن به ولا يعمل به.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: "هو الذي أنزل عليك الكتاب"، إلى "وأخر متشابهات"، فالمحكمات التي هي أم الكتاب: الناسخ الذي يدان به ويعمل به. والمتشابهات، هن المنسوخات التي لا يدان بهن.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب" إلى قوله: " كل من عند ربنا "، أما الآيات المحكمات: فهن الناسخات التي يعمل بهن، وأما المتشابهات فهن المنسوخات.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب "، و المحكمات: الناسخ الذي يعمل به، ما أحل الله فيه حلاله وحرم فيه حرامه، وأما المتشابهات: فالمنسوخ الذي لا يعمل به ويؤمن به.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "آيات محكمات"، قال: المحكم ما يعمل به.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات"، قال: المحكمات، الناسخ الذي يعمل به، والمتشابهات: المنسوخ الذي لا يعمل به ويؤمن به.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: "آيات محكمات هن أم الكتاب"، قال: الناسخات، "وأخر متشابهات"، قال: ما نسخ وترك يتلى.
حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم قال: المحكم، ما لم ينسخ، وما تشابه منه: ما نسخ.
حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: "آيات محكمات هن أم الكتاب"، قال: الناسخ، "وأخر متشابهات"، قال: المنسوخ.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يحدث قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "منه آيات محكمات" يعني الناسخ الذي يعمل به، "وأخر متشابهات"، يعني المنسوخ، يؤمن به ولا يعمل به.
حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سلمة، عن الضحاك: "منه آيات محكمات"، قال: ما لم ينسخ، "وأخر متشابهات"، قال: ما قد نسخ.
وقال آخرون: المحكمات من آي الكتاب: ما أحكم الله فيه بيان حلاله وحرامه، والمتشابه منها: ما أشبه بعضه بعضاً في المعاني، وإن اختلفت ألفاظه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "منه آيات محكمات"، ما فيه من الحلال والحرام، وما سوى ذلك فهو متشابه، يصدق بعضه بعضاً، وهو مثل قوله: "وما يضل به إلا الفاسقين" [البقرة: 26]، ومثل قوله: "كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون" [الأنعام: 125]، ومثل قوله: "والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم" [محمد: 17].
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
وقال آخرون: المحكمات من آي الكتاب: ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد، والمتشابه منها: ما احتمل من التأويل أوجهاً.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحق قال، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير: "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات"، فيهن حجة الرب، وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه، "وأخر متشابهات"، في الصدق، لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد، كما ابتلاهم في الحلال والحرام، لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق.
وقال آخرون: معنى المحكم: ما أحكم الله فيه من آي القرآن، وقصص الأمم ورسلهم الذين أرسلوا إليهم، ففصله ببيان ذلك لمحمد وأمته، والمتشابه، هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور، بقصه باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني، وبقصه باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد وقرأ: " الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير " [هود: 1]، قال: وذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربع وعشرين آية منها، وحديث نوح في أربع وعشرين آية منها. ثم قال: "تلك من أنباء الغيب" [هود: 49]، ثم ذكر "وإلى عاد"، فقرأ حتى بلغ "واستغفروا ربكم" ثم مضى. ثم ذكر صالحاً وإبراهيم ولوطاً وشعيباً وفرغ من ذلك. وهذا تبيين ذلك، تبيين أحكمت آياته ثم فصلت، قال: والمتشابه، ذكر موسى في أمكنة كثيرة، وهو متشابه، وهو كله معنى واحد. ومتشابه: "اسلك فيها" [المؤمنون: 27]، "احمل فيها" [هود: 40]، "اسلك يدك" [القصص: 32]، "وأدخل يدك" [النمل: 12]، "حية تسعى" [طه: 20] "ثعبان مبين" [الأعراف: 107 - الشعراء: 32]، قال: ثم ذكر هوداً في عشر آيات منها، وصالحاً في ثماني آيات منها، وإبراهيم في ثماني آيات أخرى، ولوطاً في ثماني آيات منها، وشعيباً في ثلاث عشرة آية، وموسى في أربع آيات، كل هذا يقضي بين الأنبياء وبين قومهم في هذه السورة، فانتهى ذلك إلى مئة آية من سورة هود، ثم قال: "ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد" [هود: 100]. وقال في المتشابه من القرآن: من يرد الله به البلاء والضلالة يقول: ما شأن هذا لا يكون هكذا؟ وما شأن هذا لا يكون هكذا؟
وقال آخرون: بل المحكم من آي القرآن: ما عرف العلماء تأويله، وفهموا معناه وتفسيره: والمتشابه: ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل، مما استأثر الله بعلمه دون خلقه، وذلك نحو الخبر عن وقت مخرج عيسى ابن مريم، ووقت طلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وفناء الدنيا، وما أشبه ذلك، فإن ذلك لا يعلمه أحد. وقالوا: إنما سمى الله من آي الكتاب المتشابه، الحروف المقطعة التي في أوائل بعض سور القرآن، من نحو (ألم) و (ألمص) و (ألمر)، و (ألر)، وما أشبه ذلك، لأنهن متشابهات في الألفاظ، وموافقات حروف حساب الجمل. وكان قوم من اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم طمعوا أن يدركوا من قبلها معرفة مدة الإسلام وأهله، ويعلموا نهاية أكل محمد وأمته، فأكذب الله أحدوثتهم بذلك، وأعلمهم أن ما ابتغوا علمه من ذلك من قبل هذه الحروف المتشابهة لا يدركونه ولا من قبل غيرها، وأن ذلك لا يعلمه إلا الله.
قال أبو جعفر: وهذا قول ذكر عن جابر بن عبد الله بن رئاب: أن هذه الآية نزلت فيه، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه وعن غيره ممن قال نحو مقالته، في تأويل ذلك في تفسير قوله: "الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه" [البقرة: 2].
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرناه عن جابر بن عبد الله أشبه بتأويل الآية. وذلك أن جميع ما أنزل الله عز وجل من آي القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنما أنزله عليه بياناً له ولأمته وهدىً للعالمين، وغير جائزأن يكون فيه ما لا حاجة بهم إليه، ولا أن يكون فيه ما بهم إليه الحاجة، ثم لا يكون لهم إلى علم تأويله سبيل. فإذ كان ذلك كذلك، فكل ما فيه بخلقه إليه الحاجة، وإن كان في بعضه ما بهم عن بعض معانيه الغنى -[وإن اضطرته الحاجة إليه في معان كثيرة]- وذلك كقول الله عز وجل: "يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا" [الأنعام: 158]، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن تلك الآية التي أخبر الله جل ثناؤه عباده أنها إذا جاءت لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل ذلك، هي طلوع الشمس من مغربها. فالذي كانت بالعباد إليه الحاجة من علم ذلك، هو العلم منهم بوقت نفع التوبة بصفته، بغير تحديده بعدد السنين والشهور والأيام. فقد بين الله ذلك لهم بدلالة الكتاب، وأوضحه لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مفسراً. والذي لا حاجة بهم إلى علمه منه، هو العلم بمقدار المدة التي بين وقت نزول هذه الآية ووقت حدوث تلك الآية، فإن ذلك مما لا حاجة بهم إلى علمه في دين ولا دنيا. وذلك هو العلم الذي استأثر الله جل تناؤه به دون خلقه، فحجبه عنهم. وذلك وما أشبهه، هو المعنى الذي طلبت اليهود معرفته في مدة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من قبل قوله: (ألم) و(ألمص) و (ألر) و(ألمر) ونحو ذلك من الحروف المقطعة المتشابهات، التي أخبر الله جل ثناؤه أنهم لا يدركون تأويل ذلك من قبله، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله.
فإذ كان المتشابه هو ما وصفنا، فكل ما عداه فمحكم. لأنه لن يخلو من أن يكون محكماً بأنه بمعنى واحد لا تأويل له غير تأويل واحد، وقد استغني بسماعه عن بيان يبينه، أو يكون محكماً، وإن كان ذا وجوه وتأويلات وتصرف في معان كثيرة، فالدلالة على المعنى المراد منه، إما من بيان الله تعالى ذكره عنه، أو بيان رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته. ولن يذهب علم ذلك عن علماء الأمة لما قد بينا.
قال أبو جعفر: قد أتينا على البيان عن تأويل ذلك بالدلالة الشاهدة على صحة ما قلناه فيه. ونحن ذاكرو اختلاف أهل التأويل فيه، وذلك أنهم اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: معنى قوله: "هن أم الكتاب"، هن اللائي فيهن الفرائض والحدود والأحكام، نحو قولنا الذي قلناه فيه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا إسحق بن سويد، عن يحيى بن يعمر أنه قال في هذه الآية: "محكمات هن أم الكتاب". قال يحيى: هن اللاتي فيهن الفرائض والحدود وعماد الدين. وضرب لذلك مثلاً فقال: أم القرى مكة، وأم خراسان، مرو، وأم المسافرين، الذين يجعلون إليه أمرهم، ويعنى بهم في سفرهم، قال: فذاك أمهم.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "هن أم الكتاب"، قال: هن جماع الكتاب.
وقال آخرون: بل يعني بذلك: فواتح السور التي منها يستخرج القرآن.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا إسحق بن سويد، عن أبي فاختة أنه قال في هذه الآية: "منه آيات محكمات هن أم الكتاب"، قال: أم الكتاب فواتح السور، منها يستخرج القرآن- "الم * ذلك الكتاب" [البقرة: 1-2]، منها استخرجت البقرة، و"الم * الله لا إله إلا هو" منها استخرجت آل عمران.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فأما الذين في قلوبهم ميل عن الحق وانحراف عنه.
يقال منه: زاغ فلان عن الحق، فهو يزيغ عنه زيغاً وزيغاناً وزيغوغة وزيوغاً، وأزاغه الله -إذا أماله- فهو يزيغه، ومنه قوله جل ثناؤه: "ربنا لا تزغ قلوبنا" لا تملها عن الحق، "بعد إذ هديتنا" [آل عمران: 8].
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: "فأما الذين في قلوبهم زيغ"، أي: ميل عن الهدى.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "في قلوبهم زيغ"، قال: شك.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: "فأما الذين في قلوبهم زيغ"، قال: من أهل الشك.
حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "فأما الذين في قلوبهم زيغ"، أما الزيغ فالشك.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: قال: "زيغ" شك، قال ابن جريج: "الذين في قلوبهم زيغ"، المنافقون.
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "فيتبعون ما تشابه"، ما تشابهت ألفاظه وتصرفت معانيه بوجوه التأويلات، ليحققوا -بادعائهم الأباطيل من التأويلات في ذلك- ما هم عليه من الضلالة والزيغ عن محجة الحق، تلبيساً منهم بذلك على من ضعفت معرفته بوجوه تأويل ذلك وتصاريف معانيه، كما:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: "فيتبعون ما تشابه منه"، فيحملون المحكم على المتشابه، والمتشابه على المحكم، ويلبسون، فلبس الله عليهم.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: "فيتبعون ما تشابه منه"، أي: ما تحرف منه وتصرف، ليصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا، ليكون لهم حجة على ما قالوا وشبهةً.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: "فيتبعون ما تشابه منه"، قال: الباب الذي ضلوا منه وهلكوا فيه ابتغاء تأويله.
وقال آخرون في ذلك بما:
حدثني به موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط عن السدي في قوله: "فيتبعون ما تشابه منه"، يتبعون المنسوخ والناسخ فيقولون: ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا مكان هذه الآية، فتركت الأولى وعمل بهذه الأخرى؟ هلا كان العمل بهذه الآية قبل أن تجيء الأولى التي نسخت؟ وما باله يعد العذاب من عمل عملاً يعذبه [في] النار، وفي مكان آخر: من عمله فإنه لم يوجب النار؟
واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية.
فقال بعضهم: عني به الوفد من نصارى نجران الذي قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاجوه بما حاجوه به، وخاصموه بأن قالوا: ألست تزعم أن عيسى روح الله وكلمته؟ وتأولوا في ذلك ما يقولون فيه من الكفر.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: عمدوا -يعني الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى نجران- فخاصموا النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه؟ قال: بلى! قالوا: فحسبنا! فأنزل الله عز وجل: "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة"، ثم إن الله جل ثناؤه أنزل: "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم" [آل عمران: 59]، الآية.
وقال آخرون: بل أنزلت هذه الآية في أبي ياسر بن أخطب، وأخيه حيي بن أخطب، والنفر الذين ناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قدر مدة أكله وأكل أمته، وأرادوا علم ذلك من قبل قوله: (ألم)، و(ألمص)، و (ألمر) و(ألر)، فقال الله جل ثناؤه فيهم: "فأما الذين في قلوبهم زيغ" -يعني هؤلاء اليهود الذين قلوبهم مائلة عن الهدى والحق- "فيتبعون ما تشابه منه" يعني: معاني هذه الحروف المقطعة المحتملة التصريف في الوجوه المختلفة التأويلات، "ابتغاء الفتنة".
وقد ذكرنا الرواية بذلك فيما مضى قبل، في أول السورة التي تذكر فيها البقرة.
وقال آخرون: بل في، الله عز وجل بذلك كل مبتدع في دينه بدعة مخالفةً لما ابتعث به رسوله، محمداً صلى الله عليه وسلم، بتأويل يتأوله من بعض آي القرآن المحتملة التأويلات، وإن كان الله قد أحكم بيان ذلك: إما في كتابه، وإما على لسان رسوله.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة"، وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية: "فأما الذين في قلوبهم زيغ" قال: إن لم يكونوا الحرورية والسبائية، فلا أدري من هم! ولعمري لقد كان في أهل بدر والحديبية الذين شهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان من المهاجرين والأنصار خبر لمن استخبر، وعبرة لمن استعبر، لمن كان يعقل أو يبصر. إن الخوارج خرجوا وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ كثير بالمدينة والشأم والعراق، وأزواجه يومئذ أحياء. والله إن خرج منهم ذكر ولا أنثى حرورياً قط، ولا رضوا الذي هم عليه، ولا مالأوهم فيه، بل كانوا يحدثون بعيب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم ونعته الذي نعتهم به، وكانوا يبغضونهم بقلوبهم، ويعادونهم بألسنتهم، وتشتد والله عليهم أيديهم إذا لقوهم. ولعمري لو كان أمر الخوارج هدىً لاجتمع، ولكنه كان ضلالاً فتفرق. وكذلك الأمر إذا كان من عند غير الله وجدت فيه اختلافاً كثيراً. فقدم ألاصوا هذا الأمر منذ زمان طويل. فهل أفلحوا فيه يوماً أو أنجحوا؟ يا سبحان الله! كيف لا يعتبر آخر هؤ لاء القوم بأولهم؟ لو كانوا على هدى، قد أظهره الله وأفلجه ونصره، ولكنهم كانوا على باطل أكذبه الله وأدحضه. فهم كما رأيتهم، كلما خرج لهم قرن أدحض الله حجتهم، وأكذب أحدوثتهم، وأهراق دماءهم. إن كتموا كان قرحاً في قلوبهم، وغماً عليهم. وإن أظهروه أهراق الله دماءهم. ذاكم والله دين سوء فاجتنبوه. والله إن اليهودية لبدعة، وإن النصرانية لبدعة، وإن الحرورية لبدعة، وإن السبائية لبدعة، ما نزل بهن كتاب ولا سنهن نبي.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله"، طلب القوم التأويل، فأخطأوا التأويل وأصابوا الفتنة، فاتبعوا ما تشابه منه، فهلكوا من ذلك. لعمري لقد كان في أصحاب بدر والحديبية الذي شهدوا بيعة الرضوان. وذكر نحو حديث عبد الرزاق، عن معمر، عنه.
حدثني محمد بن خالد بن خداش ويعقوب بن إبراهيم قالا، حدثنا إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة قالت: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو الذي أنزل عليك الكتاب" إلى قوله: "وما يذكر إلا أولو الألباب"، فقال: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله، فاحذروهم".
حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة أنها قالت: "قرأ نبي الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: "هو الذي أنزل عليك الكتاب" إلى "وما يذكر إلا أولو الألباب"، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه -أو قال: يتجادلون فيه- فهم الذين عنى الله، فاحذرهم". قال مطر، عن أيوب أنه قال: فلا تجالسوهم، فهم الذين عنى الله فاحذروهم.
حدثنا ابن بشار قال حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو معناه.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا الحارث، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات" الآية كلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، والذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله، أولئك الذين قال الله، فلا تجالسوهم".
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة ، عن يزيد بن إبراهيم، عن ابن أبي مليكة قال: سمعت القاسم بن محمد يحدث، عن عائشة قالت: "تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية: "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب"، ثم قرأ إلى آخر الآيات، فقال: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم".
حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: "نزع رسول الله صلى الله عليه وسلم: يتبعون ما تشابه منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد حذركم الله، فإذا رأيتموهم فاعرفوهم".
حدثنا علي قال: حدثنا الوليد، عن نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة، حدثتني عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتموهم فاحذروهم، ثم نزع: "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه"، ولا يعملون بمحكمه.
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، أخبرنا عمي قال، أخبرني شبيب بن سعيد، عن روح بن القاسم، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية: "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم"، فقال: فإذا رأيتهم الذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله، فاحذروهم".
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا خالد بن نزار، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة في هذه الآية، "هو الذي أنزل عليك الكتاب"، الآية، يتبعها، يتلوها، ثم يقول: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فاحذروهم، فهم الذين عنى الله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هرون، عن حماد بن سلمة عن ابن أبي مليكة، عن القاسم، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب" إلى آخر الآية، قال: هم الذين سماهم الله، فإذا أريتموهبم فاحذروهم.
قال أبو جعفر: والذي يدل عليه ظاهر هذه الآية، أنها نزلت في الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمتشابه ما أنزل إليه من كتاب الله، إما في أمر عيسى، وإما في مدة أكله وأكل أمته. وهو بأن تكون في الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمتشابهه في مدته ومدة أمته، أشبه. لأن قوله: "وما يعلم تأويله إلا الله"، دال على أن ذلك إخبار عن المدة التي أرادوا علمها من قبل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله. فأما أمر عيسى وأسبابه، فقد أعلم الله ذلك نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته، وبينه لهم. فمعلوم أنه لم يعن به إلا ما كان عليه خفياً من الآجال.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك: ابتغاء الشرك.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "ابتغاء الفتنة"، قال: إرادة الشرك.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: "ابتغاء الفتنة"، يعني الشرك.
وقال آخرون: معنى ذلك: ابتغاء الشبهات.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ابتغاء الفتنة"، قال: الشبهات، بها أهلكوا.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "ابتغاء الفتنة"، الشبهات. قال: هلكوا به.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: "ابتغاء الفتنة"، قال: الشبهات. قال: والشبهات ما أهلكوا به.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: "ابتغاء الفتنة"، أي: اللبس.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: إرادة الشبهات واللبس.
فمعنى الكلام إذاً: فأما الذين في قلوبهم هيل عن الحق وحيف عنه، فيتبعون من آي الكتاب ما تشابهت ألفاظه، واحتمل صرف صارفه في وجوه التأويلات -باحتماله المعاني المختلفة- إرادة اللبس على نفسه وعلى غيره، احتجاجاً به على باطله الذي مال إليه قلبه، دون الحق الذي أبانه الله فأوضحه بالمحكمات من آي كتابه.
قال أبو جعفر: وهذه الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا أنها نزلت فيه من أهل الشرك، فإنه معني بها كل مبتدع في دين الله بدعةً فمال قلبه إليها، تأويلاً منه لبعض متشابه آي القرآن، ثم حاج به وجادل به أهل الحق، وعدل عن الواضح من أدلة آيه المحكمات، إرادة منه بذلك اللبس على أهل الحق من المؤمنين، وطلباً لعلم تأويل ما تشابه عليه من ذلك، كائناً من كان، وأي أصناف المبتدعة كان: من أهل النصرانية كان أو اليهودية أو المجوسية، أو كان سبئياً، أو حرورياً، أو قدرياً، أو جهمياً، كالذي قال صلى الله عليه وسلم: "فإذ ا رأيتم الذين يجادلون به، فهم الذين عنى الله، فاحذروهم"، وكما:
حدثني يونس قال، أخبرنا سفيان، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس -وذكر عنده الخوارج وما يلفون عند القرآن، فقال: يؤمنون بمحكمه ويهلكون عند متشابهه! وقرأ ابن عباس: "وما يعلم تأويله إلا الله"، الآية.
قال أبو جعفر: وإنما قلنا القول الذي ذكرنا أنه أولى التأويلين بقوله: "ابتغاء الفتنة"، لأن الذين نزلت فيهم هذه ا لآية كانوا أهل شرك، وإنما أرادوا بطلب تأويل ما طلبوا تأويله، اللبس على المسلمين، والاحتجاج به عليهم، ليصدوهم عما هم عليه من الحق. فلا معنى لأن يقال: فعلوا ذلك إرادة الشرك، وهم قد كانوا مشركين.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى التأويل، الذي عنى الله جل ثناؤه بقوله: "وابتغاء تأويله". فقال بعضهم: معنى ذلك: الأجل الذي أرادت اليهود أن تعرفه من انقضاء مدة أمر محمدصلى الله عليه وسلم وأمر أمته، من قبل الحروف المقطعة من حساب الجمل، كـ (ألم)، و(ألمص)، و(ألر)، و(ألمر)، وما أشبه ذلك من الآجال.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس أما قوله: "وما يعلم تأويله إلا الله"، يعني تأويله يوم القيامة، "إلا الله".
وقال آخرون: بل معنى ذلك: عواقب القرآن. وقالوا: إنما أرادوا أن يعلموا متى يجيء ناسخ الأحكام التي كان الله جل ثناؤه شرعها لأهل الإسلام قبل مجيئه، فنسخ ما قد كان شرعه قبل ذلك.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وابتغاء تأويله"، أرادوا أن يعلموا تأويل القرآن -وهو عواقبه- قال الله: "وما يعلم تأويله إلا الله"، وتأويله، عواقبه، متى يأتي الناسخ منه فينسخ المنسوخ؟.
وقال آخرون: معنى ذلك: وابتغاء تأويل ما تشابه من آي القرآن، يتأولونه -إذ كان ذا وجوه وتصاريف في التأويلات- على ما في قلوبهم من الزيغ، وما ركبوه من الضلالة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: "وابتغاء تأويله"، وذلك على ما ركبوا من الضلالة في قولهم: خلقنا، و قضينا.
قال أبو جعفر: والقول الذي قاله ابن عباس، من أن: ابتغاء التأويل الذي طلبه القوم من المتشابه، هو معرفة انقضاء المدة ووقت قيام الساعة -والذي ذكرنا عن السدي: من أنهم طلبوا وأرادوا معرفة وقت هو جاء قبل مجيئه- أولى بالصواب. وإن كان السدي قد أغفل معنى ذلك من وجه صرفه إلى حصره على أن معناه: أن القوم طلبوا معرفة وقت مجيء الناسخ لما قد أحكم قبل ذلك.
وإنما قلنا: إن طلب القوم معرفة الوقت الذي هو جاء قبل مجيئه المحجوب علمه عنهم وعن غيرهم، بمتشابه آي القران- أولى بتأويل قوله: "وابتغاء تأويله"، لما قد دللنا عليه قبل من إخبار الله جل ثناؤه أن ذلك التأويل لا يعلمه إلا الله.
ولا شك أن معنى قوله: قضينا فعلنا، قد علم تأويله كثير من جهلة أهل الشرك، فضلاً عن أهل الإيمان وأهل الرسوخ في العلم منهم.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وما يعلم وقت قيام الساعة، وانقضاء مدة أكل محمد وأمته، وما هو كائن، إلا الله، دون من سواه من البشر الذين أملوا إدراك عالم ذلك من قبل الحساب والتنجيم والكهانة. وأما الراسخون في العلم فيقولون: "آمنا به كل من عند ربنا"- لا يعلمون ذلك، ولكن فضل علمهم في ذلك على غيرهم، العلم بأن الله هوالعالم بذلك دون من سواه من خلقه.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، وهل "الراسخون" معطوف على اسم "الله"، بمعنى إيجاب العلم لهم بتأويل المتشابه، أم هم مستأنف ذكرهم، بمعنى الخبر عنهم أنهم يقولون: آمنا بالمتشابه وصدقنا أن علم ذلك لا يعلمه إلا الله؟.
فقال بعضهم: معنى ذلك: وما يعلم تأويل ذلك إلا الله وحده منفرداً بعلمه. وأما الراسخون في العلم، فإنهم ابتدئ الخبر عنهم بأنهم يقولون: آمنا بالمتشابه والمحكم، وأن جميع ذلك من عند الله.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا خالد بن نزار، عن نافع، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قوله: "والراسخون في العلم يقولون آمنا به"، قالت: كان من رسوخهم في العلم أن آمنوا بمحكمه ومتشابهه، ولم يعلموا تأويله.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: كان ابن عباس يقول: وما يعلم تأويله إلا الله، ويقول الراسخون [في العلم] آمنا به.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن أبي الزناد قال، قال هشام بن عروة: كان أبي يقول في هذه الآية، "وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم"، أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله، ولكنهم يقولون: "آمنا به كل من عند ربنا".
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله، عن أبي نهيك الأسدي قوله: "وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم"، فيقول: إنكم تصلون هذه ا لآية، وإنها مقطوعة: "وما يعلم تأويله إلا الله" - "والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا"، فانتهى علمهم إلى قولهم الذي قالوا.
حدثنا المثنى قال، حدثنا ابن دكين قال، حدثنا عمرو بن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: "والراسخون في العلم"، انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا، "آمنا به كل من عند ربنا".
حدثني يونس قال، أخبرنا أشهب، عن مالك في قوله: "وما يعلم تأويله إلا الله"، قال: ثم ابتدأ فقال: "والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا"، وليس يعلمون تأويله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، وهم مع علمهم بذلك ورسوخهم في العلم يقولون: "آمنا به كل من عند ربنا".
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "والراسخون في العلم" يعلمون تأويله، ويقولون: "آمنا به".
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "والراسخون في العلم" يعلمون تأويله، ويقولون: "آمنا به".
حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "والراسخون في العلم" يعلمون تأويله ويقولون: "آمنا به".
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: "وما يعلم تأويله" الذي أراد، ما أراد، "إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا"، فكيف يختلف، وهو قول واحد من رب واحد؟ ثم ردوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد، فاتسق بقولهم الكتاب وصدق بعضه بعضاً، فنفذت به الحجة، وظهر به العذر، وزاح به الباطل، ودمغ به الكفر.
قال أبو جعفر: فمن قال القول الأول في ذلك، وقال: إن الراسخين لا يعلمون تأويل ذلك، وإنما أخبر الله عنهم بإيمانهم وتصديقهم بأنه من عند الله، فإنه يرفع الراسخين في العلم بالابتداء في قول البصريين، ويجعل خبره: "يقولون آمنا به". وأما في قول بعض الكوفيين، فبالعائد من ذكرهم في "يقولون". وفي قول بعضهم: بجملة الخبر عنهم، وهي: "يقولون".
ومن قال القول الثاني، وزعم أن الراسخين يعلمون تأويله، عطف بـ الراسخين على اسم "الله"، فرفعهم بالعطف عليه.
قال أبو جعفر: والصواب عندنا في ذلك أنهم مرفوعون بجملة خبرهم بعدهم وهو: "يقولون"، لما قد بينا قبل من أنهم لا يعلمون تأويل المتشابه الذي ذكره الله عز وجل في هذه الآية. وهو فيما بلغني مع ذلك في قراءة أبي: ويقول الراسخون في العلم كما ذكرناه عن ابن عباس أنه كان يقرأه. وفي قراءة عبد الله: إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون.
قال أبو جعفر: وأما معنى التأويل في كلام العرب، فإنه التفسير والمرجع والمصير. وقد أنشد بعض الرواة بيت الأعشى:
على أنها كانت تأول حبها تأول ربعي السقاب فأصحبا
وأصله من: آل الشيء إلى كذا- إذا صار ورجع يؤول أولاً و أولته أنا صيرته إليه. وقد قيل إن قوله: "وأحسن تأويلا" [النساء: 59- الإسراء: 35] أي جزاءً. وذلك أن الجزاء هو الذي آل إليه أمر القوم وصار إليه.
ويعني بقوله: تأول حبها: تفسير حبها ومرجعه. وإنما يريد بذلك أن حبها كان صغيراً في قلبه، فآل من الصغر إلى العظم، فلم يزل ينبت حتى أصحب، فصار قديماً، كالسقب الصغير الذي لم يزل يشب حتى أصحب فصار كبيراً مثل أمه.
وقد ينشد هذا البيت:
على أنها كانت توابع حبها توالي ربعي السقاب فأصحبا
قال أبو جعفر: يعني بـ الراسخين في العلم، العلماء الذين قد أتقنوا علمهم ووعوه فحفظوه حفظاً، لا يدخلهم في معرفتهم وعلمهم بما علموه شك ولا لبس.
وأصل ذلك من: رسوخ الشيء في الشيء، وهو ثبوته وولوجه فيه. يقال منه. رسخ الإيمان في قلب فلان، فهو يرسخ رسخاً ورسوخاً.
وقد روي في نعتهم خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما:
حدثت موسى بن سهل الرملي قال، حدثنا محمد بن عبد الله قال، حدثنا فياض بن محمد الرقي قال، حدثنا عبد الله بن يزيد بن آدم، عن أبي الدرداء وأبي أمامة قالا: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من الراسخ في العلم؟ قال: من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام به قلبه، وعف بطنه، فذلك الراسخ في العلم".
حدثني المثنى وأحمد بن الحسن الترمذي قالا، حدثنا نعيم بن حماد قال، حدثنا فياض الرقي قال، حدثنا عبد الله بن يزيد الأودي، قال: وكان أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال، حدثنا أنس بن مالك وأبو أمامة وأبو الدرداء: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم فقال: من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام به قلبه، وعف بطنه وفرجه، فذلك الراسخ في العلم".
وقد قال جماعة من أهل التأويل: إنما سمى الله عز وجل هؤلاء القوم الراسخين في العلم، بقولهم: "آمنا به كل من عند ربنا".
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "والراسخون في العلم يقولون آمنا به"، قال: الراسخون الذين يقولون: "آمنا به كل من عند ربنا".
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " والراسخون في العلم "، هم المؤمنون، فإنهم يقولون: "آمنا به"، بناسخه ومنسوخه، "كل من عند ربنا".
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس، قال عبد الله بن سلام: "الراسخون في العلم"، وعلمهم قولهم، قال ابن جريج: "والراسخون في العلم يقولون آمنا به"، وهم الذين يقولون: "ربنا لا تزغ قلوبنا" [آل عمران: 8]. ويقولون: "ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه" [آل عمران: 9].
وأما تأويل قوله: "يقولون آمنا به"، فإنه يعني أن الراسخين في العلم يقولون: صدقنا بما تشابه من آي الكتاب، وأنه حق وإن لم نعلم تأويله، وقد:
حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سلمة بن نبيط، عن الضحاك: "والراسخون في العلم يقولون آمنا به"، قال: المحكم والمتشابه.
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "كل من عند ربنا"، كل المحكم من الكتاب والمتشابه منه، "من عند ربنا"، وهو تنزيله ووحيه إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، كما:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: "كل من عند ربنا"، قال: يعني ما نسخ منه وما لم ينسخ.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم"، قالوا: "كل من عند ربنا"، آمنوا بمتشابهه، وعملوا بمحكمه.
حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: "كل من عند ربنا"، يقولون: المحكم والمتشابه من عند ربنا.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا"، نؤمن بالمحكم وندين به، ونؤمن بالمتشابه ولا ندين به، وهو من عند الله كله.
حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: "والراسخون في العلم" يعملون به، يقولون: نعمل بالمحكم ونؤمن به، ونؤمن بالمتشابه ولا نعمل به، وكل من عند ربنا.
قال أبو جعفر: واختلف أهل العربية في حكم كل إذا أضمر فيها.
فقال بعض نحويي البصريين: إنما جاز حذف المراد الذي كان معها الذي الكل إليه مضاف في هذا الموضع، لأنها اسم، كما قال: "إنا كل فيها" [غافر: 48]، بمعنى: إنا كلنا فيها. قال: ولا يكون "كل" مضمراً فيها وهي صفة، لا يقال: مررت بالقوم كل وإنما يكون مضمر إذا جعلتها اسماً. لو كان: إنا كلاً فيها على الصفة لم يجز، لأن الإضمار فيها ضعيف لا يتمكن في كل مكان.
وكان بعض نحويي الكوفيين يرى الإضمار فيها وهي صفة أو اسم، سواءً. لأنه غير جائز أن يحذف ما بعدها عنده إلا وهي كافية بنفسها عما كانت تضاف إليه من المضمر. وغير جائز أن تكون كافية منه في حال، ولا تكون كافية في أخرى. وقال: سبيل الكل و البعض في الدلالة على ما بعدهما بأنفسهما وكفايتهما منه بمعنى واحد في كل حال، صفةً كانت أو اسماً.
قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني أولى بالقياس، لأنها إذا كانت كافية بنفسها هما حذف منها في حال لدلالتها عليها، فالحكم فيها أنها كلما وجدت دالة على ما بعدها فهي كافية منه.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما يتذكر ويتعظ وينزجر عن أن يقول في متشابه آي كتاب الله ما لا علم له به، إلا أولو العقول والنهى، وقد:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: "وما يذكر إلا أولو الألباب"، يقول: وما يذكر في مثل هذا، يعني: في رد تأويل المتشابه إلى ما قد عرف من تأويل المحكم، حتى يتسقا على معنى واحد، "إلا أولو الألباب".
فيه تسع مسائل :
الأولى : خرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت :
تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب " .
قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم " وعن أبي غالب قال :
كنت أمشي مع أبي أبي أمامة وهو على حمار له ن حتى إذا انتهى إلى درج مسجد دمشق فإذا رؤوس مصوبة ، فقال : ما هذه الرؤوس ؟ قيل : هذه رؤوس خوارج يجاء بهم من العراق . فقال أبو أمامة : كلاب النار كلاب النار كلاب النار ! شر قتلى تحت ظل السماء ، طوبى لمن قتلهم وقتلوه يقولها ثلاثا ثم بكى . فقلت : ما يبكيك يا أبا أمامة ؟ قال : رحمة لهم ، إنهم كانوا من أهل الإسلام فخرجوا منه ، ثم قرأ " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات " إلى آخر الآيات . ثم قرأ " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات " فقلت : يا أبا أمامة ، هم هؤلاء ؟ قال نعم . قلت : أشيء تقوله برأيك أم شئ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني إذا لجرئ إني إذا لجرئ بل سمعته من رسول الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ولا أربع ولا خمس ولا ست ولا سبع ، ووضع أصبعيه في أذنيه ، قال : وإلا فصمتا قالها ثلاثا ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة ، واحدة في الجنة وسائرهم في النار ولتزيدن عليهم هذه الأمة واحدة واحدة في الجنة وسائرهم في النار " .
الثانية : اختلف العلماء في المحكمات والمتشابهات على أقوال عديدة ، فقال جابر بن عبد الله ، وهو مقتضى قول الشعبي و سفيان الثوري وغيرهما : المحكمات من آي القرآن ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره . المتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله تعالى بعلمه دون خلقه . قال بعضهم : وذلك مثل وقت قيام الساعة ، وخروج يأجوج ومأجوج والدجال وعيسى ، ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور .
قلت : هذا أحسن ما قيل في المتشابه . وقد قدمنا في أوائل سورة البقرة عن الربيع بن خيثم أن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء ، الحديث . وقال أبو عثمان المحكم فاتحة الكتاب التي لا تجزئ الصلاة إلا بها . وقال محمد بن الفضل : سورة الإخلاص ، لأنه ليس فيها إلا التوحيد فقط . وقد قيل : القرآن كله محكم : لقوله تعالى : " كتاب أحكمت آياته " وقيل : كله متشابه ، لقوله : " كتابا متشابها " .
قلت : وليس هذا من معنى الآية في شئ ، فان قوله تعالى : " كتاب أحكمت آياته " أي في النظم والرصف وأنه حق من عند الله . ومعنى كتابا متشابها ، أي يشبه بعضه بعضا ويصدق بعضه بعضا . وليس المراد بقوله آيات محكمات وأخر متشابهات هذا المعنى ، وإنما المتشابه في هذه الآية في هذه الآية من باب الاحتمال والاشتباه ن من قوله إن البقر تشابه علينا . أي التبس علينا ، أي يحتمل أنواعا كثيرة من البقر . والمراد بالمحكم ما في مقابلة هذا ، هو ما لا التباس فيه ولا يحتمل إلا وجها واحدا . وقيل : إن المتشابه ما يحتمل وجوها ، ثم إذا ردت الوجوه إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكما . فالمحكم أبدا أصل ترد إليه الفروع ، والمتشابه هو الفرع . وقال ابن عباس : المحكمات هو قوله في سورة الأنعام " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " إلى ثلاث آيات ، وقوله في بني إسرائيل " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا " . قال ابن عطية : وهذا عندي مثال أعطاه في المحكمات . وقال ابن عباس أيضا ، المحكمات ناسخة وحرامه وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به ، والمتشابهات المنسوخات ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به ، وقال ابن مسعود وغيره : المحكمات الناسخات ، والمتشابهات المنسوخات ، وقاله قتادة و الربيع و الضحاك . وقال محمد بن جعفر بن الزبير : المحكمات هي التي فيها حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل ، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه . والمتشابهات له تصريف وتحريف وتأويل ، ابتلى الله فيهن العباد ، وقاله مجاهد وابن إسحاق . قال ابن عطية : وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية . قال النحاس أحسن ما قيل في المحكمات والمتشابهات أن المحكمات ما كان قائما بنفسه لا يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره ، نحو ولم يكن له كفوا أحد . وإني لغفار لمن تاب . والمتشابهات نحو إن الله يغفر الذنوب جميعا يرجع فيه إلى قوله جل وعلا : " وإني لغفار لمن تاب " وإلى قوله عز وجل : " إن الله لا يغفر أن يشرك به " . قلت : ما قال النحاس يبين ما اختاره ابن عطية ، هو الجاري على وضع اللسان ، وذلك أن المحكم اسم مفعول من أحكم ، والإحكام والإتقان ، ولا شك في أن ما كان واشح المعنى لا إشكال فيه ولا تردد ، إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته وإتقان تركيبها ، ومتى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال . والله أعلم . وقال ابن جويز منداد : للمتشابه وجوه ، والذي يتعلق به الحكم ما اختلف فيه العلماء أي الآيتين نسخت الأخرى ، كقول علي وابن عباس في الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد أقصى الأجلين . فكان عمر وزيد بن ثابت وابن مسعود وغيرهم يقولون وضع الحمل ، ويقولون : سورة النساء القصرى نسخت أربعة اشهر وعشرا . وكان علي وابن عباس يقولان لم تنسخ . وكاختلافهم في الوصية للوارث هل نسخت أم لم تنسخ . وكتعارض الآيتين أيهما أولى أن تقدم إذا لم يعرف النسخ ولم توجد شرائطه ، كقوله تعالى :" وأحل لكم ما وراء ذلكم " يقتضي الجمع بين الأقارب من ملك اليمين ، وقوله تعالى " وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف " . يمنع ذلك . ومنه أيضا تعارض الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وتعارض الأقيسة ، فذلك المتشابه . وليس من المتشابه أن تقرأ الآية قراءتين ويكون الاسم أو جميعه . والقراءتان كالآيتين يجب العمل بموجبهما جميعا ، كما قرئ : " وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ". بالفتح والكسر ، على ما يأتي بيانه في المائدة إن شاء الله تعالى .
الثالثة : روى البخاري عن سعيد بن جبير قال قال رجل لابن عباس :
إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي . قال : ما هو قال : " فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " . وقال :" وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " وقال" ولا يكتمون الله حديثا " وقال : " والله ربنا ما كنا مشركين " . فقد كتموا في هذه الآية . وفي النازعات" أم السماء بناها " . إلى قوله " دحاها " . فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض ، ثم قال : " أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ". .. إلى :" طائعين " . فذكر في هذا خلق الأرض قبل خلق السماء . وقال :" وكان الله غفورا رحيما ". " وكان الله عزيزا حكيما " . " وكان الله سميعا بصيرا" . فكأنه كان ثم مضى . فقال ابن عباس : " فلا أنساب بينهم " في النفخة الأولى ، ثم ينفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون ، ثم في النفخة الآخرة " أقبل بعضهم على بعض يتساءلون" . وأما قوله " ما كنا مشركين" . " ولا يكتمون الله حديثا" فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم ، وقال المشركون : تعالوا نقول : لم نكن مشركين ، فختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم ، فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا ، وعنده يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين . وخلق الله الأرض في ويمين ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات في يومين ، ثم دحا الأرض أي بسطها فأخرج منها الماء والمرعى ، وخلق فيها الجبال والأشجار والآكام وما ينهما في يومين آخرين ، فذلك قوله : " والأرض بعد ذلك دحاها" . فخلقت الأرض وما فيها في أربعة أيام ، وخلقت السماء في يومين . وقوله " وكان الله غفورا رحيما " يعني نفسه ذلك ، أي لم يزل ولا يزال كذلك ، فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد . ويحك فلا يختلف عليك القرآن ، فإن كلا من عند الله .
الرابعة : قوله تعالى : " وأخر متشابهات " لم تصرف أخر لأنها عدلت عن الألف واللام ، لأن أصلها أن تكون صفة بالألف واللام كالكبر والصغر ، فلما عدلت عن مجرى الألف واللام منعت الصرف . أبو عبيد : لم يصرفوها لأن واحدها لا ينصرف في معرفة ولا نكرة . وأنكر ذلك المبرد وقال : يجب على هذا ألا ينصرف غضاب وعطاش . الكسائي : لم تنصرف لأنها صفة .. و وقال : إن لبدا وحطما صفتان وهما منصرفان . سيبويه : لا يجوز أن تكون أخر معدولة عن الألف و اللام ، لأنها لو كانت معدولة عن الألف واللام لكان معرفة ، ألا ترى أن سحر معرفة في جميع الأقاويل لما كانت معدولة عن السحر ، و أمس في قول من قال : ذهب أمس معدولة عن الأمس ، فلو كان أخر معدولا أيضا عن الألف و اللام لكان معرفة ، وقد وصفه الله تعالى بالنكرة .
الخامسة : قوله تعالى فأما اللذين في قلوبهم زيغ اللذين رفع بالابتداء ، و الخبر فيتبعون ما تشابه منه . و الزيغ الميل ، و منه زاغت الشمس ، و زاغت الأبصار . و يقال : زاغ يزيغ زيغا إذا ترك القصد ، ومنه قوله تعالى :" فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم" . و هذه الآية تعم كل طائفة من كافر و زنديق و جاهل و صاحب بدعة ، و إن كانت الإشارة بها في ذلك الوقت إلى نصارى نجران . وقال قتادة في تفسير قوله تعالى :" فأما الذين في قلوبهم زيغ " : إن لم يكونوا الحرورية و أنواع الخوارج فلا أدري من هم . قلت : قد مر هذا التفسير عن أبي أمامة مرفوعا ، و حسبك .
السادسة : قوله تعالى : " فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله " قال شيخنا أبو العباس رحمة الله عليه : متبعو المتشابه لا يخلو أن يتبعوه ويجمعوه طلبا للتشكيك في القرآن و إضلال العوام ، كما فعلته الزنادقة و القرامطة الطاعنون في القرآن ، أو طلبا لاعتقاد ظواهر المتشابه ، كما فعلته المجسمة الذين جمعوا ما في الكتاب و السنة مما ظاهره الجسمية حتى اعتقدوا أن الباريء تعالى عن ذلك ، أو يتبعوه على جهة إبداء وعين ويد ورجل وأصبح ، تعالى الله عن ذلك ، أو يتبعوه على جهة إبداء تأويلاتها وإيضاح معانيها ، أو كما فعل صبيح حين أكثر على عمر فيه السؤال . فهذه أربعة أقسام :
الأول : لا شك في كفرهم ، وأن حكم الله فيهم القتل من غير استتابة .
الثاني : الصحيح القول بتكفيرهم إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام والصور ويستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بمن ارتد .
الثالث : اختلفوا في جواز ذلك بناء على الخلاف في جواز تأويلها . وقد عرف أن مذهب السلف ترك التعرض مع قطعهم باستحالة ظواهرها ، فيقولون أمروها كما جاءت . وذهب بعضهم إلى إبداء تأويلاتها وحملها على ما يصح حمله في اللسان عليها من غير قطع بتعين مجمل منها .
الرابع : الحكم فيه الأدب البليغ ، كما فعله عمر بصبيغ . وقال أبو بكر الأنباري : وقد كان الأئمة من السلف يعاقبون من يسأل عن تفسير الحروف المشكلات في القرآن ، لأن السائل إن كان يبغي بسؤاله تخليد البدعة وإثارة الفتنة فهو حقيق بالنكير وأعظم التعزيز ، وإن لم يكن ذلك مقصده فقد استحق العتب بما اجترم من الذنب ، إذ أوجد للمنافقين الملحدين في ذلك الوقت سبيلا إلى أن يقصدوا ضعفه المسلمين بالتشكيك والتضليل في تحريف القرآن عن مناهج التنزيل وحقائق التأويل . فمن ذلك ما حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي أنبأنا سليمان بن حرف عن حماد بن زيد عن يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار أن صبيغ بن عسل قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن وعن أشباه ، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فبعث إليه عمر فأحضره وقد أعد له عراجين من عراجين النخل . فلما حضر قال له عمر : من أنت قال : أنا عبدالله صبيغ . فقال عمر رضي الله عنه ك وأنا عبدالله عمر ، ثم قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشجه ، ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه ، فقال : حسبك يا أمير المؤمنين فقد والله ذهب ما كنت أجد في رأسي . وقد اختلفت الروايات في أدبه ، وسيأتي ذكرها في الذاريات ز ثم إن الله تعالى ألهمه التوبة وقذفها في قلبه فتاب وحسنت توبته . ومعنى ابتغاء الفتنة طلب الشبهات واللبس على المؤمنين حتى يفسدوا ذات بينهم ، ويردوا الناس إلى زيغهم . وقال أبو إسحاق الزجاج : معنى ابتغاء القوم أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم ، فأعلم الله جل وعز أن تأويل ذلك ووقته لا يعلمه إلا الله . قال : والدليل على ذلك قوله تعالى : " هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله " أي يوم يرون ما يوعدون من البعث والنشور والعذاب يقول الذين نسوه من قبل أي تركوه " قد جاءت رسل ربنا بالحق " أي قد رأينا تأويل ما أنبأنا به الرسل . قال : فالوقف على قوله تعالى " وما يعلم تأويله إلا الله " أي لا يعلم أحد متى البعث إلا الله .
السابعة : قوله تعالى : " وما يعلم تأويله إلا الله " . يقال :
إن جماعة من اليهود منهم حيي بن أخطب دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : بلغنا أنه نزل عليك ألم فإن كنت صادقا في مقالتك فإن ملك أمتك يكون إحدى وسبعين سنة ، لأن الألف في حساب الجمل واحد ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فنزل وما يعلم تأويله إلا الله . والتأويل يكون بمعنى التفسير ، كقولك : تأويل هذه الكلمة على كذا . ويكون بمعنى ما يؤول الأمر إله . واشتقاقه من آل الأمر إلى كذا يؤول إليه ، أي صار . وأولته تأويلا أي صيرته . وقد حده بعض الفقهاء ، فقالوا : هو إبداء احتمال في اللفظ مقصود بدليل خارج عنه . فالتفسير بيان اللفظ ، كقوله : لا ريب فيه . أي لا شك . وأصله من التفسير وهو البيان ، يقال : فسرت الشيء مخففا أفسره بالكسر فسرا . والتأويل بيان المعنى ، كقوله لا شك فيه عند المؤمنين . أو لأنه حق في نفسه فلا يقبل ذاته الشك وإنما الشك وصف الشاك . وكقول ابن عباس في الجد أبا ، لأنه تأول قول الله عز وجل يا بني آدم .
الثامنة : قوله تعالى : والراسخون في العلم . اختلف العلماء في والراسخون في العلم هل هو ابتداء كلام مقطوع مما قبله ، أو هو معطوف على ما قبله فتكون الواو للجمع . فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع مما قبله ، وأن الكلام تم عند قوله إلا الله هذا قول ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بين عبد العزيز وغيرهم ، وهو مذهب الكسائي والأخفش والفراء و أبي عبيد وغيرهم . قال أبو نهيك الأسدي : إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة . وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم آمنا به كل من عند ربنا . وقال مثل هذا عمر بين عبد العزيز ، وحكى الطبري نحوه عن يونس عن أشهب عن مالك بن أنس ، ويقولون على هذا خبر الراسخون . قال الخطابي : وقد جعل الله تعالى آيات كتابه الذي أمرنا بالإيمان به والتصديق بما فيه قسمين : محكما ومتشابها ، فقال عز من قائل : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " . إلى قوله : " كل من عند ربنا " . فأعلم أن المتشابه من الكتاب قد استأثر الله بعلمه ، فلا يعلم تأويله أحد غيره ، ثم أثنى الله عز وجل على الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به . ولولا صحة الإيمان منهم لم يستحقوا الثناء عليه . ومذهب أكثر العلماء أن الوقف التام في هذه الآية إنما هو عند قوله تعالى : " وما يعلم تأويله إلا الله" . وأن ما بعده استئناف كلام آخر ، وهو قوله تعالى : " والراسخون في العلم يقولون آمنا به " . وروي ذلك عن ابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وعائشة . وإنما روي عن مجاهد أنه نسق الراسخون على ما قبله وزعم أنهم يعلمونه . واحتج له بعض أهل اللغة فقال : معناه " والراسخون في العلم" يعلمونه قائلين آمنا ، وزعم أن موضع يقولون نصب على الحال . وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه ، لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معا ، ولا تذكر حالا إلا مع ظهور الفعل ، فإذا لم يظهر فعل فلا يكون حال ، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال : عبدالله راكبا ، بمعنى أقبل عبدالله راكبا ، وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله : عبدالله يتكلم يصلح بين الناس ، فكان يصلح حالا له كقول الشاعر أنشدنيه أبو عمر قال أنشدنا أبو العباس ثعلب :
أرسلت فيها قطما لكاكا يقصر يمشي ويطول باركا
أي يقصر ماشيا ، فكان قول عامة العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده ، وأيضا فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه شيئا عن الخلق ويثبته لنفسه ثم يكون له في ذلك شريك . ألا ترى قوله عز وجل : قل لا يعلم من في السماوات والأرض العيب إلا الله وقوله : " لا يجليها لوقتها إلا هو " وقوله : " كل شيء هالك إلا وجهه " . ، فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه بعلمه لا يشركه فيه غيره . وكذلك قوله تبارك وتعالى : " وما يعلم تأويله إلا الله " . ولو كانت لواو في قوله : والراسخون للنسق لم يكن لقوله : كل من عند ربنا فائدة والله أعلم .
قلت : ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل يقول مجاهد غيره فقد روي عن ابن عباس أن الراسخين معطوف على اسم الله عز وجل ، وأنهم داخلون في علم المتشابه ، وأنهم مع علمهم به يقولون آمنا به ، وقاله الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم . ويقولون على هذا التأويل نصل على الحال من الراسخين ، كما قال :
الريح تبكي شجوها والبرق يلمع في الغمامة
وهذا البيت يحتمل المعنيين ، فيجوز أن يكون والبرق مبتدأ ، والخبر يلمع على التأويل الأول ، فيكون مقطوعا مما قبله . ويجوز أن يكون معطوفا على الريح ، ويلمع في موضع الحال على التأويل الثاني أي لا معا . واحتج قائلو هذه المقالة أيضا بأن الله سبحانه مدحهم بالرسوخ في العلم ، فكيف يمدحهم وهم جهال وقد قال ابن عباس أنا ممن يعلم تأويله . وقرأ مجاهد هذه الآية وقال : أنا ممن يعلم تأويله ، حكاه عنه إمام الحرمين أبو المعالي .
قلت : وقد رد بعض العلماء هذا القول إلى القول الأول فقال : وتقدير تمام الكلام عند الله أن معناه " وما يعلم تأويله إلا الله" يعني تأويل المتشابهات ، والراسخون في العلم يعلمون بعضه قائلين آمنا به كل من عند ربنا بما نصب من الدلائل في المحكم ومكن من رده إله . فإذا علموا تأويل بعضه ولم يعلموا البعض قالوا آمنا بالجميع كل من عند ربنا ، وما لم يحط به علمنا من الخفايا مما في شرعه الصالح فعلمه عند ربنا . فإن قال قائل : قد أشكل على الراسخين بعض تفسيره حتى قال ابن عباس : لا أدري ما الأواه ولا ما غسلين ، قيل له : هذا لا يلزم ، لأن ابن عباس قد عليم بعد ذلك ففسر ما وقف عليه . وجواب أقطع من هذا وهو أنه سبحانه لم يقل وكل راسخ فيجب هذا ، فإذا لم يعلمه أحد علمه الآخر . ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون التأويل وأطنب في ذلك ، وفي قوله عليه السلام لابن عباس :
" اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ما يبين لك ذلك " أي علمه معاني كتابك . والوقف على هذا يكون عند قوله " والراسخون في العلم " . قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر : وهو الصحيح ، فإن تسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب . وفي أي شئ هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع . لكن المتشابه يتنوع ، فمنه ما لا يعلم البتة كأمر الروح والساعة مما استأثر الله بغيبه ، وهذا لا يتعاطى علمه أحد لا ابن عباس ولا غيره . فمن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون علم المتشابه فإنما أراد هذا النوع ، وأما ما يمكن حمله على وجوه في اللغة ومناح في كلام العرب فيتأول ويعلم تأويله المستقيم ، ويزال منا فيه مما عسى أن يتعلق من تأويل غير مستقيم ، كقوله في عيسى وروح منه إلى غير ذلك . فلا يسمى أحد راسخا إلا بأن يعلم من هذا النوع كثيرا بحسب ما قدر له . وأما من يقول : إن المتشابه هو المنسوخ فيستقيم على قوله إدخال الراسخين في علم التأويل ، لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح .
والرسوخ : الثبوت في الشيء ، وكل ثابت راسخ ، واصله في الأجرام أن يرسخ الجبل والشجر في الأرض ، قال الشاعر :
لقد رسخت في الصدر مني مودة لليلى أبت آياتها أن تغيرا
ورسخ الإيمان في قلب فلان يرسخ رسوخا . وحكى بعضهم : رسخ الغدير : نضب ماؤه ، حكاه ابن فارس فهو من الأضداد . ورسخ ورضخ ورصن ورسب كله ثبت فيه . وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الراسخين في العلم فقال :
" هو من برت يمينه وصدق لسانه واستقال قلبه " فإن قيل : كيف كان في القرآن متشابه والله يقول :" وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم " . فكيف لم يجعله كله واضحا قيل له : الحكمة في ذلك والله أعلم أن يظهر فضل العلماء ، لأنه لو كان كله واضحا لم يظهر فضل بعضهم على بعض . وهكذا يفعل من يصنف تصنيفا يجعل بعضه واضحا وبعضه مشكلا ، ويترك للجثوة موضعا ، لأن ما هان وجوده قل بهاؤه . والله أعلم .
التاسعة : قوله تعالى : " كل من عند ربنا " فيه ضمير عائد على كتاب الله تعالى محكمه ومتشابهه ، والتقدير : كله من عند ربنا . وحذف الضمير لدلالة كل عليه ، إذ هي لفظة تقتضي الإضافة . ثم قال : وما يذكر إلا أولوا الألباب أي ما يقول هذا ويؤمن ويقف حيث وقف ويدع أتباع المتشابه إلا ذو لب ، وهو العقل . ولب كل شيء خالصه ، فلذلك قيل للعقل لب . و أولوا جمع ذو .
يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات, هن أم الكتاب, أي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد, ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم, فمن رد ما اشتبه إلى الواضح منه وحكم محكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى ومن عكس انعكس ولهذا قال تعالى " هن أم الكتاب " أي أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه "وأخر متشابهات" أي تحتمل دلالتها موافقة المحكم وقد تحتمل شيئاً آخر من حيث اللفظ والتركيب لا من حيث المراد. وقد اختلفوا في المحكم والمتشابه فروي عن السلف عبارات كثيرة فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وأحكامه وحدوده وفرائضه وما يؤمر به ويعمل به وعن ابن عباس أيضاً أنه قال المحكمات قوله تعالى: " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا " والايات بعدها. وقوله تعالى: " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " إلى ثلاث آيات بعدها ورواه ابن أبي حاتم وحكاه عن سعيد بن جبير به قال: حدثنا أبي حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن إسحاق بن سويد أن يحيى بن يعمر و أبا فاختة تراجعا في هذه الاية وهي " هن أم الكتاب وأخر متشابهات " فقال أبو فاختة : فواتح السور, وقال يحيى بن يعمر : الفرائض والأمر والنهي والحلال والحرام. وقال ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير : هن أم الكتاب لأنهن مكتوبات في جميع الكتب, وقال مقاتل بن حيان : لأنه ليس من أهل دين إلا يرضى بهن, وقيل في المتشابهات: المنسوخة والمقدم والمؤخر والأمثال فيه والأقسام وما يؤمن به ولا يعمل به, رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . وقيل هي الحروف المقطعة في أوائل السور قاله مقاتل بن حيان , وعن مجاهد المتشابهات يصدق بعضها بعضاً وهذا إنما هو في تفسير قوله "كتاباً متشابهاً مثاني" هناك ذكروا أن المتشابه هو الكلام الذي يكون في سياق واحد والمثاني هو الكلام في شيئين متقابلين كصفة الجنة وصفة النار وذكر حال الأبرار وحال الفجار ونحو ذلك. وأما ههنا فالمتشابه هو الذي يقابل المحكم, وأحسن ما قيل فيه هو الذي قدمنا وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله حيث قال منه آيات محكمات فهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم الباطل ليس لهن تصريف عما وضعن عليه, قال: والمتشابهات في الصدق ليس لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل ويحرفن عن الحق.
ولهذا قال تعالى "فأما الذين في قلوبهم زيغ" أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل "فيتبعون ما تشابه منه" أي إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه لأنه دافع لهم وحجة عليهم ولهذا قال الله تعالى: "ابتغاء الفتنة" أي الإضلال لأتباعهم إيهاماً لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن وهو حجة عليهم لا لهم كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وتركوا الاحتجاج بقوله "إن هو إلا عبد أنعمنا عليه" وبقوله "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون" وغير ذلك من الايات المحكمة المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله وعبد ورسول من رسل الله.
وقوله تعالى "وابتغاء تأويله" أي تحريفه على ما يريدون وقال مقاتل بن حيان و السدي يبتغون أن يعلموا ما يكون وما عواقب الأشياء من القرآن وقد قال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات" إلى قوله " أولو الألباب " فقال: " فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم" هكذا وقع الحديث في مسند الإمام أحمد من رواية ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها ليس بينهما أحد وهكذا رواه ابن ماجه من طريق إسماعيل بن علية و عبد الوهاب الثقفي كلاهما عن أيوب به ورواه محمد بن يحيى العبدي في مسنده عن عبد الوهاب الثقفي عن أيوب به وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب وكذا رواه غير واحد عن أيوب وقد رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أيوب به, ورواه أبو بكر بن المنذر في تفسيره من طريقين عن النعمان بن محمد بن الفضل السدوسي ولقبه عارم : حدثنا حماد بن زيد , حدثنا أيوب عن ابن أبي مليكة , عن عائشة به وتابع أيوب أبو عامر الخراز وغيره عن ابن أبي مليكة . فرواه الترمذي عن بندار , عن أبي داود الطيالسي , عن أبي عامر الخراز , فذكره وهكذا رواه سعيد بن منصور في سننه عن حماد بن يحيى الأبح , عن عبد الله بن أبي مليكة , عن عائشة . ورواه ابن جرير من حديث روح بن القاسم و نافع بن عمر الجمحي , كلاهما عن ابن أبي مليكة , عن عائشة به . وقال نافع في روايته عن ابن أبي مليكة : حدثتني عائشة , فذكره. وقد روى هذا الحديث البخاري عند تفسير هذه الاية, و مسلم في كتاب القدر من صحيحه, و أبو داود في السنة من سننه, ثلاثتهم عن القعنبي , عن يزيد بن إبراهيم التستري , عن ابن أبي مليكة , عن القاسم بن محمد , عن عائشة رضي الله عنها, قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم, هذه الاية: "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات" إلى قوله: " وما يذكر إلا أولو الألباب " قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم" لفظ البخاري . وكذا رواه الترمذي أيضاً, عن بندار عن أبي داود الطيالسي , عن يزيد بن إبراهيم به ، وقال: حسن صحيح ، وذكر أن يزيد بن إبراهيم التستري تفرد بذكر القاسم في هذا الإسناد. وقد رواه غير واحد عن ابن أبي مليكة عن عائشة , ولم يذكر القاسم ، كذا قال. وقد رواه ابن أبي حاتم فقال: حدثنا أبي, حدثنا أبو الوليد الطيالسي , حدثنا يزيد بن إبراهيم التستري و حماد بن سلمة , عن ابن أبي مليكة , عن القاسم بن محمد , عن عائشة رضي الله عنها, قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم, عن قول الله تعالى: "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه " ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه, فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم" وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سهل , حدثنا الوليد بن مسلم , عن حماد بن سلمة , عن عبد الرحمن بن القاسم , عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها, قالت: نزع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الاية: " يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة", فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قد حذركم الله فإذا رأيتموهم فاعرفوهم" ورواه ابن مردويه من طريق أخرى عن القاسم عن عائشة به, وقال الإمام أحمد . حدثنا أبو كامل , حدثنا حماد عن أبي غالب , قال: سمعت أبا أمامة يحدث النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه" قال "هم الخوارج". وفي قوله تعالى: "يوم تبيض وجوه وتسود وجوه" قال "هم الخوارج" وقد رواه ابن مردويه من غير وجه, عن أبي غالب . عن أبي أمامة مرفوعاً فذكره, وهذا الحديث أقل أقسامه أن يكون موقوفاً من كلام الصحابي, ومعناه صحيح, فإن أول بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج, وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين, فكأنهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنه لم يعدل في القسمة, ففاجؤوه بهذه المقالة, فقال قائلهم وهو ذوالخويصرة ـ بقر الله خاصرته ـ: اعدل فإنك لم تعدل, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل, أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني". فلما قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب , وفي رواية خالد بن الوليد , رسول الله في قتله, فقال "دعه فانه يخرج من ضئضىء هذا, أي من جنسه قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم, وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم, يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية, فأينما لقيتموهم فاقتلوهم, فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم" ثم كان ظهورهم أيام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتلهم بالنهروان, ثم تشعبت منهم شعوب, وقبائل وآراء, وأهواء, ومقالات, ونحل كثيرة منتشرة, ثم نبعت القدرية, ثم المعتزلة, ثم الجهمية, وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في قوله "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قالوا: من هم يا رسول الله ؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي", أخرجه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة.
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو موسى حدثنا عمرو بن عاصم , حدثنا المعتمر عن أبيه , عن قتادة , عن الحسن بن جندب بن عبد الله , أنه بلغه عن حذيفة , أو سمعه منه, يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر "إن في أمتي قوماً يقرؤون القرآن, ينثرونه نثر الدقل يتأولونه على غير تأويله" لم يخرجوه.
وقوله تعالى "وما يعلم تأويله إلا الله" اختلف القراء في الوقف ههنا., فقيل: على الجلالة, كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: التفسير على أربعة أنحاء: فتفسير لا يعذر أحد في فهمه, وتفسير تعرفه العرب من لغاتها, وتفسير يعلمه الراسخون في العلم, وتفسير لا يعلمه إلا الله, ويروى هذا القول عن عائشة و عروة وأبي الشعثاء وأبي نهيك وغيرهم. وقد قال الحافظ أبو القاسم في المعجم الكبير : حدثنا هاشم بن مزيد , حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش , حدثني أبي, حدثني ضمضم بن زرعة , عن شريح بن عبيد , عن أبي مالك الأشعري , أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا, وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله "وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به" الاية, وأن يزداد علمهم فيضيعوه ولا يبالون عليه" غريب جداً. وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم , حدثنا أحمد بن عمرو , حدثنا هشام بن عمار , حدثنا ابن أبي حاتم , عن أبيه, عن عمرو بن شعيب , عن أبيه, عن ابن العاص , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: "إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً, فما عرفتم منه فاعملوا به, وما تشابه فآمنوا به" وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه, قال: كان ابن عباس يقرأ: وما يعلم تأويله إلا الله, ويقول الراسخون آمنا به, وكذا رواه ابن جرير عن عمر بن عبد العزيز و مالك بن أنس أنهم يؤمنون به ولا يعلمون تأويله, وحكى ابن جرير أن في قراءة عبد الله بن مسعود : إن تأويله إلا عند اللهو والراسخون في العلم يقولون آمنا به, وكذا عن أبي بن كعب , واختار ابن جرير هذا القول.
ومنهم من يقف على قوله: "والراسخون في العلم", وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول, وقالوا: الخطاب بما لا يفهم بعيد, وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد , عن ابن عباس أنه قال: أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله, وقال ابن أبي نجيح , عن مجاهد : والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به, وكذا قال الربيع بن أنس , وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفرالزبير : "وما يعلم تأويله" الذي أراد ما أراد "إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به", ثم ردوا تأويل المتشابهات على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد, فاتسق بقولهم الكتاب وصدق بعضه بعضاً, فنفذت الحجة, وظهر به العذر, وزاح به الباطل, ودفع به الكفر, وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس , فقال "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" ومن العلماء من فصل في هذا المقام وقال: التأويل يطلق, ويراد به في القرآن معنيان: أحدهما التأويل بمعنى حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه, ومنه قوله تعالى: "وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل" وقوله "هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله" أي حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد, فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله عز وجل, ويكون قوله "والراسخون في العلم" مبتدأ و "يقولون آمنا به" خبره, وأما إن أريد بالتأويل المعنى الاخر, وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشيء كقوله "نبئنا بتأويله" أي بتفسيره, فإن أريد به هذا المعنى, فالوقف على "والراسخون في العلم" لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار, وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه, وعلى هذا يكون قوله: "يقولون آمنا به" حالاً منهم, وساغ هذا, وأن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه, كقوله " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم " إلى قوله " يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا " الاية, وقوله تعالى: "وجاء ربك والملك صفاً صفاً" أي وجاءت الملائكة صفوفاً صفوفاً.
وقوله إخباراً عنهم "يقولون: آمنا به", أي المتشابه, "كل من عند ربنا" أي الجميع من المحكم, والمتشابه حق وصدق, وكل واحد منهما يصدق الاخر ويشهد له, لأن الجميع من عند الله وليس شيء من عند الله بمختلف ولا متضاد, لقوله: "أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً", ولهذا قال تعالى: " وما يذكر إلا أولو الألباب " أي إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولوا العقول السليمة والفهوم المستقيمة, وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف الحمصي , حدثنا نعيم بن حماد , حدثنا فياض الرقي , حدثنا عبد الله بن يزيد وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنساً وأبا أمامة وأبا الدرداء رضي الله عنهم قال: حدثنا أبو الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, سئل عن الراسخين في العلم, فقال: "من برت يمينه, وصدق لسانه, واستقام قلبه, ومن أعف بطنه وفرجه, فذلك من الراسخين في العلم", وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق , حدثنا معمر عن الزهري , عن عمرو بن شعيب , عن أبيه عن جده, قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً يتدارؤون, فقال "إنما هلك من كان قبلكم بهذا, ضربوا كتاب الله بعضه ببعض, وإنما أنزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً, فلا تكذبوا بعضه ببعض, فما علمتم منه فقولوا, وما جهلتم فكلوه إلى عالمه" وتقدم رواية ابن مردويه لهذا الحديث من طريق هشام بن عمار , عن ابن أبي حازم , عن أبيه, عن عمرو بن شعيب به, وقد قال أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا زهير بن حرب , حدثنا أنس بن عياض , عن أبي حازم , عن أبي سلمة , قال: لا أعلمه إلا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال "نزل القرآن على سبعة أحرف, والمراء في القرآن كفر ـ قالها ثلاثاً ـ ما عرفتم منه فاعملوا به, وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه جل جلاله" وهذا إسناد صحيح, ولكن فيه علة بسبب قول الراوي لا أعلمه إلا عن أبي هريرة , وقال ابن المنذر في تفسيره: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم , حدثنا ابن وهب , قال: أخبرني نافع بن يزيد , قال: يقال: الراسخون في العلم المتواضعون لله, المتذللون لله في مرضاته, لا يتعاظمون على من فوقهم ولا يحقرون من دونهم, ثم قال تعالى مخبراً أنهم دعوا ربهم قائلين "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا", أي لا تملها عن الهدي بعد إذ أقمتها عليه ولا تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ, الذين يتبغون ما تشابه من القرآن, ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم, ودينك القويم, "وهب لنا من لدنك" أي من عندك "رحمة" تثبت بها قلوبنا وتجمع بها شملنا, وتزيدنا بها إيماناً وإيقاناً, "إنك أنت الوهاب".
قال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي , وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب , قالا جميعاً: حدثنا وكيع عن عبد الحميد بن بهرام , عن شهر بن حوشب , عن أم سلمة , أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" ثم قرأ "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب", ورواه ابن مردويه من طريق محمد بن بكار , عن عبد الحميد بن بهرام , عن شهر بن حوشب , عن أم سلمة , وهي أسماء بنت يزيد بن السكن , سمعها تحدث: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم, كان يكثر من دعائه "اللهم مقلب القلوب, ثبت قلبي على دينك قالت قلت: يا رسول الله, وإن القلب ليتقلب ؟ قال: نعم, ماخلق الله من بني آدم من بشر إلا قلبه بين أصبعين من أصابع الله عز وجل, فإن شاء أقامه, وإن شاء أزاغه" فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا, ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب ـ وهكذا رواه ابن جرير من حديث أسد بن موسى , عن عبد الحميد بن بهرام به مثله, رواه أيضاً عن المثنى عن الحجاج بن منهال عن عبد الحميد بن بهرام به مثله, وزاد: "قلت يا رسول الله, ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي ؟ قال: بلى, قولي اللهم رب النبي محمد, اغفر لي ذنبي, وأذهب غيظ قلبي, وأجرني من مضلات الفتن " , ثم قال ابن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد , حدثنا محمد بن هارون بن بكار الدمشقي , حدثنا العباس بن الوليد الخلال , أخبرنا يزيد بن يحيى بن عبيد الله , أخبرنا سعيد بن بشير عن قتادة , عن حسان الأعرج , عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قلت: يا رسول الله, ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء, فقال : ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن, إذا شاء أن يقيمه أقامه, وإذا شاء أن يزيغه أزاغه, أما تسمعين قوله "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب "" غريب من هذا الوجه, ولكن أصله ثابت في الصحيحين وغيرهما من طرق كثيرة بدون زيادة ذكر هذه الاية الكريمة, وقد رواه أبو داود والنسائي وابن مردويه من حديث أبي عبد الرحمن المقري , زاد النسائي وابن حبان وعبد الله بن وهب كلاهما عن سعيد بن أبي أيوب : حدثني عبد الله بن الوليد التجيبي عن سعيد بن المسيب , عن عائشة رضي الله عنها. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, كان إذا استقيظ من الليل قال "لا إله إلا أنت, سبحانك, اللهم إني أستغفرك لذنبي, وأسألك رحمة, اللهم زدني علماً ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني, وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب" لفظ ابن مردويه . وقال عبد الرزاق عن مالك عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك عن عبادة بن نسي أنه أخبره أنه سمع قيس بن الحارث يقول: أخبرني أبو عبد الله الصنابحي أنه صلى وراء أبي بكرالصديق رضي الله عنه المغرب, فقرأ أبو بكر في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورتين من قصار المفصل, وقرأ في الركعة الثالثة, قال: فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه, فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الاية: "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا" الاية. قال أبو عبيد : وأخبرني عبادة بن نسي أنه كان عند عمر بن عبد العزيز في خلافته, فقال عمر لقيس : كيف أخبرتني عن أبي عبد الله ؟ قال عمر : فما تركناها منذ سمعناها منه وإن كنت قبل ذلك لعلى غير ذلك, فقال له رجل: على أي شيء كان أمير المؤمنين قبل ذلك, قال: كنت أقرأ "قل هو الله أحد", وقد روى هذا الأثر الوليد بن مسلم عن مالك والأوزاعي , كلاهما عن أبي عبيد به, وروى هذا الأثر الوليد أيضاً عن ابن جابر , عن يحيى بن يحيى الغساني , عن محمود بن لبيد , عن الصنابحي , أنه صلى خلف أبي بكر المغرب, فقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة قصيرة يجهر بالقراءة, فلما قام إلى الثالثة, ابتدأ القراءة, فدنوت منه حتى إن ثيابي لتمس ثيابه, فقرأ هذه الاية "ربنا لا تزغ قلوبنا" الاية.
وقوله "ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه" أي يقولون في دعائهم: إنك يا ربنا ستجمع بين خلقك يوم معادهم, وتفصل بينهم وتحكم فيهم فيما اختلفوا فيه, وتجزي كلاً بعمله وما كان عليه في الدنيا من خير وشر.
الكتاب هو القرآن، فاللام للعهد، وقدم الظرف وهو عليك لما يفيده من الاختصاص. وقوله: 7- "منه آيات محكمات" الموافق لقواعد العربية أن يكون الظرف خبراً مقدماً، والأولى بالمعنى أن يكون مبتدأ تقديره من الكتاب آيات بينات على نحو ما تقدم في قوله: "ومن الناس من يقول" وإنما كان أولى، لأن المقصود انقسام الكتاب إلى قسمين المذكورين لا مجرد الإخبار عنهما بأنهما من الكتاب، والجملة حالية في محل نصب أو مستأنفة لا محل لها. وقد اختلف العلماء في تفسير المحكمات والمتشابهات على أقوال: فقيل إن المحكم ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل، ومن القائلين بهذا جابر بن عبد الله والشعبي وسفيان الثوري، قالوا: وذلك نحو الحروف المقطعة في أوائل السور، وقيل: المحكم ما لا يحتمل وجهاً واحداً، والمتشابه ما يحتمل وجوهاً فإذا ردت إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكماً، وقيل: إن المحكم ناسخه وجرامه وحلاله وفرائضه وما نؤمن به ونعمل عليه، والمتشابه منسوخه وأمثاله وأقسامه وما نؤمن به ولا نعمل به. روي هذا عن ابن عباس، وقيل المحكم: الناسخ، والمتشابه: المنسوخ، روي عن ابن مسعود وقتادة والربيع والمتشابه: ما فيه تصريف وتحريم وتأويل قاله مجاهد وابن إسحاق. قال ابن عطية: وهذا أحسن الأقوال، وقيل المحكم: ما كان قائماً بنفسه لا يحتاج إلى أن يرجع إلى غيره، والمتشابه: ما يرجع فيه إلى غيره. قال النحاس: وهذا أحسن ما قيل في المحكمات والمتشابهات. قال القرطبي: ما قاله النحاس يبين ما اختاره ابن عطية وهو الجاري على وضع اللسان، وذلك أن المحكم إسم مفعول من أحكم، والإحكام: الإتقان، ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردد، إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته وإتقان تركيبها، ومتى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال. وقال ابن خويز منداد للمتشابه وجوه ما اختلف فيه العلماء أي الآيتين نسخت الأخرى، كما في الحامل المتوفى عنها زوجها، فإن من الصحابة من قال: إن آية وضع الحمل نسخت آية الأربعة الأشهر والعشر، ومنهم من قال العكس. وكاختلافهم في الوصية للوارث، وكتعارض الأقيسة، هذا معنى كلامه.
والأولى أن يقال: إن المحكم هو الواضح المعنى الظاهر الدلالة، إما باعتبار نفسه أو باعتبار غيره، والمتشابه ما لا يتضح معناه، أو لا تظهر دلالته لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره. وإذا عرفت هذا عرفت أن هذا الاختلاف الذي قدمناه ليس كما ينبغي، وذلك لأن أهل كل قول عرفوا المحكم ببعض صفاته، وعرفوا المتشابه بما يقابلها. وبيان ذلك أن أهل القول الأول جعلوا المحكم ما وجد إلى عمله سبيل، والمتشابه ما لا سبيل إلى علمه، ولا شك أن مفهوم المحكم والمتشابه أوسع دائرة مما ذكروه، فإن مجرد الخفاء أو عدم الظهور أو الاحتمال أو التردد يوجب التشابه، وأهل القول الثاني خصوا المحكم بما ليس فيه احتمال، والمتشابه بما فيه احتمال، ولا شك أن ذها بعض أوصاف المحكم والمتشابه لا كلها، وهكذا أهل القول الثالث فإنهم خصوا كل واحد من القسمين بتلك الأوصاف المعينة دون غيرها، وأهل القول الرابع خصوا كل واحد منهما ببعض الأوصاف التي ذكرها أهل القول الثالث، والأمر أوسع مما قالوا جميعاً، وأهل القول الخامس خصوا المحكم بوصف عدم التصريف والتحريف، وجعلوا المتشابه مقابله، وأهملوا ما هو أهم من ذلك مما لا سبيل إلى عمله من دون تصريف وتحريف كفواتح السور المقطعة، وأهل القول السادس خصوا المحكم بما يقوم بنفسه، والمتشابه بما لا يقوم بها، وأن هذا هو بعض أوصافهما، وصاحب القول السابع وهو ابن خويز منداد عمد إلى صورة الوفاق فجعلها محكماً، وإلى صورة الخلاف والتعارض فجعلها متشابهاً، فأهمل ما هو أخص أوصاف كل واحد منهما من كونه باعتبار نفسه مفهوم المعنى أو غير مفهوم. قوله: "هن أم الكتاب" أي: أصله الذي يعتمد عليه، ويرد ما خالفه إليه وهذه الجملة صفة لما قبلها. قوله: "وأخر متشابهات" وصف لمحذوف مقدر: أي وآيات أخر متشابهات وهي جمع أخرى، وإنما لم ينصرف لأنه عدل بها عن الآخر، لأن أصلها أن يكون كذلك. وقال أبو عبيد: لم ينصرف لأن واحدها لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، وأنكر ذلك المبرد. وقال الكسائي: لم تنصرف لأنها صفة، وأنكره أيضاً المبرد. وقال سيبويه: لا يجوز أن يكون أخر معدولة عن الألف واللام لأنها لو كانت معدولة عنها لكان معرفة، ألا ترى أن سحر معرفة في جميع الأقاويل لما كانت معدولة. قوله: "فأما الذين في قلوبهم زيغ" الزيغ: الميل: ومنه زاغت الشمس وزاغت الأبصار، ويقال: زاغ يزيغ زيغاً: إذا ترك القصد، ومنه قوله تعالى: "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم" وهذه الآية تعم كل طائفة من الطوائف الخارجة عن الحق. وسبب النزول نصارى نجران كما تقدم، وسيأتي. قوله: "فيتبعون ما تشابه منه" أي: يتعلقون بالمتشابه من الكتاب فيشككون به على المؤمنين، ويجعلونه دليلاً على ما هم فيه من البدعة المائلة عن الحق، كما تجده في كل طائفة من طوائف البدعة، فإنهم يتلاعبون بكتاب الله تلاعباً شديداً، ويوردون منه لتفيق جهلهم ما ليس من الدلالة في شيء. قوله: "ابتغاء الفتنة" أي: طلباً لتأويله على الوجه الذي يريدونه ويوافق مذاهبهم الفاسدة. قال الزجاج: معنى ابتغائهم تأويله: أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم، فأعلم الله عز وجل أن تأويل ذلك ووقته لا يعلمه إلا الله. قال: والدليل على ذلك قوله: "هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله" أي: يوم يرون ما يوعدون من البعث والنشور والعذاب "يقول الذين نسوه" أي تركوه "قد جاءت رسل ربنا بالحق" أي: قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل. قوله: "وما يعلم تأويله إلا الله" التأويل يكون بمعنى التفسير، كقولهم تأويل هذه الكلمة على كذا: أي تفسيرها، ويكون بمعنى ما يؤول الأمر إليه، واشتقاقه من آل الأمر إلى كذا يؤول إليه: أي صار، وأولته تأويلاً: أي صيرته، وهذه الجملة حالية: أي يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله، والحال أن ما يعلم تأويله إلا الله. وقد اختلف أهل العلم في قوله: "والراسخون في العلم" هل هو كلام مقطوع عما قبله أو معطوف على ما قبله؟ فتكون الواو للجميع، فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع عما قبله، وأن الكلام تم عند قوله: "إلا الله" هذا قول ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وأبي الشعثاء وأبي نهيك وغيرهم، وهو مذهب الكسائي والفراء والأخفش وأبي عبيد وحكاه ابن جرير الطبري عن مالك واختاره. وحكاه الخطابي عن ابن مسعود وأبي بن كعب قال: وإنما روي عن مجاهد أنه نسق الراسخين على ما قبله، وزعم أنهم يعلمونه، قال: واحتج له بعض أهل اللغة فقال: معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين: "آمنا به" وزعم أن موضع "يقولون" نصب على الحال وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه، لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معاً، ولا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل، فإذا لم يظهر فعل لم يكن حالاً، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال: عبد الله راكباً، يعني: أقبل عبد الله راكباً، وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله: عبد الله يتكلم يصلح بين الناس، فكان يصلح حالاً كقول الشاعر: أنشدنيه أبو عمرو قال: أنشدنا أبو العباس ثعلب:
أرسلت فيها رجلاً لكالكا يقصر يمشي ويطول باركا
فكان قول عامة العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده. وأيضاً فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه شيئاً عن الخلق وينسبه لنفسه فيكون له في ذلك شريك، ألا ترى قوله عز وجل: "قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله"، وقوله: "لا يجليها لوقتها إلا هو"، وقوله: "كل شيء هالك إلا وجهه" فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه به لا يشركه فيه غيره، وكذلك قوله تعالى: "وما يعلم تأويله إلا الله" ولو كانت الواو في قوله: "والراسخون" للنسق لم يكن لقوله: "كل من عند ربنا" فائدة انتهى. قال القرطبي: ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره. فقد روي عن ابن عباس أن الراسخين معطوف على اسم الله عز وجل، وأنهم داخلون في علم المتشابه، وأنهم مع علمهم به يقولون: آمنا به. وقال الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم، و"يقولون" على هذا التأويل نصب على الحال من الراسخون كما قال:
الريح يبكي شجوه والبرق يلمع في الغمامه
وهذا البيت يحتمل المعنيين، فيجوز أن يكون والبرق مبتدأ والخبر يلمع على التأويل الأول فيكون مقطوعاً مما قبله، ويجوز أن يكون معطوفاً على الريح، ويلمع في موضع الحال على التأويل الثاني أي لامعاً انتهى. ولا يخفاك أن ما قاله الخطابي في وجه امتناع كون قوله: "يقولون آمنا به" حالاً من أن العرب لا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل إلى آخر كلامه لا يتم إلا على فرض أنه لا فعل هنا، وليس الأمر كذلك، فالفعل مذكور، وهو قوله: "وما يعلم تأويله" ولكنه جاء الحال من المعطوف، وهو قوله: "والراسخون" دون المعطوف عليه، وهو قوله: "إلا الله" وذلك جائز في اللغة العربية. وقد جاء مثله في الكتاب العزيز. ومنه قوله تعالى: "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم" إلى قوله: " والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا " الآية، وكقوله: "وجاء ربك والملك صفاً صفاً" أي: وجاءت الملائكة صفاً صفاً، ولكن ها هنا مانع آخر من جعل ذلك حالاً، وهو أن تقييد علمهم بتأويله بحال كونهم قائلين: آمنا به ليس بصحيح، فإن الراسخين في العلم على القول بصحة العطف على الإسم الشريف يعلمونه في كل حال من الأحوال لا في هذه الحالة الخاصة، فاقتضى هذا أن جعل قوله: "والراسخون في العلم" مبتدأ خبره: "يقولون"، ومن جملة ما استدل به القائلون بالعطف أن الله سبحانه مدحهم بالرسوخ في العلم، فكيف يمدحهم وهم لا يعلمون ذلك؟ ويجاب عن هذا بأن تركهم لطلب علم ما لم يأذن الله به، ولا جعل لخلقه إلى عمله سبيلاً هو من رسوخهم، لأنهم عملوا أن ذلك مما استأثر الله بعلمه وأن الذين يتبعونه هم الذين في قلوبهم زيغ، وناهيك بهذا من رسوخ. وأصل الرسوخ في لغة العرب: الثبوت في الشيء، وكل ثابت راسخ، وأصله في الأجرام أن ترسخ الخيل أو الشجر في الأرض، ومنه قول الشاعر:
لقد رسخت في الصدر مني مودة لليلى أبت آياتها أن تغيرا
فهؤلاء ثبتوا في امتثال ما جاءهم عن الله من ترك اتباع المتشابه، وإرجاع علمه إلى الله سبحانه. ومن أهل العلم من توسط بين المقامين فقال: التأويل يطلق ويراد به في القرآن شيئان: أحدهما التأويل بمعنى حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه، ومنه قوله: "هذا تأويل رؤياي"، وقوله: "هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله" أي: حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد، فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة، لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه إلا الله عز وجل، ويكون قوله: "والراسخون في العلم" مبتدأ، و"يقولون آمنا به" خبره. وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشيء كقوله: "نبئنا بتأويله" أي: بتفسيره فالوقف على "والراسخون في العلم" لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى هذا فيكون "يقولون آمنا به" حالاً منهم، ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون تأويله، وأطنب في ذلك، وهكذا جماعة من محققي المفسرين رجحوا ذلك. قال القرطبي: قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر: وهو الصحيح فإن تسميتهم راسخين تقضي بأنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب، وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع، لكن المتشابه يتنوع، فمنه ما لا يعلم ألبتة كأمر الروح والساعة مما استأثر الله بعلمه، وهذا لا يتعاطى علمه أحد، فمن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون علم المتشابه فإنما أراد هذا النوع. وأما ما يمكن حمله على وجوه في اللغة فيتأول ويعلم تأويله المستقيم ويزال ما فيه من تأويل غير مستقيم انتهى.
واعلم أن هذا الاضطراب الواقع في مقالات أهل العلم أعظم أسبابه اختلاف أقوالهم في تحقيق معنى المحكم والمتشابه. وقد قدمنا لك ما هو الصواب في تحقيقهما، ونزيدك ها هنا إيضاحاً وبياناً، فنقول: إن من جملة ما يصدق عليه تفسير المتشابه الذي قدمناه فواتح السور، فإنها غير متضحة المعنى، ولا ظاهرة الدلالة، لا بالنسبة إلى أنفسها لأنه لا يدرى من يعلم بلغة العرب، ويعرف عرف الشرع ما معنى آلم، آلمر، حم، طس، طسم ونحوها، لأنهلأيأتي لا يجد بيانها في شيء من كلام العرب ولا من كلام الشرع، فهي غير متضحة المعنى، لا باعتبارها نفسها، ولا باعتبارها أمر آخر يفسرها ويوضحها، ومثل ذلك الألفاظ المنقولة عن لغة العجم، والألفاظ الغريبة التي لا يوجد في لغة العرب ولا في عرف الشرع ما يوضحها، وهكذا ما استأثر الله بعلمه كالروح وما في قوله: "إن الله عنده علم الساعة" إلى آخر الآية، ونحو ذلك وهكذا ما كانت دلالته غير ظاهرة لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره كورود الشيء محتملاً لأمرين احتمالاً لا يترجح أحدهما على الآخر باعتبار ذلك الشيء في نفسه، وذلك كالألفاظ المشتركة مع عدم ورود ما يبين المراد من معنى ذلك المشترك من الأمور الخارجة، وكذلك ورود دليلين متعارضين تعارضاً كلياً بحيث لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر لا باعتبار نفسه ولا باعتبار أمر آخر يرجحه. وأما ما كان واضح المعنى باعتبار نفسه بأن يكون معروفاً في لغة العرب أو في عرف الشرع أو باعتبار غيره وذلك كالأمور المجملة التي ورد بيانها في موضع آخر من الكتاب العزيز أو في السنة المطهرة أو الأمور التي تعارضت دلالتها، ثم ورد ما يبين راجحها من مرجوحها في موضع آخر من الكتاب أو السنة أو سائر المرجحات المعروفة عند أهل الأصول المقبولة عند أهل الإنصاف فلا شك ولا ريب أن هذه من المحكم لا من المتشابه ومن زعم أنها من المتشابه فقد اشتبه عليه الصواب، فاشدد يديك على هذا فإنك تنجو به من مضايق ومزالق وقعت للناس في هذا المقام حتى صارت كل طائفة تسمي ما دل لما ذهب إليه محكماً وما دل على ما يذهب إليه من يخالفها متشابهاً: سيما أهل علم الكلام، ومن أنكر هذا فعليه بمؤلفاتهم.
واعلم أنه قد ورد في الكتاب العزيز ما يدل على أنه جميعه محكم ولكن لا بهذا المعنى الوارد في هذه الآية بل بمعنى آخر، ومن ذلك قوله تعالى: "كتاب أحكمت آياته" وقوله: "تلك آيات الكتاب الحكيم" والمراد بالمحكم بهذا المعنى أنه صحيح الألفاظ قويم المعاني فائق في البلاغة والفصاحة على كل كلام وورد أيضاً ما يدل على أنه جميعه متشابه لكن لا بهذا المعنى الوارد في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها بل بمعنى آخر ومنه قوله تعالى: "كتاباً متشابها" والمراد بالمتشابه بهذا المعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الصحة والفصاحة والحسن والبلاغة. وقد ذكر أهل العلم لورود المتشابه في القرآن فوائد: منها أنه يكون في الوصول إلى الحق مع وجودها فيه مزيد صعوبة ومشقة، وذلك يوجب مزيد الثواب للمستخرجين للحق وهم الأئمة المجتهدون، وقد ذكر الزمخشري والرازي وغيرهما وجوهاً هذا أحسنها وبقيتها لا تستحق الذكر ها هنا. قوله: "كل من عند ربنا" فيه ضمير مقدر عائد على قسمي المحكم والمتشابه: أي كله، أو المحذوف غير ضمير: أي كل واحد منهما وهذا من تمام المقول المذكور قبله. وقوله: " وما يذكر إلا أولو الألباب " أي العقول الخالصة: وهم الراسخون في العلم، الواقفون عند متشابهه، العالمون بمحكمه العاملون بما أرشدهم الله إليه في هذه الآية.
7-قوله تعالى:" هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات" مبينات مفصلات، سميت محكمات من الاحكام ، كأنه أحكمها فمنع الخلق من التصرف فيها لظهورها ووضوح معناها"هن أم الكتاب" أي أصله الذي يعمل عليه في الاحكام ، وإنما قال:"هن أم الكتاب" ولم يقل امهات الكتاب ان الايات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة ، وكلام الله واحد وقيل: معناه كل آية منهن ام الكتاب كما قال: " وجعلنا ابن مريم وأمه آية" (50-المؤمنون) أي كل واحد منهما آية "وأخر" جمع أخرى ولم يصرفه لأنه معدول عن الآخر ، مثل: عمرو و زفر "متشابهات" فإن قيل كيف فرق هاهنا بين المحكم والمتشابه وقد جعل كل القرآن محكماً في موضع أخر ؟ .فقال:" الر كتاب أحكمت آياته "(1-هود) وجعله كله متشابهاً في موضع آخر فقال : " الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها " {23-الزمر).
قيل: حيث جعل الكل محكماً ، أراد أن الكل حق ليس فيه عبث ولا هزل، وحيث جعل الكل متشابهاً اراد بعضه يشبه بعضاً في الحق والصدق وفي الحسن، وجعل هاهنا بعضه محكماً وبعضه متشابهاً.
واختلف العلماء فيها، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: المحكمات هن الآيات الثلاث في صورة الأنعام " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " (151) ونظيرها في بني اسرائيل،" وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " (23-الإسراء) الآيات ، وعنه أنه قال: المتشابهات حروف التهجي في أوائل السور.
وقال مجاهدو عكرمه : المحكم ما فيه الحلال والحرام وما سوى ذلك متشابه يشبه بعضه بعضاً في الحق ويصدق بعضه بعضاً، كقوله تعالى:" وما يضل به إلا الفاسقين" (26-البقرة) " ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون " (100-يونس).
وقال قتاده والضحاك والسدى : المحكم الناسخ الذي يعمل به ، والمتشابه المنسوخ الذي يؤمن به ولا يعمل به . وروى علي بن أبي طلحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: محكمات القرآن ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به ، والمتشابهات منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولايعمل به ، وقيل : المحكمات ما أوقف الله الخلق على معناه والمتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه لاسبيل لاحد الى علمه ، نحو الخبر عن أشراط الساعة من خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام، وطلوع الشمس من مغربها ، وقيام الساعة، وفناء الدنيا.
وقال محمد بن جعفر بن الزبير : تلمحكم مالا يحتمل من التاويل غير وجه واحد ، والمتشابه ما احتمل وقيل: المحكم مايعرف معناه وتكون حججها واضحة ودلائلالها لائحة لا تشتبه ، والمتشابه هو الذي يدرك علمه بالنظر ، ولايعرف العوام تفصيل الحق فيه من الباطل . وقال بعضهم: المحكم مايستقل بنفسه في المعنى ، والمتشابه مالا يستقل بنفسه إلا برده الى غيره.
قال ابن عباسرضي الله عنهما في رواية (باذان): المتشابه حروف التهجي في أوائل السور ، وذلك أن رهطاً من اليهود منهم حيي بن اخطب و كعب بن الاشرف ونظراؤهما ، أتو النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له حيي: بلغنا أنه أنزل عليك (الم) فننشدك الله انزلت عليك ؟ قال: نعم قال: فإن كان ذلك حقاً فإني أعلم مدة ملك أمتك ، هي إحدى وسبعون سنة فهل أنزل غيرها؟ قال: نعم(المص) قال: فهذه اكثر هي إحدى وستون ومائة سنة، قال : فهل غيرها؟. قال : نعم(الر.قال: هذه أكثر هي مائتا وإحدى وسبعون سنة ولقد خلطت علينا فلا ندري أبكثيره نأخذ ام بقليله ونحن ممن لا يؤمن بهذا فأنزل الله تعالى:"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابها".
"فأما الذين في قلوبهم زيغ" أي ميل عن الحق وقيل شك" فيتبعون ما تشابه منه " واختلفوا في المعني بهذه الآية .قال الربيع: هم وفد نجران خاصموا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام ، وقالوا له : ألست تزعم انه كلمة الله وروح منه؟ قال:بلى قالوا: حسبنا ، فأنزل الله هذه الآية.
وقال الكلبي: هم اليهود طلبوا علم أجل هذه الأمة واستخراجها بحساب الجمل . وقال ابن جريح: هم المنافقون، وقال الحسن : هم الخوارج، وكان قتادة اذا قرأ هذه الآية:"فأما الذين في قلوبهم زيغ" قال: إن لم يكونوا الحرورية والسبأية فلا أدري من هم ، وقيل: هم جميع المبتدعة.
أخبرنا عبد الواحد بن احمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد ابن اسماعيل، أنا عبد الله بن مسلمة، أنا يزيد بن ابراهيم التستري ، عن ابن أبي مليكة ، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنهما قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات"- إلى قوله اولو الألباب قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رأيت الذي يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم.
قوله تعالى:"ابتغاء الفتنة" طلب الشرك قاله الربيع والسدي ، وقالمجاهد : ابتغاء الشبهات واللبس ليضلوا بها جهالهم"وابتغاء تأويله" تفسيره وعلماه، ودليله قوله تعالى:" سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا " (78-الكهف) وقيل: ابتغاؤه عاقبته، وهو طلب أجل هذه الأمة من حساب الجمل ، دليله قوله تعالى"ذلك خير وأحسن تأويلا"(350-الإسراء) أي عاقبة.
قوله تعالى :"وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم" اختلف العلماء في نظم هذه الآية فقال قوم:الواو في قوله والرساخون واو العطف يعني: أن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم وهم مع علمهم"يقولون آمنا به" وهذا قول مجاهد والربيع ، وعلى هذا يكون قوله " يقولون" حالا معناه: والراسخون في العلم قائلين آمنا به ، هذا كقوله تعالى:/"ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى"(7-الحشر)ثم قال: "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم" (8-الحشر) إلى أن قال: " والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم "(9- الحشر) ثم قال " والذين جاؤوا من بعدهم"(10-الحشر) وهذا عطف على ماسبق، ثم قال:"يقولون ربنا اغفر لنا"(10-الحشر) يعني هم مع استحقاقهم الفئ يقولون ربنا اغفر لنا، أي قائلين على الحال.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما انه كان يقول في هذه الآية: أنا من الراسخين في العم ، وروي عن مجاهد :أنا ممن يعلم تاويله .
وذهب الأكثرون الى ان الواو في قوله "والراسخون" واو الاستئناف ، وتم الكلام عند قوله:"وما يعلم تأويله إلا الله" وهو قول ابي بن كعب و عائشة وعروة بن الزبير رضي الله عنهم و راوية طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وبه قال الحسن وأكثر التابعين واختاره الكسائيوالفراءوالأخفش ، وقالوا: لا يعلم تأويل المتشابه الا الله ويجوز أن يكون للقرآن تأويل استأثر الله بعلمه لم يطلع عليه أحداً من خلقه ، كما استاثر بعلم الساعة ، ووقت طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدجال ، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام ، ونحوها، والخلق متعبدون في المتشابه بالايمان به، وفي المحكم بالإيمان به والعمل، ومما يصدق ذلك قراءة عبد الله ان تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ، وفي حرف أبي : ويقول الراسخون في العم آمنابه.
وقال عمر بن عبد العزيز : في هذه الآية انتهى علم الراسخين في العلم بتاويل القرآن إلى أن قالوا آمنا به كل من عند ربنا. وهذا قو قيس في العربية وأشبه بظاهر الآية.
قوله تعالى:" والراسخون في العلم" أي الداخلون في العم، هم الذين أتقنوا علمهم بحيث لا يدخل في معرفتهم شكن وأصله من رسوخ الشئ في الشئ وهو ثبوته يقال: رسخ الايمان في قلب فلان يرسخ رسخاً ورسوخاً، وقيل: الراسخون في العلم علماء مؤمني أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام واصحابه ، دليله قوله تعالى:"لكن الراسخون في العلم منهم"(162- النساء) يعني(المدارسين) علم التوراة وسئل مالك بن أنس رضي الله عنه عن الراسخين في العلم قال: العالم العامل بما علم المتبع له ، وقيل: الراسخ في العلم من وجد في علمه أربعة أشياء: التقوى بينه وبين الله ، والتواضع بينه وبين الخلق، والزهد بينه وبين الدنيا، والمجاهدة بينه وبين نفسه.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما و مجاهد والسدي : بقولهمآمنا به سماهم الله تعالى راسخين في العلم، فرسوخهم في العلم قولهم:آمنا به،أي بالمتشابه "كل من عند ربنا" المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ وما علمنا وما لم نعلم"وما يذكر"وما يتعظ بما في القرآن " إلا أولو الألباب " ذوو العقول.
7 " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات " أحكمت عبارتها بأن حفظت من الإجمال والإحتمال. " هن أم الكتاب " أصله يرد إليها غيرها والقياس أمهات فأفرد على تأويل كل واحدة، أو على أن الكل بمنزلة في آية واحدة. " وأخر متشابهات " محتملات لا يتضح مقصو دها - لإجمال أو مخالفة الظاهر - إلا بالفحص و النظر ليظهر فيها فضل العلماء، ويزداد حرصهم على أن يجتهدوا في تدبرها وتحصيل العلوم المتوقف على إستنباط المراد بها، فينالوا بها - وبإتعاب القرائح في إستخراج معانيها، والتوفيق لما بينها وبين المحكمات - معالي الدرجات. وأما قوله تعالى: " الر كتاب أحكمت آياته " فمعناه أنها حفظت من فساد المعنى وركاكة اللفظ، وقوله: " كتاباً متشابهاً " فمعناه أنه يشبه بعضه بعضاً في صحة المعنى وجزالة اللفظ، " وأخر " جمع أخرى وإنما لم ينصرف لأنه وصف معدول عن الآخر ولا يلزم منه معرفته، لأن معناه أن القياس أن يعرف ولم يعرف لا أنه في معنى المعرف أو عن " آخر " من " فأما الذين في قلوبهم زيغ " عدول عن الحق كالمبتدعة. " فيتبعون ما تشابه منه " فيتعلقون بظاهره أو بتأويل باطل " ابتغاء الفتنة " طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه. " وابتغاء تأويله " وطلب أن يأولوه على ما يشتهونه، ويحتمل أن يكون الداعي إلى الإتباع مجموع الطلبتين، أو كل واحدة منهما على التعاقب. والأول يناسب المعاند والثاني يلائم الجاهل. " وما يعلم تأويله " الذي يجب أن يحمل عليه. " إلا الله والراسخون في العلم " أي الذين ثبتوا وتمكنوا فيه، ومن وقف على " إلا الله " فسر المتشابه بما إستأثر الله بعلمه: كمدة بقاء الدنيا، ووقت قيام الساعة، وخواص الأعداد كعدد الزبانية، أو بمبادل القاطع على أن ظاهره غير مراد ولم يدل على ما هو المراد. " يقولون آمنا به " إستئناف موضع لحال " الراسخون "، أ, الحال منهم أو خبر أو جعلته مبتدأ. " كل من عند ربنا " أي كل من المتشابه والمحكم من عنده، " وما يذكر إلا أولو الألباب " مدح للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر، وإشارة إلى ماإستعدوا به للإهتداء إلى تأويله، وهو تجرد العقل من غواشي الحس، وإتصال الآية بما قبلها من حيث إنها تصوير الروح بالعلم وتربيته، وما قبلها في تصوير الجسد وتسويته، أو أنها جواب عن تثبت النصارى بنحو قوله تعالى: " وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ". كما أنه جواب عن قوله لا أب له غير الله، فتعين أن يكون هو أباهبأنه تعالى هو مصور الأجنة كيف يشاء فيصور
7. He it is Who hath revealed unto thee (Muhammad) the Scripture wherein are clear revelations. They are the substance of the Book. and others (which are) allegorical. But those in whose hearts is doubt pursue, forsooth, that which is allegorical seeking (to cause) dissension by seeking to explain it. None knoweth its explanation save Allah. And those who are of sound instruction say: We believe therein; the whole is from our Lord; but only men of understanding really heed.
7 - He it is who has sent down to thee the book: in it are verses basic or fundamental (of established meaning); they are the foundation of the book: others are allegorical. but those in whose hearts is perversity follow the part thereof that is allegorical, seeking discord, and searching for its hidden meanings, but no one knows its hidden meanings except go. and those who are firmly grounded in knowledge say: we believe in the book; the whole of it is from our lord: and none will grasp the message except men of understanding.