[آل عمران : 55] إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
اذكر (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك) قابضك (ورافعك إلي) إلي من الدنيا من غير موت (ومطهرك) مبعدك (من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك) صدّقوا بنبوتك من المسلمين والنصارى (فوق الذين كفروا) بك وهم اليهود يعلونهم بالحجة والسيف (إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) من أمر الدين
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه : ومكر الله بالقوم الذين حاولوا قتل عيسى، مع كفرهم بالله، وتكذيبهم عيسى فيما أتاهم به من عند ربهم، إذ قال الله جل ثناؤه: "إني متوفيك"، فـ"إذ" صلة من قوله : "ومكر الله"، يعني : ومكر الله بهم حين قال الله لعيسى إني متوفيك ورافعك إلي، فتوفاه ورفعه إليه.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى الوفاة التي ذكرها الله عز وجل في هذه الآية.
فقال بعضهم: هي وفاة نوم، وكان معنى الكلام على مذهبهم: إني منيمك ورافعك في نومك.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع في قوله: "إني متوفيك"، قال: يعني وفاة المنام، رفعه الله في منامه ، قال الحسن: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود: إن عيسى لم يمت ، وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة".
وقال آخرون : معنى ذلك : إني قابضك من الأرض ، فرافعك إلي. قالوا: ومعنى الوفاة ، القبض ، كما يقال : توفيت من فلان ما لي عليه، بمعنى : قبضته واستوفيته . قالوا: فمعنى قوله : "إني متوفيك ورافعك"، أي : قابضك من الأرض حياً إلى جواري، وآخذك إلى ما عندي بغير موت ، ورافعك من بين المشركين وأهل الكفر بك.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن ابن شوذب، عن مطر الوراق في قول الله : "إني متوفيك"، قال: متوفيك من الدنيا، وليس بوفاة موت.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله : "إني متوفيك"، قال: متوفيك من الأرض.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : "إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا"، قال : فرفعه إياه إليه ، توفيه إياه ، وتطهيره من الذين كفروا.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح : أن كعب الأحبار قال : ما كان الله عز وجل ليميت عيسى ابن مريم ، إنما بعثه الله داعياً ومبشراً يدعو إليه وحده ، فلما رأى عيسى قلة من اتبعه وكثرة من كذبه ، شكا ذلك إلى الله عز وجل ، فأوحى الله إليه : "إني متوفيك ورافعك إلي"، وليس من رفعته عندي ميتاً، وإني سأبعثك على الأعور الدجال فتقتله ، ثم تعيش بعد ذلك أربعاً وعشرين سنة، ثم أميتك ميتة الحي . قال كعب الأحبار: وذلك يصدق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "كيف تهلك أمة أنا في أولها، وعيسى في آخرها".
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: "يا عيسى إني متوفيك"، أي: قابضك.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: "إني متوفيك ورافعك إلي"، قال: "متوفيك": قابضك، قال: و "متوفيك" و "رافعك"، واحد، قال: ولم يمت بعد، حتى يقتل الدجال ، وسيموت. وقرأ قول الله عز وجل: "ويكلم الناس في المهد وكهلا"، قال: رفعه الله إليه قبل أن يكون كهلاً، قال: وينزل كهلاً.
حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قول الله عز وجل: "يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي"، الآية كلها، قال: رفعه الله إليه ، فهو عنده في السماء.
وقال آخرون: معنى ذلك : إني متوفيك وفاة موت.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس قوله : "إني متوفيك"، يقول: إني مميتك.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه اليماني أنه قال : توفى الله عيسى ابن مريم ثلاث ساعات من النهار حتى رفعه إليه.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق قال : والنصارى يزعمون أنه توفاه سبع ساعات من النهار، ثم أحياه الله.
وقال آخرون: معنى ذلك: إذ قال الله يا عيسى إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إنزالي إياك إلى الدنيا. وقال: هذا من المقدم الذي معناه التأخير، والمؤخر الذي معناه التقديم.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا، قول من قال: معنى ذلك: إني قابضك من الأرض ورافعك إلي، لتواتر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الدجال، ثم يمكث في الأرض مدة ذكرها، اختلفت الرواية في مبلغها، ثم يموت فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن محمد بن مسلم الزهري، عن حنظلة بن علي الأسلمي، عن أبي هريرة قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليهبطن الله عيسى ابن مريم حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً، يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يجد من يأخذه، وليسلكن الروحاء حاجاً أو معتمراً، أو ليثنين بهما جميعاً".
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق ، عن الحسن بن دينار، عن قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم ، عن أبي هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد. وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم، لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وأنه خليفتي على أمتي. وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه: فإنه رجل مربوع الخلق، إلى الحمرة والبياض، سبط الشعر، كأن شعره يقطر، وإن لم يصبه بلل، بين ممصرتين، يدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويفيض المال، ويقاتل الناس على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه الملل كلها، ويهلك الله في زمانه مسيح الضلالة الكذاب الدجال. وتقع في الأرض الأمنة حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمر مع البقر، والذئاب مع الغنم، وتلعب الغلمان بالحيات، لا يضر بعضهم بعضاً، فيثبت في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى، ويصلي المسلمون عليه ويدفنونه".
قال أبو جعفر: ومعلوم أنه لو كان قد أماته الله عز وجل، لم يكن بالذي يميته ميتةً أخرى، فيجمع عليه ميتتين، لأن الله عز وجل إنما أخبر عباده أنه يخلقهم ثم يميتهم ثم يحييهم ، كما قال جل ثناؤه : "الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء" [الروم: 40].
فتأويل الآية إذاً: قال الله لعيسى: يا عيسى، إني قابضك من الأرض ، ورافعك إلي ، ومطهرك من الذين كفروا فجحدوا نبوتك.
وهذا الخبر، وإن كان مخرجه مخرج خبر، فإن فيه من الله عز وجل احتجاجاً على الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى من وفد نجران بأن عيسى لم يقتل ولم يصلب كما زعموا، وأنهم واليهود الذين أقروا بذلك وادعوا على عيسى- كذبة في دعواهم وزعمهم، كما:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير: ثم أخبرهم -يعني الوفد من نجران- ورد عليهم فيما أقروا لليهود بصلبه ، كيف رفعه وطهره منهم ، فقال: "إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي".
وأما "مطهرك من الذين كفروا"، فإنه يعني: منظفك، فمخلصك ممن كفر بك ، وجحد ما جئتهم به من الحق من اليهود وسائر الملل غيرها، كما:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: "ومطهرك من الذين كفروا"، قال: إذ هموا منك بما هموا.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد، عن الحسن في قوله: "ومطهرك من الذين كفروا"، قال: طهره من اليهود والنصارى والمجوس ومن كفار قومه.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وجاعل الذين اتبعوك على منهاجك وملتك من الإسلام وفطرته ، فوق الذين جحدوا نبوتك وخالفوا سبيلهم [من] جميع أهل الملل ، فكذبوا بما جئت به وصدوا عن الإقرار به ، فمصيرهم فوقهم ظاهرين عليهم، كما:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: "وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"، هم أهل الإسلام الذين اتبعوه على فطرته وملته وسنته، فلا يزالون ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة.
حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: "وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"، ثم ذكر نحوه.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج: "وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"، ثم ذكر نحوه.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : "وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"، قال: ناصر من اتبعك على الإسلام ، على الذين كفروا إلى يوم القيامة.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي: "وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"، أما "الذين اتبعوك"، فيقال : هم المؤمنون ، ويقال : بل هم الروم.
حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد، عن الحسن: "وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"، قال: جعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة. قال: المسلمون من فوقهم ، وجعلهم أعلى ممن ترك الإسلام إلى يوم القيامة.
وقال آخرون: معنى ذلك : وجاعل الذين اتبعوك من النصارى فوق اليهود.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله: "ومطهرك من الذين كفروا"، قال: الذين كفروا من بني إسرائيل، "وجاعل الذين اتبعوك"، قال: الذين آمنوا به من بني إسرائيل وغيرهم، "فوق الذين كفروا"، النصارى فوق اليهود إلى يوم القيامة. قال: فليس بلد فيه أحد من النصارى، إلا وهم فوق يهود، في شرق ولا غرب ، هم في البلدان كلها مستذلون.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: "ثم إلي"، ثم إلى الله ، أيها المختلفون في عيسى، "مرجعكم"، يعني: مصيركم يوم القيامة، "فأحكم بينكم"، يقول : فأقضي حينئذ بين جميعكم في أمر عيسى بالحق، "فيما كنتم فيه تختلفون" من أمره.
وهذا من الكلام الذي صرف من الخبر عن الغائب إلى المخاطبة، وذلك أن قوله: "ثم إلي مرجعكم"، إنما قصد به الخبر عن متبعي عيسى والكافرين به.
وتأويل الكلام: وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ثم إلي مرجع الفريقين: الذين اتبعوك ، والذين كفروا بك ، فأحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون ، ولكن رد الكلام إلى الخطاب لسبوق القول، على سبيل ما ذكرنا من الكلام الذي يخرج على وجه الحكاية، كما قال: "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة" [يونس: 22].
قوله تعالى : " إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك " العامل في إذ مكروا ، أو فعل مضمر . وقال جماعة من أهل المعاني منهم الضحاك والفراء في قوله تعالى : " إني متوفيك ورافعك إلي " على التقديم والتأخير ، لأن الواو لا توجب الرتبة . والمعنى : إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد أن تنزل من السماء ، كقوله : " ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى " والتقدير ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما . قال الشاعر :
ألا يا نخلة من ذات عرق عليك ورحمة الله السلام
أي عليك السلام ورحمة الله ز وقال الحسن وابن جريج : معنى متوفيك قابضك ورافعك إلى السماء من غير موت ، مثل توفيت مالي من فلان أي قبضته . وقال وهب بن منبه : توفى الله عيسى عليه السلام ثلاث ساعات من نهار ثم رفعه إلى السماء . وهذا فيه بعد ، فإنه صح في الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم نزوله وقتله الدجال على ما بيناه في كتاب التذكرة ، وفي هذا الكتاب حسب ما تقدم ، ويأتي . وقال ابن زيد ك متوفيك قابضك ، ومتوفيك ورافعك واحد ولم يمت بعد . وروى ابن طلحة عن ابن عباس معنى متوفيك مميتك . الربيع بن أنس : وهي وفاة نوم ، قال الله تعالى : " وهو الذي يتوفاكم بالليل " أي ينيمكم لأن النوم أخو الموت ، كما قال صلى الله عليه وسلم سئل :
أفي الجنة نوم ؟ قال " لا ، النوم أخو الموت ن والجنة لا موت فيها " . أخرجه الدار قنطي . والصحيح أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة ولا نوم كما قال الحسن وابن زيد ، وهو اختيار الطبري ، وهو الصحيح عن ابن عباس ، وقاله الضحاك . قال الضحاك : كانت القصة لما أرادوا قتل عيسى اجتمع الحواريون في غرفة وهم اثنا عشر رجلا فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة فاخبر إبليس جمع اليهود فركب منهم أربعة آلاف رجل فأخذوا باب الغرفة . فقال المسيح للحواريين : أيكم يخرج ويقتل ويكون معي في الجنة ؟ فقال رجل : أنا يا نبي الله ، فألقى إليه مدرعة من صوف وعمامة من صوف وناوله عكازه وألقى عليه شبه عيسى ، فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه . وأما المسيح فكاه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار مع الملائكة . وذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما أراد الله تبارك وتعالى أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه وهم اثنا عشر رجلا من عين في البيت ورأسه يقطر ماء فقال لهم : أما إن منكم من سيكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي ، ثم قال : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي . فقام شاب من أحدثهم فقال أنا . فقال عيسى : اجلس ، ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال أنا . فقال عيسى : اجلس ثم عاد عليهم فقام الشاب فقال أنا فقال نعم أنت ذاك . فألقى الله عليه شبه عيسى عليه السلام . قال : ورفع الله تعالى عيسى من روزنة كانت في البيت إلى السماء . قال : وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبيه فقتلوه ثم صلبوه ، وكفر به بعضهم اثنتى عشرة مرة بعد أن آمن به ، فتفرقوا ثلاث فرق : قالت فرقة : كان فينا الله ما شاء ثم صعد إلى السماء ، وهؤلاء اليعقوبية . وقالت فرقة : كان فينا ابن الله ما شاء الله رفعه الله إليه وهؤلاء النسطورية . وقالت فرقة : كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه غليه ، وهؤلاء المسلمون . فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها ، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم فقتلوا ، فأنزل الله تعالى " فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا " أي آمن آباؤهم في زمن عيسى " على عدوهم " بإظهار دينهم على دين الكفار " فأصبحوا ظاهرين " . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد " . وعنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم بفخ الروحاء حاجا أو معتمرا أو ليثنينهما " ولا ينزل بشرع مبتدإ فينسخ به شريعتنا بل ينزل مجددا لما درس منها متبعها . كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم " . وفي رواية : " فأمكم منكم " . قال ابن أبي ذئب : تدري ما أمكم منكم ؟ . قلت : تخبرني . قال فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم وقد زدنا هذا الباب بيانا في كتاب التذكرة والحمد لله . و " متوفيك " أصله متوفيك حذفت الضمة استثقالا ، وهو خبر إن .
" ورافعك " عطف عليه ، وكذا " مطهرك " وكذا " وجاعل الذين اتبعوك " . ويجوز وجاعل الذين وهو الأصل . وقيل : إن الوقت التام عند قوله : " ومطهرك من الذين كفروا " . قال النحاس : وهو قول حسن . " وجاعل الذين اتبعوك " يا محمد " فوق الذين كفروا " أي بالحجة وإقامة البرهان . وقيل بالعز والغلبة . وقال الضحاك و محمد ابن أبان : المراد الحواريون . والله تعالى أعلم .
يقول تعالى: " فلما أحس عيسى " أي استشعر منهم التصميم على الكفر والاستمرار على الضلال, "قال من أنصاري إلى الله" قال مجاهد: أي من يتبعني إلى الله. وقال سفيان الثوري وغيره: أي من أنصاري مع الله, وقول مجاهد : أقرب. والظاهر أنه أراد من أنصاري في الدعوة إلى الله ؟ كما " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مواسم الحج قبل أن يهاجر من رجل يؤويني حتى أبلغ كلام ربي. فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي حتى وجد الأنصار, فآووه ونصروه وهاجر إليهم, فواسوه ومنعوه من الأسود والأحمر, رضي الله عنهم وأرضاهم " . وهكذا عيسى ابن مريم عليه السلام انتدب له طائفة من بني إسرائيل فآمنوا به ووازروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه, ولهذا قال الله تعالى مخبراً عنهم " قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون * ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين " الحواريون قيل: كانوا قصارين, وقيل: سموا بذلك لبياض ثيابهم, وقيل: صيادين. والصحيح أن الحواري الناصر, كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ندب الناس يوم الأحزاب, فانتدب الزبير ثم ندبهم, فانتدب الزبير رضي الله عنه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي حواري, وحواريي الزبير", وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج , حدثنا وكيع , حدثنا إسرائيل , عن سماك , عن عكرمة , عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله "فاكتبنا مع الشاهدين" قال: مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم, وهذا إسناد جيد. ثم قال تعالى مخبراً عن ملإ بني إسرائيل, فيما هموا به من الفتك بعيسى عليه السلام, وإرادته بالسوء والصلب حين تمالؤوا عليه, ووشوا به إلى ملك ذلك الزمان, وكان كافراً, أن هنا رجلاً يضل الناس ويصدهم عن طاعة الملك ويفسد الرعايا, ويفرق بين الأب وابنه, إلى غير ذلك مما تقلدوه في رقابهم ورموه به من الكذب, وأنه ولد زنية حتى استثاروا غضب الملك, فبعث في طلبه من يأخذه ويصلبه وينكل به, فلما أحاطوا بمنزله وظنوا أنهم قد ظفروا به, نجاه الله تعالى من بينهم ورفعه من روزنة ذلك البيت إلى السماء, وألقى الله شبهه على رجل ممن كان عنده في المنزل, فلما دخل أولئك اعتقدوه في ظلمة الليل عيسى, فأخذوه وأهانوه وصلبوه, ووضعوا على رأسه الشوك, وكان هذا من مكر الله بهم, فإنه نجى نبيه ورفعه من بين أظهرهم وتركهم في ضلالهم يعمهون, يعتقدون أنهم قد ظفروا بطلبتهم, وأسكن الله في قلوبهم قسوة وعناداً للحق ملازماً لهم, وأورثهم ذلة لا تفارقهم إلى يوم التناد, ولهذا قال تعالى: "ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين".
قوله 55- "إذ قال الله يا عيسى" العامل في إذ: مكروا، أو قوله "خير الماكرين" أو فعل مضمر تقديره وقع ذلك. وقال الفراء: إن في الكلام تقديماً وتأخيراً تقديره إني رافعك ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالك من السماء. وقال أبو زيد: متوفيك قابضك. وقال في الكشاف: مستوفي أجلك، ومعناه: إني عاصمك من أن يقتلك الكفار، ومؤخر أجلك إلى أجل كتبته لك، ومميتك حتف أنفك لا قتلاً بأيديهم. وإنما احتاج المفسرون إلى تأويل الوفاة بما ذكر، لأن الصحيح أن الله رفعه إلى السماء من غير وفاة، كما رجحه كثير من المفسرين، واختاره ابن جرير الطبري، ووجه ذلك أنه قد صح في الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم نزوله وقتله الدجال، وقيل: إن الله سبحانه توفاه ثلاث ساعات من نهار ثم رفعه إلى السماء، وفيه ضعف، وقيل: المراد بالوفاة هنا النوم ومثله "وهو الذي يتوفاكم بالليل" أي ينميكم، وبه قال كثيرون. قوله "ومطهرك من الذين كفروا" أي من حيث جوازهم برفعه إلى السماء وبعده عنهم. قوله "وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة" أي الذين اتبعوا ما جئت به وهم خلص أصحابه الذين لم يبلغوا في الغلو فيه إلى ما بلغ من جعله إلهاً، ومنهم المسلمون فإنهم اتبعوا ما جاء به، عيسى عليه السلام ووصفوه بما يستحقه من دون غلو، فلم يفرطوا في وصفه كما فرطت اليهود ولا أفرطوا كما أفرطت النصارى. وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل العلم. وقيل: المراد بالآية أن النصارى الذين هم أتباع عيسى لا يزالون ظاهرين على اليهود غالبين لهم قاهرين لمن وجد منهم، فيكون المراد بالذين كفروا هم اليهود خاصة، وقيل: هم الروم لا يزالون ظاهرين على من خالفهم من الكافرين، وقيل: هم الحواريون لا يزالون ظاهرين على من كفر بالمسيح، وعلى كل حال فغلبة النصارى لطائفة من الكفار أو لكل طوائف الكفار لا ينافي كونهم مقهورين مغلوبين بطوائف المسلمين كما تفيده الآيات الكثيرة، بأن هذه الملة الإسلامية ظاهرة على كل الملل، قاهرة لها مستعلية عليها. وقد أفردت هذه الآية بمؤلف سميته وبل الغمامة في تفسير "وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة" فمن رام استيفاء ما في المقام فليرجع إلى ذلك. والفوقية هنا هي أعم من أن تكون بالسيف أو بالحجة. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويحكم بين العباد بالشريعة المحمدية، ويكون المسلمون أنصاره وأتباعه إذ ذاك، فلا يبعد أن يكون في هذه الآية إشارة إلى هذه الحالة. قوله "ثم إلي مرجعكم" أي رجوعكم، وتقديم الظرف للقصر "فأحكم بينكم" يومئذ "فيما كنتم فيه تختلفون" من أمور الدين.أن
55-"إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي " اختلفوا في معنى التوفي ها هنا ، قال الحسن و الكلبي ،وابن جريح : أني قابضك ورافعك من الدنيا إلى من غير موت ، يدل عليه قوله تعالى :"فلما توفيتني"(117-المائدة) أي قبضتني إلى السماء وأنا حي ، لأن قومه انما تنصروا بعد رفعه 'إلى السماء لا بعد موته ، فعلى هذا للتوفي تأويلان ، أحدهما :إني رافعك إلى وافياً لم ينالوا منك شيئاً، من قولهم توفيت كذا واستوفيته إذا أخذته تاماً ، والآخر : أني (متسلمك) من قولهم توفيت منه كذا أي تسلمته ، وقال الربيع بن انس : المراد بالتوفي النوم (وكل ذي عين نائم) وكان عيسى قد نام فرفعه الله نائماً إلى السماء، معناه: أنى منوم ورافعك إلى كما قال الله تعالى :" وهو الذي يتوفاكم بالليل" (60-الأنعام ) أي ينيمكم.
وقال بعضهم : المراد بالتوفى الموت،روى (عن) علي بن طلحه عن إبن عباس رضي الله عنهما أن معناه : أني مميتك يدل عليه قوله تعالى :" قل يتوفاكم ملك الموت" (11-السجدة) فعلى هذا له تاويلان : أحدهما ما قاله وهب : توفى / الله عيسى ثلاث ساعات من النهار ثم رفعه الله إليه ، وقال محمد بن اسحاق : ان النصارى يزعمون ان الله تعالى توفاه سبع ساعات من النهار ثم أحياه ورفعه ، والآخر ما قاله الضحاك وجماعة : إن في هذه الآية تقديماً وتأخيراً معناه اني رافعك الي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالك من السماء.أخبرنا عبد الواحد بن احمد المليحي أخبرناعبد الرحمن بن أبي شريح،اخبرنا ابو القاسم عبد الله ابن محمد بن عبد العزيز البغوي ،أخبرنا علي بن الجعد ،أخبرنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشونعن ابن شهاب ، عنسعيد بن المسيب ،عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفس محمد بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عادلاً يكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ويضع الجزية ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد".
ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى عليه السلام قال:"وتهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ، ويهلك الدجال فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون".
وقيل للحسين بن الفضل هل تجد نزول عيسى في القرآن ؟ قال نعم (وكهلاً) ولم يكتهل ف الدنيا وإنما معناه وكهلاً بعد نزوله من السماء.
قوله تعالى:"ومطهرك من الذين كفروا" أي مخرجك من بينهم ومنجيك منهم " وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة " قال قتادة والربيع والشعبي و مقاتل والكلبي : هم أهل الإسلام الذين صدقوه واتبعوا دينه في التوحيد من أمه محمد صلى الله عليه وسلم فهم فوق الذين كفروا ظاهرين قاهرين بالعزة والمنعة والحدجة ، و قال الضحاك: يعني الحواريين فوق الذين كفروا ، وقيل: هم أهل الروم ، وقيل :أراد بهم النصارى فهم فوق اليهود الى يوم القيامة ، فغن اليهود قد ذهب ملكهم ن وملك النصارى دائم إلى قريب من قيام الساعة ، فعلى هذا يكون الاتباع بمعنى الادعاء والمحبة لا إتباع الذين "ثم إلي مرجعكم " في الآخرة "فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون " من أمر الدين وأمر عيسى.
55"إذ قال الله" ظرف لمكر الله أو خير الماكرين، أو المضمر مثل وقع ذلك. "يا عيسى إني متوفيك" أي مستوفي أجلك ومؤخرك إلى أجلك المسمى، عاصماً إياك من قتلهم، أو قابضك من الأرض من توفيت مالي، أو متوفيك نائماً إذ روي أنه رفع نائماً، أو مميتك إلى السماء وإليه ذهبت النصارى. " ورافعك إلي " إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي. "ومطهرك من الذين كفروا" من سوء جوازهم أو قصدهم " وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة " يعاونهم بالحجة أو السيف في غالب الأمر، ومتبعوه من آمن بنبوته من المسلمين والنصارى وإلى الآن لم تسمع غلبة لليهود عليهم ولم يتفق لهم ملك ودولة. " ثم إلي مرجعكم " الضمير لعيسى عليه الصلاة والسلام ومن تبعه ومن كفر به، وغلب المخاطبين على الغائبين. "فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون" من أمر الدين.
55. (And remember) when Allah said: O Jesus! Lo! I am gathering thee and causing thee to ascend unto Me, and am cleansing thee of those who disbelieve and am setting those who follow thee above those who disbelieve until the Day of Resurrection. Then unto Me ye will (all) return, and I shall judge between you as to that wherein ye used to differ.
55 - Behold God said: O Jesus I will take thee and raise thee to myself and clear thee (of the falsehoods) of those who blaspheme; I will make those who follow thee superior to those who reject faith, to the day of resurrection: then shall ye all return unto me, and I will judge between you of the matters wherein ye dispute.