[آل عمران : 185] كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ
(كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم) جزاء أعمالكم (يوم القيامة فمن زحزح) بعد (عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) نال غاية مطلوبة (وما الحياة الدنيا) أي العيش فيها (إلا متاع الغرور) الباطل يتمتع به قليلا ثم يفنى
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره : أن مصير هؤلاء المفترين على الله من اليهود، المكذبين برسوله ، الذين وصف صفتهم ، وأخبر عن جراءتهم على ربهم ، ومصير غيرهم من جميع خلقه تعالى ذكره ، ومرجع جميعهم ، إليه. لأنه قد حتم الموت على جميعهم ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : لا يحزنك تكذيب من كذبك ، يا محمد، من هؤلاء اليهود وغيرهم ، وافتراء من افترى علي ، فقد كذب قبلك رسل جاؤوا من الآيات والحجج من أرسلوا إليه ، بمثل الذي جئت من أرسلت إليه. فلك فيهم أسوة تتعزى بهم. ومصير من كذبك وافترى علي وغيرهم ومرجعهم إلي ، فأوفي كل نفس منهم جزاء عمله يوم القيامة، كما قال جل ثناؤه : "وإنما توفون أجوركم يوم القيامة"، يعني : أجور أعمالكم ، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، "فمن زحزح عن النار"، يقول : فمن نحي عن النار وأبعد منها، "فقد فاز"، يقول : فقد نجا وظفر بحاجته.
يقال منه : فاز فلان بطلبته ، يفوز فوزاً ومفازاً ومفازة، إذا ظفر بها.
وإنما معنى ذلك: فمن نحي عن النار فأبعد منها وأدخل الجنة، فقد نجا وظفر بعظيم الكرامة، "وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور"، يقول : وما لذات الدنيا وشهواتها وما فيها من زينتها وزخارفها، "إلا متاع الغرور"، يقول : إلا متعة يمتعكموها الغرور والخداع المضمحل الذي لا حقيقة له عند الامتحان ، ولا صحة له عند الاختبار. فأنتم تلتذون بما متعكم الغرور من دنياكم ، ثم هو عائد عليكم بالفجائع والمصائب والمكاره. يقول تعالى ذكره : ولا تركنوا إلى الدنيا فتسكنوا إليها، فإنما أنتم منها في غرور تمتعون ، ثم أنتم عنها بعد قليل راحلون.
وقد روي في تأويل ذلك، ما:
حدثني به المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا جويبر، عن الأعمش ، عن بكير بن الأخنس ، عن عبد الرحمن بن سابط في قوله : "وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور"، قال : كزاد الراعي ، تزوده الكف من التمر، أو الشيء من الدقيق ، أو الشيء يشرب عليه اللبن. فكان ابن سابط ذهب في تأويله هذا، إلى أن معنى الآية: وما الحياة الدنيا إلا متاع قليل ، لا يبلغ من تمتعه ، ولا يكفيه لسفره.وهذا التأويل ، وإن كان وجهاً من وجوه التأويل ، فإن الصحيح من القول فيه هو ما قلنا. لأن الغرور إنما هو الخداع في كلام العرب ، وإذ كان كذلك ، فلا وجه لصرفه إلى معنى القلة، لأن الشيء قد يكون قليلا ًوصاحبه منه في غير خداع ولا غرور.
وأما الذي هو في غرور، فلا القليل يصح له ولا الكثير مما هو منه في غرور. و الغرور مصدر من قول القائل : غرني فلان فهو يغرني غروراً بضم الغين. وأما إذا فتحت الغين من "الغرور"، فهو صفة للشيطان الغرور، الذي يغر ابن آدم حتى يدخله من معصية الله فيما يستوجب به عقوبته.
وقد:
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبدة وعبد الرحيم قالا، حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال :"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: موضع سوط في الجنة، خير من الدنيا وما فيها، واقرأوا إن شئتم : "وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور"".
فيه سبع مسائل :
الأولى : لما أخبر جل وتعالى عن الباخلين وكفرهم في قولهم : " إن الله فقير ونحن أغنياء " وأمر المؤمنين بالصبر على أذاهم في قوله ( لتبلون ) الآية ، بين أن ذلك مما ينقضي ولا يدوم ، فإن أمد الدنيا قريب ، ويوم القيامة يوم الجزاء ، " ذائقة الموت " من الذوق ، وهذا مما لا محيص عنه للإنسان ، ولا محيد عنه لحيوان ، وقد قال أمية بن أبي الصلت :
من لم يمت عبطة يمت هرماً للموت كأس والمرء ذائقها
وقال آخر :
الموت باب وكل الناس داخله فليت شعري بعد الباب ما الدار
الثانية : قراءة العامة : " ذائقة الموت " بالإضافة ، وقرأ الأعمش و يحيى و ابن أبي إسحاق ( ذائقة الموت ) بالتنوين ونصب الموت ، قالوا : لأنها لم تذق بعد ، وذلك أن اسم الفاعل على ضربين : أحدهما أن يكون بمعنى المضي ، والثاني بمعنى الاستقبال ، فإن أردت الأول لم يكن فيه إلا الإضافة إلى ما بعده ، كقولك : هذا ضارب زيد أمس ، وقاتل بكر أمس ، لأنه يجري مجرى الاسم الجامد وهو العلم ، نحو غلام زيد ، وصاحب بكر ، قال الشاعر :
الحافظو عورة العشيرة لا يأ تيهم من ورائهم وكف
وإن أردت الثاني جاز الجر ، والنصب والتنوين فيما هذا سبيله هو الأصل ، لأنه يجري مجرى الفعل المضارع ، فإن كان الفعل غير متعد ، لم يتعد نحو قائم زيد ، وإن كان متعدياً عديته ونصبت به ، فتقول : زيد ضارب عمراً بمعنى يضرب عمراً ، ويجوز حذف التنوين والإضافة تخفيفاً ، كما قال المرار :
سل الهمول بكل معطي رأسه ناج مخالط صهبة متعيس
مغتال أحبله مبين عنقه في منكب زبن المطي عرندس
فحذف التنوين تخفيفاً ، والأصل : معط رأسه بالتنوين والنصب ، ومثل هذا أيضاً في التنزيل قوله تعالى : " هل هن كاشفات ضره " [ الزمر : 38 ] ، وما كان مثله .
الثالثة : ثم أعلم أن للموت أسباباً وأمارات ، فمن علامات موت المؤمنعرق الجبين ، أخرجه النسائي من " حديث بريدة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : المؤمن يموت بعرق الجبين " ، وقد بيناه في التذكرة فإذا احتضر لقن الشهادة ، لقوله عليه السلام : " لقنوا موتاكم لا إله إلا الله " لتكون آخر كلامه فيختم له بالشهادة ، ولا يعاد عليه منها لئلا يضجر ، ويستحب قراءة يس ذلك الوقت ، لقوله عليه السلام : " اقرءوا يس على موتاكم " أخرجه أبو داود ، وذكر الآجري في كتاب النصيحة من حديث أم الدرداء " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من ميت يقرأ عنده سورة يس إلا هون عليه الموت " ، فإذا قضي وتبع البصر الروح كما أخبر صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وارتفعت العبادات ، وزال التكليف ، توجهت على الأحياء أحكام ، منها تغميضه ، وإعلام إخوانه الصلحاء بموته ، وكرهه قوم وقالوا : هو من النعي ، والأول أصح ، وقد بيناه في غير هذا الموضع ومنها الأخذ في تجهيزه بالغسل والدفن لئلا يسرع إليه التغير ، " قال صلى الله عليه وسلم لقوم أخروا دفن ميتهم : عجلوا بدفن جيفتكم " وقال : " أسرعوا بالجنازة " ، الحديث ، وسيأتي .
الثالثة : فأما غسله فهو سنة لجميع المسلمين حاشا الشهيد على ما تقدم ، وقيل غسله واجب ، قاله القاضي عبد الوهاب ، والأول : مذهب الكتاب ، وعلى هذين القولين العلماء ، وسبب الخلاف قوله عليه السلام لأم عطية في غسلها ابنته زينب ، على ما في كتاب مسلم ، وقيل : هي أم كلثوم ، على ما في كتاب أبي داود : " أغسلها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك " ، الحديث ، وهو الأصل عند العلماء في غسل الموتى فقيل : المراد بهذا الأمر بيان حكم الغسل فيكون واجباً ، وقيل : المقصود منه تعليم كيفية الغسل فلا يكون فيه ما يدل على الوجوب ، قالوا ويدل عليه قوله : ( إن رأيتن ذلك ) وهذا يقتضي إخراج ظاهر الأمر عن الوجوب ، لأنه فوضه إلى نظرهن ، قيل لهم : هذا فيه بعد ، لأن ردك ( إن رأيتن ) إلى الأمر ، ليس السابق إلى الفهم بل السابق رجوع هذا الشرط إلى أقرب مذكور ، وهو ( أكثر من ذلك ) أو إلى التخيير في الأعداد ، وعلى الجملة فلا خلاف في أن غسل الميت مشروع معمول به في الشريعة لا يترك ، وصفته كصفة غسل الجنابة على ما هو معروف ، ولا يجاوز السبع غسلات في غسل الميت بإجماع ، على ما حكاه أبو عمر فإن خرج منه شيء بعد السبع غسل الموضع وحده ، وحكمه حكم الجنب إذا أحدث بعد غسله ، فإذا فرغ من غسله كفنه في ثيابه وهي :
الرابعة : والتكفين واجب عند عامة العلماء ، فإن كان له مال فمن رأس ماله عند عامة العلماء ، إلا ما حكي عن طاوس أنه قال : من الثلث كان المال قليلاً أو كثيراً ، فإن كان الميت ممن تلزم غيره نفقته في حياته من سيد إن كان عبداً أو أب أو زوج أو أين ، فعلى السيد باتفاق ، وعلى الزوج والأب والابن باختلاف ، ثم على بيت المال أو على جماعة المسلمين على الكفاية ، والذي يتعين منه بتعيين الفرض ستر العورة فإن كان فيه فضل غير أنه لا يعم جميع الجسد غطي رأسه ووجه ، إكراماً لوجهه وستراً لما يظهر من تغير مجاسنه .
والأصل في هذا قصة مصعب بن عمير ، فإنه ترك يوم أحد نمرة كان إذا غطي رأسه خرجت رجلاه ، وإذا غطي رجلاه خرج رأسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ضعوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر " ، أخرج الحديث مسلم ، والوتر مستحب عند كافة العلماء في الكفن ، وكلهم مجمعون على أنه ليس فيه حد ، والمستحب منه البياض ، " قال صلى الله عليه وسلم : البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم " أخرجه أبو داود .
وكفن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف ، والكفن في غير البياض جائز إلا أن يكون حريراً أو خزاً ، فإن تشاح الورثة في الكفن قضي عليهم في مثل لباسه في جمعته وأعياده ، " قال صلى الله عليه وسلم إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه "، أخرجه مسلم ، إلا أن يوصي بأقل من ذلك ، فإن أوصى بسرف قيل : يبطل الزائد ، وقيل : يكون في الثلث ، والأول أصح لقوله تعالى : " ولا تسرفوا " وقال أبو بكر : إنه للمهلة ، فإذا فرغ من غسله وتكفينه ووضع على سريره واحتمله الرجال على أعناقهم وهي :
الخامسة : فالحكم الإسراع في المشي ، لقوله عليه السلام : " أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم " ، لا كما يفعله اليوم الجهال في المشي رويداً ، والوقوف بها المرة بعد المرة ، وقراءة القرآن بالألحان إلى ما لا يحل ولا يجوز حسب ما يفعله أهل الديار المصرية بموتاهم ، روى النسائي : أخبرنا محمد بن عبد الأعلى قال حدثنا خالد قال أنبأنا عيينة بن عبد الرحمن قال حدثني أبي قال : شهدت جنازة عبد الرحمن بن سمرة وخرج زياد يمشي بين يدي السرير ، فجعل رجال من أهل عبد الرحمن ومواليهم يستقبلون السرير ويمشون على أعقابهم ويقولون : رويداً رويداً ، بارك الله فيكم ! فكانوا دبيباً ، حتى إذا كنا ببعض طريق المربد لحقنا أبو بكرة رضي الله عنه على بغلة فلما رأى الذين يصنعون حمل عليهم ببغلته وأهوى إليهم بالسوط فقال : خلوا ! فوالذي أكرم وجه أبي القاسم صلى الله عليه وسلم لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنها لنكاد نرمل بها رملاً ، فانبسط القوم ، وروى أبو ماجدة " عن ابن مسعود قال : سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن المشي مع الجنازة فقال : دون الخبب إن يكن خيراً يعجل إليه وإن يكن غير ذلك فبعداً لأهل النار "، الحديث ، قال أبو عمر : والذي عليه جماعة العلماء في ذلك الإسراع فوق السجية قليلاً ، والعجلة أحب إليهم من الإبطاء ، ويكره الإسراع الذي يشق على ضعفة الناس ممن يتبعها ، وقال إبراهيم النخعي : بطئوا بها قليلاً ولا تدبوا دبيب اليهود والنصارى ، وقد تأول قوم الإسراع في حديث أبي هريرة تعجيل الدفن لا المشي وليس بشيء لما ذكرنا ، وبالله التوفيق .
السادسة : وأما الصلاة عليه فهي واجبة على الكفاية كالجهاد ، هذا هو المشهور من مذاهب العلماء ، مالك وغيره ،لـ" قوله صلى الله عليه وسلم في النجاشي : قوموا فصلوا عليه " ، وقال أصبغ : إنها سنة ، وروي عن مالك ، وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان في براءة .
السابعة : وأما دفنه في التراب ودسه وستره فذلك واجب ، لقوله تعالى : " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوآة أخيه " [ المائدة : 31 ] ، وهناك يذكر بناء المسجد عليه ، إن شاء الله تعالى .
فهذه جملة من أحكام الموتى وما يجب لهم على الأحياء ، وعن عائشة قالت " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تلبسوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا " ، أخرجه مسلم ، وفي سنن النسائي ، عنها أيضاً قالت ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم هالك بسوء فقال : " لا تذكروا هلكاكم إلا بخير " .
قوله تعالى : " وإنما توفون أجوركم يوم القيامة " فأجر المؤمن ثواب ، وأجر الكافر عقاب ، ولم يعتد بالنعمة والبلية في الدنيا أجراً وجزاء ، لأنها عرصة الفناء ، " فمن زحزح عن النار " أي أبعد " وأدخل الجنة فقد فاز " ظفر بما يرجو ، ونجا مما يخاف ، وروى الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة عن عبد الله بن عمرو " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من سره أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه " ، عن أبي هريرة قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرؤوا إن شئتم ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) " .
" وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " أي تغر المؤمن وتخدعه فيظن طول البقاء وهي فانية ، والمتاع ما يتمتع به وينتفع ، كالفأس والقدر والقصعة ثم يزول ولا يبقى ملكه ، قاله أكثر المفسرين ، قال الحسن : كخضرة النبات ، ولعب البنات لا حاصل له ، وقال قتادة : هي متاع متروك توشك أن تضمحل بأهلها ، فينبغي للإنسان أن يأخذ من هذا المتاع بطاعة الله سبحانه ما استطاع ، ولقد أحسن من قال :
هي الدار دار الأذى والقذى ودار الفناء ودار الغير
فلو نلتها بحذافيرها لمت ولم تقض منها الوطر
أيا من يؤمل طول الخلود وطول الخلود عليه ضرر
إذا أنت شبت وبان الشباب فلا خير في العيش بعد الكبر
والغرور ( بفتح الغين ) الشيطان ، يغر الناس بالتمنية والمواعيد الكاذبة ، قال ابن عرفة : الغرور ما رأيت له ظاهراً تحبه ، وفيه باطن مكروه أو مجهول ، والشيطان غرور ، لأنه يحمل على محاب النفس ، ووراء ذلك ما يسوء ، قال : ومن هذا بيع الغرر ، وهو ما كان له ظاهر بيع يغر وباطن مجهول .
يخبر تعالى إخباراً عاماً يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت, كقوله تعالى: " كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " فهو تعالى وحده هو الحي الذي لا يموت, والجن والإنس يموتون, وكذلك الملائكة وحملة العرش, وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء, فيكون آخراً كما كان أولاً, وهذه الاية فيها تعزية لجميع الناس, فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت, فإذا انقضت المدة وفرغت النطفة التي قدر الله وجودها في صلب آدم وانتهت البرية, أقام الله القيامة وجازى الخلائق بأعمالها جليلها وحقيرها, كثيرها وقليلها, كبيرها وصغيرها, فلا يظلم أحداً مثقال ذرة, ولهذا قال تعالى: "وإنما توفون أجوركم يوم القيامة" قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي, حدثنا عبد العزيز الأويسي , حدثنا علي بن أبي علي اللهبي عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين , عن أبيه, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه, قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية, جاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه, فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته " كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة " إن في الله عزاء من كل مصيبة, وخلفا من كل هالك, ودركاً من كل فائت, فبالله فثقوا, وإياه فارجوا, فإن المصاب من حرم الثواب, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. قال جعفر بن محمد : فأخبرني أبي أن علي بن أبي طالب قال: أتدرون من هذا ؟ هذا الخضر عليه السلام. وقوله: "فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز" أي من جنب النار ونجا منها وأدخل الجنة فقد فاز كل الفوز. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة , عن أبي هريرة , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها, اقرؤوا إن شئتم "فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز"" هذا حديث ثابت في الصحيحين, من غير هذا الوجه بدون هذه الزيادة, وقد رواه بدون هذه الزيادة أبو حاتم , وابن حبان في صحيحه و الحاكم في مستدركه , ومن حديث محمد بن عمرو هذا ورواه ابن مردويه من وجه آخر, فقال: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم , حدثنا محمد بن يحيى , أنبأنا حميد بن مسعدة أنبأنا عمرو بن علي عن أبي حازم , عن سهل بن سعد , قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها قال: ثم تلا هذه الاية "فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز" " وتقدم عند قوله تعالى: "ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون" ما رواه الإمام أحمد عن وكيع بن الجراح عن الأعمش , عن زيد بن وهب . عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة , عن عبد الله بن عمرو بن العاص , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الاخر, وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه". وقوله تعالى: "وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" تصغير لشأن الدنيا, وتحقير لأمرها, وأنها دنيئة فانية, قليلة زائلة, كما قال تعالى: " بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى " وقال تعالى "وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى" وفي الحديث "والله ما الدنيا في الاخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم, فلينظر بم ترجع إليه" وقال قتادة في قوله تعالى: "وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" قال: " هي متاع هي متاع متروكة أوشكت ـ والله الذي لا إله إلا هو ـ أن تضمحل عن أهلها, فخذوا من هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم, ولا قوة إلا بالله " , وقوله تعالى: "لتبلون في أموالكم وأنفسكم" كقوله تعالى: "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات" إلى آخر الايتين, أي لا بد أن يبتلى المؤمن في شي من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله, ويبتلى المؤمن على قدر دينه, فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء "ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً" يقول تعالى للمؤمنين عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدر مسلياً لهم عما نالهم من الأذى من أهل الكتاب والمشركين, وآمراً لهم بالصفح والصبر والعفو حتى يفرج الله, فقال تعالى: "وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور" قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا أبو اليمان , حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن الزهري , أخبرني عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد أخبره, قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله, ويصبرون على الأذى, قال الله تعالى: "ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا" قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم " , هكذا ذكره مختصراً, وقد ذكره البخاري عند تفسير هذه الاية مطولاً, فقال: حدثنا أبو اليمان , أنبأنا شعيب عن الزهري , أخبرني عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد , حدثه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار عليه قطيفة فدكية, وأردف أسامة بن زيد وراءه, يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر, قال: حتى مر على مجلس فيه عبد الله بن أبي ابن سلول, وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي, وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان وأهل الكتاب اليهود والمسلمين, وفي المجلس عبد الله بن رواحة , فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة, خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال: لا تغبروا علينا, فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم وقف, فنزل, ودعاهم إلى الله عز وجل وقرأ عليهم القرأن, فقال عبد الله بن أبي : أيها المرء, إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقاً فلا تؤذنا به في مجالسنا. ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه, فقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: بلى يا رسول الله, فاغشنا به في مجالسنا, فإنا نحب ذلك, فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون, فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا, ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة , فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب يريد عبد الله بن أبي, قال: كذا وكذا, فقال سعد : يا رسول الله, اعف عنه واصفح, فوالله الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك, ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة, فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله, شرق بذلك, فذلك الذي فعل به ما رأيت, فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله, ويصبرون على الأذى ", قال الله تعالى: "ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا" الاية وقال تعالى: " ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره " الاية, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به حتى أذن له فيهم, فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً, فقتل الله به صناديد كفار قريش قال عبد الله بن أبي ابن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام وأسلموا فكل من قام بحق أو أمر بمعروف, أو نهى عن منكر فلا بد أن يؤذى فما له دواء إلا الصبر في الله, والاستعانة بالله والرجوع إلى الله عز وجل.
قوله 185- "ذائقة" من الذوق، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
من لم يمت غبطة يمت هرماً الموت كأس والمرء ذائقها
وهذه الآية تتضمن الوعد والوعيد للمصدق والمكذب بعد إخباره عن الباخلين القائلين "إن الله فقير ونحن أغنياء". وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وابن أبي إسحاق "ذائقة الموت" بالتنوين ونصب الموت. وقرأ الجمهور بالإضافة. قوله "وإنما توفون أجوركم يوم القيامة" أجر المؤمن: الثواب، وأجر الكافر: العقاب: أي أن توفية الأجور وتكميلها إنما تكون في ذلك اليوم، وما يقع من الأجور في الدنيا أو في البرزخ فإنما هو بعض الأجور. والزحزحة: التنحية، والإبعاد: تكرير الزح وهو الجذب بعجلة، قاله في الكشاف وقد سبق الكلام عليه: أي فمن بعد عن النار يومئذ ونحي فقد فاز: أي ظفر بما يريد ونجا مما يخاف، وهذا هو الفوز الحقيقي الذي لا فوز يقاربه، فإن كل فوز وإن كان بجميع المطالب دون الجنة ليس بشيء بالنسبة إليها اللهم لا فوز إلا فوز الآخرة، ولا عيش إلا عيشها، ولا نعيم إلا نعيمها، فاغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا وارض عنا رضاً لا سخط بعده، واجمع لنا بين الرضا منك علينا والجنة. والمتاع: ما يتمتع به الإنسان وسنتفع به ثم يزول ولا يبقى كذا قال أكثر المفسرين. الغرور: الشيطان يغر الناس بالأماني الباطلة والمواعيد الكاذبة، شبه سبحانه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على من يريده، وله ظاهر محبوب وباطن مكروه.
185-قوله عز وجل:" كل نفس"، منفوسة،" ذائقة الموت"، وفي الحديث :" لما خلق الله تعالى آدم اشتكت الأرض إلى ربها لما أخذ منها، فوعدها أن يرد فيها ما أخذ منها ، فما من أحد إلا يدفن في التربة التي خلق منها" "وإنما توفون أجوركم" ، توفون جزاء أعمالكم،"يوم القيامة" إن خير فخير وإن شراً فشر،" فمن زحزح"، نجي وأزيل،" عن النار وأدخل الجنة فقد فاز" ظفر بالنجاة ونجا من الخوف،" وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور "، يعني منفعة ومتعة كالفأس والقدر والقصعة ، ثم تزول ولا تبقى.
وقال الحسن: كخضرة النبات ولعب البنات لا حاصل له .
قال قتادة : هي متاع متروكة يوشك أن تضمحل بأهلها ، فخذوا من هذا المتاع بطاعة الله ما استطعتم ، والغرور: الباطل.
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أنا حاجب بن أحمد الطوسي أخبرنا محمد بن يحيى أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يقول الله تعالى :أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر " واقرؤوا إن شئتم " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون" (السجدة-17) ، وإن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ، واقرؤوا إن شئتم :" وظل ممدود"(الواقعة-30) ولموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما عليها ، واقرؤوا إن شئتم "فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور".
185" كل نفس ذائقة الموت " وعد ووعيد للمصدق والمكذب. وقرىء " ذائقة الموت " بالنصب مع التنوين وعدمه كقوله: " ولا يذكرون الله إلا قليلا " " وإنما توفون أجوركم " تعطون جزاء أعمالكم خيراً كان أو شراً تاماً وافياً. " يوم القيامة " يوم قيامكم من القبور، ولفظ التوفية يشعر بأنه قد يكون قبلها بعض الأجور ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام: "القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار". " فمن زحزح عن النار " بعد عنها، والزحزحة في الأصل تكرير الزح وهو الجذب بعجلة. " وأدخل الجنة فقد فاز " بالنجاة ونيل المراد، والفوز الظفر بالبغية، وعن النبي صلى الله عليه وسلم "من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، ويأتي إلى الناس ما يجب أن يؤتى إليه". " وما الحياة الدنيا " أي لذاتها وزخارفها. " إلا متاع الغرور " شبهها بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه، وهذا لمن اثرها على الآخرة. فأما من طلب بها الآخرة فهي له متاع بلاغ والغرور مصدر أو جمع غار.
185. Every soul will taste of death. And ye will be paid on the Day of Resurrection only that which ye have fairly earned. Whoso is removed from the Fire and is made to enter Paradise, he indeed is triumphant. The life of this world is but comfort of illusion.
185 - Every soul shall have a taste of death: and only on the day of judgment shall you be paid your full recompense. only he who is saved far from the fire and admitted to the garden will have attained the object (of life): for the life of this world is but good and chattels of deception.