[آل عمران : 159] فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ
(فبما رحمة من الله لنت) يا محمد (لهم) أي سهلت أخلاقك إذ خالفوك (ولو كنت فظاً) سيِّء الأخلاق (غليظ القلب) جافيا فأغلظت لهم (لانفضوا) تفرقوا (من حولك فاعف) تجاوز (عنهم) ما أتوه (واستغفر لهم) ذنبهم حتى أغفر لهم (وشاورهم) استخرج آراءهم (في الأمر) أي شأنك من الحرب وغيره تطييبا لقلوبهم وليستن بك وكان صلى الله عليه وسلم كثير المشاورة لهم (فإذا عزمت) على إمضاء ما تريد بعد المشاورة (فتوكل على الله) ثق بعد المشاورة (إن الله يحب المتوكلين) عليه
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله : "فبما رحمة من الله"، فبرحمة من الله ، وما صلة . وقد بينت وجه دخولها في الكلام في قوله : "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها" [البقرة: 26]. و-العرب تجعل ما صلة في المعرفة والنكرة، كما قال : "فبما نقضهم ميثاقهم" [النساء: 155 -المائدة: 13]، والمعنى: فبنقضهم ميثاقهم . وهذا في المعرفة . وقال في النكرة "عما قليل ليصبحن نادمين" [المؤمنون: 40]، والمعنى : عن قليل. وربما جعلت اسماً وهي في مذهب صلة، فيرفع ما بعدها أحياناً على وجه الصلة، ويخفض على إتباع الصلة ما قبلها، كما قال الشاعر:
فكفى بنا فضلاً على من غيرنا حب النبي محمد إبانا
إذا جعلت غير صلة رفعت بإضمار هو، وإن خفضت أتبعت من ، فأعربته. فذلك حكمه على ما وصفنا مع النكرات.
فأما إذا كانت الصلة معرفة، كان الفصيح من الكلام الإتباع ، كما قيل : فبما نقضهم ميثاقهم ، والرفع جائز في العربية.
وبنحو ما قلنا في قوله: "فبما رحمة من الله لنت لهم"، قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله : "فبما رحمة من الله لنت لهم"، يقول : فبرحمة من الله لنت لهم.
وأما قوله : "ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك"، فإنه يعني بـ الفظ الجافي ، وبـ الغليظ القلب ، القاسي القلب ، غير ذي رحمة ولا رأفة. وكذلك كانت صفته صلى الله عليه وسلم، كما وصفه الله به: "بالمؤمنين رؤوف رحيم" [التوبة: 128].
فتأويل الكلام : فبرحمة الله ، يا محمد، ورأفته بك وبمن آمن بك من أصحابك ، "لنت لهم"، لتباعك وأصحابك ، فسهلت لهم خلائقك ، وحسنت لهم أخلاقك ، حتى احتملت أذى من نالك منهم أذاه ، وعفوت عن ذي الجرم منهم جرمه ، وأغضيت عن كثير ممن لو جفوت به وأغلظت عليه لتركك ففارقك ولم يتبعك ولا ما بعثت به من الرحمة، ولكن الله رحمهم ورحمك معهم ، فبرحمة من الله لنت لهم ،كما:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك"، إي والله ، لطهره الله من الفظاظة والغلظة، وجعله قريباً رحيماً بالمؤمنين رؤوفاً، وذكر لنا أن نعت محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة: ليس بفظ ولا غليظ ولا صخوب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح.
حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع بنحوه.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في قوله : "فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك"، قال : ذكر لينه لهم وصبره عليهم ، لضعفهم ، وقلة صبرهم على الغلظة لو كانت منه ، في كل ما خالفوا فيه مما افترض عليهم من طاعة نبيهم.
وأما قوله : "لانفضوا من حولك"، فإنه يعني : لتفرقوا عنك ، كما:
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس قوله : "لانفضوا من حولك"، قال : انصرفوا عنك.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "لانفضوا من حولك"، أي : لتركوك.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله : "فاعف عنهم"، فتجاوز، يا محمد، عن تباعك وأصحابك من المؤمنين بك وبما جئت به من عندي ، ما نالك من أذاهم ومكروه في نفسك ، "واستغفر لهم"، وادع ربك لهم بالمغفرة لما أتوا من جرم ، واستحقوا عليه عقوبة منه ، كما:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق : "فاعف عنهم"، أي : فتجاوز عنهم ، "واستغفر لهم"، ذنوب من قارف من أهل الإيمان منهم.
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله أمر تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم ، وما المعنى الذي أمره أن يشاورهم فيه؟.
فقال بعضهم : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : "وشاورهم في الأمر"، بمشاورة أصحابه في مكايد الحرب وعند لقاء العدو، تطييباً منه بذلك أنفسهم ، وتالفاً لهم على دينهم ، وليروا أنه يسمع منهم ويستعين بهم ، وإن كان الله عز وجل قد أغناه - بتدبيره له أموره ، وسياسته إياه وتقويمه أسبابه - عنهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين"، أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه وحي السماء، لأنه أطيب لأنفس القوم ، وأن القوم إذا شاور بعضهم بعضاً وأرادوا بذلك وجه الله ، عزم لهم على أرشده.
حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع: "وشاورهم في الأمر"، قال : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه الوحي من السماء، لأنه أطيب لأنفسهم.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق : "وشاورهم في الأمر"، أي : لتريهم أنك تسمع منهم وتستعين بهم ، وإن كنت عنهم غنياً، تؤلفهم بذلك على دينهم.
وقال آخرون : بل أمره بذلك في ذلك ، ليبين له الرأي وأصوب الأمور في التدبير، لما عالم في المشورة تعالى ذكره من الفضل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم قوله : "وشاورهم في الأمر"، قال : ما أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشورة، إلا لما علم فيها من الفضل.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا معتمر بن سليمان ، عن إياس بن دغفل ، عن الحسن : ما شاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم.
وقال آخرون : إنما أمره الله بمشاورة أصحابه فيما أمره بمشاورتهم فيه ، مع إغنائه بتقويمه إياه وتدبيره أسبابه عن آرائهم ، ليتبعه المؤمنون من بعده فيما حزبهم من أمر دينهم ، ويتسنوا بسنته في ذلك ، ويحتذوا المثال الذي رأوه يفعله في حياته من مشاورته في أموره -مع المنزلة التي هو بها من الله - أصحابه وتباعه في الأمر ينزل بهم من أمر دينهم ودنياهم ، فيتشاوروا بينهم ثم يصدروا عما اجتمع عليه ملأهم . لأن المؤمنين إذا تشاوروا في أمور دينهم متبعين الحق في ذلك ، لم يخلهم الله عز وجل من لطفه وتوفيقه للصواب من الرأي والقول فيه . قالوا: وذلك نظير قوله عز وجل الذي مدح به أهل الإيمان : "وأمرهم شورى بينهم" [الشورى: 38].
ذكر من قال ذلك:
حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال ، قال سفيان بن عيينة في قوله : "وشاورهم في الأمر"، قال : هي للمؤمنين ، أن يتشاوروا فيما لم يأتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أثر.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال : إن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه ومكايد حربه ، تألفاً منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام البصيرة التي يؤمن عليه معها فتنة الشيطان ، وتعريفا منه أمته مأتى الأمور التي تحزبهم من بعده ومطلبها، ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم ، فيتشاوروا فيما بينهم ، كما كانوا يرونه في حياته نكست يفعله. فأما النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله كان يعرفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه أو إلهامه إياه صواب ذلك ، وأما أمته ، فإنهم إذا تشاوروا مستنين بفعله في ذلك ، على تصادق وتأخ للحق، وإرادة جميعهم للصواب ، من غير ميل إلى هوى، ولا حيد عن هدى، فالله مسددهم وموفقهم.
وأما قوله : "فإذا عزمت فتوكل على الله"، فإنه يعني: فإذا صح عزمك بتثبيتنا إياك، وتسديدنا لك فيما نابك وحزبك من أمر دينك، ودنياك ، فامض لما أمرناك به على ما أمرناك به ، وافق ذلك آراء أصحابك وما أشاروا به عليك ، أو خالفها، "وتوكل"، فيما تأتي من أمورك وتدع ، وتحاول أو تزاول، على ربك ، فثق به في كل ذلك ، وارض بقضائه في جميعه، دون آراء سائر خلقه ومعونتهم، "إن الله يحب المتوكلين"، وهم الراضون بقضائه ، والمستسلمون لحكمه فيهم ، وافق ذلك منهم هوى أو خالفه ، كما:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق : "فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين"، "فإذا عزمت"، أي : على أمر جاءك مني ، أو أمر من دينك في جهاد عدوك لا يصلحك ولا يصلحهم إلا ذلك ، فامض على ما أمرت به ، على خلاف من خالفك وموافقة من وافقك ، و"توكل على الله"، أي : ارض به من العباد، "إن الله يحب المتوكلين".
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "فإذا عزمت فتوكل على الله"، أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ، ويستقيم على أمر الله ، ويتوكل على الله.
حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع قوله : "فإذا عزمت فتوكل على الله" الآية، أمره الله إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل عليه.
( ما ) صلة فيها معنى التأكيد ، أي فبرحمة ، كقوله : " عما قليل " " فبما نقضهم ميثاقهم " " جند ما هنالك مهزوم " وليست بزائدة على الإطلاق ، وإنما أطلق عليها سيبويه معنى الزيادة من حيث زال عملها ، ابن كيسان : ( ما ) نكرة في موضع جر بالباء و " رحمة " بدل منها ، ومعنى الآية : أنه عليه السلام لما رفق بمن تولى يوم أحد ولم يعنفهم بين الرب تعالى أنه فعل ذلك بتوفيق الله تعالى إياه ، وقيل : ( ما ) استفهام ، والمعنى : فبأي رحمة من الله لنت لهم ، فهو تعجيب ، وفيه بعد ، لأنه لو كان كذلك لكان ( فبم ) بغير ألف " لنت " من لان يلين ولياناً بالفتح ، والفظ الغليظ الجافي .
فظظت تفظ فظاظة وفظاظاً فأنت فظ ، والأنثى فظة والجمع أفظاظ ، وفي صفة النبي عليه السلام : ( وليس بفظ ولا غليط ولا صخاب في الأسواق ) وأنشد المفضل في المذكر :
وليس بفظ في الأداني والأولى يؤمون جدواه ولكنه سهل
وفظ على أعدائه يحذرونه فسطوته حتف ونائله جزل
وقال آخر في المؤنث :
أموت من الضر في منزلي وغيري يموت من الكظه
ودنيا تجود على الجاهليـ ـن وهي على ذي النهى فظه
وغلظ القلب عبارة عن تجهم الوجه ، وقلة الانفعال في الرغائب ، وقلة الإشفاق والرحمة ، ومن ذلك قول الشاعر :
يبكي علينا ولا نبكي على أحد لنحن أغلظ أكباداً من الإبل
ومعنى " لانفضوا " لتفرقوا ، فضضتهم فانفضوا ، أي فرقتهم فتقرقوا ، ومن ذلك قول أبي النجم يصف إبلاً :
مستعجلات القيض غير جرد ينفض عنهن الحصى بالصمد
وأصل الفض الكسر ، ومنه قولهم : لا يفضض الله فاك ، والمعنى : يا محمد لولا رفقك لمنعهم الاحتشام والهيبة من القرب منك بعد ما كان من توليهم .
قوله تعالى : " فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر " فيه ثمان مسائل .
الأولى : قال العلماء : أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ ، وذلك أنه أمره بأن يعفو عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة ، فلما صاروا في هذه الدرجة أمره أن يستغفر فيما لله عليهم من تبعة أيضاً ، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلاً للاستشارة في الأمور ، قال أهل اللغة ، الاستشارة مأخوذة من قول العرب : شرت الدابة وشورتها إذا علمت خبرها بجري أو غيره ، ويقال للموضع الذي تركض فيه : مشوار ، وقد يكون من قولهم : شرت العسل واشترته فهو مشور ومشتار إذا أخذته من موضعه ، قال عدي بن زيد :
في سماع يأذن الشيخ له وحديث مثل ماذي مشار
الثانية : قال ابن عطية : والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ، من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب ، هذا ما لا خلاف فيه ، وقد مدح الله المؤمنين بقوله : " وأمرهم شورى بينهم " [ الشورى : 38 ] ، قال أعرابي : ما غبنت قط حتى يغبن قومي ، قيل : وكيف ذلك ؟ قال لا أفعل شيئاً حتى أشاورهم وقال ابن خويز منداد : واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون ، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين ، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب ، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح ، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها وكان يقال : ما ندم من استشار وكان يقال : من أعجب برأيه ضل .
الثالثة : قوله تعالى : " وشاورهم في الأمر " يدل على جواز الاجتهاد في الأمور والأخذ بالظنون مع إمكان الوحي ، فإن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، واختلف أهل التأويل في المعنى الذي أمر الله نبيه عليه السلام أن يشاور فيه أصحابه ، فقالت طائفة : ذلك في مكائد الحروب ، وعند لقاء العدو ، وتطييباً لنفوسهم ، ورفعاً لأقدارهم ، وتألفاً على دينهم ، وإن كان الله تعالى قد أغناه عن رأيهم بوحيه ، روي هذا عن قتادة و الربيع و ابن إسحاق و الشافعي ، قال الشافعي : هو كقوله : والبكر تستأمر ، تطيباً لقلبها ، لا أنه واجب ، وقال مقاتل و قتادة و الربيع : كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم ، فأمر الله تعالى ، نبيه عليه السلام أن يشاورهم في الأمر : فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم ، وأطيب لنفوسهم ، فإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم ، وقال آخرون : ذلك فيما لم يأته فيه وحي ، روي ذلك عن الحسن البصري و الضحاك قالا : ما أمر الله تعالى نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم ، وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل ، ولتقتدي به أمته من بعده ، وفي قراءة ابن عباس : ( وشاورهم في بعض الأمر ) ولقد أحسن القائل :
شاور صديقك في الخفي المشكل واقبل نصيحة ناصح متفضل
فالله قد أوصى بذاك نبيه في قوله : ( شاورهم ) و ( توكل )
الرابعة : جاء في مصنف أبي داود عن أبي هريرة قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المستشار مؤتمن " ، قال العلماء : وصفة المستشار إن كان في الأحكام أن يكون عالماً ديناً ، وقلما يكون ذلك إلا في عاقل ، قال الحسن : ما كمل دين امرئ ما لم يكمل عقله ، فإذا استشير من هذه صفته واجتهد في الصلاح وبذل جهده فوقعت الإشارة خطأ فلا غرامة عليه ، قاله الخطابي وغيره :
الخامسة : وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلاً مجرباً واداً في المستشير قال :
شاور صديقك في الخفي المشكل
وقد تقدم ، وقال آخر :
وإن باب أمر عليك التوى فشاور لبيباً ولا تعصه
في أبيات ، والشورى بركة ، وقال عليه السلام : " ما ندم من استشار ولا خاب من استخار "، وروى سهل بن سعد الساعدي " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما شقي قط عبد بمشورة وما سعد باستغناء رأي " ، وقال بعضهم : شاور من جرب الأمور ، فإنه يعطيك من رأيه ما وقع عليه غالباً وأنت تأخذه مجاناً ، وقد جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة ، وهي أعظم النوازل شورى ، قال البخاري : وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها ، وقال سفيان الثوري : ليكن أهل مشورتك أهل التقوى والأمانة ، ومن يخشى الله تعالى ، وقال الحسن : والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم لأفضل ما يحضر بهم وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من قوم كانت لهم مشورة فحضر معهم من اسمه أحمد أو محمد فأدخلوه في مشورتهم إلا خير لهم " .
السادسة : والشورى مبنية على اختلاف الآراء ، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف وينظر أقربها قولاً إلى الكتاب إن أمكنه ، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه عزم عليه وأنفذه متوكلاً عليه ، إذ هذه غاية الاجتهاد المطلوب ، وبهذا أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية .
السابعة : قوله تعالى : " فإذا عزمت فتوكل على الله " قال قتادة : أمر الله تعالى نبيه عليه السلام إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل على الله ، لا على مشاورتهم ،والعزم هو الأمر المروي المنقح ، وليس ركوب الرأي دون روية عزماً ، إلا على مقطع المشيحين من فتاك العرب ، كما قال :
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ونكب عن ذكر العواقب جانبا
ولم يستشر في رأيه غير نفسه ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا
وقال النقاش : العزم والحزم واحد ، والحاء مبدلة من العين ، قال ابن عطية : وهذا خطأ ، فالحزم جودة النظر في الأمر وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه ، والعزم قصد الإمضاء ، والله تعالى يقول : " وشاورهم في الأمر فإذا عزمت " فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم ، والعرب تقول : قد أحزم لو أعزم ، وقرأ جعفر الصادق و جابر بن زيد : ( فإذا عزمت ) بضم التاء ، نسب العزم إلى نفسه سبحانه إذ هو بهدايته وتوفيقه ، كما قال : " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " [ الأنفال : 17 ] ، ومعنى الكلام أي عزمت لك ووفقتك وأرشدتك " فتوكل على الله " والباقون بفتح التاء ، قال المهلب ، وامتثل هذا النبي صلى الله عليه وسلم من أمر ربه فقال : " لا ينبغي لنبي يلبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله "، أي ليس ينبغي له إذا عزم أن ينصرف ، لأنه نقض للتوكل الذي شرطه الله عز وجل مع العزيمة ، ، فلبس لأمته حين أشار عليه بالخروج يوم أحد من أكرمه الله بالشهادة فيه ، وهم صلحاء المؤمنين ممن كان فاتته بدر : يا رسول الله أخرج بنا إلى عدونا ، دال على العزيمة وكان صلى الله عليه وسلم أشار بالقعود ، وكذلك عبد الله بن أبي أشار بذلك وقال : أقم يا رسول الله ولا تخرج إليهم بالناس ، فإن هم أقاموا أقاموا بشر مجلس ، وإن جاؤونا إلى المدينة قاتلناهم في الأفنية وأفواه السكك ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من الآطام ، فوالله ما حاربنا قط عدو في المدينة إلا غلبناه ، ولا خرجنا منها إلى عدو إلا غلبنا ، وأبى هذا الرأي من ذكرنا ، وشجعوا الناس ودعوا إلى الحرب ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة ، ودخل إثر صلاته بيته ولبس سلاحه ، فندم أولئك القوم وقالوا : أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما خرج عليهم في صلاحه قالوا : يا رسول الله ، أقم إن شئت فإنا لا نريد أن نكرهك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا بنبغي لنبي إذا لبس سلاحه أن يضعها حتى يقاتل " .
الثامنة : قوله تعالى : " فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين " التوكل : الاعتماد على الله مع إظهار العجز ، والاسم التكلان ، يقال منه : اتكلت عليه في أمري ، وأصله : ( أوتكلت ) قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، ثم أبدلت منها التاء وأدغمت في تاء الافتعال ، ويقال : وكلته بأمري توكيلاً ، والاسم الوكالة بكسر الواو وفتحها .
واختلف العلماء في التوكل ، فقالت طائفة من المتصوفة : لا يستحقه إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله من سبع أو غيره ، وحتى يترك السعي في طلب الرزق لضمان الله تعالى ، وقال عامة الفقهاء ، ما تقدم ذكره عند قوله تعالى : " وعلى الله فليتوكل المؤمنون " وهو الصحيح كما بيناه ، وقد خاف موسى وهارون بإخبار الله تعالى عنهما في قوله : " لا تخافا " [ طه : 46 ] ، وقال : " فأوجس في نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف " [ طه : 67 - 68 ] ، وأخبر عن إبراهيم بقوله : " فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف " [ هود : 70 ] ، فإذا كان الخليل وموسى الكليم قد خافا وحسبك بهما فغيرهما أولى ، وسيأتي بيان هذا المعنى .
يقول تعالى مخاطباً رسوله, ممتناً عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته المتبعين لأمره, التاركين لزجره, وأطاب لهم لفظه "فبما رحمة من الله لنت لهم" أي: أي شيء جعلك لهم ليناً, لولا رحمة الله بك وبهم, وقال قتادة "فبما رحمة من الله لنت لهم" يقول فبرحمة من الله لنت لهم, وما صلة, والعرب تصلها بالمعرفة كقوله "فبما نقضهم ميثاقهم" وبالنكرة كقوله: "عما قليل" وهكذا ههنا قال: "فبما رحمة من الله لنت لهم" أي برحمة من الله, وقال الحسن البصري هذا خلق محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله به, وهذه الاية الكريمة شبيهة بقوله تعالى: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم" وقال الإمام أحمد : حدثنا حيوة , حدثنا بقية , حدثنا محمد بن زياد , حدثني أبو راشد الحبراني قال: أخذ بيدي أبو أمامة الباهلي وقال: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "يا أبا أمامة إن من المؤمنين من يلين لي قلبه" تفرد به أحمد , ثم قال تعالى: " ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك " والفظ الغليظ, والمراد به ههنا غليظ الكلام لقوله بعد ذلك "غليظ القلب" أي لو كنت سيء الكلام, قاسي القلب عليهم لا نفضوا عنك وتركوك, ولكن الله جمعهم عليك, وألان جانبك لهم تأليفاً لقلوبهم, كما قال عبد الله بن عمرو : "إني أرى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة إنه ليس بفظ, ولا غليظ, ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة, ولكن يعفو ويصفح", وقال أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي : أنبأنا بشر بن عبيد الدارمي , حدثنا عمار بن عبد الرحمن عن المسعودي عن ابن أبي مليكة , عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض" حديث غريب. ولهذا قال تعالى: "فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر" ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث تطييباً لقلوبهم ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه, كما شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير, فقالوا: " يا رسول الله, لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك, ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك, ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون: ولكن نقول اذهب, فنحن معك, وبين يديك, وعن يمينك, وعن شمالك مقاتلون " , وشاورهم أيضاً أين يكون المنزل, حتى أشار المنذر بن عمرو المعنق ليموت, بالتقدم إلى أمام القوم. وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو, فأشار جمهورهم بالخروج إليهم, فخرج إليهم وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ, فأبى ذلك عليه السعدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة , فترك ذلك, وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين. فقال له الصديق : إنا لم نجىء لقتال أحد وإنما جئنا معتمرين, فأجابه إلى ما قال, وقال صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك "أشيروا علي معشر المسلمين في قوم أبنوا أهلي ورموهم, وايم الله ما علمت على أهلي من سوء وأبنوهم بمن ؟ والله ما علمت عليه إلا خيراً" واستشار علياً وأسامة في فراق عائشة رضي الله عنها. فكان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها وقد اختلف الفقهاء هل كان ذلك واجباً عليه أو من باب الندب تطييباً لقلوبهم ؟ على قولين. وقد قال الحاكم في مستدركه : أنبأنا أبو جعفر محمد بن محمد البغدادي , حدثنا يحيى بن أيوب العلاف بمصر, حدثنا سعيد بن أبي مريم , أنبأنا سفيان بن عيينة , عن عمرو بن دينار , عن ابن عباس في قوله تعالى: "وشاورهم في الأمر" قال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما, ثم قال: صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه, وكذا رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزلت في أبي بكر وعمر , وكانا حواريي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه, وأبوي المسلمين, وقد روى الإمام أحمد : حدثنا وكيع , حدثنا عبد الحميد عن شهر بن حوشب , عن عبد الرحمن بن غنم " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال لأبي بكر وعمر لو اجتمعنا في مشورة ما خالفتكما" وروى ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزم ؟ فقال مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم" وقد قال ابن ماجه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة , حدثنا يحيى بن بكير عن شيبان , عن عبد الملك بن عمير , عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "المستشار مؤتمن" ورواه أبو داود والترمذي , وحسنه النسائي من حديث عبد الملك بن عمير بأبسط من هذا. ثم قال ابن ماجه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة , حدثنا أسود بن عامر عن شريك , عن الأعمش , عن أبي عمرو الشيباني عن ابن مسعود قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المستشار مؤتمن" تفرد به. وقال أيضاً: حدثنا أبو بكر , حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وعلي بن هاشم عن ابن أبي ليلى , عن أبي الزبير , عن جابر , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه" تفرد به أيضاً. وقوله تعالى: "فإذا عزمت فتوكل على الله" أي إذا شاورتهم في الأمر وعزمت عليه فتوكل على الله فيه "إن الله يحب المتوكلين" وقوله تعالى: "إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون" وهذه الاية كما تقدم من قوله: "وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم" ثم أمرهم بالتوكل عليه, فقال "وعلى الله فليتوكل المؤمنون" وقوله تعالى: "وما كان لنبي أن يغل", قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغير واحد: ما ينبغي لنبي أن يخون. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا المسيب بن واضح , حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن سفيان بن خصيف عن عكرمة , عن ابن عباس قال: فقدوا قطيفة يوم بدر فقالوا: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها, فأنزل الله " وما كان لنبي أن يغل " أي يخون. وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب حدثنا عبد الواحد بن زياد , حدثنا خصيف , حدثنا مقسم , حدثني ابن عباس أن هذه الاية "وما كان لنبي أن يغل" نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر, فقال بعض الناس: لعل رسول الله أخذها, فأكثروا في ذلك, فأنزل الله " وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة " وكذا رواه أبو داود والترمذي جميعاً عن قتيبة , عن عبد الواحد بن زياد به. وقال الترمذي : حسن غريب, ورواه بعضهم, عن خصيف , عن مقسم يعني مرسلاً, وروى ابن مردويه من طريق أبي عمرو بن العلاء , عن مجاهد , عن ابن عباس قال: اتهم المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء فقد, فأنزل الله تعالى: " وما كان لنبي أن يغل " وروي من غير وجه عن ابن عباس نحو ما تقدم, وهذا تنزيه له صلوات الله وسلامه عليه من جميع وجوه الخيانة في أداء الأمانة وقسم الغنيمة وغير ذلك. وقال العوفي عن ابن عباس "وما كان لنبي أن يغل" أي بأن يقسم لبعض السرايا ويترك بعضاً. وكذا قال الضحاك . وقال محمد بن إسحاق "وما كان لنبي أن يغل" بأن يترك بعض ما أنزل إليه فلا يبلغه أمته. وقرأ الحسن البصري وطاوس ومجاهد والضحاك "وما كان لنبي أن يغل" بضم الياء أي يخان وقال قتادة والربيع بن أنس : نزلت هذه الاية يوم بدر, وقد غل بعض أصحابه. رواه ابن جرير عنهما, ثم حكى عن بعضهم أنه فسر هذه القراءة بمعنى يتهم بالخيانة, ثم قال تعالى: "ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون" وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد, وقد وردت السنة بالنهي عن ذلك أيضاً في أحاديث متعددة, قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الملك , حدثنا زهير يعني ابن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل , عن عطاء بن يسار , عن أبي مالك الأشجعي , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أعظم الغلول عند الله ذراع من الأرض, تجدون الرجلين جارين في الأرض ـ أو في الدار ـ فيقطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعاً, فإذا اقتطعه طوقه من سبع أرضين إلى يوم القيامة " .
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود , حدثنا ابن لهيعة , عن ابن هبيرة والحارث بن يزيد , عن عبد الرحمن بن جبير قال: سمعت المستورد بن شداد يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقول من ولي لنا عملاً وليس له منزل فليتخذ منزلاً أو ليست له زوجة فليتزوج, أو ليس له خادم فليتخذ خادماً, أو ليست له دابة فليتخذ دابة, ومن أصاب شيئاً سوى ذلك فهو غال " هكذا رواه الإمام أحمد . وقد رواه أبو داود بسند آخر وسياق آخر, فقال: حدثنا موسى بن مروان الرقي , حدثنا المعافى , حدثنا الأوزاعي عن الحارث بن يزيد , عن جبير بن نفير , عن المستورد بن شداد , قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة, فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادماً, فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكناً" قال: قال أبو بكر : أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم, قال "من اتخذ غير ذلك فهو غال ـ أو سارق". قال شيخنا الحافظ المزي رحمه الله : رواه جعفر بن محمد الفريابي عن موسى بن مروان : فقال: عن عبد الرحمن بن جبير بدل جبير بن نفير , وهو أشبه بالصواب.
(حديث آخر) ـ قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب , حدثنا حفص بن بشر , حدثنا يعقوب القمي , حدثنا حفص بن حميد عن عكرمة , عن ابن عباس , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء, فينادي: يا محمد يا محمد, فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك, ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل جملاً له رغاء, فيقول: يا محمد يا محمد, فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك, ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرساً له حمحمة ينادي: يا محمد, يا محمد. فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً, قد بلغتك. ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل قشعاً من أدم ينادي: يا محمد يا محمد, فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك" لم يروه أحد من أهل الكتب الستة.
(حديث آخر) . قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن الزهري سمع عروة يقول: حدثنا أبو حميد الساعدي : قال: " استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة, فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال ما بال العامل نبعثه فيجي فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي: أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا ؟ والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحد منكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته, إن كان بعيراً له رغاء, أو بقرة لها خوار, أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه: ثم قال اللهم هل بلغت ثلاثاً " , وزاد هشام بن عروة فقال أبو حميد : بصرته بعيني وسمعته بأذني واسألوا زيد بن ثابت , أخرجاه من حديث سفيان بن عيينة , وعند البخاري : واسألوا زيد بن ثابت , ومن غير وجه عن الزهري , ومن طريق عن هشام بن عروة , كلاهما عن عروة , به.
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى , حدثنا إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن عروة بن الزبير عن أبي حميد " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هدايا العمال غلول " وهذا الحديث من أفراد أحمد , وهو ضعيف الإسناد, وكأنه مختصر من الذي قبله, والله أعلم.
(حديث آخر) ـ قال أبو عيسى الترمذي في كتاب الأحكام : حدثنا أبو كريب , حدثنا أبو أسامة عن داود بن يزيد الأودي , عن المغيرة بن شبل , عن قيس بن أبي حازم , عن معاذ بن جبل , قال: " بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن, فلما سرت أرسل في أثري فرددت, فقال أتدري لم بعثت إليك ؟ لا تصيبن شيئاً بغير إذني فإنه غلول "ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة" لهذا دعوتك فامض لعملك" هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه, وفي الباب عن عدي بن عميرة وبريدة والمستورد بن شداد وأبي حميد وابن عمر .
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن علية , حدثنا أبو حيان يحيى بن سعيد التيمي , عن أبي زرعة بن عمر بن جرير , عن أبي هريرة , قال: " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره, ثم قال: لألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء, فيقول: يا رسول الله أغثني, فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك, لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة, فيقول: يا رسول الله أغثني, فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك, لا ألفين أحدكم يجي يوم القيامة على رقبته رقاع تخنق فيقول: يا رسول الله أغثني, فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك, لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت, فيقول: يا رسول الله أغثني, فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك" أخرجاه من حديث أبي حيان به.
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد عن إسماعيل بن أبي خالد , حثني قيس عن عدي بن عميرة الكندي قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أيها الناس من عمل لنا منكم عملاً فكتمنا منه مخيطاً فما فوقه, فهو غل يأتي به يوم القيامة قال: فقام رجل من الأنصار أسود ـ قال مجالد : هو سعيد بن عبادة كأني انظر إليه ـ فقال: يا رسول الله, اقبل عني عملك. قال وما ذاك ؟ قال: سمعتك تقول: كذا وكذا, قال وأنا أقول ذاك الان, من استعملناه على عمل فليجيء بقليله وكثيره, فما أوتي منه أخذه, وما نهي عنه انتهى" وكذا رواه مسلم وأبو داود من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد به .
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية عن أبي إسحاق الفزاري , عن ابن جريج , حدثني منبوذ رجل من آل أبي رافع عن الفضل بن عبيد الله بن أبي رافع , عن أبي رافع , قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر ربما ذهب إلى بني عبد الأشهل فيتحدث معهم حتى ينحدر المغرب, قال أبو رافع : " فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعاً إلى المغرب, إذ مر بالبقيع, فقال أف لك , أف لك مرتين, فكبر في ذرعي وتأخرت وظننت أنه يريدني, فقال :مالك ؟ امش قال: قلت: أحدثت حدثاً يارسول الله, قال وما ذاك" ؟ قلت: أففت بي, قال :لا, ولكن هذا قبر فلان بعثته ساعياً على آل فلان فغل نمرة فدرع الان مثلها من نار".
(حديث آخر) ـ قال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن سالم الكوفي المفلوج ـ وكان بمكة ـ حدثنا عبيدة بن الأسود عن القاسم بن الوليد , عن أبي صادق , عن ربيعة بن ناجد , عن عبادة بن الصامت , قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ الوبرة من جنب البعير من المغنم ثم يقول مالي فيه إلا مثل ما لأحدكم, إياكم والغلول فإن الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة, أدوا الخيط والمخيط وما فوق ذلك, وجاهدوا في سبيل الله القريب والبعيد, في الحضر والسفر, فإن الجهاد باب من أبواب الجنة, إنه لينجي الله به من الهم والغم, وأقيموا حدود الله في القريب والبعيد ولا تأخذكم في الله لومة لائم" وقد روى ابن ماجه بعضه عن المفلوج به.
(حديث آخر) ـ عن عمرو بن شعيب , عن أبيه , عن جده , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ردوا الخياط والمخيط, فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة".
(حديث آخر) ـ قال أبو داود حدثنا عثمان بن أبي شيبة , حدثنا جرير عن مطرف , عن أبي الجهم , عن أبي مسعود الأنصاري , قال: " بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعياً, ثم قال : انطلق أبا مسعود لا ألفينك يوم القيامة تجيء على ظهرك بعير من إبل الصدقة له رغاء, قد غللته قال: إذاً لا أنطلق, قال إذاً لا أكرهك", تفرد به أبو داود .
(حديث آخر) ـ قال أبو بكر بن مردويه : أنبأنا محمد بن أحمد بن إبراهيم , أنبأنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة , أنبأنا عبد الحميد بن صالح , أنبأنا أحمد بن أبان عن علقمة بن مرثد , عن ابن بريدة عن أبيه , عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال "إن الحجر ليرمى به في جهنم فيهوي سبعين خريفاً ما يبلغ قعرها, ويؤتى بالغلول فيقذف معه ثم يقال لمن غل ائت به, فذلك قوله "ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة"".
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم , حدثنا عكرمة بن عمار , حدثني سماك الحنفي أبو زميل , حدثني عبد الله بن عباس , حدثني عمر بن الخطاب , قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان شهيد وفلان شهيد, حتى أتوا على رجل, فقالوا: فلان شهيد, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كلا إني رأيته في النار في بردة غلها ـ أو عباءة ـ" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون. قال: فخرجت فناديت: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون " , وكذا رواه مسلم والترمذي من حديث عكرمة بن عمار به. وقال الترمذي : حسن صحيح.
(حديث آخر) ـ قال ابن جرير : حدثنا سعيد بن يحيى الأموي , حدثنا أبي , حدثنا يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " بعث سعد بن عبادة مصدقاً, فقال: إياك يا سعد أن تجيء يوم القيامة ببعير تحمله له رغاء. قال: لا آخذه ولا أجيء به, فأعفاه " ثم رواه من طريق عبيد الله عن نافع به نحوه.
(حديث آخر) ـ قال أحمد : حدثنا أبو سعيد , حدثنا عبد العزيز بن محمد , حدثنا صالح بن محمد بن زائدة عن سالم بن عبد الله أنه كان مع مسلمة بن عبد الملك في أرض الروم, فوجد في متاع رجل غلول, قال: فسأل سالم بن عبد الله , فقال: حدثني أبي عبد الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من وجدتم في متاعه غلولاً فاحرقوه ـ قال: وأحسبه قال: واضربوه قال: فأخرج متاعه في السوق فوجد فيه مصحفاً, فسأل سالماً فقال: بعه وتصدق بثمنه " , وكذا رواه علي بن المديني وأبو داود والترمذي من حديث عبد العزيز بن محمد الأتدراوردي , زاد أبو داود وأبو إسحاق الفزاري , كلاهما عن أبي واقد الليثي الصغير صالح بن محمد بن زائدة به. وقد قال علي بن المديني والبخاري وغيرهما: هذا حديث منكر من رواية أبي واقد هذا, وقال الدارقطني : الصحيح أنه من فتوى سالم فقط, وقد ذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ومن تابعه من أصحابه, وقد رواه الأموي عن معاوية عن أبي إسحاق , عن يونس بن عبيد , عن الحسن , قال: عقوبة الغال أن يخرج رحله فيحرق على ما فيه. ثم روى عن معاوية عن أبي إسحاق عن عثمان بن عطاء , عن أبيه , عن علي , قال: الغال يجمع رحله فيحرق ويجلد دون حد, وخالفه أبو حنيفة ومالك والشافعي والجمهور فقالوا: لا يحرق متاع الغال بل يعزر تعزير مثله, وقال البخاري : " وقد امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة على الغال, ولم يحرق متاعه " , والله أعلم.
(حديث آخر عن عمر رضي الله عنه) ـ قال ابن جرير : حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب , حدثني عبد الله بن وهب , أخبرني عمرو بن الحارث أن موسى بن جبير حدثه: أن عبد الله بن عبد الرحمن بن الحباب الأنصاري حدثه: أن عبد الله بن أنيس حدثه: أنه تذاكر هو و عمر بن الخطاب يوماً الصدقة, فقال: ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر غلول الصدقة "من غل منها بعيراً أو شاة فإنه يحمله يوم القيامة" ؟ قال عبد الله بن أنيس : بلى. ورواه ابن ماجه عن عمرو بن سواد عن عبد الله بن وهب به. ورواه الأموي عن معاوية , عن أبي إسحاق , عن يونس بن عبيد , عن الحسن قال: عقوبة الغال أن يخرج رحله ويحرق على ما فيه. ثم روى عن معاوية , عن أبي إسحاق , عن عثمان بن عطاء , عن أبيه , عن علي قال: الغال يجمع رحله فيحرق ويجلد دون حد.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر , أنبأنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن جبير بن مالك , قال: أمر بالمصاحف أن تغير, قال: فقال ابن مسعود : من استطاع منكم أن يغل مصحفاً فليغله, فإنه من غل شيئاً جاء به يوم القيامة, ثم قال: قرأت من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة, أفأترك ما أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وروى وكيع في تفسيره عن شريك , عن إبراهيم بن مهاجر , عن إبراهيم , قال: لما أمر بتحريق المصاحف قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ياأيها الناس غلوا المصاحف, فإنه من غل يأت بما غل يوم القيامة, ونعم الغل المصحف يأتي به أحدكم يوم القيامة ـ وقال أبو داود , عن سمرة بن جندب , قال:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غنم غنيمة أمر بلالاً فينادي في الناس, فيجيئون بغنائمهم, فيخمسه ويقسمه, فجاء رجل يوماً بعد النداء بزمام من شعر فقال: يا رسول الله, هذا كان مما أصبنا من الغنيمة, فقال أسمعت بلالاً ينادي ثلاثاً ؟ قال: نعم. قال فما منعك أن تجيء ؟ فاعتذر إليه فقال كلا أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك " .
وقوله تعالى: "أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير" أي لا يستوي من اتبع رضوان الله فيما شرعه فاستحق رضوان الله وجزيل ثوابه, وأجير من وبيل عقابه, ومن استحق غضب الله وألزم به فلا محيد له عنه, ومأواه يوم القيامة جهنم وبئس المصير, وهذه الاية لها نظائر كثيرة في القرآن, كقوله تعالى: "أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى", وكقوله "أفمن وعدناه وعداً حسناً فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا" الاية. ثم قال تعالى: "هم درجات عند الله", قال الحسن البصري ومحمد بن إسحاق : يعني أهل الخير وأهل الشر درجات, وقال أبو عبيدة والكسائي : منازل, يعني متفاوتون في منازلهم ودرجاتهم في الجنة ودركاتهم في النار, كقوله تعالى: "ولكل درجات مما عملوا" الاية, ولهذا قال تعالى: "والله بصير بما يعملون" أي وسيوفيهم إياها, لا يظلمهم خيراً ولا يزيدهم شراً, بل يجازي كل عامل بعمله, وقوله تعالى: " لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم " أي من جنسهم ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع به, كما قال تعالى: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها" أي من جنسكم, وقال تعالى: "قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد" الاية. وقال تعالى: "وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق" وقال تعالى "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى" وقال تعالى: "يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم" فهذا أبلغ في الامتنان أن يكون الرسول إليهم منهم بحيث يمكنهم مخاطبته ومراجعته في فهم الكلام عنه, ولهذا قال تعالى: "يتلو عليهم آياته" يعني القرآن "ويزكيهم" أي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر لتزكو نفوسهم وتطهر من الدنس والخبث الذي كانوا متلبسين به في حال شركهم وجاهليتهم, "ويعلمهم الكتاب والحكمة" يعني القرآن والسنة, "وإن كانوا من قبل" أي من قبل هذا الرسول "لفي ضلال مبين" أي لفي غي وجهل ظاهر جلي بين لكل أحد.
وما في قوله 159- "فبما رحمة من الله" مزيدة للتأكيد، قاله سيبويه وغيره، وقال ابن كيسان: إنها نكرة في موضع جر بالياء، ورحمة بدل منها، والأول أولى بقواعد العربية ومثله قوله تعالى "فبما نقضهم ميثاقهم" والجار والمجرور متعلق بقوله "لنت لهم" وقدم عليه لإفادة القصر، وتنوين رحمة للتعظيم، والمعنى: أن لينه لهم ما كان إلا بسبب الرحمة العظيمة منه، وقيل: إن ما استفهامية، والمعنى: فبأي رحمة من الله لنت لهم، وفيه معنى التعجيب وهو بعيد، ولو كان كذلك لحذف الألف من ما، وقيل: فبم رحمة من الله. والفظ: الغليظ الجافي. وقال الراغب: الفظ هو الكريه الخلق، وأصله فظظ كحذر. وغلظ القلب قساوته وقلة إشفاقه وعدم انفعاله للخير. والانقضاض التفرق، يقال: فضضتهم فانفضوا: أي فرقتهم فتفرقوا والمعنى: لو كنت فظاً غليظ القلب لا ترفق بهم لتفرقوا من حولك هيبة لك واحتشاماً منك بسبب ما كان من توليهم، وإذا كان الأمر كما ذكر "فاعف عنهم" فيما يتعلق بك من الحقوق "واستغفر لهم" الله سبحانه فيما هو إلى الله سبحانه "وشاورهم في الأمر" أي: الذي يرد عليك: أي أمر كان مما يشاور في مثله، أو في أمر الحرب خاصة كما يفيده السياق لما في ذلك من تطييب خواطرهم واستجلاب مودتهم، ولتعريف الأمة بمشروعية ذلك حتى لا يأنف منه أحد بعدك. والمراد هنا المشاورة في غير الأمور التي يرد الشرع بها. قال أهل اللغة: الاستشارة مأخوذة من قول العرب: شرت الدابة وشورتها إذا علمت خبرها، وقيل من قولهم: شرت العسل إذا أخذته من موضعه. قال ابن خوز منداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون وفيما أشكل عليهم من أمور الدنيا ومشاورة وجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والعمال والوزراء فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها. وحكى القرطبي عن ابن عطية أنه لا خلاف في وجوب عزل من لا يستشير أهل العلم والدين. قوله "فإذا عزمت فتوكل على الله" أي: إذا عزمت عقب المشاورة على شيء واطمأنت به نفسك فتوكل على الله في فعل ذلك: أي اعتمد عليه وفوض إليه، وقيل إن المعنى: فإذا عزمت على أمر أن تمضي فيه فتوكل على الله لا على المشاورة. والعزم في الأصل قصد الإمضاء: أي فإذا قصدت إمضاء أمر فتوكل على الله. وقرأ جعفر الصادق وجابر بن زيد فإذا عزمت بضم التاء بنسبة العزم إلى الله تعالى: أي فإذا عزمت لك على شيء وأرشدتك إليه فتوكل على الله.
159-قوله تعالى:"فبما رحمة من الله" أي: فبرحمة من الله ، و "ما" صلة ، كقوله "فبما نقضهم"،"لنت لهم"أي: سهلت لهم اخلاقك ، وكثرة احتمالك ، ولم تسرع اليهم فيما كان منهم يوم أحد، "ولو كنت فظاً" يعني: جافياً سئ الخلق قليل الاحتمال، "غليظ القلب" ، قالالكلبي : فظاً في القول غليظ القلب في الفعل،" لانفضوا من حولك " ، أي : لنفروا وتفرقوا عنك ، يقال: فضضتهم فانفضوا ،أي فرقتهم فتفرقوا "فاعف عنهم"، تجاوز عنهم ما أتوا يوم أحد ، " واستغفر لهم" حتى أشفعك فيهم ، " و شاورهم في الأمر" أي: استخرج آراهم واعلم ما عندهم ، من قول العرب : شرت الدابة ، وشورتها ، إذا استخرجت جريها ، وشرت العسل وأشرته إذا أخذته من موضعه ، واستخرجته.
واختلفوا في المعنى الذي لأجله امر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشاورة مع كمال عقله وجزالة رأيه ونزول الوحي عليه، ووجوب طاعته على الخلق فيما أحبوا وكرهوا.
فقال بعضهم : هو خاص في المعنى، أي: وشاورهم فيما ليس عندك فيه من الله تعالى عهد، قالالكلبي : يعني ناظرهم في لقاء العدو ومكايد الحرب عند الغزو.
وقالمقاتل وقتادة :أمر الله تعالى بمشاورتهم تطييباً لقلوبهم ، فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم ،فإن سادات العرب كانوا إذا لم يشاوروا في الأمر شق ذلك عليهم.
وقال الحسن : قد علم الله عز وجل/ أنه ما به إلى مشاورتهم حاجة ولكنه أراد أن يستن به من بعده.
أخبرناأبو طاهر بن علي بن عبد الله الفارسي:أخبرناأبو ذر محمد بن إبراهيم بن علي الصالحاني أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان أخبرنا علي بن العباس المقانعي أخبرنا أحمد بن ماهان أخبرني أبي أخبرنا طلحة بن زيد عن عقيل عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: مارأيت رجلاً أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى "فإذا عزمت فتوكل على الله " لا على مشاورتهم ، أي: قم بأمر الله وثق به واستعنه، "إن الله يحب المتوكلين ".
159"فبما رحمة من الله لنت لهم" أي فبرحمة، وما مزيدة للتأكيد والتنبيه والدلالة على أن لينه لهم ما كان إلا برحمة من الله وهو ربطه على جأشه وتوفيقه للرفق بهم حتى اغتم لهم بعد أن خالفوه. " ولو كنت فظا " سيء الخلق جافياً. "غليظ القلب" قاسيه. " لانفضوا من حولك " لتفرقوا عنك ولم يسكنوا إليك. "فاعف عنهم" فيما يختص بك. "واستغفر لهم" فيما لله. "وشاورهم في الأمر" أي في أمر الحرب إذ الكلام فيه، أو فيما يصح أن يشاور فيه استظهاراً برأيهم وتطيباً لنفوسهم وتمهيداً لسنة المشاورة في للأمة. "فإذا عزمت" فإذا وطنت نفسك على شيء بعد الشورى. " فتوكل على الله " في إمضاء أمرك على ما هو أصلح لك، فإنه لا يعلمه سواه. وقرىء "فإذا عزمت"، على التكلم أي فإذا عزمت لك على شيء وعينته لك فتوكل على الله ولا تشاور فيه أحداً. " إن الله يحب المتوكلين " فينصرهم ويهديهم إلى الصلاح.
159. It was by the mercy of Allah that thou wast lenient with them (O Muhammad), for if thou hadst been stern and fierce of heart they would have dispersed from round about thee. So pardon them and ask forgiveness for them and consult with them upon the conduct of affairs. And when thou art resolved, then put thy trust in Allah. Lo! Allah loveth those who put their trust (in Him).
159 - It is part of the mercy of God that dost deal gently with them. wert thou severe or harsh hearted, they would have broken away from about thee: so pass over (their faults), and ask for (God's) forgiveness them in affairs (of moment). then when thou hast taken a decision, put thy trust in God. for God loves those who put their trust (in him).